تفسير الثمرات اليانعة - ج ٣

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]

تفسير الثمرات اليانعة - ج ٣

المؤلف:

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٦

وقال المؤيد بالله ، وأبو حنيفة ، والشافعي : يقطع ؛ إلا أنه لا يلزم ما أقر به ، حيث أقر أنه سرق عينا.

وقال أبو حنيفة : يلزم ، وكذا إذا شهد شاهدان أصلان من الرجال.

وأما من يقطعه فذلك إلى الأئمة ، للخبر : «أربعة إلى الولاة» والخلاف في ذلك لا يختص بهذا المكان.

واختلفوا هل يحتاج إلى حضور المسروق عليه ، فقال الأخوان : لا يحتاج إلى حضوره ، ولا دعواه ؛ لعموم الأدلة.

وقال أبو حنيفة : لا بد من حضوره.

وأما كيفية القطع : فيحتاج إلى بصير ، ولا يجوز لمن لا بصر له أن يقطع ، بخلاف الرجم فكل أحد يحسنه (١).

وأما بيان ما يسقط القطع : ففي ذلك مسائل :

الأولى : إذا تاب من السرق فهل يسقط عنه الحد أم لا؟

فظاهر مذهب الأئمة ، وأبي حنيفة : أنه لا يسقط ، ومعنى قوله تعالى : (فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ) أي : يسقط عنه عقاب الآخرة.

وقال الشافعي في قول : إذا تاب من قبل القدرة عليه سقط ، ومنهم من قال : يسقط بالتوبة مطلقا أخذا من قوله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ).

واختلف من قال : التوبة تسقط الحد ، فقيل : هذا في السارق ، وقيل : في كل حد.

المسألة الثانية : إذا رد المسروق هل يسقط الحد أم لا؟

__________________

(١) بياض في ب قدر سطر.

١٢١

فظاهر المذهب أنه لا يسقط ، وقال أبو حنيفة : يسقط ، وهذا محكي (١) عن أبي العباس : أن حق صاحب السرقة متى سقط حقه بردّ ، أو استيهاب ، أو إبراء سقط الحد.

و [قد](٢) قال الشعبي ، وعطاء في معنى قوله تعالى : (فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ) معناه : رد المسروق قبل القدرة عليه ، وقوله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ) يسقط عنه الحد.

الثالثة : إذا سرق ما قيمته النصاب ، ثم نقصت قيمته قبل القطع فإنه لا يقطع عندنا (٣) وأبي حنيفة ، كما لو سرقه ناقصا ، وقال الشافعي : يقطع.

قوله تعالى

(يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا) [المائدة : ٤١]

قيل : هو تحريفهم لكلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد سماعه ، وفي ذلك دلالة على تحريم الفتوى ، والرواية ، والشهادة ، والحكم بغير حق ، وهو إجماع.

وقوله تعالى : (يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ) نزل في شأن اليهوديين اللذين زنيا من اليهود ، وقالوا : إن حكم محمد بالجلد فاقبلوا ، وإن حكم بالرجم فلا تقبلوه ، ونزل جبريل صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالرجم ، وفي ذلك دلالة على ثبوته.

__________________

(١) في نسخة ب (وهذا يحكى عن أبي العباس).

(٢) ما بين القوسين ثابت في أ ، وساقط في ب.

(٣) لأنه لا بد أن تستمر القيمة نصابا من وقت السرق إلى وقت القطع ، فإن تخلل النقص فلا قطع. زهور.

١٢٢

قوله تعالى

(سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) [المائدة : ٤٢]

قيل : نزلت الآية في حكام اليهود ، وعلمائهم نحو كعب بن الأشرف ، وأمثاله ، وكانوا يرتشون ، ويقضون لمن أرشاهم.

وعن الحسن : هم الحكام يسمعون الكذب ، ويأكلون السحت ، والسحت في الأصل : الهلاك والاستئصال ، وقد فسر السحت هنا بالرشوة.

وروي مرفوعا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وروي عن علي ـ عليه‌السلام ـ ، وعمر ، وابن عباس ، وأبي هريرة (السحت : الرشوة في الحكم ، ومهر البغي ، وعسب الفحل ، وكسب الحجام ، وثمن الكلب ، وثمن الخمر ، وثمن الميتة ، وحلوان الكاهن ، والاستجعال في المعصية). قال الحاكم : زاد بعضهم ، ونقّص بعض.

