تفسير الثمرات اليانعة - ج ٣

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]

تفسير الثمرات اليانعة - ج ٣

المؤلف:

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٦

قال الإمام [يحيى بن حمزة عليه‌السلام] : ويمنع الذمي من إحياء المعادن في دار الإسلام ؛ لقوله تعالى : (وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) فإن بادر قبل المنع ملك ، وعليه الخمس.

قوله تعالى

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال : ٤٥ ـ ٤٦].

هذا أمر بخمسة أشياء :

الأول : بالثبات وعدم الفرار عند ملاقاة العدو ، وذلك ظاهر ، وقد تقدم شرح ذلك ؛ لأن في هذا إجمالا.

الثاني : ذكر الله ، قيل : أراد الدعاء بالإخلاص ، وقد ورد عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «أن من مواطن الإجابة الدعاء عند التقاء الجيوش».

وفي الكشاف : المراد الاستنصار على العدو بالدعاء ، بأن يقول : اللهم اخذلهم ، اللهم اقطع دابرهم.

وقوله تعالى : (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي : تظفرون بمرادكم من النصرة والمثوبة ، وفي ذلك إشعار بأن العبد لا يفتر عن ذكر ربه ، بأعظم شغل.

وقيل : اذكروا ثواب الله في الجهاد ، واذكروا عقابه للمخالفين ليكون لطفا لكم.

وعن أبي علي الجميع مراد لله.

وأما طاعة الله تعالى ، وطاعة رسوله ـ فالمراد فيما أمرهم الله ، وأمرهم رسوله ، وذلك عام ، والتخصيص بالذكر في هذا المكان فيه تأكيد.

٣٦١

وقوله تعالى : (وَلا تَنازَعُوا) أي : لا تختلفوا فيما أمرتم به من الجهاد ، بل يتفق رأيكم ، ولقائل أن يقول : استثمر من هذا وجوب نصب أمير على الجيش ليدبر أمرهم ، ويقطع خلافهم ، فإن بلزوم طاعته ينقطع الاختلاف ، وقد فعله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في السرايا ، وقال : «أطيعوا الأمير وإن كان عبدا حبشيا».

وقوله تعالى : (وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) قيل : أراد الريح التي ينصر بها ، ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «نصرت بالصبا» وقيل : أراد قوتكم ، وقيل : أراد دولتكم.

قوله تعالى

(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ) [الأنفال : ٥٥ ـ ٥٨]

ثمرة ذلك : جواز تحقير العصاة والاستخفاف بهم (١) ، حيث سماهم الله دواب ، وأنهم شر الدواب ، ويدل على قبح العذر ، ونقض العهد ، ويدل على وجوب النكاية والتعنيف بالكفار على وجه ينفر غيرهم من أفعالهم ؛ لأنه قال تعالى : (فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ) قيل : معناه ـ سمّع بهم من وراءهم من الناس ، وهذا لغة قريش.

وقيل : المراد افعل بهم من النكال ما يشرد غيرهم من فعلهم ، وتدل على جواز معاهدة الكفار ، ووجوب الوفاء بالعهد إذا لم تظهر منهم أمارة الخيانة ، ولكن إنما تجوز المعاهدة لمصلحة ، وتدل على أن أمارة الخيانة متى ظهرت جاز نقض العهد إليهم ، على وجه يعلمون به ، كما فعل

__________________

(١) وقد يجب عند تهمة الموالاة.

٣٦٢

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع أهل مكة ، فإنه عليه‌السلام أمر أمير المؤمنين بسورة براءة (١) يقرؤها عليهم في أيام الموسم لما أعانوا حلفاءهم (٢) ، وهم بكر ، على حلفاء رسول الله وهم خزاعة.

وقوله تعالى : (عَلى سَواءٍ) أي : على وجه تستوي أنت وهم في العلم بالنبذ ، بأن تخبرهم إخبارا مكشوفا بينا ، يقطع ما بينك وبينهم.

قوله تعالى

(وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [الأنفال : ٦٠ ـ ٦١]

ثمرات هذه الآية ثلاثة أحكام :

الأول : أنه تعالى أمر بأن تعدّ القوة التي يحصل بها الإرهاب على الكفار ، وفي الأمر باستعداد القوة التي يحصل بها الإرهاب لزوم الجهاد.

وقوله تعالى : (مِنْ قُوَّةٍ) قيل : ذلك مطلق ، يدخل في كل ما يقوى به في الحرب من السلاح ، والآلات التي تكون للحرب والخيل ، ثم خص الخيل من بينها ، فقال تعالى : (وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ) كقوله تعالى : (وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) وقيل : إنها الرمي.

