بحوث في علم الأصول - ج ٥

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٣

طرف المراد ، حيث أن المراد في الأول لم يبتل بقيد أخذ بوجوده الاتفاقي ، والمراد في الثاني قيّد بقيد أخذ بوجوده الاتفاقي ، فلذلك استحال الإلزام به من قبل هذه الإرادة ، ورغم أنه بحسب النظر الفطري كون القيد راجعا إلى الإرادة دون المراد ، ودون هذه العنايات الزائدة ، فقد استند (١) من تابع الشيخ الأعظم في هذه النظرية إلى وجدان وبرهان.

أمّا الوجدان : فكما أشار إليه المحقق (٢) الخراساني من أن المولى إذا التفت إلى شيء ، فإمّا أن يريده ، وإمّا أن لا يريده ، ولا كلام في الثاني ، لأنه غير مراد ، فهو خارج عن محل البحث. وإنما الكلام فيما أراده ، ومعنى هذا أننا افترضنا منذ البدء فعلية الإرادة. وأنها قد وجدت ، إذن من الخلف أن نقول بعد فعليتها ووجودها إنّها مشروطة ومعلّقة على وجود شيء آخر بدونه لا تكون موجودة ، لأننا فرضنا فعليتها منذ البدء.

نعم بعد فعليتها ووجودها قد تتعلق بشيء على الإطلاق ، وقد تتعلق بشيء على تقدير ، بحيث يؤخذ ذلك التقدير بوجوده الاتفاقي قيدا في المراد ، والأول هو المطلق ، والثاني هو المشروط.

وهذا البيان مغالطة واضحة لأن معناه ، عدم وجود الواجب المشروط في شق «إن أراده» ، لأنه إن كان المقصود بالإرادة في هذا الشق ، مطلق الإرادة الأعم من المشروطة وغير المشروطة ، فمعناه أنه «يريد» ولو مشروطا ، وليس معناه فرض فعلية الإرادة ، وإنما فرضه فرض أصل الإرادة الأعم من كونها مشروطه ، أو غير مشروطة. إذن يجب أن نبحث من جديد في معنى المشروطة وغير المشروطة ، ومن الواضح أنه لا كلام لنا فيما لو لم «يرد» أصلا.

وإن كان المقصود «بالإرادة» في الشق الأول «إن اراده» إرادة بالفعل وعلى الإطلاق ، أو «عدم إرادة» ، فهنا نرفض قولكم ، والكلام لنا في الثاني ،

__________________

(١) محاضرات فياض : ج ٢ ص ٣٢٥.

(٢) كفاية الأصول : مشكيني ج ١ ص ١٥٢ ـ ١٥٣.

٤١

«إن لم يرد» لأن كلامنا كله صار في الثاني ، لأن الإرادة المشروطة تدخل في الثاني.

وبهذا يتضح أن هذا الوجدان غير مستقيم ، وإلّا فالوجدان قاض بأن الإرادة المشروطة بالمرض تختلف عن الإرادة المطلقة في ارتباط ذاتي بنفس الإرادة ، فأصل إرادة شرب الدواء مرتبطة ارتباطا ذاتيا مع المرض ، ومثل هذا الارتباط غير موجود في الإرادة الأخرى.

نعم ماهية هذا الارتباط مجمل سوف يتضح فيما يأتي ، وأمّا أصل وجود ارتباط ذاتي بين الإرادة في موارد الإرادة المشروطة ، وبين هذا الشرط ، فهذا هو الوجدان ، لا إنّ الوجدان على خلافه. وعليه فلا إشكال في انقسام الإرادة إلى قسمين : مشروطة ومطلقة ، وأن ما ذهب إليه الشيخ الأعظم ، وتبعه المحقق الخراساني ، والمحقق (١) الخوئي ، على خلاف التصور الأولي للمسألة.

وأمّا البرهان ، على إثبات نظرية الشيخ الأعظم فهو دعوى ، أن كون الإرادة المشروطة في موردها ، مقدمة نحو بعض مقدمات المراد ، يعني كونها موجودة بالفعل ، إذ لو لم تكن موجودة وتامة الفعلية ، يستحيل أن يترشح منها إرادة غيرية لبعض مقدمات المراد ، مع أنه يترشح منها.