وقيل : الحرام عموما ، وسئل ابن مسعود عن الرشوة في الحكم؟ فقال : ذلك كفر وبلاء.

(وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) [المائدة : ٤٤]

دل ذلك على تحريم الرشوة على الحكام ؛ لأنه إن أخذ ليحكم بالحق فهو رشوة على واجب ، وإن أخذ ليحكم بالباطل فهو أعظم.

قال الحاكم : وقد قيل : يخرج بذلك (١) عن الحكم قل أو كثر ؛ لأنه فسق ، وقد ذكر الفسق بالرشوة الإمام يحيى.

ويلحق بالحاكم غيره ، وهو كل من أخذ رشوة على أمر بمعروف ، أو نهي عن منكر.

__________________

(١) أي : ينعزل عن الحكم.

١٢٣

قال جار الله (١) : وفي الحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كل لحم أنبته السحت فالنار أولى به» فينبغي أن يتقيأ ما أكل من الحرام ، وما شرب من الخمر استحبابا ، ومنهم من أوجبه ، وينبغي أن يتسقم التائب من أكل الحرام حتى يزول ما أنبته ، وذلك مروي عن علي عليه‌السلام ـ.

قوله تعالى

(فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) [المائدة : ٤٢]

هذا تخيير من الله لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين أن يحكم ، وبين أن يعرض في حق أهل الذمة.

واختلف المفسرون هل هذا عام أو خاص؟ فقيل : إن ذلك خاص في حد الذميين اللذين زنيا ، وهذا محكي عن ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، والزهري.

وقيل : ذلك في قتيل من اليهود ، وذلك في قريظة ، وبني النظير ، وكانت الدية لبني النظير كاملة ، ولقريظة النصف ، فجعل صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الدية سواء.

قال الحاكم : وأظن أن من الناس من قال ذلك فيمن ليس له عهد ولا ذمة.

وقيل : بل هذا عام ، ولكن اختلفوا هل هو باق أو منسوخ؟ فقيل : التخيير باق غير منسوخ ، وهذا محكي عن إبراهيم ، والشعبي ، وقتادة ، وعطاء ، والأصم ، وأبي مسلم ، ومنهم من قال : التخيير منسوخ بقوله تعالى : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) وهذا مروي عن ابن عباس ، والحسن ومجاهد ، والسدي ، وعكرمة وأبي علي ، وصححه الحاكم.

__________________

(١) الكشاف ١ / ٦١٤.

١٢٤

قال : لأنه لا يجوز الرد إلى باطل ، أو محرف ، أو ما يظن فيه ذلك ، لكن اختلفوا ، فقيل : إذا جاءه الخصمان لزمه الحكم ، لا إذا جاء أحدهما ، وقيل : يلزم ولو لم يجيء إلا أحدهما.

قال جار الله عن أبي حنيفة : إن احتكموا إلينا حملوا على حكم الإسلام ، وإن زنى أحدهم بمسلمة ، أو سرق على مسلم أقيم عليه الحد ، وأهل الحجاز لا يرون إقامة الحدود عليهم ، ويقولون : قد أقرّوا على الشرك ، وهو أعظم ، قالوا : ورجم الذميين كان قبل نزول الجزية.

وعن الشيخ أبي جعفر : في الأموال يحكم وإن كره الخصم الآخر.

وأما في النكاح فلا يحكم حتى يرضى بالحكم الآخر ، ويدل أن عند المحاكمة يحكم الحاكم بحكم الإسلام ، فلو نكح على خمر أو خنزير لم يحكم به (١) ، ولو أتلف ذمي على ذمي خمرا ، أو خنزيرا ، أو كان المتلف مسلما في بلدنا أو بلدهم لم يضمنه ، وهذا قول الناصر ، والشافعي.

قال في المهذب : ويرد إن كان باقيا.

وقال أبو حنيفة وأصحابه : يضمن مطلقا ، ومذهبنا يضمن إن كان ذلك في بلد لهم سكناه (٢) ، وإن لم فاحتمالان ، لأبي طالب : يضمن ، ولا يضمن.