__________________

(١) في الكشاف أن نزول براءة في سنة تسع ، والفتح في سنة ثمان ، فيحقق ، فلم يكن النبذ بإرسال الإمام علي عليه‌السلام كما ذكر بسورة براءة ، وسيأتي في سورة الفتح في قوله تعالى : (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ) الآية وللمصنف الفقيه يوسف ما يؤيد هذا الاعتراض. والله أعلم. (ح / ص).

(٢) هذه الإعانة سبب فتح مكة.

٣٦٣

وعن عقبة بن عامر سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول على المنبر : «ألا إن القوة هي الرمي قالها ثلاثا» ومات عقبة عن سبعين قوسا في سبيل الله.

قال الحاكم : وفي ذلك دلالة على جواز السّبق (١) والرمي ؛ لأنه من قوة الجهاد ؛ لأن وجود السلاح لا يكفي ، بل لا بد من العلم بكيفية استعماله ، ونعني : بالجواز أنه مشروع ، وتفصيله في كتب الفقه ، وفي الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «بين الغرضين روضة من رياض الجنة».

وفي الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر في الجنة ، صانعه يحتسب في صنعته الخير ، والرامي به ، ومنبّله (٢) ، فارموا واركبوا ، وإن ترموا أحبّ إليّ من أن تركبوا».

وحكم استعداد ما ذكر تابع لحكم الجهاد ، قد يكون متعينا ، وفرض كفاية ، وسنة.

ويتعلق بهذا تنبيه : وهو أن يقال : إذا حصل الإرهاب بغير عدة الحرب ، هل شرع ذلك؟ وهذا كتفضيض السروج وتذهيبها؟ ولباس الحرير ، وتسويد الشيب ، واتخاذ الطبول ، والرايات ، ونحوها من الأعلام والمراوح ، أم لا؟

قلنا : المفهوم من كلام أهل المذهب جواز ذلك ، وقد حكي عن المرتضى في بعض كتبه جواز صيد النسور ؛ ليجعل ريشها مراشا للنبال ؛ لأن في ذلك عدة للجهاد ، وقد جوز أهل المذهب ، والشافعي ، وأبو يوسف ، ومحمد ـ لباس الحرير للمحارب ؛ لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رخص في ذلك لطلحة بن عبيد الله ، وروي ذلك عن الزبير.

__________________

(١) السبق ـ بسكون الباء الفعل ، وبفتحها ما يؤخذ من المال عليه. (ح / ص).

(٢) المنبل : هو الذي يعطي السهم ويناول الرامي ، أشار إلى معناه في النهاية ، يقال : نبّلت الرجل بالتشديد إذا ناولته النبل ليرمي به ، وأنبلته. نهاية.

٣٦٤

واحتج أهل المذهب بالآية ، ومنع ذلك أبو حنيفة ، وجواز الإمام يحيى بن حمزة ، وبعض أصحاب الشافعي تسويد الشيب للمحارب ، وقد فعله الحسنان ، وهو يتفرع على هذا استعمال آلة الذهب والفضة ، والزخرفة في العمران ................ (١).

وقيل : القوة في الحصون ، روي ذلك عن عكرمة.

وعن ابن سيرين أنه سئل عمن أوصى بثلث ماله في الحصون؟ فقال : يشتري به الخيل لينفر عليها في سبيل الله ، فقيل : إنما أوصى بالحصون؟ فقال : ألم تسمع قول الشاعر (٢) :

إني علمت على توقّي الردى

أن الحصون الخيل لا مدر القرى (٣)

وبعده :

إني وجدت الخيل عزا ظاهرا

تنجي من الغمّا ويكشفن الدّجى

ويبتن بالثغر المخوف طوالعا

ويبين (٤) للصعلوك جمعه ذي الغنى

والمعنى : علمت أن الحصون التي يتوقّى به العدو الخيل.

وقوله تعالى : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ) أي : للكفار. وقوله : (تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ) هم كفار مكة (وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ) قيل : هم اليهود ، وقيل : المنافقين ، وقيل : فارس ، وقيل : كفار الجن.

وفي الحديث : «إن الشيطان لا يقرب صاحب فرس ، ولا دارا فيها فرس عتيق».

__________________

(١) بياض في الأصول بمقدار سطر.

(٢) هو الأسود الجعفي.

(٣) إلى هنا انتهى كلام ابن سيرين.

(٤) وفي نسخة ب (ويبتن).