وتوضيحه هو : إنّ المراد بالإرادة المشروطة كالحج ، ووقوعه عند الاستطاعة يتوقف على مقدمات ، منها : الاستطاعة ، والزاد ، والراحلة ، وغير ذلك. وهذه المقدمات مربوطة بالمكلف نفسه ، وهناك مقدمة مربوطة بالمولى نفسه وهي الخطاب والطلب ، فإنّ طلب المولى من العبد أن يحج على تقدير الاستطاعة ، هو أحد مقدمات وجود الحج خارجا ، إذ لو لا خطابه وطلبه لما حج المكلف خارجا ، إذن فخطاب المولى أحد مقدمات المراد ، وحينئذ قالوا ، بأننا نرى بالوجدان أنه يترشح من إرادة المولى المشروطة بالاستطاعة

__________________

(١) نفس المرجع في الكفاية ـ المحاضرات.

٤٢

للحج ـ وقبل وجود الاستطاعة ـ يترشح منها إرادة غيرية للخطاب ، فيكون الخطاب مرادا بالإرادة الغيرية المقدّميّة ، فيصدر منه الخطاب تمهيدا لحصول المراد ، وصدور هذا الخطاب من المولى ، قبل تحقق الاستطاعة في الخارج ، إنما كان بملاك الإرادة الغيرية ، وحينئذ يقال : إنّ فعلية الإرادة الغيرية فرع فعلية الإرادة النفسية. إذن فيستكشف من فعلية الإرادة الغيرية المتعلقة بالخطاب ، إنّ الإرادة النفسية المتعلقة بالحج هي فعلية أيضا ، إذ لو لم تكن إرادة الحج فعلية بل كانت مشروطة بالاستطاعة ، إذن لما أمكن أن يترشح منها بالفعل وقبل الاستطاعة ، إرادة غيرية التي هي خطاب المولى.

وجواب هذا البرهان يكون بأحد افتراضين :

الافتراض الأول : هو أن يكون صدور الخطاب ، من قبل المريد باعتبار ملاك نفسي في نفس الخطاب لا باعتباره مقدمة لحصول المراد ، إذ الخطاب فيه حيثيتان :

إحداهما حيثية كونه ذا ملاك في نفسه.

والثانية حيثية كونه مقدمة من مقدمات وقوع الحج خارجا

وحينئذ يقال : إذا كانت إرادة المولى للخطاب التي أثّرت في صدور الخطاب منه ، إذا كانت إرادة غيرية مقدميّة ، إذن يصح البرهان ، وأمّا إذا كانت إرادة نفسيّة باعتبار مصلحة قائمة في الخطاب من أجل إشباع حالة مولوية ، أو لرعاية شئون اجتماعية أخرى ، حينئذ لا يكون صدور هذا الخطاب كاشفا عن فعلية إرادة الحج ، بل تكون لدى المولى إرادتان نفسيتان ، إحداهما : تكوينية مطلقة وهي إرادة نفس الخطاب ، والأخرى : إرادة نفسية تشريعية مشروطة ، وهي إرادة الحج ، وإحداهما لم تنشأ من الأخرى.

الافتراض الثاني : هو أنه لو سلّمنا أن الخطاب ، بما هو خطاب ، يكون خلوا من الملاك النفسي وليس هناك ملاك نفسي في تعلق إرادة استقلالية نفسية به ، وإنما كان صدور الخطاب من المولى المحض الاستطراق إلى مطلوبه

٤٣

ومراده الأصلي الذي هو الحج ، فلو سلمنا ذلك نقول : لعلّ إرادة الخطاب هنا وصدوره ، يكون من قبيل المقدمات المفوتة ، وحينئذ لا يكون كاشفا عن فعلية الإرادة.

وتوضيح ذلك هو : إنّه لو فرضنا أن إرادة المولى للحج كانت مشروطة ولم تكن فعلية ، لكن المولى يعلم بأن هذا الشرط سوف يتحقق في حينه ، وأنه سوف يعجز في حين تحقق هذا الشرط عن تكليف المستطيع بالحج ، لأنه سيضطر إلى لقاء كلّ مستطيع ، وتكليفه بالحج آنذاك. وعليه إذا كان المولى كذلك ، فهو من أجل ذلك من الآن يصدر هذا الخطاب ليكون مقدمة لمطلوب لم ينجز طلبه بعد ، وهذا ما يسميه الأصوليون بالمقدمات المفوتة ، إذن فتعلق غرض المولى بهذا الخطاب ليس من باب إن إرادته للحج فعلية ، بل من باب أنه يعلم بأن إرادته للحج سوف تصبح في ظرفها فعلية ، وهو في هذا الظرف يكون عاجزا عن إصدار خطابات ، إذن فهو من الآن يصدر هذا الخطاب ، إذن فإرادة هذا الخطاب ليست إرادة غيرية محضة ، بل هي إرادة من أجل حفظ ما سوف يأتي من مراده ، إذ لا محذور بأن لا تكون للآمر إرادة بالفعل ، لكنه يأمل بأنه سوف تكون له إرادة ، ولأنه يعلم بأنه في ذلك الوقت سوف يكون عاجزا عن الإتيان بمقدمات هذا المراد ، إذن فهو من الآن يأتي بهذه المقدمات ، ولا يكون ذلك كاشفا عن فعلية الإرادة.

