تفسير الثمرات اليانعة - ج ٣

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]

تفسير الثمرات اليانعة - ج ٣

المؤلف:

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٦

وقيل : لما كانت وقعة أحد قال بعضهم : أوالي اليهود ، وقال بعضهم : أوالي النصارى ، فنزلت الآية فيهم ، عن السدي.

وقيل : نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر حين قال لبني قريظة لما رضوا بحكم سعد : إنه الذبح» عن عكرمة.

وثمرات الآية أحكام :

الأول : أنه لا يجوز موالاة اليهود ، ولا النصارى.

قال الحاكم : والمراد بموالاتهم في الدين.

قال جار الله في تفسير ذلك : أولياء ينصرونهم وينصرونكم ، وتصافونهم وتعاشرونهم معاشرة المؤمن ، بل الواجب المجانبة للمخالف في الدين ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (لا تراءى نارهما) ومنه قول عمر رضي الله عنه لأبي موسى في كتابته (١) النصراني : «لا تكرموهم إذ أهانهم الله ، ولا تأمنوهم إذ خونهم الله ، ولا تدنوهم إذ أقصاهم الله».

وروي أن أبا موسى قال له : لا قوام للنصرة إلا به ، فقال : مات النصراني والسّلام ، يعني : هب أنه قد مات فما كنت تصنعه عند ذلك فاصنعه الآن.

والبعد والمجانبة استحباب ؛ إذ قد جازت المخالطة في مواضع بالإجماع ، وذلك حيث لا يوهم بمحبتهم ، ولا بأنهم على حق.

الحكم الثاني

أن للإمام أن يسقط الحد إذا خشي ، أو يؤخر

وقد ذكر هذا الأمير الحسين ، وقد ذكر هذا المنصور بالله.

__________________

(١) أي : في اتخاذه كاتبا ، وفي نسخة (في كتابة النصراني).

١٤١

في الحاكم : وهذا مأخوذ من سبب النزول ، وترك النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بني قينقاع لعبد الله بن أبي.

الحكم الثالث

صحة المولاة منهم لبعضهم بعضا ، وقد قال علي بن موسى القمي : الآية تدل على أنهم ملة واحدة ، فتصح المناكحة بينهم والموارثة ، كما قال أبو حنيفة ، وأحد قولي الشافعي ، والمذهب خلاف ذلك ، والدلالة على ما ذكره محتملة ؛ لأنها تحتمل أن المراد (بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) في معاداة المسلمين ، أو يعني : بعض اليهود أولياء لبعض اليهود.

الحكم الرابع :

أن من تولاهم فهو منهم ، ولا خلاف أنه قد صار عاصيا لله كما هم عصاة ، ولكن أين يبلغ حد معصيته؟ وقد اختلف في ذلك. فقيل : معنى قوله تعالى : (فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) أي : حكمه حكمهم في الكفر ، هذا حيث نصرهم على دينهم ، فكأنه قد رضيه ، وقيل : من تولاهم على تكذيب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقيل : المراد أنهم منهم في وجوب عداوته والبراءة منه.

قال الحاكم : ودلالة الآية مجملة ، فهي لا تدل على أنه كافر ، إلا أن يحمل على الموافقة في الدين.

الحكم الخامس

ذكره الحاكم : أنه لا يجوز الاستعانة بهم.

قلنا : ذكر المنصور بالله في المهذب أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد حالف اليهود على حرب قريش وغيرها إلى أن نقضوه يوم الأحزاب ، وجدد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحلف بينه وبين خزاعة ، حتى كان ذلك سبب الفتح ، وكانت خزاعة عيبة نصح (١) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مسلمهم وكافرهم.

__________________

(١) العيبة : زنبيل من أدم ، وهي ما تلف فيها الأشياء ونحوها.

١٤٢

قال المنصور بالله : وهو ظاهر قول آبائنا عليهم‌السلام ، وقد استعان علي عليه‌السلام بقتلة عثمان ، واستعان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمنافقين.

قال المنصور بالله : ويجوز الاستعانة بالفساق على حرب المبطلين.

وفي نهذب الشافعي : لا يجوز الاستعانة بالكفار على البغاة ، إلا أن تحصل ضرورة للمنع منهم لا لقصدهم ، فتكون هذه الاستعانة غير موالاة.

