تفسير الثمرات اليانعة - ج ٣

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]

تفسير الثمرات اليانعة - ج ٣

المؤلف:

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٦

والتعريف في الصلاة يدل على أنها كانت معروفة عندهم كالبيت والنجم ، وقد ورد في الحديث الوعيد لمن حلف على مال المسلم بعد العصر.

وقوله : (إِنِ ارْتَبْتُمْ) خطاب للورثة ، أي : إن اتهمتم بالخيانة ، وهذا اعتراض بين المقسم به والمقسم عليه ، والمعنى : إن اتهمتموهما فيقسمان بالله.

وقوله : (لا نَشْتَرِي بِهِ) أي : لا نستبدل بالمقسم به ثمنا قليلا أي : عوضا ، والمعنى : لا نحلف بالله كاذبين.

وقوله : (وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) أي : ولو كان الذي يحلف له ذا قرابة قربى منا ، والمعنى : أنا لا نحابي باليمين ، نظير قوله تعالى في سورة النساء : (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) واختلف في هذه اليمين أيّ الأيمان هي؟ فقيل : إنها يمين الوصي ، وهي اليمين الأصلية ، وهي ثابتة إذا اتهم الوصي حلف ، وقيل : إنها يمين الشاهدين ، واختلف هل في ذلك نسخ أم لا؟ فقال الأكثر : إن تحليف الشهود منسوخ ، وقال الهادي ، وطاوس ، والحسن : إنه ثابت ، ثم اختلف خلاف آخر ، وهو هل شهادة الذميين صحيحة ثابتة أم قد نسخت؟ فقال الأكثر : قد نسخت.

وعن الحسن ، وابن أبي ليلى ، والأوزاعي ، وشريح ، وهو ظاهر قول المنصور بالله ، قال : وهو قول جدنا عبد الله بن الحسين (١) : إنها ثابتة.

وقوله تعالى : (وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ) أي : الشهادة التي أمر الله

__________________

(١) عبد الله بن الحسين : هو عبد الله بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم .. ، وهو أخو الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين عليه‌السلام.

٢٢١

تعالى بحفظها ، والقراءة الظاهرة (شَهادَةَ اللهِ) بنصب شهادة من غير تنوين ، وإضافتها إلى الله بالجر بالإضافة.

وروي عن الشعبي أنه وقف على (شَهادَةُ) ثم ابتدأ (آلله) بالمد على طرح حرف القسم ، وتعويض حرف الاستفهام منه ، وروي عنه بغير مد.

وقد روى سيبويه عن بعضهم جواز حذف حرف القسم بلا تعويض ، وقرأ بعضهم (شهادة) منونة ، (الله) بفتح الهاء على معنى ، ولا نكتم الله شهادة.

وقوله تعالى : (فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً) يعني : فإذا أطلع على أن اللذين حلفا استوجبا اثما ، وذلك بأيمانهما الكاذبة وخيانتهما.

وقوله تعالى : (فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ) والمعنى : فشاهدان آخران من اللذين استحق عليهم وهم الورثة ، أي : من الذين جني عليهم بأخذ المال ، يقومان مقامها أي : في الشهادة وفي اليمين.

وفي قصة بديل : أنه لما ظهر خيانة الرجلين حلف رجلان من ورثته أنه إناء صاحبهما ، وأن شهادتهما أحق من شهادتهما.

وقوله تعالى : (الْأَوْلَيانِ) يعني : هما الأوليان ، يعني : الأحقان بالشهادة لقربهما ، والمعنى : هما الأوليان ؛ لكونهما مطلعين على أحوال الميت ، عن ابن عباس ، وشريح ، وقيل : الأوليان بالميت من سائر الورثة عن سعيد بن جبير ، وابن زيد.

وقيل : الأوليان من النصرانيين بالتحليف ، وهذه قراءة نافع ، وأبي عمرو ، وابن كثير في رواية ، وابن عامر ، وقراءة حمزة ، وغيره (الأولين) بالياء على الجمع من الأول ، على اتباع الذين استحق عليهم ، ووصف

٢٢٢

للذين ومعنى الأولية : التقدم على الأجانب في الشهادة ، وقرئ في الشاذ (الأوليين) على التثنية ، وانتصابه على المدح ، وقراءة الحسن (الأولان) وهي شاذة ، وقراءة الأكثر (استحق) ـ بضم التاء وكسر الحاء ـ ، وفي رواية عن ابن كثير (استحقا) ـ بفتح التاء والحاء ـ وهي قراءة علي ـ عليه‌السلام ـ ، وأبي ، وابن عباس ، والمعنى : استحق الأوليان على سائر الورثة التقدم لليمين.