وبهذا يتضح أنه لا الوجدان تام ، ولا البرهان تام أيضا ، على دعوى كون الإرادة المشروطة فعليّة على الإطلاق ، وغير مرتبطة بالشرط ، وأن شرط الاستطاعة يكون مأخوذا في المراد ، لا في الإرادة ، ولا في الطلب ، بل البرهان قائم على بطلان هذه النظرية.

ومنشأ هذا البرهان على البطلان هو المشكلة المتقدمة ، ومعالجتهم لها ، حيث التفتوا هناك إلى أن الاستطاعة إذا جعلوها قيدا في المراد والمطلوب ، فيلزم ترشح الإلزام عليها من قبل المولى ، وتصير الاستطاعة للحج كالوضوء بالنسبة إلى الصلاة ، فكما يترشح الإلزام على الوضوء من قبل الأمر بالصلاة ،

٤٤

يلزم أن يترشح الإلزام على الاستطاعة من قبل الأمر بالحج وهكذا ، فعالجوا هذه المشكلة بالشكل الذي تقدّم ، بأن جعلوا الاستطاعة قيدا في الحج ، لكن بوجودها الاتفاقي ، وحينئذ قالوا : إن القيد بوجوده الاتفاقي غير الناشئ من الإرادة ، يستحيل سريان الإلزام إليه ، لأنه بمجرد الإلزام به يخرج عن كونه اتفاقيا.

إلّا أن هذا الجواب لا يكفي ، وذلك لأنه يفسر لنا كيفية عدم سريان الإلزام والتحريك المولوي إلى القيد ، باعتبار عجز المولى عن الإلزام به ، إذ بمجرد الإلزام به يخرج عن كونه اتفاقي الوجود.

وحاصل البرهان على خلاف هذه النظرية هو : إنّ فعلية الإرادة نحو المقيّد ، تقتضي فعلية الشوق نحو القيد ، أو قل : إن الشوق النفسي للحصة المقيّدة بالاستطاعة ، يقتضي أن يترشح منه شوق غيري للقيد لا محالة ، حتى لو فرض عجز المولى عن الإلزام بهذا القيد ، للزوم محذور خروجه عن كونه قيدا اتفاقيا ، ولكن هذا إنما يصحح ويبرر عجز المولى ، وعدم إلزامه لعبده بالقيد ، ولا يمكنه أن يحبس أنفاس المولى ومشاعره وأشواقه نحو القيد ، لأن من أحب المقيّد أحب قيده ، وهذه ملازمة نقبلها كما قبلنا بكون مقدمة الواجب واجبة ، إذن لا محالة من ترشّح حب فعلي غيري للقيد من الحب الفعلي للمقيّد.

هذا مع العلم أن المولى لا يحب القيد الثابت في كثير من موارد الواجب المشروط ، بسبب كون هذه القيود أفعالا محرّمة كما في إيجاب الكفارة المشروطة بإفطار شهر رمضان عمدا ، فهنا إفطار شهر رمضان عمدا يبغضه المولى ولا يحبه ، لأنه على خلاف محبوبه ، وحينئذ فلو قبلنا بأن القيود والشروط في الواجب المشروط ترجع إلى المراد لا للإرادة ، فهذا معناه أن إرادة المولى للكفارة ، إرادة فعلية ، وحبّه لها حبّ فعلي ، إذن ينبغي أن يأمرنا المولى بقيد محبوبه الذي هو إفطار شهر رمضان حتى يتحقق محبوبه ، وكون القيد ـ الإفطار ـ قد أخذ بوجوده الاتفاقي ، لا يمنع من ترشح الحب الفعلي