وفي الآية الكريمة زواجر عن موالاة اليهود والنصارى من وجوه :

الأول : النهي بقوله تعالى : (لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ) وسائر الكفار لاحق بهم.

الثاني : قوله تعالى : (بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) والمعنى : أن الموالاة من بعضهم لبعض لاتحادهم بالكفر ، والمؤمنون أعلى منهم.

الثالث : قوله تعالى : (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) هذا تغليظ وتشديد ومبالغة مثل قوله عليه‌السلام : «لا تراءى نارهما» أي : لا يتقابلان ، ومثل قوله عليه‌السلام : «لا تستضيئوا بنار المشركين».

الرابع : ما أخبر الله تعالى به أنه لا يهديهم ، والمراد يسلب ألطافه ، ويخذلهم بسبب الموالاة.

الخامس : وصفهم بالظلم ، والمراد الذين ظلموا أنفسهم بموالاة الكفار.

السادس : أنه تعالى أخبر أن الموالاة لهم من ديدن (١) الذين في قلوبهم مرض أي : شك ونفاق ، قيل : عبد الله بن أبي وأصحابه.

__________________

(١) الديدن : العادة والإلف.

١٤٣

السابع : ما أخبر الله به من علة الموالين ، وأن ذلك خشية الدوائر لا أنه بإذن من الله تعالى ، ولا من رسوله.

الثامن : من قطع الله لما زينه لهم الشيطان ، من خشية رجوع دولة الكفر ، فقال الله تعالى : (فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ) وعسى في حق الله لواجب الحصول ، بالفتح لمكة ولبلاد الشرك.

التاسع : ما بشر فيه به من حصول إهانتهم لقوله تعالى : (أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ) قيل : إذلال الشرك بالجزية ، وقيل : قتل بني قريظة ، وإجلاء بني النظير ، وقيل : أن يورث المسلمين أرضهم وديارهم.

العاشر : ما ذكره الله تعالى من الأمر الذي تؤول إليه حالتهم ، وأنهم يصبحون نادمين على ما أسروا في أنفسهم ، من غشهم للمسلمين ونصحهم للكافرين ، وقيل : من نفاقهم ، وقيل : من معاقدتهم للكفار وذلك حين معاينتهم للعذاب ، وقيل : في الدنيا بما صاروا فيه من الذلة والصغار.

الحادي عشر : ما ذكره الله تعالى من تعجب المؤمن (١) من فضيحة أعداء الله وحنثهم في أيمانهم بقوله تعالى : (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ).

الثاني عشر : ما أخبر الله تعالى من حالهم بقوله تعالى : (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ) قيل : خسروا حظهم من موالاتهم ، وقيل : أهلكوا أنفسهم ، وقيل : خسروا ثواب الله تعالى.

__________________

(١) في نسخة (من تعجب المؤمنين).

١٤٤

قوله تعالى

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) [المائدة : ٥٤]

النزول

قيل : إنها نزلت في أبي بكر رضي الله عنه هو وأصحابه ، وفيها أخبار عن المستقبل بأنه يجاهد أهل الردة ، وهذا مروي عن الحسن ، وقتادة ، والضحاك ، وابن جريج.

وقيل : نزلت في علي عليه‌السلام لما دفع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الراية ، وقال :

«لأدفعن الراية إلى رجل يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله» ، وقيل : غير ذلك.

ثمرة هذه الآية أمور

منها : عظيم (١) منزلة أبي بكر ، ومن معه ممن حارب المرتدين ، وإصابته (٢) في حربهم بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبيان فضيلة علي عليه‌السلام وانه ممن يحبه الله ، ويحب الله.

ومنها : فضل التواضع للمؤمنين ، والشدة على الكفار فهي نظير قوله تعالى : (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ).

ومنها : وجوب التمسك بالحق وإن لامه لائم ، وأنه مع تمسكه به وصبره محله أعلى ممن تمسك به من غير لوم ؛ لأنه تعالى مدح من هذه حاله.

__________________

(١) في نسخة (منها : عظمة منزلة).

(٢) من الصواب.

١٤٥

قوله تعالى

(إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) [المائدة : ٥٥]

النزول

قيل : نزلت في عبادة بن الصامت لما تبرأ من اليهود ، وتولى الله ورسوله.

وقيل : في عبادة ، وسعد بن عبادة ، لما تبرأ من بني قينقاع.