وفي قوله تعالى : (فَإِنْ جاؤُكَ) إشارة إلى قول المؤيد بالله : إنا لا نعترضهم حتى يرتفعوا إلينا ؛ خلافا لأبي العباس ، وأبي طالب (٣) حيث يجوز عندهم لا عندنا.

__________________

(١) بل يحكم به. والله أعلم. (ح / ص).

(٢) وهو المختار للمذهب.

(٣) وكلامهما هو المختار للمذهب ، كما اختاره الإمام المهدي عليه‌السلام في مختصره.

١٢٥

قوله تعالى

(وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ) [المائدة : ٤٣]

قيل : المراد يحكمونك في الرجم ، وهو ثابت عندهم ، قيل : أراد وعندهم التوراة فيها حكم الله الذي لم ينسخ ، واستدل أبو حنيفة بأنا متعبدون بما في التوراة ما لم ينسخ عنا بهذه الآية.

قال الحاكم : وفي الآية دلالة على أنه لا يجوز طلب الرخصة ، بترك ما يعتقده حقا إلى ما يعتقده غير حق.

وقوله تعالى

(ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) [المائدة : ٤٣]

يدل على أن التولي عن حكم الله يخرجه عن الإيمان ، وفي هذا فرعان :

[الفرع] الأول

إذا كان مذهبه أنه لا يرث ، فحاكم إلى حاكم يورثه هل يجوز له؟ الآية تحتمل عدم الجواز ، وللمؤيد بالله قولان في مثل الأخ مع الجد إذا كان رأي الأخ أنه ساقط ، فحاكم إلى من يرى أنه وارث ، هل يجوز له أم لا (١)؟

الفرع الثاني

إذا كره حكم الشرع ، فطلب حكم المنع ، هل يخرجه ذلك عن الإيمان أم لا؟ وهذا ينبغي أن يفصل فيه فيقال : إن اعتقد صحته ، أو رأى له مزية ، وتعظيما ، واستهان بحكم الإسلام فلا إشكال في كفره ، وإن لم

__________________

(١) ظاهر الأزهار : وللموافق المرافعة إلى المخالف ، وعند من يرى منع الموافقة إلى المخالف يأثم ، ويستحق ما حكم له به. والله أعلم (ح / ص).

١٢٦

يحصل ذلك منه ، بل اعتقد أنه باطل خسيس ، وأنه يعظم شرع الإسلام ، ولكن يميل إلى هوى نفسه ، فهذا لا يكفر على الظاهر ، إذ الكفر يحتاج إلى دليل قاطع ، وفي كلام الحاكم ما تقدم (١) أنه يخرجه عن الإيمان.

فإن أوهم أنه حق ، أو أنه أصلح من شرع الإسلام فهذا محتمل للكفر ؛ لأن كفر إبليس اللعين بكونه اعتقد أن أمر الله تعالى له بالسجود لآدم غير صلاح ؛ لكونه خلقه من الطين ، وإبليس من النار.

قوله تعالى

(إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ) [المائدة : ٤٤]

قيل : صفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقيل : الأحكام التي فيها ، والكلام كما تقدم (٢) ، هل المراد حد الزانيين ، أو عام ، وأنه فيما لم ينسخ ، وهل فيها دلالة على أنا متعبدون بما فيها ما لم ينسخ عنا كما هو مذهبنا ، وأبي حنيفة ، أولا كما يحكى عن الشافعي.

قوله تعالى

(فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ) [المائدة : ٤٤]

دلالة على أن على الحاكم ألا تأخذه في الله لومة لائم.

قوله تعالى

(وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً) [المائدة : ٤٤]

دلالة على تحريم الرشاء على التبديل ، وكتم الحق ، وإن فعل ذلك لغرض دنيوي ، من طلب جاه أو مال محرم.

__________________

(١) في قوله في سورة النساء : (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ) الآية.

(٢) في قوله : (فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ) الآية.

١٢٧

قوله تعالى

(وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) [المائدة : ٤٤]

في هذا تقدير ، أي : وحكم بغير ما أنزل الله ، وفي ذلك وجوه :

الأول : ذكره جار الله : أن المراد من لم يحكم بما أنزل الله ، وحكم بغيره مستهزئا

الثاني : عن ابن عباس : أن هذه في أهل الكتاب ، وأن الكافرين ، والظالمين ، والفاسقين في الآيات فيهم.