٣٦٥

وروي أن صهيل الخيل ترهب الجن ، وقد قال الشيخ أبو جعفر : يكره خصى الخيل ؛ لأنه يذهب صهيلها الذي يحصل به الإرهاب.

الحكم الثاني : الحث على النفقة في الجهاد ؛ لأنه ذكرها عقيب ذكر الجهاد ، فكان في ذلك تخصيص له وإن كان اللفظ عاما ، وهو قوله تعالى : (وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ).

الحكم الثالث : جواز مصالحة الكفار ، لقوله تعالى : (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها) لكن يقال : كيف التوفيق بين هذه الآية وبين قوله تعالى في سورة براءة : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) وقوله تعالى في سورة التوبة أيضا : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) وبين قوله تعالى في سورة محمد : (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ)(١)؟ قلنا : في هذا وجوه :

الأول : أن هذه الآية منسوخة.

قال ابن عباس : نسخها قوله تعالى : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ).

وقال مجاهد : نسخها قوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ).

الثاني : أن هذه الآية في بني قريظة خاصة ، وقد حكي هذا عن ابن عباس.

الثالث : أن هذه الآية في أهل الكتاب ، والأمر بالقتال للمشركين ، وردّ بأنّ الشرك اسم للجميع.

الرابع : أنه لا نسخ ، وأن الحكم موكول إلى ما يراه الإمام صلاحا ، وصححه الزمخشري وغيره ، قال : وليس بحتم أن يقاتلوا أبدا ، ولا أن

__________________

(١) لقوله تعالى : (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) ولأنه نهاهم عن الدعاء إلى السلم ، وفي تلك أمر بإجابة المشركين إلى السلم ، وبينهما بون بعيد ، والله أعلم. (ح / ص).

٣٦٦

يجابوا إلى الصلح (١) ، وحكى هذا في التهذيب عن أبي حنيفة وأصحابه ، وأكثر الفقهاء ، وذكره الإمام يحيى.

قال الحاكم : وقد وادع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أهل نجران بعد نزول آية القتال ، ووادع الصحابة والتابعون من غير إنكار من أحد.

قال الحاكم : وتسليم (٢) الحسن الإمامة لمعاوية ؛ لخوفه على نفسه وشيعته ، وللإمام أن يفعل مثل ذلك ، ولا يخرج عن كونه إماما ، إذ لو لم يخف لم يجزه ؛ لأن ذلك كتسليم النبوة.

وأما فعل أبي موسى فخطأ ، ولم يحكم بكتاب الله.

قال الحاكم : ويجوز أن يوادع على مال ، ويأخذ الكفيل به ، كما يأخذ الجزية والخراج ، ولا خمس فيه ، وأوجب الهادي عليه‌السلام الخمس فيه.

قال : وإن حاصر قوما من الكفار فأخذ مالا لينصرف فهو فيء ، وفيه الخمس.

قال : ويجوز موادعة المرتدين إذا خيف منهم ، وكذلك البغاة ، ولكن لا يجوز بمال (٣) ، ويرد المال ؛ لأن إسقاط قتالهم بالعوض لا يجوز ، قال : وإذا خاف المسلمون من الكفار جاز طلب الموادعة بمال يعطى إلى الكفار كالتأليف (٤) ، وللإمام نبذ العهد إليهم ، كما فعل عليه‌السلام

__________________

(١) لفظ الكشاف (والصحيح أن الأمر موقوف على ما يرى فيه الإمام صلاح الإسلام وأهله من حرب أو سلم ، وليس بحتم أن يقاتلوا أبدا ، أو يجابوا إلى الهدنة أبدا).

(٢) لم يسلم الإمام الحسن عليه‌السلام الإمامة إلى معاوية أبدا ، وإنما صالح كما ذكره في الكتاب.

(٣) يجوز للمصلحة عند أهل المذهب.

(٤) وبنى عليه الإمام المهدي في المتن.

٣٦٧

مع قريش ، وإذا كانت الموادعة على مال يسلمه الكفار ، ونبذ العهد بعد مدة رد إليهم حصة ما بقي من مدة الموادعة.

وأما مصالحة الأئمة المتأخرين لسلطان اليمن على مال ، فقد فعله المنصور بالله ، والمهدي أحمد ـ عليهما‌السلام ـ وغيرهما.

ووجه ذلك ..... (١)

وقوله تعالى : (فَاجْنَحْ لَها) أي : مل إليها ، وأنث السلم.