وقيل : لما أسلم عبد الله بن سلام هجره اليهود من الكلام والمجالسة ، فشكا ذلك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنزلت الآية ، فقال : رضيت بالله ورسوله والمؤمنين أولياء. عن جابر.

وقيل : نزلت في أمير المؤمنين علي عليه‌السلام لما تصدق بخاتمه وهو راكع ، عن مجاهد ، والسدي.

وروى أن سائلا سأل في المسجد فلم يعطه أحد شيئا ، وكان علي راكعا ، فأومى إليه بخنصره اليمني ، فأخذ السائل الخاتم ، فلما فرغ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من صلاته فقال : «يا رب إن موسى سألك فقال : ربى أشرح لي صدري ، ويسر لي أمري ، واجعل لي وزيرا من أهلي ، هارون أخي أشدد به أزري ، اللهم فأنا محمد رسولك وصفوتك فاشرح لي صدري ، ويسر لي أمري ، واجعل لي وزيرا من أهلي ، عليا اشدد به أزري» فنزل جبريل بالآية.

وقيل : نزلت في أبي بكر ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، وقيل : في جميع المؤمنين ، عن ابن عباس ، والباقر ، والحسن ، والضحاك ، والأصم ، وأبي مسلم ، وأبي علي.

١٤٦

وثمرة الآية : تأكيد موالاة المؤمنين ، والبعد عن موالاة الكفار ، وبيان فضل من نزلت فيه ، وأنه يجوز إخراج الزكاة في الصلاة ، وينوي ، وكذا نية الصيام في الصلاة تصح ، وان الفعل القليل لا يفسد الصلاة ، وهذا مأخوذ من سبب نزولها لا من لفظها ، ومتى قيل : إن عليا عليه‌السلام لم تجب عليه زكاة؟

قلنا : إن صح ما ذكر أنها نزلت فيه كان أولى بالصحة ، وأنها قد وجبت عليه.

قال في الغياصة : إن قيل : قد روى أنه كان من ذهب ، والذهب محرم على الرجال؟

أجيب بأن ذلك كان في صدر الإسلام ثم نسخ ، أو أن هذا من خواص علي عليه‌السلام ، ومتى قيل : قوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا) لفظ جمع فكيف يخاطب به الواحد إذا حمل على علي عليه‌السلام.

قال : في الكشاف جيء به على لفظ الجمع ، وإن كان السبب فيه رجلا واحدا ليرغب الناس في مثل فعله (١).

وقوله تعالى : (وَهُمْ راكِعُونَ) هذا الواو للحال ، لذا يفعلون ذلك في حال ركوعهم ، والركوع للخشوع والتواضع ، فتكون صلاتهم وزكاتهم في حال التواضع.

وقيل : ذلك حال من يؤتون الزكاة في حال ركوع الصلاة.

قال في الكشاف : لأن عليا عليه‌السلام طرح خاتمه وكان مرجا في خنصره فلم يتكلف عملا كثيرا.

__________________

(١) ولما قال : (وَلِيُّكُمُ) ولم يقل : اولياؤكم ؛ للتنبيه على أن الولاية لله على الأصالة ، ولرسوله وللمؤمنين على التبع. بيضاوي.

١٤٧

قوله تعالى

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [المائدة : ٥٧]

قال الحاكم : دلت على وجوب موالاة المؤمنين ، ومعاداة الكافرين ، والمراد به في أمر الدين كما تقدم ، ودلت على أن الهزؤ بالدين كفر ، وأن هزله كجدّه ، وكان نزولها في بعض أهل الكتاب ، كانوا يهزءون بالمؤمنين إذا صلوا.

وقوله تعالى

(وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً) [المائدة : ٥٨]

دلت على أن للصلاة نداء وهو الأذان ، ونزولها أن مؤذني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانوا إذا أذنوا استهزأ بهم اليهود.

قال في الكشاف : وكان رجل من النصارى بالمدينة إذا سمع المؤذن يقول : أشهد أن محمدا رسول الله ، قال : حرّق الكاذب ، فدخلت خادمته بنار ذات ليلة وهو نائم فتطايرت منها شرارة في البيت ، فاحترق البيت واحترق هو وأهله ، وفي الآية دلالة بنص الكتاب على ثبوت الأذان ، وتفريع مسائل الأذان مأخوذ من السنة.

وقوله تعالى : (وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ) دلالة على تحريم الرشا ؛ لأن ذلك ورد في كبرائهم ، فحكى أنهم يسترشون.