وعن ابن مسعود : ذلك عام في المسلمين وغيرهم ، وهذا مروي عن السدي ، وإبراهيم.

قال عطاء ، وطاوس : ليس بكفر يخرج عن الملة ، يعني : بل معصية دون ذلك.

واستدلت الخوارج على أن فاعل الكبيرة كافر بهذه الآية ، وجوابنا ما تقدم.

قوله تعالى

(وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [المائدة : ٤٥]

النزول

قيل : نزلت في الاستواء في القصاص والدية ، بخلاف ما كانت عليه قريظة وبنو النظير ، فإنهم كانوا بني أعمام ، ولا يقتص القرظي من

١٢٨

النظيري ، ودية القرظي على النصف من دية النظيري ، ولما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالاستواء ، وكان بينهم قتل قالوا : لا نطيعك في رجم الزانيين ، ونأخذ في الدية والقصاص بما كنا عليه.

وقوله تعالى

(أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) [المائدة : ٥٠]

قال الأصم : هذا مما كانوا حرفوا من حكم التوراة في القصاص والدية ، فبين الله تعالى أن حكم التوراة بخلاف ما هم عليه ، فقال تعالى : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها) أي : فرضنا في التوراة ، وقيل : كان الفرض في اليهود القصاص وفي النصارى الدية (١) ، فخير الله تعالى المسلمين بين القصاص والدية والعفو تخفيفا ورحمة عليهم ، وفي هذه الآية دلالة على أن ذلك مشروع في التوراة وهل يلزمنا ذلك من غير دليل من شريعتنا.

هو على الاختلاف بين العلماء ، فعندنا يلزم ، وهو قول أبي حنيفة ، وعند الشافعي لا يلزم ، واختاره الحاكم إلا أن يدل دليل يقرر ذلك ، وقد ورد قوله تعالى في سورة البقرة : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ) الآية ، وقوله تعالى في سورة بني إسرائيل : (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً) وقوله تعالى في سورة البقرة : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ) وورد في السنة قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قتل قتيلا فأهله بين خيرتين : إن أحبوا قتلوا ، وإن أحبوا أخذوا الدية» وحديث الرّبيّع بنت معوذ أنها لما كسرت سن جارية (٢) يعني غير مملوكة فأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكسر سنها ،

__________________

(١) تقدم في تفسير قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ) لكن في الثمرات هناك ما ظاهره يخالف ما هنا. وفي البغوي شرح هناك بمثل ما هنا فليحقق والله أعلم.

(٢) امرأة صغيرة حرة.

١٢٩

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كتاب الله أوجب ذلك» وفي بعض الأخبار وتلا هذه الآية وهي : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) والإجماع ظاهر على الجملة في ثبوت القصاص في النفس ، وفي دونها ، فهذا حكم جملي من ثمرات هذه الآية الكريمة.

وأما تفاصيل الثمرات المجتناة من هذه الشجرة المكرمة فنتكلم على جملتها جملة بعد جملة :

الأولى : قوله تعالى : (أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) هذا عام لم يخص ذنبا من شريف ، ولا كاملا من ناقص ، ولا صغيرا من كبير ، وثمّ صور خلافية :

الأولى : هل يقاد المسلم بالكافر أم لا؟ فمذهب أئمة أهل البيت ، ومالك والشافعي : أنه لا يقتل به ، وقال أبو حنيفة : يقتل المسلم بالذمي لا بالحربي ، ولا بالمستأمن من الحربيين ، وأخذ أبو حنيفة بعموم الآية.

قلنا : هي مخصصة بقوله تعالى في سورة الحشر : (لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ) وهذا يقتضي نفي المساواة عموما.

قالوا : أراد في الآخرة.

قلنا : قال تعالى : (وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً).

قالوا : ليس هذا على عمومه ، فإن له أخذ الدين منه ، وذلك سبيل (١).