٤٥

الغيري عليه من محبوبه الفعلي الذي هو المقيّد ـ الكفارة ـ مع أنه لا يحب هذا القيد ـ الإفطار عمدا ـ بل يكرهه أشدّ الكرة. إذن فإرجاع القيود والشروط للمراد مع الالتزام بفعلية الإرادة ، يتولد منه محذور ترشح من الشوق الفعلي النفسي المتعلق بالمقيّد إلى قيده ، ولا يعالج هذا المحذور بكون القيد قد أخذ بوجوده الاتفاقي ، لأن أخذه بوجوده الاتفاقي يمنع عن الإلزام به من قبل المولى ، ولكن لا يمنع عن اشتياق المولى ، وحبّه تكوينا لمحبوبه ، وقيد محبوبه ، لأن من أحبّ المقيد اشتاق إلى قيده وأحبّه ، وبهذا يتضح بطلان هذه النظرية.

النظرية الثانية :

وهي للمحقق العراقي (١) (قده) فقد ذهب إلى أن الإرادة المشروطة كالمطلقة ، كلتاهما موجودة بوجود فعلي قبل وجود الشرط خارجا ، فهي كما هو الحال في النظرية الأولى من الوجود الفعلي قبل تحقق الشرط خارجا ، ولكنها تختلف عن الأولى في أن الإرادة المشروطة فيها تكون موجودة بوجود فعلي ، وقبل وجود الشرط خارجا ، لا لأنها مطلقة والقيد فيها راجع إلى المراد كما في الأولى ، وإنما وجودها الفعلي لأنها مشروطة ومنوطة بلحاظ القيد ـ الاستطاعة ـ ووجوده الذهني في أفق نفس المولى ـ لا وجود القيد ـ الاستطاعة ـ خارجا ؛ ولحاظ القيد ـ الاستطاعة ـ موجود بالفعل حين فعلية الإرادة أيضا (٢). إذن ، فكلتا النظريتين توافق الأخرى على الوجود الفعلي للإرادة قبل تحقق الشرط ، غايته أن وجودها الفعلي مطلق ، وغير منوط بشيء في الأولى ، ووجودها الفعلي في الثانية منوط بشيء متحقق حين فعلية الإرادة ، وهو لحاظ الشرط والقيد وهو متحقق وفعلي قبل تحقق الشرط

__________________

(١) بدائع الأفكار : الآملي ج ١ ص ٣٤٠ ـ ٣٤١ ـ ٣٤٢.

مقالات الأصول : العراقي ج ١ ص ١٠٥ ـ ١٠٦ ـ ١٠٨.

(٢) وعليه فمن الواضح أن فاعلية الإرادة الفعلية تكون مشروطة عقلا بتحقق الشرط خارجا في كلتا النظريتين ، ولعلّ هذا هو منشأ الخلط بين الفعليتين.

٤٦

خارجا. وكأن المحقق العراقي (قده) أراد أن يشبع الوجدان الفطري الذي أشرنا إليه في التعليقة على النظرية الأولى ، حيث أن الوجدان الفطري لهذه المسألة يدرك بأنّ هناك ارتباطا بين نفس الإرادة وبين العطش ، لا أن العطش لا علاقة له بالإرادة أصلا ، فهو حيث أنه يعطش فيريد ، إذن فالارتباط ذاتي بينهما ، ومن هنا كانت النظرية الأولى على خلاف الفهم الفطري للمسألة إذا سلخت الإرادة عن أي شرط ، وصارت لا علاقة لها بشيء ، وجعلتها مطلقة ، حيث صار لا فرق بين إرادتنا لشرب الماء عند العطش ، وإرادتنا للتنفس فعلا ، وجعلتها فعلية مطلقة ، ولأجل هذا الارتباط الفطري والذاتي ، اعترف به ، لكن جعله بين الإرادة والوجود اللحاظي للعطش ، لا الخارجي له.

وقد برهن على ذلك : بأن الوجود الخارجي للعطش أو للاستطاعة ، لا يعقل أن يكون مؤثرا في نفس المولى ، إذ إنّ الوجود الخارجي إنما يكون مؤثرا باعتبار تصور المولى له ، ولحاظه له ، فلا يعقل أن تناط الإرادة التي هي من موجودات عالم النفس ، بأمر خارجي مباشرة ، بل لا بد من إناطتها بأمر نفسي وذهني من سنخها وعالمها وهو لحاظ الاستطاعة.