قال جار الله : لأنها تؤنث تأنيث نقيضها وهي الحرب ، قال :

السلم تأخذ منها ما رضيت به

والحرب يكفيك من أنفاسها جرع

قوله تعالى

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال : ٦٥ ـ ٦٦]

ثمرة الآية : وجوب التحريض في الجهاد ، وهو نظير الترغيب في الجهاد ، وفي القراءة الشاذة (حرص) ـ بالصاد المهملة ـ من الحرص ، ووجوب مصابرة الواحد للعشرة ؛ لأن ذلك خبر بمعنى الأمر ، ثم نسخ ذلك لثقله على المسلمين بوجوب مصابرة الواحد للاثنين.

وقيل : كان الأول يوم بدر لقلة المسلمين ، فلما كثروا كلفوا مصابرة الواحد للاثنين ، وهذا مروي عن الحسن.

__________________

(١) بياض في الأصول قدر سطرين.

٣٦٨

والأكثر أن الأول منسوخ ، وذلك محكي عن ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، وعكرمة ، ومجاهد ، والسدي ، وعطاء ، وأبي علي.

قال أبو علي : وتراخي الآية الثانية بعد الآية الأولى بمدة طويلة وإن كانت إلى جنبها.

قال القاضي : والمعتبر في الناسخ والمنسوخ بالنزول دون التلاوة ، فإنها قد تقدم وتؤخر ، ألا ترى أن عدة الوفاة الناسخ مقدم على المنسوخ في التلاوة ، وإن كانت متأخرة في النزول.

وإذا وجبت المصابرة من الواحد للاثنين ، ففي ذلك التفضيل المتقدم.

وبيان الحال الذي يلزم فيه الثبوت ، والحال التي يجوز فيها الفرار ، عند ذكر الكلام على قوله تعالى : (إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ).

وقوله تعالى : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً) معناه : علم وجود ضعفكم ، بعد أن كان عالما أنه سيوجد ؛ لأنه تعالى عالم لذاته.

قوله تعالى

(ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [الأنفال : ٦٧ ـ ٦٩]

النزول

قيل : نزلت الآية يوم بدر ، وذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أتى بسبعين

٣٦٩

أسيرا ، فيهم العباس عم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعقيل بن أبي طالب ، فاستشار أبا بكر رضي الله عنه فيهم ، فقال : أهلك وقومك استبقهم لعل الله أن يتوب عليهم ، وخذ منهم فدية تقوي بها أصحابك ، وقال عمر رضي الله عنه : كذبوك وأخرجوك فقدمهم واضرب أعناقهم ، فإن هؤلاء أئمة الكفر ، وإن الله قد أغناك عن الفداء ، مكن عليا من عقيل ، وحمزة من العباس ، ومكني من فلان ؛ لنسب له فلنضرب أعناقهم ، فقال ناس بقول أبي بكر ، وقال ناس بقول عمر ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن الله ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن ، وإن الله ليشدد قلوب رجال حتى تكون أشد من الحجارة ، وإن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم حيث قال : (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ومثل عيسى حين قال : (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ومثلك يا عمر مثل نوح حيث قال : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) ومثل موسى حيث قال : (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ) وأمر بأخذ الفداء».

فقال ابن عباس : قال عمر : فلما كان من الغد جئنا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإذا هو وأبو بكر يبكيان ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أبكي على أصحابك في أخذهم الفداء» لمّا قال : ما يبكيكما؟.

قال في الكشاف : وكان فداء الأسارى عشرين أوقية ، وفداء العباس أربعين أوقية.

وعن محمد بن سيرين : كان فداهم مائة أوقية ، وستة دنانير ، والأوقية أربعون درهما.

ولما نزل قوله تعالى : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى) الآية.

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لو نزل عذاب من السماء ما نجا منه غير عمر ، وسعد بن معاذ ؛ لأن رأيهما كان الإثخان في القتل» ومعنى الإثخان : كثرة القتل ، والمبالغة فيه.

٣٧٠

وللآية الكريمة ثمرات :

الأولى : أن العدول عن قتل الكفار إلى أسرهم قبل كثرة القتل محرم على كل نبي ، والمعنى : ما كان له ، أي : ما صح له ، ولا عهد الله إليه في ذلك ، وقيل : الإثخان : الغلبة للبلدان ، والتذليل لأهلها ، عن أبي مسلم.

وقيل : المراد حتى ينفي عدوه من الأرض ، وكان هذا يوم بدر ، فلما كثر المسلمون نزل : (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً).