واختلف في هذه اليمين ما هي؟ فقيل : إنها المردودة وإنها حجة لمن يرى رد اليمين ، وستأتي.

وقيل : هي مؤكدة ، وأن الشهود الأولين يحلفون ، فإذا ظهرت خيانتهم بشهادة آخرين حلف الآخران ، ووجب الرد إلى الورثة ، وهذا المروي عن الحسن.

وقيل : إنها اليمين الأصلية ، وأن الوصيين لما حلفا ، ثم ظهرت خيانتهما ادعيا الشراء من بديل ، فأنكر ورثته فحلفوا.

وقوله تعالى : (ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها) المعنى : ذلك التحليف أقرب إلى تحرزهم في أداء الشهادة ، أو ذلك الحكم الذي ذكر.

وقوله تعالى : (أَوْ يَخافُوا) يعني : يتحفظون في الشهادة مخافة أن ترد الأيمان ، والشهادة إلى المستحق عليهم ، فيفتضحون.

وأما ثمرات هذه الجملة فهي تنطوي على أحكام :

الأول : لزوم الوصية حال الخوف من الموت ، وحضور قرائنه ؛ لأنه تعالى قال : (حِينَ الْوَصِيَّةِ) أي : وقت أن تحق الوصية وتلزم ، وقد ذكر هذا الزمخشري ، وهذا مع ثبوت حق عليه ، وكان يملك شيئا من المال ، وقد ورد الخبر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما آمن من آمن بالله واليوم الآخر له شيء يوصي فيه أن يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة تحت رأسه».

٢٢٣

فأما إذا كان عليه حق وهو فقير ، فالمفهوم من الخبر أنه لا يجب عليه ، كما لا يجب عليه التكسب في حال الحياة ، وهذا قد ذكره علي خليل.

وعن أبي مضر (١) : تجب.

وأما إذا لم يكن عليه حق فهي مستحبة.

الحكم الثاني : يتعلق بقوله : (اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) وهذا دلالة على أن الحكم بالشهادة شرطه أن يشهد اثنان عدلان ، وهذا إطلاق لم يفصل فيه بين حق وحق ، ولا بين الحدود وغيرها ، لكنا أخرجنا شهادة الزنى بقوله تعالى في سورة النور : (ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) وهذا مجمع عليه إذا شهدوا على نفس الفعل.

فأما لو شهدوا على الإقرار ، فحكى الغزالي وجهين :

أحدهما : لا بد من أربعة ، وهو الذي اختاره الإمام يحيى.

قال الفقيه محمد بن يحيى : وهو ظاهر المذهب ؛ لأن الحكم بالزنى يكون بأربعة.

الوجه الثاني : يكفي اثنان ، وشهادة الإحصان يكفي فيها اثنان عند الأكثر.

وعن الحسن البصري : لا بد من أربعة.

وأما أمراض الفروج كالحيض والولادة فيجوز عندنا شهادة امرأة واحدة ، وذلك مروي عن علي عليه‌السلام ، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه ، والثوري ، والشعبي ، والنخعي ، لما روى حذيفة أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أجاز شهادة القابلة ، وقال الشافعي : لا بد من أربع.

__________________

(١) تخريجا للمؤيد بالله.

٢٢٤

وقال مالك في رواية : ثنتان ، فلحظوا اعتبار العدد ونحن خصصناه بالخبر.

ثم إن الآية لم تفرق بين أن يكون الاثنان حرين أو عبدين ، وخرج شهادة الصغيرين لقوله تعالى في سورة البقرة : (شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ) وسيأتي زيادة على هذا إن شاء الله.

الحكم الثالث : يتعلق بقوله تعالى : (ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) واختلف ما أراد من قوله منكم؟ فقيل : من أهل ملتكم ، وقيل : من أهل عشيرتكم كما تقدم ذكر ذلك ، فإذا قلنا : أراد من أهل ملتكم أو غير ملتكم ففي هذا دلالة على صحة شهادة الذمي على المسلم عموما (١) ، لكن خرج جوازها فيما عدى وصية المسلم في السفر بالإجماع ، وبقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تقبل شهادة ملة على ملة إلا ملة الإسلام ، فإنها تقبل على الملل كلها».

