تفسير الثمرات اليانعة - ج ٣

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]

تفسير الثمرات اليانعة - ج ٣

المؤلف:

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٦

السبع وهو حي وذكي هل يحل أم لا؟ فقال : إن جعلنا الاستثناء متصلا حل ، وإن جعلناه منقطعا حرم.

وهاهنا فرع : وهو إذا أدرك الصيد من الكلب ونحوه وفيه حياة ، ولم يقدر على ذبحه فقال الأخوان : يحرم ؛ لقوله تعالى : (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) وهذا غير مذكى.

وقال مالك ، والشافعي ، والوافي : إذا لم يقدر على ذبحه حتى مات جاز أكله ؛ لأنه لا يؤمر إلا بما يقدر عليه ، فإذا مات فورا قبل أن يتمكن لو كان معه آلة حل (١) ، وقال أصحاب أبي حنيفة : إن كانت الجراحة مما لا يبقى معها الحيوان أكل ، وإن كان يبقى لم يؤكل.

وهاهنا تكميل لهذه الجملة : وهو أن يقال : قوله تعالى : (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) يعم الرجل ، والمرأة ، والطاهر ، والحائض ، والخنثى ، والأغلف ، والآبق ، والأخرس ، والمجنون ، والسكران ، وقيس الصبي على البالغ ؛ لأن كل واحد منهما محكوم بإسلامه ، لكن يشترط في الأغلف أنه لا يتركه استخفافا ؛ لأنه يصير مرتدا إذا استخف بالسنة ، وكذلك يدخل الفاسق ؛ لأنه مخاطب ، وقد ذكر هذا الأخوان تخريجا.

وعن الإمام المتوكل أحمد بن سليمان ، والوافي : لا تجوز ذبيحة الفاسق (٢) ، وهذا جلي إن قلنا بكفر صاحب الكبيرة ، ولم تثبت المنزلة بين المنزلتين ، وهذا مذهبنا ، والشافعي.

__________________

(١) وهو المختار للمذهب ، وهو الذي بنى عليه في البحر وغيره.

(٢) لم يحرم الإمام أحمد بن سليمان ذبيحة كل فاسق ، بل من كان لا فارق بينه ، وبين الكافر ، وهو الذي لا يقيم الصلاة ، ولا يؤتي الزكاة ، ولا يصوم ، ولا يحج البيت ، ويأتي كل ما عرض له من القبائح ، وأجاز ذبيحة من يكون مقيما للصلاة ، مؤديا للزكاة ، والغالب من حاله التمسك بالإسلام ، وإن ارتكب محرما في الأق لمن أوقاته عند غلبة شهوة ، أو حاجة ماسة ، أو شدة غضب ، هذا كلامه ، واحتج له بحجج يمكن المناقشة فيها ، ذكر هذا في أصول الأحكام.

٢١

وفي النهاية عن مالك : لا تصح (١) ذبيحة المجنون ، والسكران ، ومبنى الخلاف على اشتراط النية ، وعدم اشتراطها.

وذبيحة الغاصب صحيحة ؛ لأنه داخل في العموم ، ولحديث شاة الأسارى.

قال في النهاية : خلافا لداود ، وإسحاق ؛ بناء على أن النهي يقتضي الفساد (٢) والتذكية الشرعية تحتاج إلى بيان ما يقطع ، وما يقطع به ، وصفة القاطع ، وما يلزمه من المعرفة للتذكية والتسمية.

أما ما يذبح : فالأوداج الأربعة عندنا ، وهي الحلقوم ، والمريء ، والودجان ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا انهرت الدم ، وفريت الأوداج فكل» والأوداج عبارة عن هذه المذكورة.

وقال أبو حنيفة : يكفي ثلاثة ، وقال الشافعي : الأجزاء التي تقطع ، الحلقوم والمريء ؛ لقوله عليه‌السلام : «الذكاة في الحلق ، واللبة».

وأما قطع الودجين فمستحب ، وحجة من اكتفى بالبعض قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حديث رافع بن خديج : «ما أنهر الدم ، وذكر عليه اسم الله فكل».

قال الأخوان : ويعفى عن اليسير ، من كل عرق ، لأنه يسمى قاطعا.

وعن الناصر ، ورواية عن مالك : لا يعفى.

فروع

الأول : إذا ذبح ما يكبد بنفسه فإنه يؤكل ؛ لأنه داخل في قوله تعالى : (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) ولأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما قال له الراعي : إني أخاف أن تفوتني بنفسها

__________________

(١) أي : لا تجوز.

(٢) ينظر في هذا ، فإن النهي لا يقتضي فساد المنهي عنه إلا فيما يتأتى فيه الفساد ، كل العبادات والمعاملات ، والعقود من المعاملات ، والغصب لا يتأتى فيه الفساد.