__________________

(١) في الفصول (لا عموم في هذه الآية حيث قال. ولا في نفي المساواة ، نحو (يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ) إذ تقتضي نفي الاستواء في بعض الوجوه ، لا نفي الاستواء في كل وجه خلافا للشافعي ، والذي اختاره الإمام المهدي عليه‌السلام في المنهاج أنها تفيد العموم ، إذ المعنى لا استواء ولا مساواة ، فلو فرض حصول مساواة لم يصدق النفي ، وهذا واضح والله أعلم ، وكلام المؤلف هنا يقضي بإفادتها العموم كما ذكره المهدي عليه‌السلام .. لنا يستدل بالعموم ما بقي حتى يرد المخصص ، إذ الأصل عدمه.

١٣٠

قلنا : قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يقتل مؤمن بكافر» فعم.

قالوا : أراد بكافر حربي ، بدليل أن في آخر الخبر : «ولا ذو عهد في عهده» ، والمعنى : لا يقتل المؤمن ولا الكافر الذي له عهد بالكافر الذي لا عهد له.

قلنا : قد تمت الجملة وهي قوله ـ عليه‌السلام ـ : «لا يقتل مؤمن بكافر».

وأما قوله : «ولا ذو عهد في عهده» فهذه جملة أخرى ، يريد : ولا يقتل ما دام في العهد ، مع أن الحديث إن احتمل أنها جملة واحدة ، فالمراد لا يقتل مؤمن بأحد من الكفار عموما ، وكذلك المعاهد لا بقتل بأحد من الكفار عموما ، فقامت الدلالة على أن المعاهد يقتل ببعض الكافر ، وبقي المؤمن على عمومه ، وما قلناه مروي عن علي ـ عليه‌السلام ـ وعمر ، وعثمان ، وزيد بن ثابت ، وقد رجع عمر إلى هذا لما أنكر عليه علي ـ عليه‌السلام ـ وزيد.

وهذه المخصصات تخصص ما ورد من العمومات في هذه المسألة.

أما لو قتل ذميّ ذميا ثم أسلم القاتل فالقود ثابت (١).

قال في شرح الإنابة : وذلك إجماع إلا عن الأوزاعي ، ولا يقال : هو قتل مسلم بكافر ؛ لأن العبرة بحالة الاستحقاق ، وقد استحق عليه القتل فلا يبطل المستحق بالإسلام ، كما لو كان عليه دين ، وكما لو قتل وهو عاقل ثم جن استوفي منه القود حال جنونه.

قال الجصاص : هذا هو القياس ، والاستحسان أن لا يقاد حال جنونه ، والحديث الذي يرويه أصحاب أبي حنيفة أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قتل مسلما

__________________

(١) وهو الذي بنى عليه في الأزهار.

١٣١

بكافر ، وقال : «أنا أحق من وفى بذمته» فهذا الحديث قد ضعف ، وقيل : إنه وهم الراوي ، وإن الرواية في ذلك عن عمرو بن أمية الضمري (١).

ويتفرع على هذا : هل يقتل العفيف بالزاني المحصن أم لا؟ فقال أبو طالب ، وأصحاب الشافعي : وهو مروي عن علي ـ عليه‌السلام ـ إنه لا يقتل به في وقت الإمام (٢) ؛ لأن دمه مباح ، فأشبه ما لو قتل المرتد من غير إذن الإمام ، فلا تكافؤ بينهما كالمسلم والكافر.

وقال المؤيد بالله : إنه يقاد لعموم الأدلة.

وفرّع على هذا الفرع فرع : إذا قتل رجل قاطع الصلاة بغير إذن الإمام وقلنا : حده القتل ، فقال أبو مضر : لا يقاد به ؛ لأنه قتل غير محقون الدم وغلطه الكني.

وأما قتل المرتد بالذمي وعكسه ، فلا مكافاة بينهما ، لكن لأصحاب الشافعي وجهان : من الأعلى؟ صحح للمذهب أن الذمي أعلى فلا يقاد بالمرتد لأنه محقون الدم.

الصورة الثانية في الحر والعبد

والثالثة في الذكر والأنثى

وقد تقدم في سورة البقرة (٣) طرف من الكلام عليهما.

__________________

(١) هكذا في بعض تخاريج البحر أنه صاحب القصة ، وليس بالراوي ، ذكره في تتمة تخريج الظفاري فهو القاتل لا الراوي ، وأنه عاش إلى زمن عمر ، وأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودى من قتله عمرو بن أمية.