وفي الانتصار : إن هذا ناسخ لآية الأنفال في تحريم الأسر قبل الإثخان ، وقيل : إن للإمام خيارات في الأسير البالغ من الذكور إن شاء قتل ؛ بدليل قوله تعالى في سورة التوبة : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) ولم يفصل.

وقد قتل صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عقبة بن أبي معيط ، والنضر بن الحارث ، من أسرى بدر ، وقتل صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مكة أزيب ، وقرتناء (١) ، وهما جاريتان كانتا تغنيان بهجائه ، وأزيب أبالزاي والياء ـ بنقطتين من أسفلها ، والباء ـ بنقطة من أسفلها ـ قرتناء ـ بالقاف والراء والتاء ـ بنقطتين من أعلاها ، والنون ، والألف للتأنيث.

ـ وإن شاء منّ لقوله تعالى : (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) وهذا في سورة محمد ، وقد منّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ثمامة بن أثال سيد بني حنيفة وهو ـ بالثاء بثلاث في الاسمين.

وإن شاء فادى لهذه الآية ، فقد فادى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أسيرا من بني عقيل : برجلين من المسلمين.

وعن أبي حنيفة : لا يجوز أن يرده حربيا.

__________________

(١) فرتني ـ التاء مقدمة على النون ز في شمس العلوم بفتح الفاء والتاء مقصورا ، وضبط فرتنى بضم الفاء وصحح عليه ، ومثله في القاموس. (ح / ص).

٣٧١

قال في الكشاف : المشهور عن أبي حنيفة : أنه لا يجوّز فداءهم بمال ولا بغيره ، وروى الطحاوي : أنه يفاديهم بأسرى المسلمين ، وإن شاء استرقّ لهذه الآية ، وقد قال ابن عباس في قوله تعالى : (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) خير الله تعالى بين القتل والفداء والاسترقاق ، وقد قال في الكشاف : يجوز أن يراد بالمن ترك القتل ، ويسترقّوا.

قال الإمام يحيى : وهذا هو الذي حصله أبو طالب للقاسمية ، واختاره ، وهو محكي عن الشافعي ، والأوزاعي ، والثوري ، وأحمد ، لكن يقال : الخيار إذا استوت المصلحة ، فإن كان أحد هذه الأشياء أصلح تعين فعله ، وإذا كان القتل أصلح من الأسر ترك الأسر ، ولا يقال : إنه منسوخ ، وسيأتي إن شاء الله تعالى زيادة ، وبيان هل المن منسوخ أو ثابت.

ومن ثمرات الآية : وجوب الجهاد ، ومن ثمراتها جواز الأسر بعد الإثخان ، ومن ثمراتها : تحريم المأخوذ بالفداء قبل الإثخان ، لكن قيل : قد نسخ ذلك بقوله تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً).

والمعنى : بقوله تعالى : (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا) أي : حطام الدنيا ، وذلك إشارة إلى الفداء ، وسمي عرضا لقلة لبثه ، ومنه الحديث : «الدنيا عرض حاضر ، يأكل منه البر والفاجر».

وقوله تعالى : (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) وفي هذا أقوال متعددة ، فقيل : سبق في اللوح أنه تعالى يحل لهم الفدية التي أخذوها ، وقيل : سبق أن أهل بدر مغفور لهم ، وأنه لا يعذبهم ، عن الحسن ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وابن زيد.

وقيل : الكتاب السابق هو إيجاب الرحمة (١) على نفسه لقوله تعالى :

__________________

(١) وقد صحح هذا اللفظ في حاشية النسخة ب (وقيل الكتاب السابق إيجاب الرحمة) بحذف هو.

٣٧٢

(كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) وقيل : كتب على نفسه أن لا يعذب من يخطئ في الجهاد ؛ لأنهم اعتقدوا أن ذلك أصلح ، وقيل : الكتاب السابق أنه قد سبق في الكتاب أن التائب مغفور له ، وأنكم تبتم.

وفي هذه الآية سؤالات (١) :

الأول : أن يقال : إن كان فعلهم اجتهادا وخطأ ، فلم عوتبوا؟ ويلزم أن لا معصية ، وإن تمكنوا من العلم وقصروا ؛ فكيف أقرهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟

وجواب ذلك من وجهين :

الأول : عن أبي علي أن ذلك كان معصية صغيرة منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

قال الحاكم : وكانوا متمكنين من العلم إذا ما عاتبهم.

وقيل (٢) : كان خطأ وقصروا فعوتبوا على التقصير ، وقيل : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمرهم بالقتل فخالفوه ، ولم ير صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأسارى حال الأسر ، فالمعاتب هم لا هو ، ويجوز أنه تغير التعبد بعد الأسر ، وإن كان الواجب قبله القتل.