٢٢

أفأذبح بالمروة (١)؟ فقال : «إذا فريت فكل» وهذا قول أبي حنيفة ، والشافعي ، وراوية عن مالك.

وقال الناصر ، ورواية عن مالك : لا يكون ذلك تذكية ؛ لأنها في حكم الميتة.

الفرع الثاني

لو أبان رأس المذبوح لم يمنع من التذكية عندنا ، وهو قول أصحاب أبي حنيفة ، وأصحاب الشافعي ، وجمهور الفقهاء ؛ لأنه داخل في اسم التذكية.

وعن علي عليه‌السلام في رجل ذبح شاة أو طيرا فأبان رأسه ، فقال : «تلك ذكاة شرعية».

وعن ابن عمر في بطة قطع رأسها : تؤكل.

وقال ابن المسيب : لا تؤكل.

وعن الضحاك ، وابن عباس : تكره.

الفرع الثالث

إذا تمرد بعير أو نحوه فلم يقدر على ذبحه ، فرماه بسهم ، أو طعنه برمح كان ذلك ذكاة ؛ لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال بذي الحليفة وقد ند بعير من المغنم فلحقه رجل فضربه بسيف ، أو طعنه برمح : «إن لهذه الإبل أوابد كأوابد الوحش ، فما ند منها فاصنعوا به هكذا» وهذا قول أبي حنيفة ، والشافعي ، والجمهور من الفقهاء ، ومن الصحابة : ابن مسعود ، وابن عمر ، ومن التابعين : مسروق ، والحسن ، وطاوس.

قال مالك ، وابن المسيب ، وربيعة ، والليث : لا يحل ذلك.

__________________

(١) المروة : حجر أبيض برّاق ، وقيل : هي التي يقدح بها.

٢٣

ومن هذا : إذا سقط بعير ونحوه في بئر ، ولم يتمكن من المنحر جاز أن يطعن حتى يموت.

قال المؤيد بالله : وأظن أن هذا مجمع عليه.

وفي جامع الأمهات : لا يؤكل على المشهور ، وفي الشرح إشارة إلا أنه كما ند من الأنعام ، فيأتي فيه الخلاف.

الفرع الرابع

أنه إذا قطع الأوداج ، فلا فرق بين أن يكون ذلك أعلى الحلقوم ، أو أسفله ، أو أوسطه ، وهذا قول أبي حنيفة ، والشافعي ؛ لعموم الأدلة.

وقال مالك : لا يجزي في الإبل إلا النحر ، وهو أن يكون في أسفل الحلق ، ولا يجزي في الشاة أو الطيور إلا الذبح ، وهو أن يكون في أعلى المنحر ، وفي البقر يجوز الأمران.

الفرع الخامس

ذكره في نهاية المجتهد قال : إذا لم تقطع الجوزة وخرجت إلى جهة البدن ، فاختلف في المذهب.

قال : وسبب الخلاف أنا إن قلنا : قطع الحلقوم شرط وجب قطع الجوزة ؛ لأنه إذا قطع فوقها خرج الحلقوم ، ومن قال : ليس بشرط لم يشترط قطع الجوزة.

الفرع السادس

من النهاية أيضا وهو أن شرط الذكاة أن يكون قطع الأوداج في فور واحد وأنه لو رفع يده قبل تمام الذبح ثم أعاد الذبح متراخيا أن ذلك لا يحل فإن رفع وأعاد فورا ففي ذلك خلاف ، ولا أعرف للأئمة كلاما في هذا (١).

__________________

(١) المختار أنه يحل إذا عاد إليه وهو حي حياة تزيد على مقدار المذكاة ، ويمكن حمله على ما أدرك ذكاته وهو حي.

٢٤

وأما بيان آلة التذكية فتجوز بالحديد ، وما عمل عمله من فري الأوداج ، وإنهار الدم من المروة ونحوه ، دون ما ورد النهي عنه من السن ، والظفر ، والعظم ؛ لأن الراعي قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إني أخاف أن تفوتني العارضة بنفسها أفأذبح بسني؟ قال : «لا». قال : فأذبح بظفري ، قال : «لا» قال : فبالعظم؟ قال : «لا».

وقال مالك : يجوز مطلقا إذا أنهر الدم ، لكن يكره لقوله عليه‌السلام : «إذا ذبحتم فأحسنوا الذبح» وعلل النهي بأن ذلك لا ينهر الدم.

قال أبو حنيفة : يجوز إذا انفصلت لا إذا اتصلت.

الفرع السابع

هل يدخل ما لا يؤكل في قوله تعالى : (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ)؟

فالمذهب ، والشافعي : أنه غير داخل ؛ لأنه استثنى من المحرم ما يستباح ، وهو لا يستباح.