وأما على وصيته في السفر فعندنا أيضا لا تقبل ، وهو قول أبي حنيفة ، والشافعي ، وعامة الفقهاء ، ويجعلون هذا الذي دلت عليه الآية منسوخا.

قال مكحول : نسخها بقوله تعالى في سورة الطلاق : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ).

قال ابن أبي ليلى ، والأوزاعي ، وشريح : إنها جائزة ثابتة غير منسوخة ، وهكذا ذكره المنصور بالله في المهذب ، قال : وهو قول جدنا عبد الله بن الحسين.

وقيل : إنما جاز ذلك أول الإسلام لقلة المسلمين ، وإن قلنا : أراد بقوله : (مِنْكُمْ) أي : من عشيرتكم ، ففي ذلكم دلالة على صحة شهادة

__________________

(١) قوله (عموما) فيه نظر ، يقال على هذا النظر : إنما وردت في الوصية ، ولا يقصر الشيء على سببه ، فهي عامة.

٢٢٥

الأقارب من والد ، أو ولد أو غيرهما ، وهذا مذهب أكثر الأئمة ، وعند أبي حنيفة ، والشافعي : لا تقبل شهادة الآباء للأبناء وعكسه ، وقد ذكر ذلك عند ذكر قوله تعالى في سورة البقرة : (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ).

الحكم الرابع : يتعلق بقوله تعالى : (تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ) وفي هذا دلالة على تغليظ اليمين ، من حيث أنه خص الحبس بوقت الصلاة ، وقد اختلف العلماء في هذه المسألة ، فمذهبنا والحنيفة أن اليمين لا تغلظ بزمان ولا بمكان ، وأخذوا لعموم قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه» ولم يفصل ، وقوله في هذه الآية : (مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ) فهو يحتمل ما قيل : إنما ذكره لأنهم كانوا يعتادون الحكم في ذلك الوقت.

وقال الشافعي : تغلظ اليمين بالمكان والزمان ، فالزمان بعد العصر ، والمكان في مكة عند المقام ، وفي بيت المقدس عند الصخرة ، وفي المدينة عند المنبر ، وفي سائر البلدان في الجوامع ، لكن جعل التغليظ في غير المال كالخراجات ، والعتاق ، والنكاح والطلاق ، وفي النصاب من المال.

وقال مالك : تغلظ في ربع دينار.

وعن أبي علي من أصحاب الشافعي : تغلظ في القليل والكثير ، واختلف هل التغليظ في الزمان والمكان على سبيل الوجوب أو على سبيل الاستحباب؟

قال الإمام المؤيد بالله يحيى بن حمزة : المختار التغليظ في الأيمان لفساد أهل الزمان ، وذلك مروي عن أمير المؤمنين ، وأبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وابن عباس ، ومالك ، والشافعي. قال : والمختار أنه مستحب غير واجب.

٢٢٦

الحكم الخامس : يتعلق بقوله تعالى : (فَيُقْسِمانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ) وقد اختلف المفسرون من الحالف؟ فقيل : الحالف هم الشهود ، وهذه الآية دلالة على ثبوتها ، وهذا قول الهادي والناصر ، وقد اتفق ذلك للهادي عليه‌السلام بحضرة أبي الحسن ، فلما رأى ذلك أبو الحسن الهمداني وكان رجلا فقيها على مذهب الشافعي ، فلما استنكر ذلك سأل الهادي عليه‌السلام فقال : ذلك مذهبي ، ومذهب طاوس اليماني ، واحتج الهادي عليه‌السلام بالآية ، ووجه الاحتجاج أن الله تعالى أثبت القسم عند الارتياب ، ولا يقال : إنها نزلت في أهل الذمة ، وشهادتهم منسوخة ؛ لأن الآية تضمنت الشهود من أهل الذمة ومن المسلمين ، ثم عقب الجملة بحلف الشهود عند الارتياب ، فنسخ أحد الحكمين لا ينسخ الآخر ، وروي هذا في التهذيب عن الحسن.

قال في الكشاف : وكان علي عليه‌السلام يحلف الشاهد ، والراوي إذا اتهمه.