وقوله تعالى :

(وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا) [المائدة : ٦٤]

في هذه الآية دلالة على جواز لعن اليهود ، ولا إشكال أن ذلك جائز على طريق العموم.

١٤٨

وأما لعن شخص معين من اليهود لم يخبر الله تعالى بأنه من أهل النار ، فقال الغزالي : لا يجوز ؛ لأنه لا يدري بما يختم له ، والظاهر من المذهب أنه جائز (١).

قوله تعالى

(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) [المائدة : ٧٢]

وقوله تعالى :

(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) [المائدة : ٧٣]

هذا الكلام يدل على أن الكفر يتعلق بالقول ، وقد تقدم أنه على ثلاثة أقسام : الحاكي ، والمكره ، ومن سبقه لسانه لا يكفر وفاقا ، والمعتقد يكفر وفاقا.

قيل : وذكر الفقيه الشهيد حميد بن أحمد أن من نطق بما فيه نقص على الباري كأن يقول : إنه ظالم كفر وفاقا ، والخلاف إذا نطق غير معتقد بما ليس فيه نقص على الباري ، كأن يقول : إنه كافر ، وقد تقدم (٢).

قوله تعالى

(قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِ) [المائدة : ٧٦ ـ ٧٧]

__________________

(١) قد تقدم نحو هذا في عدة مواضع.

(٢) في قوله تعالى : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) المتقدم في هذه السورة.

١٤٩

دلت الآية على حكمين :

الأول : جواز الحجاج في الدين ، فإن كان مع الكفار وأهل البدع فذلك ظاهر الجواز ، وإن كان مع المؤمنين جاز بشرط أن يقصد إرشاده إلى الحق ؛ لا إن قصد الغلو فمحظور ، ويزداد الحظر إن أظهر السخرية ، ولا ينبغي أن يجادل من هذه حاله ؛ لأنه يكون مسببا له لفعل القبيح.

وحكي عن الشافعي : أنه كان إذا جادل أحدا قال : اللهم ألق الحق على لسانه.

الحكم الثاني : أن الغلو في الدين لا يجوز ، وهو المجاوزة للحق إلى الباطل ، ومن هذا الغلو في الطهارة مع كثير من الناس ، فالزيادة على ما ورد به الشرع لغير موجب.

وللإمام يحيى بن حمزة رسالة إلى السيد داود بن حمدين ؛ زجرا له عن التعدي في الطهارة ، سماها : (الوازعة لذوي الألباب عن فرط الشك والارتياب).

وقد قال الزمخشري : إن المراد لا تغلو في دينكم غلوا باطلا ، وذلك بتجاوز الحق ، والإعراض عن الأدلة ، واتباع الشبه ، كما يفعله أهل الأهواء.

وأما الغلو الذي هو حق ، وذلك الفحص عن حقائق الدين ، والتفتيش عن معانيه البعيدة ، كما يفعله المتكلمون فذلك محمود.

قوله تعالى

(لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) [المائدة : ٧٨ ـ ٨٠]

١٥٠

دلت على أحكام :

الأول : جواز لعنهم ، وقد تقدم.

الثاني : المنع عن الذرائع التي تبطل مقاصد الشرع ؛ لأنه قد فسر الاعتداء بأن أهل أيلة لما اعتدوا في السبت. قال داود : اللهم العنهم ، واجعلهم آية ، فمسخوا قردة.

والثالث : وجوب النهي عن المنكر.

قال الحاكم : وتدل على أن ترك النهي من الكبائر.

الرابع : تحريم الموالاة فيما يوهم الرضاء بفعلهم.

قال الحاكم : وأما ما سوى ذلك فيجوز لقوله تعالى : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ).

قوله تعالى

(وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ) [المائدة : ٨٣]

هذا صفة من صفات من آمن من النصارى ، وقد روي أن جعفر بن أبي طالب لما قرأ على النجاشي من سورة مريم ، ومن سورة طه ، بكى ، وكذلك أصحابه الذين وفدوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهم سبعون.

روي أنه لما قرأ عليهم سورة (يس) بكوا ، وهذا دليل على أن المشروع عند قراءة القرآن الخشوع والبكاء ، وقد ورد عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا» والمراد إشراب القلب الخوف والمهابة لله تعالى ، وقد ألف النواوي فيما ينبغي للقارئ كتابا سماه : (التبيان في آداب حملة القرآن) وإسلام النجاشي معروف ، وأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما مات صلى عليه مع تباعد الديار (١).