وقال أبو حنيفة ومالك ، واختاره الإمام يحيى : إنه داخل لطهارته لا لأكله ، وقوله تعالى : (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) هذا هو الحادي عشر من المحرمات التي انطوت عليها الآية ، والنصب والأنصاب جمع نصاب ، وهي الأوثان التي كانوا يعبدونها. قال الأعشى (١) :

وذا النصب المنصوب لا تعبدنه

لعاقبة والله ربك فاعبدا

قيل : كانت لهم حجارة ينصبونها حول البيت ، يذبحون عليها ، ويشرحون اللحم عليها تعظيما لها ، وتقربا إليها.

وروي أن المسلمين قالوا : يا رسول الله كانت الجاهلية يعظمون البيت فنحن أحق بالتعظيم ، فنزل قوله تعالى في سورة الحج : (لَنْ يَنالَ

__________________

(١) وقد روي البيت

وذا النصب المنصوب لا تعبدنه

ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا

٢٥

اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ) وقوله تعالى : (عَلَى النُّصُبِ) أي : على اسم الأوثان ، وقيل : ذبح عليها : وقيل : ذبح لها تقربا إليها ، واللام تعاقب على ، مثل تعالى : (فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) وقيل : كانوا يلطخون أوثانهم بدمائها ، وقوله تعالى : (وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ) هذا الثاني عشر من المحرمات المذكورة ، والمعنى : وحرم عليكم أن تستقسموا بالأزلام ، والاستقسام هو طلب ما قسم له والأزلام جمع زلم ، مثل قلم ، وزلم مثل : عمر ، وهو القدح ، قيل : كان في الجاهلية إذا أراد أحدهم سفرا أو إجارة ، أو نكاحا ، أو أمرا مهما أجال القداح ، وهي ثلاثة ، على واحد (أمرني ربي) وعلى واحد (نهاني ربي) وواحد غفل (١) لا شيء عليه ، فإذا خرج الأمر مضى في أمره ، وإن خرج النهي قعد ، وإذا خرج الغفل أجالهما مرة ثانية ، عن الحسن وجماعة من المفسرين.

وقيل : كانت الأزلام سبعة عند هبل ، وهو أعظم الأصنام عند قريش (٢) ، وكانوا يضربونها عنده بعد تقديم قربان لها ، ويعملون في أمرهم على ما يخرج بالقداح ، عن ابن إسحاق.

وقال مجاهد : هم كفار فارس والروم يتقامرون ، ويعني بها الكعاب ، وقيل : إنها الشطرنج عن سفيان ، ووكيع.

وقيل : هي الميسر ، وقسمتهم الجزور على الأنصباء المعلومة.

ثمرة ذلك : تحريم الاستسقام بالأزلام ، وفي تفسيرها ما تقدم.

__________________

(١) غفل : بضم الغين المعجمة ، وسكون الفاء ، وهو ما لا يرجى غيره ، ولا يخشى شره ، وما لا علامة له من القداح. قاموس.

(٢) في نسخة ب (وهو أعظم أصنام قريش).

٢٦

قال الحاكم : وتدل على تحريم التمسك بالفال ، والزجر ، والتطير ، والنجوم.

فأما التفاؤل بالخير فمباح.

قال الأصم : ومن هذا قول المنجم إذا طلع نجم آخر وإذا لم يطلع قال : لا تخرج.

قال المنصور بالله : ومن عمل بالأيام في السعد والنحس ، معتقدا أن لها تأثيرا كفر ، وإن لم يعتقد أثم.

وقوله تعالى : (ذلِكُمْ فِسْقٌ) الإشارة إلى الاستقسام ، وإلى تناول ما حرم عليهم من الأشياء المتقدمة ذكرها ، والفسق : الخروج من الدين ، وقد يكون كفرا ، وقد يكون دونه.

قال جار الله رحمه‌الله تعالى : وإنما كان الاستقسام فسقا ؛ لأن ذلك دخول في علم الغيب الذي استأثر الله به (١).

وقال سبحانه : (لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ) ليجعل هذا طريقا له إلى استنباطه أو لفريته على الله ، من قوله : أمرني ربي ونهاني ، والكهنة والمنجمون بهذه المثابة ، وإذ أرادوا بالرب الصنم فكفرهم ظاهر.

تنبيه

إن قيل : قد ورد في الأيام (بورك لأمته في بكورها) وفي حديث : «بورك لأمتي في أثانينها».

وورد قوله تعالى : (فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ)(٢).

__________________

(١) وانظر الكشاف ١ / ٥٩٣.

(٢) يقال : (فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ) علة ؛ إذ لو كانت مستمرة الأبد لورد في (أَيَّامٍ نَحِساتٍ) وهي السبع الليالي والثمانية الأيام ، وإلا لزم أنها نحسة الأبد ، وهي الدهر ، فما هو جوابكم فيها فهو جوابنا في اليوم.