وقال المؤيد بالله ، وأبو حنيفة ، والشافعي : لا يمين على الشهود ، ويقولون : الآية منسوخة.

قال الحاكم : ولا بد في الآية من نسخ ، وذلك ما ذكر بعد هذا في قوله : (لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما).

وعن ابن عباس : يحلف الكفار إذا شهدوا واتهموا لا المسلمون ، وقيل : هذه يمين الوصيين ، وهي ثابتة وفاقا ، ولا نسخ فيها ، فإذا اتهمهما الورثة حلفوهما.

الحكم السادس : تحريم كتم الشهادة ، وذلك لا إشكال فيه ، وأضاف الشهادة إلى الله تعالى ؛ لأن الحق له في إقامتها.

الحكم السابع : يتعلق بقوله : (فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُ

٢٢٧

مِنْ شَهادَتِهِما) اختلف المفسرون في هذه اليمين فقيل : هي اليمين الأصلية ؛ لأن الوصيين لما ظهرت خيانتهما ادعيا الشراء ، فحلف الورثة ، لكن تحليف اثنين ، وكونهما يحلفان أن شهادتهما أحق من شهادة الوصيين ، أي : من أيمانهما ، قد قال الحاكم : لا بد فيه من نسخ.

وقيل : إذا ظهرت خيانة الشاهدين الأولين بشهادة آخرين بخيانتهما ، حلف الشاهدان الآخران ، ووجب الحق ، وهذا مروي عن الحسن ، وقال : إن ذلك ثابت غير منسوخ.

وقيل : إن هذه اليمين هي المردودة ، وأن الورثة يحلفون يمين الرد إذا طلب الوصيان تحليفهم ، وهذا القول وهو ثبوت المردودة مذهب الهادي ، والشافعي ، وهو مروي عن عمر ، وعثمان ، وحذيفة ، والمقداد.

واحتج من أثبتها بقول الله تعالى : (أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ) ولا موضع يثبت فيه الرد إلا ما ذكرنا ، والاستدلال بهذه الآية محتمل ؛ لأن القصة وسببها لم يرو فيها الرد ، وعند أبي حنيفة وأصحابه ، وهو مروي عن الناصر : أن المردودة غير ثابتة لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه».

واتفقوا في أيمان أنها لا ترد ، كيمين التهمة ، والقسامة ، والموجبات (١) ، وما كان فيه حق لله ، كيمين القذف.

قال الحاكم : وفي الآية دلالة على أن شهادة الزور ، وكتم الشهادة من الكبائر ، والدلالة من هذا على ما ذكره محتملة (٢).

أما كون ذلك اعتداء وظلما فلا إشكال.

__________________

(١) وهن المتممة ، والمؤكدة ، والمردودة.

(٢) لا وجه لما ذكره من الاحتمال مع قوله (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) ومن غير هذه الآية مثل قوله تعالى : (وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ).

٢٢٨

قوله تعالى

(إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ) [المائدة : ١١٠]

قيل : أراد بالذكر الشكر ، وفي ذلك دلالة على وجوب شكر النعمة ، وأن النعمة على الأم نعمة على الولد ، فيؤخذ من هذا أن الأم تجر ولاء ولدها إلى معتقها ، ولكن ذلك دلالة جميلة وقد يكون الشكر بالقول ، والفعل ، والاعتقاد.

قال في الكشاف : قيل : إنه تعالى لما قال لعيسى (اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ) كان يلبس الشعر ، ويأكل الشجر ، ولا يدخر شيئا لغد.

قوله تعالى

(إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [المائدة : ١١٢]

ثمرة ذلك : أن يقال : الشك في قدرة الله يوجب الكفر ، فكيف شكوا مع الإخبار بإيمانهم؟ فقيل : قراءة الكسائي ، وأبي عبيدة بالتاء ، وهي مروية عن علي عليه‌السلام ، وابن عباس ، وعائشة ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد. والمعنى : هل تستطيع أن نسأل ربك.

فإن قيل : كيف أنكر عليهم قولهم بقوله : (قالَ اتَّقُوا اللهَ)؟

قيل : نهاهم ؛ لأن ذلك اقتراح معجزة بعد معجزات كثيرة ، وقراءة أكثر القراء : هل يستطيع ربك أبالياء ـ بمعنى : هل يفعل ربك كما تقول لغيرك : هل تستطيع أن تنهض؟ أي : هل تنهض ، وقيل : كان هذا في أول إسلامهم ، وضعف.