وقوله تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً) هذا حكم من ثمرات الآية ، وهو إباحة الغنيمة ، وهذا أمر بمعنى الإباحة ، لكن اختلف المفسرون ، فعن ابن عباس : المراد إباحة الغنائم ؛ لأنها لم تحل لنبي قبله ، ولكن كانت تنزل نار من السماء فتحرقها ، فأحلت يوم بدر ، وكانوا قد أمسكوا عن الغنائم.

__________________

(١) ينظر أين بقية الأسئلة. ويمكن أن يقال : إن قوله : ويلزم أن لا معصية. سؤال ثان ، وقوله : (وإن تمكنوا من العلم وقصروا فكيف أقرهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) سؤال ثالث.

(٢) هذا هو الوجه الثاني.

٣٧٣

وقيل : أراد الفداء الذي أخذوا ، فيكون ناسخا لما قبله ، وقيل : ليس بناسخ بل هو ابتداء بيان ، وأن الأول كان عند قلة المسلمين ، وهذا عند ظهور الإسلام ، وهذه طريقة أبي مسلم ؛ لأنه لا يرى النسخ في القرآن ، فيتأول لما يرى غيره أنه منسوخ.

قوله تعالى

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ) [الأنفال : ٧٠]

قال الحاكم : دلت على أنه لا يجب قتل الأسرى لا محالة ، وأنه يجوز أن يبقيهم ، ودلت على أن الترغيب في الإسلام مأمور به ، ويكون بمنافع الدنيا والآخرة.

قوله تعالى

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ) [الأنفال : ٧٢ ـ ٧٣]

النزول

قيل : نزلت الآية في الميراث ، وكانوا يتوارثون بالهجرة ، وجعل الله الميراث للمهاجرين والأنصار دون ذوي الأرحام.

وأما من آمن ولم يهاجر فلا يرث من هاجر ، حتى نسخ ذلك بقوله

٣٧٤

تعالى : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) عن ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وقتادة والسدي ، وقد دلت الآية على أحكام :

الأول : ثبوت الموالاة بين المهاجرين والأنصار الذين آووهم.

قال أبو مسلم : هو خبر ، والمراد به الأمر ، وقيل : نزلت في الموالاة في الدين ، فإن حملت على المناصرة فذلك باق ، وإن حملت على التوارث فذلك منسوخ.

وقد ذكر القاضي محمد بن عبد الله بن أبي النجم في كتاب (التبيان في الناسخ والمنسوخ) عن عبد الله بن الحسين بن القاسم قال : أجمع الناس أنه إذا كان أخوان مؤمنان مهاجر وغير مهاجر أنه لا موارثة بينهما ؛ حتى نسخ ذلك بقوله تعالى : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ).

الحكم الثاني : وجوب المهاجرة ؛ لأنه تعالى قطع الموالاة بين من هاجر ومن لم يهاجر ، ولها شروط تفصيلها في غير هذا الموضع.

الثالث : وجوب نصرة من استنصر في الدين ، وذلك قد يكون بالحجة ، وقد يكون بالسيف ، وذلك في قوله تعالى : (وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ) ويدل على وجوب النهي عن المنكر.

الرابع : وجوب الوفاء بالميثاق لقوله تعالى : (إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ).

قال أبو علي : والآية تدل على بطلان قول الرافضة في ادعائهم كفر أكابر الصحابة ، وسادات الإسلام ، كأبي بكر وعثمان وغيرهم ؛ لأنه تعالى بين وجوب موالاتهم ، وأنهم مؤمنون حقا لوجود هذه الصفات فيهم.

ولقائل أن يقول : وتدل أيضا على أن التوقف عن الترضية خارج عن

٣٧٥

الاحتياط ، بل الاحتياط الترضية (١) ؛ لأن المتوقف عنها لم يحقق الموالاة.

الخامس : من الأحكام أنه لا توارث بين المسلمين والكفار لقوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) وفي هذا صور :

الأولى : أن الكافر لا يرث المسلم ، ولا يكون وليا في عقد نكاح المسلمة ، وهذا إجماع.

الثانية : أن المسلم لا يرث الكافر ، وهذا مذهب القاسمية ، وفقهاء الأمصار ، وأكثر الصحابة ، والآية فيها دلالة على ذلك ، وهو قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا توارث بين أهل ملتين».