٢٧

قال جار الله : كان ذلك آخر ربوع لا يدور ، وقوله : (فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ) فهل للاختيار من الأيام أصل أم لا؟ وكذا هل نختار للحجامة أو لقص الأظفار أو للبناء أو للتزويج شيئا من الأيام أم لا أثر لذلك (١)؟

قوله تعالى

(الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ) [المائدة : ٣]

قيل : لم يرد يوما معينا ، وإنما ذلك بمعني الآن ، وقيل : أراد يوم عرفة [في حجة الوداع] لما لم ير مشركا ولا عربانا ولم ير إلا موحدا ، فحمد الله تعالى ، ونزل بها جبريل ، ولم ينزل بعدها شيء.

وروي أن يهوديا قال لعمر : لو نزلت علينا ، وعلمنا ذلك اليوم لاتخذناه عيدا.

فقال عمر : إنها نزلت يوم الجمعة ، وهو يوم عرفة ، ونحن مع رسول الله وقوفا بعرفات ، وكلاهما بحمد الله لنا عيد ، ولا يزال ذلك اليوم عيدا للمسلمين.

وعن الأصم : لما حكي له قول اليهودي قاتله الله : إنها نزلت يوم عرفة ، يوم الجمعة ، وعن ابن عباس : كان ذلك اليوم خمسة أعياد ، الجمعة ، ويوم عرفة وعيد اليهود ، والنصارى ، والمجوس ، ولم تجتمع أعياد أهل الملل قبله ولا بعده ، ولما نزلت بكى عمر فقال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كنا في زيادة فإذا كمل ، فلم يكمل شيء إلا نقص ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «صدقت».

__________________

(١) في الأصل قدر أربعة اسطر بياض.

٢٨

ثمراتها : تعظيم هذا اليوم المذكور ، وأنه يلزم الشكر لله سبحانه تعالى على التمسك على الإسلام (١).

قوله تعالى : (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ) أي : مجاعة (غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ) أي : غير ميل إليه ، وهذا مثل قوله تعالى : (غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) وقد تقد الكلام على ذلك في سورة البقرة وهذا الأمر الثاني من النوعين المباحين وهو إباحة الميتة ونحوها من المحرمات التي هي الدم ، ولحم الخنزير عند الضرورة ، وليس في هذه الآية بيان لتقديم أحدها ، والفقهاء يقولون : تقدم الأخف تحريما فميتة المأكول على ميتة غيره ، ثم الخنزير.

قال في الأم (٢) : ويتلو ذلك الكلام على قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ).

والحمد لله على كل حال ، والصلاة على النبي وآله خير آل.

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى

(يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ) [المائدة : ٤]

__________________

(١) وقد ورد الأثر (من لم يحمد الله على الأربع فقد خسر الدنيا والآخرة ، وهي الحمد لله الذي هداني للإسلام ، الحمد لله الذي جعلني من أمة محمد عليه‌السلام ، الحمد لله الذي جعل رزقي بيده ، ولم يكلني إلى غيره ، الحمد لله الذي لم يفضحني على رءوس الخلائق بسريرتي).

(٢) وفي بعض النسخ (تم الجزء الأول بمن الله وتوفيقه) قلت : هذا بترتيب المؤلف رحمه‌الله تعالى.

٢٩

النزول

روي عن أبي رافع أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر بقتل الكلاب ، وشدد فيه ، وقال : «لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة ولا كلب» فجاء ناس وقالوا : يا رسول الله ما ذا أحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ فسكت صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنزلت الآية فإذن صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في اقتناء الكلاب التي ينتفع بها ، ونهى عن إمساك ما لا نفع فيه منها ، وأمر بقتل العقور ، وما يضر.

وعن سعيد بن جبير : أن الآية نزلت في عدي بن حاتم ، وزيد الخيل الطائيين وسماه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم زيد الخير. وذلك أنهما جاءا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالا : إنا قوم نصيد بالكلاب والبزاة فمنه ما ندرك ذكاته ، ومنه ما يقتل ولا ندرك ذكاته ، وقد حرم الله الميتة فما ذا أحل لنا منها؟ فنزلت الآية.

وقيل : لما تلا رسول الله ما يحرم على الناس سألوه عما يحل لهم ، فبين أنما وراء ذلك يحل لهم.

وهذه الآية لها ثمرات :

الأولى : أن ما لم يرد دليل بتحريمه ، وكانت النفوس لا تنفر عنه فإنه حلال.

قال الإمام يحيى : فيدخل ذلك القطاة ، والدراج (١) ، والشظاة.

وقال الأمير الحسين : إن الشظاة لا تحل على أصل الهادي ـ عليه‌السلام ـ لأن الأصل الحظر في الحيوان.

الثانية : أن صيد ما علم من الجوارح حلال ، والتقدير : وأحل لكم صيد ما علمتم ، لكن حذف المضاف ، والجوارح : الكواسب ، واحدها جارح ، ومنه سميت الجارحة ، واختلفوا ما أريد على أقوال :

__________________

(١) في شمس العلوم (الدراج : بالضم للدال ضرب من الطير ، وهو من طير العراق).