٢٢٩
٢٣٠

تفسير

سورة الأنعام

٢٣١
٢٣٢

سورة الأنعام

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ) [الأنعام : ٤٦]

دلت على جواز الحجاج في أمر الدين.

قوله تعالى

(قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) [الأنعام : ٥٠]

المعنى : أن الله تعالى أمر نبيه أن يقول : إنه لا يدعي حالة فوق ما هو عليه.

قال الحاكم : وفي ذلك دلالة على عظم منزلة الملائكة ، وأنهم أفضل من الأنبياء ، وقد تقدم ذكر الخلاف (١) ، وأن أكثر الأشاعرة يقولون : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أفضل (٢) ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما خلق الله ولا ذرأ ولا برأ أفضل من محمد».

__________________

(١) في سورة النساء في قوله تعالى : (تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ).

(٢) وقيل : بل الأنبياء والمؤمنون أفضل ، ومنهم من توقف ، ومنهم من فضل نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاصة.

٢٣٣

قوله تعالى

(وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنعام : ٥٢]

النزول

قيل : إن نفرا من قريش مروا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعنده صهيب ، وعمار ، وبلال ، وخباب ، ونحوهم من ضعفاء المسلمين فقالوا : يا محمد أرضيت بهؤلاء من قومك؟ اطردهم فلعلنا نتبعك ، فنزلت ، عن ابن عباس وابن مسعود ، وقتادة ومجاهد.

وقيل : جاء الأقرع بن حابس التميمي ، وعيينة بن حصن الفزاري ، وجماعة من المؤلفة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فوجدوه خاليا مع هؤلاء من ضعفة المسلمين ، وعليهم ثياب الصوف ، فقالوا : لو نفيت هؤلاء لجالسناك ، فقال عليه‌السلام : «ما أنا بطاردهم» قالوا : فاجعل لنا مجلسا ، فإنا نستحي أن ترانا العرب مع هؤلاء الأعبد (١) ، فهمّ النبي بذلك ، فنزلت.

وعن سلمان ، وخباب أنهما قالا : فينا نزلت الآية ، وقيل : قالوا : أتخذ لنا يوما ولهم يوما ، فأبى ، فقالوا : اجعل المجلس واحدا ، وأقبل علينا بوجهك ، وول ظهرك ، فنزلت ، عن الكلبي.

ثمرة الآية : أن الواجب في الدعاء الإخلاص له ؛ لأنه تعالى قال :

__________________

(١) جعل عمار عبدا لأنه ابن أمة ، وإلا فهو عنسي النسب ، حليف لنبي مخزوم ، وأما سلمان فلا وجه لدخوله في الذكر هنا ؛ لأن الآية مكية ، وسلمان لم يكن إلا في المدينة ، حواشي الكشاف.

٢٣٤

(يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) هكذا قال الحاكم ، وهكذا جميع الطاعات لا تكون لغرض الدنيا ، وقد قال الناصر عليه‌السلام : إذا دعا إمام ثم وجد أفضل منه وجب عليه أن يسلم الأمر له ، فإن لم يفعل فسق ؛ لأنه إن لم يفعل دل ذلك على أنه طالب للدنيا.

ودلت على أن الغداة والعشي لهما اختصاص بفضل العمل والدعاء ، فلذلك خصهما بالذكر.

ودلت على أن الفضل بالأعمال ، وما خرج من المفاضلة به ، من غير أمر الدين ، كالكفارة في النكاح ، فذلك لمخصص ، نحو قوله عليه‌السلام : «العرب بعضها أكفاء لبعض».

ودلت أن أحدا لا يؤاخذ بذنب غيره ، وهو كقوله تعالى في سورة فاطر وغيرها (١) : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [فاطر : ١٨]

وقد تقدم ما ذكر في ما ورد (إن الميت ليعذب ببكاء أهله) على أن المراد إذا أوصاهم بذلك.

ودلت على أن حديث النفس لا يؤاخذ به ؛ لأنه قد روي أنه عليه‌السلام همّ بذلك.

ودلت على أن الفقر لا يؤثر في حال المؤمن ، وقد ورد في الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يدخل فقراء المؤمنين الجنة قبل أغنيائهم بكذا سنة».