(٢) وظاهر إطلاق الأزهار أنه لا فرق بين أن يكون في زمن إمام أم لا ، واختاره المشايخ ، وإن لم يذكره الأزهار إلا في من وجد عند روضة ونحوها ، فلا فرق ، والله أعلم.

(٣) في قوله (عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ).

١٣٢

الجملة الثانية

تعلق بقوله تعالى : (وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ) وهذا عام كعموم قوله تعالى : (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) فما خصص ذلك العام خصصه هنا ، لكن ننبه على أطراف منها : أن اليسرى لا تؤخذ باليمنى ، والوجه : عدم المساواة ، ولو فعل ذلك فقيل : لا يمكنان من القصاص ، لأن ذلك سفه ، ونظر بالنفس (١). وفي التذكرة : يمكنان.

ومنها عين الأعور تؤخذ بعين الصحيح على ما نص عليه في الأحكام ، وأبو حنيفة ، والشافعي لعموم الآية.

وقال في المنتخب ، ومالك : لا تؤخذ ؛ لأن نورها أكثر ، فتطلب المساواة.

واحتجوا أنه مروي عن علي عليه‌السلام ، وعمر ، وابن عمر ، وعثمان.

قال في الشرح : وكان يحيى لا يصحح هذه الرواية عن علي.

ومنها : في كيفية القصاص ـ فإذا قلعت العين ثبت القصاص بالقلع ، وإذا ضرب حتى ذهب بصره ثبت القصاص.

قال في التهذيب : قيل : القلع ، وإن ضرب حتى ذهب بصره ، وقيل : تحمى حديدة ثم تقرب من عينيه ، وفي مهذب الشافعي وجهان : يثبت القصاص في وجه ، ولا يثبت في وجه.

وأما إذا فقئت ، فقيل : لا قصاص (٢) ، وظاهر إطلاق التهذيب وغيره ثبوت القصاص.

__________________

(١) ونظر بالنفسين. نخ

(٢) وقد ذكر شيء من هذا للفقيه محمد بن سليمان في الكواكب ، وكذا لأصحاب أبي حنيفة ، وكذا في بعض حواشي السماع. (ح / ص) ..

١٣٣

وأما قوله تعالى : (وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ) فقد أثبت الله القصاص في ذلك عموما ، وما خصص في النفس خصص هنا.

ويذكر تنبيه

وهو أن القصاص في ذلك إنما يكون إذا استؤصلت لأن ذلك كالمفصل ، لا إذا قطع بعضها ، فإن قطعت أنف الأخشم هل يقتص له أم لا؟ (١).

وأما قوله تعالى : (وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ) فالعموم فيه كما تقدم ، والقصاص إذا قطعت من أصلها ، لا إذا قطع البعض ، ولا تؤخذ أذن الصحيح بأذن الأصم.

وأما قوله تعالى : (وَالسِّنَّ بِالسِّنِ) فالكلام في العموم كذلك ، والقصاص إذا قلع من أصله ، ولا بد من المساواة ، فلا يؤخذ الصحيح بالأسود ، ولا بالمكسورة ، ولا الثنية بالضرس ونحو ذلك ، كما لا تؤخذ اليمنى باليسرى.

وأما قوله تعالى : (وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ) هذا فيما يمكن المساواة فيه ، ويؤمن على النفس لتخرج الآمة ، وهذا فيما كان له مفصل ، أو الموضحة في الرأس.

فأما في سائر الجسم فاختلف في ذلك.

__________________

(١) الصحيح ثبوته ، والذي في البحر : وإنما يجب القصاص في الأنف من المارن لأمر العرنيين ، إذ لا قصاص في عظم ، ويؤخذ أنف الشام بأنف الأخشم ، والعكس إلا الأخشم ليس بنقصان في الأنف بل في الدماغ.

الشام : هو الذي حاسبة الشم عنده صحيحه ، والأخشم : هو الذي حاسة الشم عنده مفقودة.

١٣٤

قال في الانتصار : إذا كانت في غير الرأس والوجه ، فعند القاسمية ، والأخوين وبعض أصحاب الشافعي : لا قصاص لأنها لما خالفت في الأرش خالفت في القصاص ، ومنصوص الشافعي : أن فيها القصاص ، وهو المختار.