__________________

(١) بياض في الأصل مقدار سطر.

١٥١

قوله تعالى

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) [المائدة : ٨٧ ـ ٨٨]

النزول

قيل : نزلت في الذين اجتمعوا في دار عبد الله بن مظعون (١) ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خوّفهم وذكّرهم يوم القيامة ، منهم : علي ، وأبو بكر ، وابن مسعود ، وأبو ذر ، وسالم ، والمقداد ، وسلمان ، وقالوا : نصوم النهار ولا ننام الليل ، ولا نأكل اللحم ، ولا نقرب النساء ، ولا الطيب ، ونلبس المسوح ، ونترهب ، وأراد بعضهم قطع مذاكيره ، فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : «إني لم أؤمر بذلك ، إن لأنفسكم عليكم حقا ، فصوموا وافطروا ، وقوموا وناموا (٢) ، فإني أقوم وأنام ، وأصوم وأفطر ، وآكل اللحم والدسم ، وآتي النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني» فنزلت.

وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يأكل الدجاج والفالوذ (٣) ، وكان يعجبه الحلوى والعسل ، وقال : «إن المؤمن حلو يحب الحلاوة».

وعن ابن مسعود أن رجلا قال له : إني حرمت الفراش ، فتلا هذه الآية فقال : «نم على فراشك ، وكفر عن يمينك».

__________________

(١) في الحاكم (عثمان بن مظعون) وهو الأصح ، كما هو كذلك في الكشاف ، والبغوي : عثمان بن مظعون الجمحي ، وسيأتي قريبا في قوله تعالى : (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أن صاحب القصة عثمان بن مظعون. (ح / ص).

(٢) في نسخة (وقوموا ونوموا)

(٣) هكذا في النسخ ، وهو الفالوذج.

١٥٢

وعن الحسن أنه دعي إلى طعام ومعه فرقد السنجي وأصحابه ، فقعدوا على المائدة وعليها ألوان (١) من الدجاج ، والمسمن ، والفالوذ ، وغير ذلك ، فاعتزل فرقد ناحية.

قال الحسن : أهو صائم؟ قالوا : لا ، ولكنه يكره هذه الألوان ، فأقبل الحسن عليه وقال : يا فرقد أترى لعاب النحل بلباب البر ، بخالص السمن يعيبه مسلم.

وروي عنه أنه قيل له : إن فلانا لا يأكل الفالوذ ويقول : لا أودي شكره ، قال : أيشرب الماء البارد؟ قيل : نعم ، قال : إنه جاهل أن نعمة الله تعالى في الماء البارد أكثر من نعمته عليه في الفالوذ.

ثمرة الآية : النهي عن تحريم الطيبات من الحلال ، ولكن ما هذا التحريم الذي نهى الله عنه؟

قلنا : ذكر الحاكم أنه يحتمل وجوها ، لا مانع من الحمل على جميعها :

أحدها : لا تعتقدوا التحريم.

ومنها : لا تظهروا التحريم.

ومنها : لا تحرموا على غيركم بالفتوى والحكم.

ومنها : لا تجروه مجرى المحرم في شدة الاجتناب.

ومنها : لا تلتزموا تحريمه بنذر أو يمين.

وقال القاضي : لا تحرموا بفعل صدر منكم ، كالبياعات الربوية ، وخلط الحلال بالمغضوب ، والطاهر بالنجس.

وقيل : هو جب المذاكير ، وقطع آلة النسل ، فإن قيل : ما فائدة النهي عن التحريم للطيبات وهي لا تحرم؟

__________________

(١) في ب (وعليها الألوان).

١٥٣

قال الحاكم : قيل : التحريم هو للتشبه بالرهبان من النصارى ؛ لأنهم حرموا هذه الأشياء.

وقيل : لأنه تعالى اعلم بالمصالح في التحليل والتحريم ، فكونه (١) حرم ما المصلحة تحليله عصيان ، وإن لم يحرم.

فإن قيل : قد رويتم ما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المنع من التحريم ، وأكله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للطيبات ، وما روي عن الحسن وغيره.