والخلاصة : هي أن النظرية الثانية ترى أن إرادة شرب الماء المنوطة بالعطش ، موجودة بوجود فعلي ، وهي إلى هنا متفقة مع النظرية الأولى ، لكن تختلف عنها في أمرين مترتبين يتفرع ثانيهما عن أولهما :

أ ـ الأمر الأول : هو أن النظرية الأولى ترى : أن إرادة شرب الماء موجودة قبل العطش بوجود فعلي ، لأنها مطلقة ، وغير مشروطة. وأمّا النظرية الثانية فإنها ترى : بأن إرادة شرب الماء موجودة بوجود فعلي ، لأنها مشروطة بشرط موجود وهو هو اللحاظ ، فيكون المشروط فعليا بفعلية شرطه ، فكلما لاحظ المولى إنسانا مستطيعا ، انقدح في نفسه شوق إلى الحج.

ب ـ الأمر الثاني : وهو الأمر المترتب على الأول ، وهو إنّ أصحاب النظرية الأولى القائلين بأن إرادة الحج فعلية قبل الاستطاعة ، كانوا يواجهون مشكلة وهي : إنّه إذا كانت هذه الإرادة فعلية قبل الاستطاعة ، إذن فلما ذا لا

٤٧

تحرك نحو العطش؟. وكانوا يجيبون : بأن الشرط فيها مأخوذ بوجوده الاتفاقي. وأمّا لو سئل أصحاب النظرية الثانية بأنه : لما ذا لا تكون هذه الإرادة محركة نحو العطش؟ فإنهم يجيبون : بأنّ الإرادة هذه منوطة بلحاظ العطش وهذا اللحاظ موجود ، لكن النتائج التكوينية لهذا هو أن تكون فعلية الإرادة منوطة بفعلية العطش ، أي : بفعلية الملحوظ.

وهذه النظرية الثانية كأنها تريد أن تجاري الفهم العرفي ، وتشبع مولوية المولى ، وقد برهن أصحابها على ذلك حيث يقولون : إنّ الإرادة لا يمكن أن تكون منوطة بوجود الاستطاعة خارجا ، ذلك لأن الاستطاعة بوجودها الخارجي ، لا تكون مؤثرة في عالم النفس والذهن ابتداء ، وإنما المؤثر في عالم النفس هو الوجود الذهني واللحاظي.

وبعبارة أخرى : إن الإرادة من موجودات عالم النفس ، فلا بدّ أن يكون شرطها المؤثر فيها من عالمها ، لا من العالم الخارجي.

والتحقيق هو عدم صحة البرهان ، والنظرية نفسها.

أمّا عدم صحة البرهان : فلأن هذا البرهان قائم على افتراض أن الإرادة إمّا أن تكون منوطة بالاستطاعة بوجودها الخارجي ، وإمّا أن تكون منوطة بالاستطاعة بوجودها اللحاظي ، وإذا امتنع الأول ثبت الثاني.

وهذا البرهان غير صحيح ، إذ يوجد شق ثالث ، وهو : أن يكون المؤثر في الإرادة ، لا وجود الاستطاعة خارجا ، ولا وجودها تصورا ، بل المؤثر في الإرادة إنما هو التصديق (١). بوقوع الاستطاعة خارجا ، والتصديق أمر نفساني ذهني ، فيعقل أن تكون الإرادة منوطة به ، وعليه ، فلا يصح ما قيل في البرهان.

__________________

(١) وقد يقال بأن التصديق أعم من الوقوع الخارجي والذهني. وعليه ، فيعود الكلام من جديد فيما هو المؤثر الحقيقي في الإرادة ، مع ملاحظة كونها فعلية قبل الشرط (المقرّر).

٤٨

وأمّا عدم صحة النظرية ، فهو : لأنها على خلاف الوجدان ، وذلك لأن الوجدان قاض بأن لحاظ العطش في نفس المرتوي لا يكفي لأن ينقدح في نفسه شوق إلى الماء ، لأن الشوق إنما ينشأ بحسب تركيب الإنسان من قوى تلائمه ، فالشوق هو ميل إلى ما يكمّله ، والمرتوي بالفعل لا يوجد عنده أيّ قوة تلائم مع حاله وقواه فعلا ، وإذا لم يكن مناسبة بين حاله وقواه ، فلا ينقدح لأنه لا شوق في حال عدم الملاءمة ، لأن الشوق فرع الملاءمة حقيقة ، لا تصور الملائم ، إذن فالإرادة غير منوطة بالوجود اللحاظي.