وقال الناصر ، والصادق ، ومحمد بن الحنفية ، والإمامية ، والنخعي ، ومعاذ : إن المسلم يرث الكافر ، ورواه في النهاية عن ابن المسيب ، ومسروق ، واحتجوا بما رواه معاذ عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن المسلم يرث الكافر ، وأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه.

__________________

(١) وسيأتي في آخر التوبة مثل هذا. قال في (ح / ص): (وقد يمكن أن يجاب عن هذا ، ويعكس عليه الأمر بأن يقال : إن التوقف عن نقيض الترضية ليس من الاحتياط في حق من صدر منه مثل ما فعل أولئك ، بدليل أنه لو تولى أفضل أهل عصر من الأعصار ما إلى إمام عصره ، وإن كان أي إمام قد كملت فيه الشرائط لم يتوقف في تخطئة المقدم على ما لإمامه ، والمانع له عن حقه ، بل كان يحارب ويقتل ، ولا يتوقف أحد في مثل ذلك ، فكيف بمن أقدم على المعصوم ، وقام بما إليه ، ومنعه ما له ، وسن الشقاق ، فيا ما أحسن الإنصاف ، وأسلم الاعتراض عن ركوب الاعتساف ، اللهم إلا أن تكون إمامته عليه‌السلام لم تصح ، وأدلتها لم تتضح ، فالحق ما قاله ، وفوق كل ذي علم عليم ، وكفى به حسيبا ، تمت ذلك على سبيل المقابلة فقط. (ح / ص).

٣٧٦

قلنا : يحمل ذلك على المرتد ، فإن المسلم يرثه ، ولا يرثه المرتد.

قالوا : يحمل عليهما جميعا ، وشبهوا ذلك بالنكاح ، فإن المسلم ينكح الذمية لا العكس على قول ، وشبهوا ذلك بالقصاص ، فإنه يؤخذ الأدنى بالأعلى.

وأما ميراث (١) المسلم المرتدّ إذا مات ، أو لحق بدار الحرب ، أو قتل على ردته فهذا مذهب عامة أهل البيت ، ولا فرق بين ما اكتسبه في حال الإسلام أو في حال الردة ، وهو قول أبي يوسف ، ومحمد.

وقال الشافعي : ينتظر قتله أو موته ، ثم يكون فيئا.

وقال أبو حنيفة : الفيء ما كسبه حال الردة ، وأما ما كسبه مسلما فقوله كقولنا ، إن قيل : لم جعلتم ماله ميراثا بلحوقه؟ ولم ورّثتم المسلم ولا موالاة بينهما ، والخبر يقضي بأن لا توارث بين أهل ملتين؟

قلنا : أما ميراثه باللحوق فلأن ذلك يبيح دمه ، فأباح ماله ، فإن قيل : هذه العلة غير مطردة لأنه تنتقض بالزاني المحصن وقاطع الصلاة؟

قلنا : هذا خارج بالإجماع ، وأما كون المسلمين يرثونه فذلك مروي عن أمير المؤمنين ، وأبي بكر ، وعمر ، وعبد الله بن مسعود ، ولا مخالف لهم من الصحابة.

وروي أن عليا عليه‌السلام قتل مسور بن الأحنف حين أبى الرجوع إلى الإسلام ، وجعل ماله بين ورثته المسلمين.

قال في (شرح الإبانة) عن أبي حنيفة : إن ماله يزول عن ملكه في آخر جزء من أجزاء إسلامه ، ولا ينتقل إلى ورثته من المسلمين إلا بلحوقه

__________________

(١) المسلم ـ في محل رفع فاعل ميراث ، والمرتد منصوب على أنه مفعول ميراث ، ومعناه : وأما أن يرث المسلم المرتدّ ب فهذا مذهب أهل البيت عليهم‌السلام.

٣٧٧

أو موته ؛ لأن ملكه لنفسه يزول بالردة ، فكذا ملكه لماله ، كالحربي والوثني.

قلنا : لا يزول بمجرد ردته ، وإنما يزول بتملكه حقيقة ، بدليل أنه لو عاد مسلما فإنه أولى بما بقى في يد ورثته ، ويعتبر وارثه يوم موته أو يوم لحوقه ، وإنما قلنا : إنه إذا عاد مسلما فله ما بقي من ماله ؛ تشبيها بما غنم وعرف أحد من المسلمين شيئا له أخذه قبل القسمة بغير عوض ، وبعدها بالعوض ، وهنا حقه أقوى فيأخذه من غير عوض ، وظاهر المذهب أنه لا يعتبر حكم حاكم.