وعن علي بن موسى القمي أن الأنبياء ـ صلوات الله عليهم ـ قد توسعوا في الحلال ، وكذلك الصحابة ، قال : ورأيناهم لا يعدلون عن الشابة الجميلة إلى العجوز القبيحة ، فما بالهم يعدلون من خبز البر إلى خبز الشعير ، فكيف الجمع بين هذا وبين ما ورد في الزهد ، وفي (٢) الحث عليه ، وبما كان عليه عيسى عليه‌السلام ويحيى بن زكرياء ، وما فعله أمير المؤمنين من التزهد (٣) ، وبما ورد في الحديث من رواية أبي طالب في الأمالي «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أفطر بقباء يوم الجمعة ، فأتاه أوس الأنصاري بقعب فيه لبن مخيض بعسل ، فلما وضعه على فيه نحاه ، ثم قال : «شرابان يجزي أحدهما دون الآخر» ، ثم قال : «لا أشربه ولا أحرمه ، ولكن أتواضع لله عزوجل ، فإنه من تواضع لله رفعه الله ، ومن تكبر قصمه الله ، ومن اقتصد في معيشته رزقه الله ، ومن أكثر ذكر الله أحبه الله عزوجل».

جواب ذلك أنا قد بينا الممنوع المحرم من اعتقاد تحريم الحلال ، وإظهار التحريم ، والتشبه بالنصارى ونحو ذلك ، فإن لم يحصل واحد مما ذكرنا فالحالات تختلف ، فمن كان يقتدي به في القنوع باليسير ، والرغبة

__________________

(١) قوله (فكونه) أي : العبد.

(٢) في نسخة (والحث عليه) وفي نسخة (في الحث عليه) بدون واو.

(٣) تقدم ذكره في قوله تعالى : (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) من هذه السورة.

١٥٤

فيما عند الله ، فلا شك أن الزهد أفضل مهما لم تعارضه مصلحة تقاومه من استعانه على الجهاد ، أو على طلب العلم ، وما ورد من التخريج في أنه لا يبعد من الطيبات فذلك إما لئلا يعتقد تحريمه ، أو على سبيل الإرشاد.

وأما قول علي بن موسى القمي أن العدول عن البر إلى الشعير يلزم مثله في العدول عن الحسناء إلى الشوهاء ، فلعل ذلك يفترق ، فإن حقوق الزوجية مع انشراح بال الزوج أقرب إلى التأدية ، والله أعلم.

ويتعلق بهذا أمران :

الأول : إذا حرم الحلال هل يجب عليه الحنث والرجوع؟

قلنا : ظاهر الآية يدل على ذلك ، وتلزمه مع ذلك التوبة.

الأمر الثاني : هل يلزمه في ذلك كفارة؟

قلنا : هذه الآية قد يستدل بها على عدم اللزوم ؛ لأن النهي يقتضي فساد المنهي عنه ، وهذه المسألة فيها خلاف بين العلماء ، وسيأتي اتساع القول فيه بمشيئة الله تعالى في سورة التحريم.

قوله تعالى : (وَكُلُوا) صيغته صيغة الأمر ، والمراد به الإباحة.

والطيبات ، قيل : هي الحلال ، وقيل : ما تشتهيه النفوس.

قوله تعالى

(لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [المائدة : ٨٩]

١٥٥

النزول

قيل : لما نزل (لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) قالوا : يا رسول الله فكيف نصنع بأيماننا التي حلفنا ، وكانوا حلفوا على ما اتفقوا عليه ، فأنزل الله : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ) الآية.

وثمرة هذه الجملة تظهر ببيان الحالف ، والمحلوف به من الأيمان ، وصفة الحلف ، وموجب اليمين ، فأما بيان الحالف فهو : أن يكون بالغا عاقلا ، مختارا ، مسلما (١) ، أما البلوغ والعقل فذلك ظاهر ، إذ ليسا بمخاطبين ، ولو كان سكرانا كان حلفه كطلاقه ، كما قيل في إبلائه.

وأما قولنا : مختارا / فالمكره على الحلف لا تنعقد بيمينه عند عامة أهل البيت ، والشافعي ، ومالك ؛ لقوله تعالى : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) وقياسا على كلمة الكفر.

وقال أبو حنيفة : تنعقد يمينه لعموم الأدلة ، أما لو أكرهه إمام أو حاكم انعقدت إجماعا ، لئلا تبطل فائدة ولايتهما.