واختلف العلماء في دية عين الأعور ، فقال مالك : تكون دية العينين ، والمذهب ، وأبو حنيفة ، والشافعي : دية عين واحدة ولو اشترك من لا قود عليه ومن عليه القود ، كشريك الأب ، والخاطئ ، والصبي ، والمجنون لم يسقط القود عن الذي يجب عليه عندنا ، ومالك.

وقال أبو حنيفة : يسقط.

وأما في القصاص في اللطمة فأثبته الهادي ، والليث ، إلا أن يقع في العين لأنه لا يؤمن.

وقال المؤيد بالله ، وأبو حنيفة ، والشافعي : لا قصاص في ذلك ؛ لأنه لا يمكن المساواة.

قوله تعالى

(وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ) [المائدة : ٤٧]

قيل : المراد من صفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه ، وقيل : سائر الأحكام التي لم تنسخ ، وقيل : إن الضمير يرجع إلى غير الإنجيل ، أي : في الفرقان ؛ لأن الإنجيل مواعظ وزواجر ، والأحكام قليلة ، وإنما كان عيسى متعبدا بما كان في التوراة.

قال جار الله : وظاهر الضمير في قوله تعالى : (فِيهِ) يرد ذلك ، وكذلك في قوله تعالى : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً).

١٣٥

قوله تعالى

(وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [المائدة : ٤٨ ـ ٥٠]

النزول

روي عن ابن عباس أن جماعة من اليهود ، ومنهم كعب بن الأشرف.

قال بعضهم لبعض : اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه ، فجاءوا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالوا : يا محمد ، قد عرفت أنا أحبار اليهود وأشرافهم ، وأنا إن اتبعناك اتبعنا اليهود ولم يخالفوا ، وإن بيننا وبين قومنا خصومة فنحاكمهم إليك فتقضي لنا عليهم ، ونحن نؤمن بك ، وأنك رسول الله ، فأنزل الله هذه الآية الكريمة ، ونهاه عن اتباع أهوائهم ، وأمره بالحذر منهم.

وقوله تعالى : (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) قيل : يصدقه بأنه حق ، وأنه من عند الله ، أو يصدقه بما فيه من صفته ، وقيل : في أصول الدين من التوحيد والعدل ، وإن اختلفت الشرائع ، عن أبي مسلم.

١٣٦

وقوله تعالى : (وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) أي : شاهدا أنه الحق ، عن ابن عباس ، والسدي ، والكسائي.

واختلفوا من المهيمن هل الكتاب أو النبي؟.

قال الحاكم : والأول أوجه ، وهذه الآية ناسخة للتخيير في قوله تعالى : (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) ، وقد اشتملت على وجوه من التأكيد في الحكم بالحق :

الأول : تعظيم القرآن الذي أمر بأن يحكم بما فيه بإضافة الإنزال إلى نفسه.

(٢) قوله : (بِالْحَقِّ).

(٣) وقوله : (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) وأنه قد اختص بكمال.

(٤) قوله : (وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ).

(٥) (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ).

(٦) (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ).

(٧) قوله : (عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِ) فأعاد وصفه لتفخيم شأنه.

(٨) قوله تعالى : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً).

(٩) قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) بيان أن المصلحة التي علمها في اختلاف الشرائع.

(١٠) (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) إشارة إلى أن الحكم بما أنزل الله ، والمسارعة إليه من الخيرات.

(١١) قوله تعالى : (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) وفي ذلك توعد على المخالفة.

(١٢) قوله : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) وفي إعادته ذلك تأكيد.

١٣٧

(١٣) قوله : (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) وفي ذلك زجر عن المخالفة باتباع هوى غيره.

(١٤) قوله : (وَاحْذَرْهُمْ) وهذا تأكيد على محافظة الحكم بما أنزل الله ، وأنه يستعمل الحذر ، والبعد عن أسباب الخديعة.

(١٥) قوله : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ) لأن المعنى : إن تولوا عن قبول حكمك لما أنزل الله فيتوقعون الإصابة من الله.

(١٦) قوله تعالى : (بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ) فنكر هذا الذنب لقيامه مقام الذنوب الكثيرة ، وفي تنكير الذنب تعظيم لحاله.