٣٠

الأول : تخريج أبي طالب للقاسم ، والهادي ، وهو قول الناصر ، والصادق ، ورواية عن زيد ، وابن عمر ، وطاوس (١) : أن المراد بذلك ذوات الأنياب كالكلب ، والفهد إذا علّم ، دون جوارح الطير ذوات المخالب كالبازي ، والصقر ، والشاهين ، والعقاب ونحوها ؛ لأنه تعالى قال : (مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ) وهذه لا تعلّم ، بل تأخذه في حال جوعها لنفسها ، وقد قال تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) وهذه أمسكت لنفسها ، وإذا ثبت ذلك فهي غير مذكاة فدخلت في الميتة.

وقال أبو حنيفة وأصحابه ، والشافعي ، وعامة الفقهاء ، ورواية عن زيد : إن الجوارح التي يحل صيدها ما قبل التعلم من ذي ناب ، كالكلب ، والفهد ، والنمر ، وذي مخلب كالطير المذكورة.

قال في النهاية : حتى الهر إن تعلم ، واحتجوا بعموم الآية.

[سبب النزول]

وسبب نزول الآية في حديث عدي بن حاتم ، وزيد الخيل ، فإنهما قالا : إنا قوم نصيد بالكلاب والبزاة.

وقالوا : إن حد تعليمها أن تأتمر ولو حال جوعها ، لكن اشترط أبو حنيفة ، والشافعي في أحد قوليه : أن لا تأكل منه كما تقدم ، وقال : ابن عمر ومجاهد : لا يحل إلا صيد الكلب فقط ؛ لأن قوله تعالى : (مُكَلِّبِينَ) يشير إلى قصر ذلك على الكلب.

وقال الحسن البصري ، والنخعي ، وأحمد ، وإسحاق : يحل من كل شيء إلا الكلب البهيم ؛ لأنه قد أمر بقتله ، وقال قوم : لا يحل إلا صيد الكلب ، والبازي.

__________________

(١) [وهو المختار] في بعض النسخ ما بين القوسين ثابت ، وفي أحاشية.

٣١

الحكم الثالث : أن هذه الجوارح التي تقتل الصيد لا بد أن تكون معلمة ؛ لقوله تعالى : (مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ) والتكليب التضرية على الصيد ، وقال تعالى : (تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ) أي : مما ألهمكم ، ولا بد أن يرسله ، فلو استرسل فقتل الصيد لم يحل.

قال القاضي زيد : وهو إجماع إلا عن الأصم.

ووجه ذلك قوله تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) أي : لكم ، فالمسترسل امسك لنفسه ، وفي حديث عدي بن حاتم أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إذا أرسلت كلبك المعلم فما أخذه فقتله فكله» فاشترط الإرسال ، والزجر بعد استرساله ، كالإرسال عندنا ، وأبي حنيفة ، والشافعي ، ومن أصحاب الشافعي من قال : ليس كذلك فلا يحل ، ولو أخذ المرسل واحدا بعد آخر ، ولم يضرب حل لأنه أمسكه لمرسله لا لو أضرب فإنه أمسكه لنفسه.

قال في الوافي وأبو حنيفة ، والشافعي : يحل لو أرسل على صيد فقتل غيره لعموم الآية والخبر.

وقال مالك : لا يحل ، وكذا الخلاف لو رمى صيدا فأصاب السهم غيره ، ولو أمسكه غير المعلم فقتله المعلم لم يحل عندنا ، والمؤيد بالله ، وأبي حنيفة.

وقال الشافعي : يحل.

قلنا : في حديث عدي أنه قال : يا رسول الله أرأيت إن خالطه كلب آخر؟

قال : «فلا تأكل حتى تعلم أن كلبك هو الذي أمسك».

قال الأخوان ، وأبو حنيفة ، وأحد قولي الشافعي : ولا يحل إن قتله الكلب من غير جرح ، بل كان ذلك بصدمه قياسا على السهم ، وأحد قولي الشافعي : يؤكل أما لو شارك المعلم والمرسل غير معلم أو غير مرسل ، أو

٣٢

أرسل مسلم وكافر لم يحل إجماعا لاجتماع الحاضر والمبيح ، وإرسال الكافر كذبيحته ، وسيأتي ذلك.

وأما تعليم المجوسي إذا علم ، وأرسل المسلم فجائز عند العامة من العلماء ، كما لو عمل السكين ، ومنعه إبراهيم ، والحسن.

الحكم الرابع

يتعلق بالتسمية وقد قال تعالى : (وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ).