وأما لو حنث مكرها أو ناسيا ، وكان حلفه مختارا فإنه يحنث عند القاسمية (٢) ، ومالك ، والشافعي ، وأبي حنيفة ؛ لأن اليمين قد انعقدت ، والضمان يصح مع النسيان ، والإكراه على قول.

وقال الناصر : وأحد قولي الشافعي ، وهو محكي عن الصادق ، والباقر ، ومالك في رواية ، والمنصور بالله : لا يحنث (٣) ، احتجوا بقوله تعالى في سورة الأحزاب : (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ) وقوله تعالى : (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا).

__________________

(١) غير أخرس.

(٢) وهو المختار ، وعليه الأزهار.

(٣) وهو المختار ، وهو قول المؤيد بالله ، والمرتضى يقول : على المكره ، والمذهب قول المؤيد بالله.

١٥٦

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» (١).

قلنا : أراد إثم ذلك ، قالوا : نحمله على رفع الإثم والكفارة معا ، إذ لا منافاة بينهما.

قلنا : يبطل ذلك بإتلاف مال الغير ، فإنه لا يبطل ضمانه وإن أتلفه ناسيا أو خاطئا (٢) ، وأما الحر والعبد فلا فرق.

وأما قولنا : مسلما ، فهذا مذهب الأئمة أن يمين الكافر لا تنعقد سواء حنث كافرا أو مسلما ، أو حلف مسلما ثم ارتد ؛ لأن في اليمين عبادة وهي الكفارة ، وليس من أهل العبادة ، والشافعي صحح يمينه.

قيل : ولا يكفر بالصوم ، وأخذ بالعموم.

وأما بيان المحلوف به فدلالة الآية على ذلك مجملة غير مبينة ، وبيانها من جهة السنة الشريفة ، وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا تحلفوا إلا بالله».

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من حلف فليحلف بالله أو ليصمت» فنهى عن الحلف بغيره ، والنهي يقتضي الفساد فلا تنعقد.

وأما الحلف بصفات الذات فكالحلف بالله ، أما لو حلف ببيت الله ، أو بقبر رسول الله لم تنعقد عند القاسمية ، وأبي حنيفة ، وأحد قولي الناصر ، وأحد قولي الشافعي ؛ لأنها بغير الله ، وأحد قولهما أنها تنعقد ؛

__________________

(١) نعم : وهذا الحديث عليه مدار كثير من الأحكام ، وفيه أحكام خمسة ، وقد قيل كما ذكر المخرج ابن بهران وغيره : أنه لا أصل له في الحديث بهذا اللفظ ، ولكن صرح في تلخيص ابن حجر مع الحكم بضعفه بأن له شواهد قريبة ، وأحاديث نبوية وردت بمعناه ، قال شيخنا رحمه‌الله ، فأقل أحواله أن يكون من باب الحسن لغيره. (ح / ص).

(٢) يقال : إنه لا إبطال في هذا ، ولكنه مخصص بما إذا كان ذلك يتعلق بحقوق العباد فلا يسقط الضمان.

١٥٧

لأنه حلف بما عظمه الله ، ولأن عليا عليه‌السلام حلّف يهوديا بالتوراة ، فيلزم في سائر الكتب ، والفروع في كتب الفقه ، وقد قال في النهاية : اتفقوا في الحلف بالله وبأسمائه ، واختلفوا في الصفات ، وكذلك اختلفوا في القسم بما أقسم بالله به ، فمن قال : قد أقسم الله بأشياء فتكون أيمانا بالإضافة إلينا ، كقوله :

(وَالشَّمْسَ) (وَاللَّيْلِ) وهو قول أبي حنيفة ، وقول للناصر ، ومن أخذ بصريح الحديث : «لا تحلفوا إلا بالله» قال : نحن ممنوعون ، وهذا قول القاسمية ، والشافعي.

وأما كيفية الحلف فقد قال تعالى : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) فنفى المؤاخذة في اللغو ، ولكن في هذا بحثان :

الأول : ما هو اللغو.

والثاني : ما أراد بالمؤاخذة التي نفاها.

أما اللغو : فهو في الأصل لما لا يعتد به كقوله :

عن اللغا ورفث التكلم

ويكون للكلام الباطل ، ومنه قوله تعالى : (وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) واختلف العلماء في اللغو المذكور في الآية ، فقال في الشرح : عن زيد ، والقاسم ، والناصر ، والمؤيد بالله ، وأبي حنيفة ، وأصحابه ، والثوري ، ومالك ، والليث.