وروي (أن آخر من يدخل الجنة من الصحابة عبد الرحمن [بن عوف] لكثرة ماله ، وقد روي أن عليا عليه‌السلام لم يخلف شيئا بعد وفاته ، هكذا في التهذيب.

__________________

(١) وردت هذه الآية في سورة الأنعام ، والإسراء ، وفاطر ، والزمر ، والنجم.

٢٣٥

قوله تعالى

(وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) [الأنعام : ٥٤]

قال الحاكم : دلت على وجوب تعظيم المؤمنين ، ودلت على أنه لا يجوز أن يسلم على أهل الذمة وغيرهم من الكفار ؛ لأنه جعل ذلك لمن آمن ، ودلت على أنه ينبغي إنزال المسرة بالمؤمن ؛ لأنه أمر بأن يقول لهم : (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) لتطيب قلوبهم.

قوله تعالى

(وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ)(١) [الأنعام : ٥٩]

قال الحاكم : دلت على بطلان قول الإمامية ، أن الإمام يعلم شيئا من الغيب.

قوله تعالى

(تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) [الأنعام : ٦٣]

دلت على أن دعاء السر أفضل ، قيل : وكان جهر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالدعاء ليعلّم غيره.

قوله تعالى

(وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَما

__________________

(١) مفاتح : جمع مفتح ـ بفتح الميم ـ وهو المخزن ، أو ما يتوصل به إلى المغيبات ، مستعار من المفاتح ، الذي هو جمع مفتح بالكسر ، وهو المفتاح ، يؤيد ذلك أنه قرئ (مفاتيح) بمعنى أنه الموصل إلى البينات المحيط علمه بها. بيضاوي.

٢٣٦

عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) [الأنعام ٦٨ ـ ٦٩]

النزول

قيل : كان المشركون إذا جالسوا المؤمنين وقعوا في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنهى الله سبحانه المؤمنين عن مجالستهم.

قال ابن عباس : فلما نزلت قال المسلمون : فإنا نخاف الإثم حين نتركهم ولا ننهاهم ، فنزلت (وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ).

وقيل : كانوا يتواصون ، ويقولون : إذا رأيتموه يصف دينه ـ فالغوا فيه لعلكم تغلبون.

ثمرة الآية أحكام :

الأول : وجوب الإعراض عن مجالسة المستهزئين بآيات الله ، أو بحججه ، أو برسوله ، وأن لا يقعد معهم ؛ لأن في القعود عدم إظهار الكراهة ، وذلك لأن التكليف عام لنا ولرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإنما يجب الإعراض ، وترك الجلوس معهم إذا لم يطمع في قبولهم ، فإذا انقطع طمعه فلا فائدة في دعائهم ، ويجب القيام عن مجالسهم إذا عرف أن قيامه يكون سببا في ترك الخوض ، وأنهم إنما يفعلونه مغايظة للواقف ، أو كان وقوفه يوهم عدم الكراهة (١).

الحكم الثاني : جواز مجالسة الكفار مع عدم الخوض ؛ لأنه إنما أمر بالإعراض مع الخوض ، وأيضا فقد قال تعالى : (حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ).

__________________

(١) وكذا يحرم عليه الوقوف ما دام الخوض المنهي عنه ، وإن خلا عن الوجهين المذكورين ، وهو ظاهر الآية. (ح / ص).

٢٣٧

قال الحاكم : والآية أيضا تدل على المنع في مجالسة الظلمة والفسقة ، إذا أظهروا المنكرات ، وتدل على إباحة الدخول عليهم لغرض ، كما يباح للتذكير ، وفي الآية أيضا دلالة على وجوب الإنكار ؛ لأن الإعراض إنكار.

قال : وتدل على أن التقية من الأنبياء والأئمة بإظهارهم المنكرات لا يجوز ، خلاف قول الإمامية ، وتدل على جواز النسيان على الأنبياء.

الحكم الثالث : أن الناسي مرفوع عنه الحرج ، والمعنى : (وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ) أي : بما يحصل من الوسوسة والاشتغال التي تغفل عن ذكر ما نهى الله عنه ، فلا تقعد بعد ذكرك للنهي.