وقال أبو حنيفة ، ومحمد بن عبد الله : إنما تعتق أمهات أولاده ، ويقسم ماله بعد الحكم بلحوقه ، وقول الشافعي : إنه يكون فيئا لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يرث المسلم الكافر ، ولا الكافر المسلم» ولحديث أبي بردة (بعثني رسول الله إلى رجل ناكح امرأة أبيه فأمرني أن أقتله ، وآخذ ماله).

قلنا : كان هذا الرجل محاربا ، ولأن ما كان غنيمة لا يعتبر فيه موت المالك.

وأما ولاية النكاح فلا خلاف أن الكافر ليس بولي المسلمة ، وأما العكس فعندنا كذلك ، إلا الإمام فإنه ينكح الذمية حيث لا ولي لها من أهل الذمة ، وهذا هو مذهبنا ، وأبي حنيفة ، والشافعي ، ورواية لمالك ، والرواية الثانية عن مالك والحسن بن صالح : أن المسلم ولي الكافرة في النكاح ، وهو مروي عن الناصر ، واختاره في الانتصار قال فيه : كفر التأويل كالمجبرة والمشبهة لا تبطل ولايتهم بالإجماع.

الصورة الثالثة : ميراث اليهودي من النصراني وعكسه ، فمذهب الأئمة القاسم والهادي ، والناصر ، وأحد قولي الشافعي ، والزهري ،

٣٧٨

وربيعة ، وابن أبي ليلى وشريح ـ لا موارثة ؛ لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا توارث بين أهل ملتين» والكفر ملل مختلفة.

وحكي في (شرح الإبانة) عن زيد بن علي ، والمؤيد بالله ، والحنفية ، وأحد قولي الشافعي ، وزيد بن ثابت ، وابن مسعود ، وابن عباس : أنهم يتوارثون لأن الكفر ملة ، وفي عموم الآية دلالة لهم ، وهو قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ).

قوله تعالى

(وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [الأنفال : ٧٥]

النزول

قيل : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آخى بين أصحابه ، وأوجب التوارث ، فنسخ ذلك بهذه الآية ، وقيل : كان التوارث بالهجرة والتحالف فنسخت الآية هذه جميع ذلك ،

وقيل : كان المتبنى ينسب إلى الذي تبناه ويرثه ، فنسخ ذلك بهذه الآية ، ونسخت التسمية بقوله تعالى في سورة الأحزاب : (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ) ونسخ الميراث بهذه الآية.

وثمراتها : ثبوت التوارث بالأرحام ، لكن اختلف في ذلك ، فذهبت طائفة من الصحابة وهم علي ، وعمر ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وأبو الدرداء ، وأبو موسى ، وطائفة من التابعين وهم : علقمة ، ومسروق ، وإبراهيم ، وعطاء ، وطاوس ، والشعبي ، وطائفة من الأئمة وهم : الهادي ، والناصر ، والمؤيد بالله ، وعامة أهل البيت غير القاسم ، وطائفة من الفقهاء وهم : الحنفية ، وابن أبي ليلى ، وسفيان ، والحسن بن صالح ،

٣٧٩

وغير هؤلاء ـ إلى أن ميراث ذوي الأرحام الذين ليسوا بذوي سهام ولا عصبات ثابت بهذه الآية ، وبقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الخال وارث من لا وارث له».

وذهبت طائفة من الصحابة منهم : زيد بن ثابت ، ورواية عن ابن عباس ، وأبو بكر ، وابن الزبير ، وطائفة من التابعين وهم : الأوزاعي ، وابن المسيب ، ومن الأئمة : القاسم ، والإمام يحيى ، ومن الفقهاء مالك ، والشافعي : أنه لا ميراث لهم.

قلنا : الآية قاضية بذلك ، قالوا : إنها واردة في الإمامة ، قلنا : تحمل (١) على المعنيين ، قالوا : المراد من ذكر الله من ذوي السهام والعصبات.

قلنا : هي عامة ، لا موجب للتخصيص ، والخبر وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الخال وارث من لا وارث له».

قالوا : المراد من كان وارثه الخال فلا وارث له.

قلنا : المراد من كان لا وارث له غيره ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يا عماد من لا عماد له».

ثم إن الذين أثبتوا ميراثهم اختلفوا في أمور :

الأول : هل يورثون بالقرب أو بالتنزيل؟ وهل يورث القريب مع البعيد؟ وهل يفضل الذكر على الأنثى أو لا؟ والآية محتملة.

__________________

(١) وفي نسخة ب (تحتمل المعنيين).

٣٨٠