قال جار الله : والضمير في قوله تعالى (عَلَيْهِ) إما إلى (مِمَّا أَمْسَكْنَ) على معنى : وسموا عليه إذا ذكيتم ، أو إلى (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ) أي : سموا عند إرساله

ولقائل أن يقول : هو محتمل أن يرجع إلى الأكل أي : فسموا عند الأكل فدلالة الآية محتملة في وجوب التسمية ، وفي حديث التصريح بذلك ؛ لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال في حديث عدي بن حاتم ، وأبي ثعلبة الخشني : «إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل مما أمسك عليك».

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا أرسلت كلبك وسميت فكل ، وإلا فلا تأكل» فأباحه بشرطين : الإرسال ، وذكر اسم الله.

وفي حديث عدي بن حاتم أنه قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إني أرسل كلبي فأجد عليه كلبا آخر؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا وجدت عليه كلبا آخر فلا تأكل فإنك إنما سميت على كلبك».

والتسمية هنا كالتسمية على الذبيحة وفيها ثلاثة أقوال :

فعلى قول القاسم ، والهادي ، والناصر ، وأبي حنيفة ، والثوري ، وابن حي ، ورواية عن مالك. أنها واجبة على الذاكر ، ويخرج الناسي بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان».

وقال الشافعي : إنها مستحبة ، وهو رواية عن مالك.

٣٣

قال في النهاية في حجة هذا القول : إنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سئل فقيل : يا رسول الله إن أناسا من أهل البادية يأتوننا بلحمان ، ولا ندري هل سموا عليها أم لا؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «سموا عليها ثم كلوها» فقال مالك : الآية ناسخة لهذا الخبر ؛ لأن الحديث كان في أول الإسلام.

وقال الشافعي : إن هذا الحديث كان في المدينة ، وآية التسمية كانت بمكة وهي قوله تعالى في سورة الأنعام : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) [الأنعام : ١٢١] فجمع بين الدلالتين فقال : ذكر التسمية للاستحباب ، والخبر دلالة الجواز.

وقال الشعبي ، وأبو ثور ، وداود ، وروي هذا في النهاية عن ابن عمر : إنها فرض على الذاكر والناسي.

قوله تعالى

(الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ) [المائدة : ٥]

النزول

قيل : أن رجالا قالوا : كيف نتزوج من ليس على ديننا؟ فأنزل الله هذه الآية.

ثمرات الآية ثلاث :

الأولى : تعلّق بقوله تعالى : (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) قيل : أراد وقت نزول الآية ، وقيل : (الْيَوْمَ) بمعنى الحين ، وقد تقدم ذكر ذلك (١) ، وهي تقضي بجواز أكل الغالي من الأطعمة ، والأصباغ.

__________________

(١) قريبا في قوله تعالى : (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ).

٣٤

قال في الروضة والغدير : وإن كان التقنع بالأدون هو الأولى ، كما فعله علي عليه‌السلام ـ وغيره من الفضلاء ، فقد روي أن عليا عليه‌السلام ـ كان يطعم الناس أطيب الطعام ، فرأى بعض أصحابه طعامه ، وهو خبز شعير غير منخول ، وملح جريش ، وهو مختوم عليه ، وختمه عليه‌السلام ـ لئلا يبدل.

ومن كلامه عليه‌السلام : والله لا أروضن نفسي رياضة تهش إلى القرص إن وجدته مطعوما ، وإلى الملح إن وجدته مأدوما.

ولما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كراهته لإدامين مجتمعين.

الثانية : تتعلق بقوله تعالى : (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ) اختلف العلماء من الأئمة والفقهاء ما أريد بالطعام ، فقال القاسم ، والهادي ، والناصر ، ومحمد بن عبد الله ، ورواية عن زيد بن علي : إن ذبائح أهل الكتاب ، وجميع الكفار لا تجوز ؛ لقوله تعالى : (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) [المائدة : ٣] وهذا خطاب للمسلمين ، والرواية الثانية عن زيد بن علي ، وعامة الفقهاء من أبي حنيفة ، والشافعي ، ومالك ، وجعفر الصادق ، والإمامية ، واختاره الأمير الحسين ، والإمام يحيى : جواز ذبائح أهل الكتاب ، ويفسرون الطعام بالذبائح وغيرها ، وهذا مروي عن الحسن ، والزهري ، والشعبي ، وعطاء ، وقتادة ، وأكثر المفسرين ، وأخذوا بالعموم في إطلاق الطعام ، فأجاب الأولون بأن الطعام يطلق على الحبوب ، يقال : سوق الطعام.

قال القاضي : الأقرب الحل ؛ لأن ذلك بفعلهم يصير طعاما ؛ ولأنه خص أهل الكتاب.

أجيب : بأنه خصهم لئلا يظن أن طعامهم الذي لم يزكوه محرم ، ثم إن الهادي ـ عليه‌السلام ـ والقاسم : تنجيس رطوباتهم لقوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) [التوبة : ٢٨] فيحرم ما حصل فيه رطوبتهم إلا ما أخذناه

٣٥

قهرا ، وعند المؤيد بالله ومن معه أن رطوبتهم طاهرة ، والخلاف في الرطوبة عامة في الكفار ، قال الذين جوزوا : أراد بأهل الكتاب اليهود والنصارى ، واختلف في نصارى العرب.