قال الحاكم : وهو قول الحسن ، والشعبي ، والنخعي ، وأكثر أهل العلم ـ هو أن يحلف على شيء يظنه صادقا فيتبين خلافه ، وقد يكون في الماضي وفي الحال.

وقال الشافعي : هو أن لا يقصد إليه بل يسبقه لسانه ، كما يجري على ألسنة الناس من (والله ، وبلى والله) وهذا قول أبي علي ، والقاضي ،

١٥٨

وروي هذا عن عائشة ، وحكي هذا عن القاسم ، وعن الشعبي (١) ، والأصم ، ومسروق ، وسعيد بن جبير ، أن يحلف على معصية.

قال في الكشاف (٢) : روي أنه سئل الحسن عن اللغو وكان عنده الفرزدق فقال : يا أبا سعيد دعني أجب عنك ، قال :

ولست بمأخوذ بلغو تقوله

إذا لم تعمد عاقدات العزائم :

وقال الناصر : اللغو ما قلناه ، وما قال الشافعي.

وقيل : إن اللغو أن يحلف حال الغضب ، عن ابن عباس.

قال في النهاية : وقول خامس : أن يحلف لا آكل ، ولا أشرب مما حلله الشرع.

إن قيل : الآية محتملة البيان في تفسير اللغو ، فما توجيه هذه الأقوال؟

جواب ذلك : أن الله سبحانه قد جعل اللغو مضادا للمعقودة ، فيكون الحكم فيهما على المضادة ، ومن قال : اللغو ما لم يقصد إليه ، قال : قد ثبت أنه يلغو في غير هذا المكان ، ما لم يقصد إليه من سبق اللسان ، أو أن اللغو في الشرع لما لا يقع حكمه في غير هذا المكان ، كالطلاق في الإغلاق (٣).

وأما بيان المؤاخذة التي أسقطها الله تعالى عنه فاختلف في ذلك ، فمذهبنا وهو قول أكثر المفسرين والفقهاء ـ أن المراد مؤاخذة الإثم والتكفير ، فلا كفارة فيها.

__________________

(١) رواية أخرى غير ما سبق.

(٢) الكشاف ١ / ٦٤٠.

(٣) الإغلاق : هو الإكراه.

١٥٩

وقال إبراهيم : أراد مؤاخذة الإثم ، وأما الكفارة فتجب في اللغو ، والأول الظاهر ، وقوله تعالى : (فَكَفَّارَتُهُ) قال إبراهيم : أراد كفارة اللغو ، وقال الأكثر : أراد كفارة ما عقدتم من الأيمان وحنثتم فيه.

وقوله تعالى : (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ) اختلف في تفسير المعقود ، فقال أهل المذهب وهم القاسمية : المعقودة ـ ما تعلق بالمستقبل ، وهو يمكن البر والحنث فيه ، فهذا فيه الكفارة.

فأما الغموس وهو أن يحلف على أمر يعلمه أو يظن أنه حانث فيه ، وكذا إن شك فليس بمعقودة ؛ لأن الله تعالى قد قال : (وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ) والمراد بالحفظ أن لا يحنث ؛ إلا أن يكون البقاء على البر معصية على ما سيجيء.

وقال الشافعي : معنى الحفظ أن لا يحلف ، وقال : إن الغموس معقودة ؛ لأنه وثق على نفسه.

وقيل : معنى (وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ) أمر بترك الإكثار من الأيمان.

قال في النهاية : الغموس معقودة ، ولكن أبا حنيفة ، ومالكا يخرجان الكفارة فيهما من عموم الآية بالأخبار ، يعني أنه قد وردت أخبار بعدم وجوب الكفارة ، نحو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «خمس لا كفارة فيهن : الشرك بالله ، والعقوق بالوالدين ، وقتل النفس بغير حق ، والبهت على المؤمن ، واليمين الفاجرة التي يقطع بها مال أخيه المسلم».

والناصر يقول : المعقودة ما وثقه بالنية ، فيخرج يمين الهازل ، فإنه لا كفارة فيها ، وهكذا عن الباقر ، والصادق ، وأبي علي ، وأبي هاشم.

والقول بسقوط الكفارة فيها (١) ، هو قول زيد بن علي ، والقاسم ،

__________________

(١) أي : في اليمين الغموس.

١٦٠