فإن قيل : النسيان فعل الله تعالى ، فلم أضيف إلى الشيطان؟

جواب ذلك : أن السبب من الشيطان وهو الوسوسة والإعراض عن الفكر ، فأضيف إليه لذلك ، كما أن من ألقى غيره في النار فمات يقال : إنه القاتل ، وإن كان الإحراق فعل الله تعالى.

واختلف في النسيان ما هو؟ فقال الحاكم : معنى (١) يحدثه الله في القلب.

وقال أبو هاشم وأصحابه : ليس بمعنى ، وإنما هو زوال العلم الضروري الذي جرت العادة بحصوله.

وقوله تعالى : (فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى) أي : بعد ذكرك النهي ، هذا عن أبي علي والأصم ، وهو الظاهر.

وعن أبي مسلم : بعد تذكيرك إياهم.

وقوله تعالى : (وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى).

__________________

(١) معنى يضاد العلم.

٢٣٨

قيل : يعني ما على المتقين من حساب المستهزئين في حضورهم (كَذَّبَ وَتَوَلَّى) أي : ولكن يلزمهم القيام ليصير ذلك موعظة وذكرى ، وقيل : ولكن عليهم أن يذكروهم وعد الله ووعيده ، ويأمرون وينهون ، وقيل : يذكرونهم الحجج وحل الشبهة.

قال في الكشاف (١) : وروي أن المسلمين قالوا : لئن كنا نقوم كل ما استهزءوا بالقرآن لم نستطع أن نجلس في المسجد الحرام ، وأن نطوف فرخص لهم ، والظاهر أنه لا نسخ في الآية ، وأن ترتيبها كما سبق ، وإنما القعود حال الذكرى.

وعن ابن جريج ، والسدي في قوله : (وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى) دلالة على إباحة القعود ، وأن ذلك منسوخ بقوله تعالى : (فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ) [النساء : ١٤]

فرع

لو كان يحصل في المسجد جمع يخوضون في الكلام الذي لا قربة فيه ، وقلنا : إن الكلام في المسجد بالمباح معصية ، فالواجب النكير إن تكاملت شرائطه ، فإن أخل به عصى ، ولم تجز صلاته ، أفتى بذلك بعض السادة المتأخرين (٢).

قوله تعالى

(وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ) [الأنعام : ٧٠] يعني : بالقرآن.

ثمرة الآية : تحريم مجالسة المستهزئين والإعراض عنهم ، لئلا يوهم

__________________

(١) الكشاف ٢ / ٢٧.

٢٣٩

الرضاء بحالهم ، ووجوب التذكير بالقرآن ، والمراد حيث يطمع في رجوعهم.

قال قتادة : هذه منسوخة بآية السيف.

وقال مجاهد وغيره : ليست بمنسوخة ، ولكن ذلك تهديد لهم ، وصححه الحاكم ، ويكون الترك فيه ما سبق (١).

ومعنى (اتَّخَذُوا دِينَهُمْ) يعني : ما أمروا به وهو الإسلام ، وقيل : أعيادهم ؛ لأن الله سبحانه جعل لكل قوم عيدا يعظمونه بذكر الله والصلاة ، وهؤلاء الكفار من أهل الكتاب وغيرهم ، جعلوا عيدهم لهوا ولعبا ، وقد تكلم في هذا بطرف من الكلام لبعضهم : يا أخي ما ينفعك خروجك إلى الجبانة ، ولم تخرج من الغش والخيانة ، ما تنفع هذه الثياب البيض ، والقلب بحب الدنيا مريض ، شعرا :

أي عيد لمن جفاه الحبيب

أي عيش بلا حبيب يطيب

غاب عن عبدي السرور فما لي

بعده من سرور عيدي نصيب

وللعيد أمور خص بها ، إحياء ليلته بالتهجد ، وإكثار الصدقة في يومه ، والتواضع بالمشي إليه (٢) ، كما جاء في (٣) ذلك من جهة الرسول عليه‌السلام ، ومن جهة أمير المؤمنين.

روي أن علي بن موسى كان يمشي إلى العيد والناس خلفه.

__________________

(١) هو داود بن حمدين المقبور بالمسجد المسمى باسمه بمدينة ثلا.

(٢) في وسط سورة النساء في قوله تعالى (فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) والذي سبق أنه إن فسر بأن المراد أعرض عنهم ، إذلالا لهم ، يعني : لا تؤنسهم ، فهذا ثابت. الخ

(٣) أي : إلى صلاة العيد.

٢٤٠