قال جار الله (١) : وفي معنى التنكير هنا ما في قول لبيد :

تراك أمكنة إذا لم أرضها

أو يرتبط بعض النفوس حمامها

أراد نفسه ، وإنما أراد تفخيم شأنها بالإيهام ، كأنه قال : نفسا كبيرة أيّ نفس ، كما أن التنكير يعطي معنى التكثير.

قال صاحب الحواشي : ومثل هذا قوله تعالى : (وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) أراد محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقيل : ذلك من الخصوص الذي أريد به العموم ، وقيل : أراد العذاب في الدنيا ، وأما في الآخرة فإنه يعذب بجميع الذنوب.

(١٧) قوله : (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ) وهذا تسجيل عليهم بالمخالفة.

(١٨) قوله : (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) وهذا توعد لهم على ما أرادوه من حكم الجاهلية.

__________________

(١) الكشاف ١ / ٦١٩.

١٣٨

(١٩) قوله : (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً) وهذا ترغيب وتشويق إلى حكم الله سبحانه.

(٢٠) قوله : (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) وهذا تخصيص باختصاص الخلصاء الموقنين بهذا الحكم الموصوف بالحسن ، فهذه عشرون وجها من التأكيد في ملازمة شريعة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي أنزلها الله عليه واختارها لأمته ، واستأثر بكثير من أسرارها ، فلم يطّلع عليها.

قال جار الله : وسئل طاوس عن الرجل يفضل بعض ولده على بعض؟ فقرأ هذه الآية.

وما أشد امتثال ما تضمنته ، وكيف الخروج عن عهدته خصوصا على الأئمة والحكام ، ولن يحصل ذلك حتى يلجم نفسه بلجام الحق ، ويعزل عن نفسه مطاوعة الخلق.

تكميل لهذه الجملة

لا يقال : إنه عليه‌السلام معصوم ، لا يتبع أهواءهم ، فكيف نهي عما يعلم الله تعالى أنه لا يفعله؟.

قال الحاكم : ذلك مقدور له ، فيصح النهي وأن علم أنه لا يفعله ، كما أن علم الله تعالى لا يمنع من قدرته على خلاف ما علم ، وقيل : الخطاب له ، والمراد غيره.

كذلك لا يقال : قوله : (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) يخرج من ذلك القياس ؛ لأن ذلك إن جعل خطابا له عليه‌السلام فلم يكن متعبدا بالقياس ، وإن كان خطابا للكل فالقياس ثابت بالدليل ، فهو بمثابة المنزل ، هكذا ذكر الحاكم.

والأكثر أنه يجوز منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الاجتهاد ، ومنعه أبو يوسف وغيره ، وقوله تعالى : (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) قد يستدل به على أن الواجبات على الفور ، وهو محتمل لأن المراد قبل أن يسبق عليكم الموت.

١٣٩

قوله تعالى

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ) [المائدة : ٥١ ـ ٥٣]

النزول

قيل : نزلت الآية في عبادة بن الصامت ، وعبد الله بن أبي لما تبرأ عبادة بن الصامت من موالاة اليهود. وقال : يا رسول الله ، إن لي أولياء من اليهود كثيرا عددهم ، قوية أنفسهم ، مزيدا شوكتهم (١) ، وأنا أبرأ إلى الله من ولايتهم (٢) ، ولا مولى لي إلا الله ورسوله.

وقال عبد الله بن أبي : إني أخاف الدوائر ولا بدّ لي منهم.

قال ابن هشام : إن عبد الله بن أبيّ في يوم بني قينقاع أتى إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأدخل يده في جيب درعه فقال له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أرسلني» وغضب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى رأوا بوجهه ظللا (٣) ، ثم قال : «ويحك أرسلني» ، فقال : لا والله لا أرسلك حتى تحسن إلى موالي ، فإنهم يمنعونني الأبيض والأحمر ، وإني أخشى الدوائر ، فقال : هم لك ، وكانوا أربعمائة حاسر (٤) وثلاثمائة دارع.

__________________

(١) الشوكة : تطلق على شدة البأس.

(٢) وفي نسخة ب (موالاتهم).

(٣) أي : سوادا. والطلل بالضم : الظلمة الغاشية. قاموس.

(٤) الحاسر : المعرى ، وهو الذي لا جنّة له تقيه في الحرب.

١٤٠