وعن ابن عباس ، والحسن ، وسعيد بن المسيب ، والشعبي ، وقتادة : تجوز ذبائحهم.

قال في الحاكم : ومنعه الشافعي.

وأما بنو تغلب فعن علي عليه‌السلام ـ أنه استثنى نصارى بني تغلب وقال : ليسوا على النصرانية ولم نأخذ منها إلا شرب الخمر وبه أخذ الشافعي ، وأجاز ذلك ابن عباس.

قال جار الله : وهو قول عامة التابعين ، وبه أخذ أبو حنيفة وأصحابه ، وحكم الصابئين حكم أهل الكتاب عند أبي حنيفة.

وقال صاحباه : هم صنفان : صنف يعبدون الملائكة فهم أهل الكتاب ؛ لأنهم يقرءون الزبور ، وصنف يعبدون النجوم فليسوا أهل كتاب (١).

وأما المجوس فالأكثر على تحريم ذبائحهم لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «سنوا بهم سنة أهل الكتاب غير آكلي ذبائحهم. ولا ناكحي نسائهم».

وعن ابن المسيب : إذا كان المسلم مريضا فأمر المجوسي أن يذكر اسم الله ويذبح فلا بأس.

وقال أبو ثور : أن أمره بذلك في حال الصحة فلا بأس وقد أساء.

وقد أفاد فحوى الآية : تحريم طعام من ليس من أهل الكتاب من الكفار ؛ لأنه خص أهل الكتاب على ما سبق التصريح بذلك في قوله تعالى : (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) [المائدة : ٣](وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ)

__________________

(١) وفي الكشاف ، وصنف لا يقرءون كتابا ويعبدون النجوم.

٣٦

فصل

من النهاية : أما إذا ذبح أهل الذمة لأعيادهم وكنائسهم ، فكرهه مالك ، وأباحه ابن أشهب ، وحرمه الشافعي ، وذلك لتعارض عموم قوله تعالى : (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) وعموم قوله تعالى : (وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) فتخصيص كل واحد للآخر محتمل.

وأما إذا كانت الذبيحة محرمة عليهم فاختلف أصحاب مالك ، فمنهم من حرم ومنهم من أباح ومنهم من قال : إن حرمت بالتوراة لم تحل لنا ، وإن حرموها على أنفسهم حلت ؛ لأن في التوراة تحريم كل ذي ظفر ، والشحوم من النعم وهو ما على الكلى ، والثروب وهو : ما يتغشى الكرش ، ذكره في الضياء والصحاح.

قال : والجمهور على تحريم ذبيحة المرتد ، وأجازها إسحاق ، وكرهها الثوري وسبب الخلاف هل المرتد يتناوله اسم الكتابي أم لا؟.

قال : وهكذا نشأ الخلاف في ذبائح بني تغلب هل اسم أهل الكتاب يتناول المتنصر والمتهود من العرب كما روي عن ابن عباس ، أو لا يتناول كما روي عن علي ، وأحد قولي الشافعي : أنه لا يتناول إلا من تهود من بني إسرائيل ، وتنصر من الروم ، وقد قال الإمام يحيى بن حمزة في يهود اليمن : إنهم من العرب ، تهودوا ، فلا تنكح نساؤهم على قول من جوز نكاحهم.

وهكذا قال في الشفاء ، ومهذب الشافعي : إن الجواز كان قبل التبديل عند من جوزه ، وقوله تعالى : (وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ) قال ابن عباس ، وأبو الدرداء ، والحسن ، ومجاهد ، وقتادة ، وإبراهيم ، والسدي ، وأكثر المفسرين ، والفقهاء : المراد ذبائح المسلمين ، وقيل : أراد جواز الهبة منهم عن الأصم.

الثالثة : تعلق بقوله تعالى : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ

٣٧

أُوتُوا الْكِتابَ) والتقدير : وأحل لكم المحصنات من المؤمنات ، قيل : أراد ب (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ) الحرائر ، وقيل : العفائف.

قال جار الله : إنما خصهن بالذكر مع صحة نكاح الأمة المسلمة ، وغير العفيفة (١) بعثا على تخير المؤمنين لنطفهم.

وقيل : أراد الحرائر عن مجاهد ، وأبي علي : فلا تحل الأمة مع القدرة على طول الحرة ، كقول الأئمة ، والشافعي ، خلاف أبي حنيفة.

وعن الحسن والشعبي وسفيان وإبراهيم : أراد العفائف فلا تمنع الأمة مع الطول كقول أبي حنيفة.

وقوله تعالى : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) ظاهر الآية جواز نكاح الكتابية وهذا مذهب أكثر الفقهاء ، والمفسرين ، ورواية عن زيد بن علي ، والصادق ، والباقر ، واختاره الإمام يحيى بن حمزة وقال : إنه إجماع الصدر الأول من الصحابة ، وإن عثمان قد نكح نائلة بنت الفرافصة وهي نصرانية ، فلما توفي عثمان خطبها معاوية فقالت : وما يعجبك مني؟ قال : ثنيتاك. فقلعتهما وأمرت بهما إليه ، ونكح طلحة نصرانية ، ونكح حذيفة يهودية.

وقال القاسم ، والهادي ، والناصر ، ومحمد بن عبد الله ، وعامة القاسمية ، وهو مروي عن ابن عمر : إنه لا يجوز لمسلم نكاح كافرة ؛ كتابية كانت أو غيرها.

واحتجوا بقوله تعالى في سورة البقرة : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ) [البقرة : ٢٢١] قالوا : هذا في المشركات ، لا في الكتابيات.

__________________

(١) لعله يريد : حيث لم يكن قد تحقق كونها زانية ، وإلا حرم ، وقد صرح به صاحب الفتح ، حيث قال : ويرحم تزويج زانية أصرت ، ويجب تطليقها ، قال في شرحه : كما ذكره في الكشاف ، ومثله في البيان.

٣٨

قلنا : اسم الشرك يطلق على أهل الكتاب ؛ بدليل قوله تعالى بعد ذكر اليهود والنصارى في قوله تعالى : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) [التوبة : ٣١] وعن ابن عمر : لا أعلم شركا أعظم من قول النصارى : إن ربها عيسى.

وعن عطاء : قد كثر الله المسلمات ، وإنما رخص الله لهم يومئذ.

قالوا : إنه تعالى عطف أحدهما على الآخر ، فدل أنهما غيران ، حيث قال تعالى : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ) [البينة : ١].

قلنا : هذا كقوله تعالى : (الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) [البقرة : ١٨٠].

قالوا : الآية مصرحة بالجواز في قوله تعالى : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ).

قلنا : قوله تعالى في سورة الممتحنة : (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا) [الممتحنة : ١٠] وقوله تعالى في سورة النور : (الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ) [النور : ٢٦] وقوله تعالى في سورة النساء : (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) [النساء : ٢٥] فشرط الإيمان في هذا يقضي بالتحريم فتأول هذه الآية بأنه أراد المحصنات من أهل الكتاب الذين قد أسلموا لأنهم كانوا يكرهون ذلك ، فسماهم باسم ما كانوا عليه ، وقد ورد مثل هذا في كتاب الله تعالى ، قال الله تعالى : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) [البقرة : ١٢١] وقوله تعالى : (يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) [البقرة : ١٤٦](١) وقوله تعالى : (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ

__________________

(١) في الاحتجاج بهذه الآية نظر ؛ لأنها نزلت في ذم أهل الكتاب الذين يعرفونه ولا يؤمنون به ، يعني : محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٣٩

بِاللهِ)(١).

قالوا : سبب النزول ، وفعل الصحابة يدل على الجواز ، وإنا نجمع بين الآيات الكريمة فنقول قوله تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ) عام ، ونخصه بقوله تعالى : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) أو نقول : أراد بالمشركات الوثنيات ، وب (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) ما أفاده الظاهر ، أو يكون قوله تعالى : (وَالْمُحْصَناتُ) ناسخا لتحريم الكتابيات بقوله تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ).

قلنا : نقابل ما ذكرتم بما روي أن كعب بن مالك أراد أن يتزوج بيهودية أو نصرانية فسأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذلك؟ فقال : «إنها لا تحصن ماءك» وروي أنه نهاه عن ذلك ، وبأنا نتأول قوله تعالى : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) فنجمع ، ونقول : تخصيص المشركات ب (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) متراخ ، والبيان لا يجوز أن يتراخى (٢).

قالوا : روى جابر بن عبد الله عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «أحل لنا ذبائح أهل الكتاب ، وأحل لنا نساءهم ، وحرم عليهم أن يتزوجوا نسائنا».

قال في الشفاء : قال علماؤنا : هذا حديث ضعيف النقل.

قالوا : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المجوس : «سنوا بهم سنة أهل الكتاب» الخبر ، فأفاد جواز ذبائحهم ، ونكاح نسائهم.

__________________

(١) قيل : الآية نزلت في عبد الله بن سلام ، وجماعة من أصحابه ، وقيل غير ذلك ، انظر الكشاف.

قلت : قوله تعالى : وإن (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) الخ أصرح.

(٢) فيه نظر ؛ لأنه ليس من البيان ، وإنما هو من النسخ ، الذي شرطه التراخي بوقت يمكن العمل بالمنسوخ ، على أن البيان لا يتأخر عن وقت الحاجة ، لا عن الخطاب فجائز على ما عرف في أصول الفقه. (ح / ص).

٤٠