٣ ـ النظرية الثالثة :

وهي للمحقق النائيني (قده) حيث يقول : إن الإرادة المشروطة ، هي فعلية الوجود من أول الأمر كالمطلقة ، إذن فهو متفق مع كلتا النظريتين السابقتين من هذه الناحية ، فالوجود في كلتا الإرادتين فعلي ، لكن الموجود في إحداهما يختلف عن الآخر ، فالموجود فعلا في الإرادة المشروطة معلّق ، والموجود فعلا في الإرادة المطلقة هو فعلي غير معلق ، فهو يفرق بين الوجود والموجود ، فالإرادة المطلقة موجودة بوجود فعلي ، بينما الموجود فعلا في المشروطة هو الإرادة المعلّقة.

ومن الواضح أن هذا التفكيك بين الوجود والموجود غير معقول ، لكون الوجود عين الموجود بهذا الوجود ، فيستحيل أن يكون أحدهما معلقا والآخر فعليا ، كما أن هذا خلط بين الموجودات الفعلية والموجودات الاعتبارية ، فإذا صحّ هذا التفكيك في الوجودات الاعتبارية العنوانية التي لا يكون الموجود فيها حقيقيا ، وإنما يكون مسامحيا واعتباريا ، كباب الجعل والمجعول ، لكنه لا يصح في باب الإرادة والشوق ـ محل الكلام الذي هو من مبادئ الجعل ، ووجوده وجود حقيقي ـ. وعليه فيستحيل كون وجوده فعليا ، والموجود فيه استقباليا.

وتوضيح ذلك : إنّ الوجود للشيء تارة يكون وجودا حقيقيا ، وأخرى

٤٩

يكون وجودا مسامحيا وبالعناية ، من قبيل وجود المطر في الذهن ، ويمكن أن يكون وجود واحد حقيقيا لشيء ، ومسامحيا لشيء آخر ، كتصورنا للمطر ، فإنه وجود حقيقي للمتصوّر الذهني ، ولكنه وجود مسامحي بالنسبة للأمر الخارجي ، وكل وجود بالنسبة إلى ما هو موجود به بالحقيقة ، يستحيل أن يكون بينهما فرق ، لأن وجود كل شيء هو عين ذلك الشيء ، وعليه فيستحيل أن يكون الوجود فعليا لكن الموجود تعليقي ، ولكن هذا يمكن تعقّله في الوجود النفساني للشيء من قبيل أن نتصور في الذهن مطر الشتاء الآتي ، فهنا الوجود للمتصوّر فعلي ، ولكن الموجود تعليقي ، إذ لو لم يكن الموجود تعليقيا ، بل كان هو عين وجوده في الذهن ، إذن فمعنى هذا أن المطر يهطل في ذهننا عند تصوره للمطر. وعلى هذا الأساس نقول : إن الإرادة حيث أنها من الموجودات الحقيقية ـ لأننا نتكلم عن واقع انقداح الشوق في النفس ـ فيستحيل إذن أن يكون وجود الإرادة فعليا والموجود معلّقا.

ولا يقاس هذا على الوجودات الاعتبارية ، إذ يمكن فيها تصور وجود المطر القادم في الذهن ، لأنه وجود اعتباري مسامحي وهو غير الموجود ، ولكن هنا في الموجودات الحقيقية ، الوجود الحقيقي هو عين الموجود ، والصحيح في تفسير حقيقة الإرادة المشروطة هو أن يقال : إنّه في جميع موارد الإرادة يوجد إرادتان :

١ ـ الإرادة الأولى : هي إرادة الفعل ـ شرب الماء ـ وهي ليست موجودة بوجود فعلي ـ وإنما وجودها الفعلي يكون بعد وجود شرطها ، أو التصديق بوجوده خارجا ، كما لو تحقق وجود العطش ، أو التصديق بوجوده خارجا ، فإن كان الشرط عطشه هو نفسه ، إذن فهو يحسّه ويشعر به ، وإن كان الشرط عطش ابنه ، فهو فرع إحساسه بعطش ابنه وإحرازه واعتقاده ، وإلّا فقبل اعتقاده وإحرازه لعطش ابنه ، ليس في نفسه شوق إلى تحصيل الماء. إذن فلا وجود فعلي للإرادة قبل تحقق الشرط بنحو من الأنحاء المذكورة في النظريات الثلاثة ، وذلك لما ذكرنا من أن الشوق الحقيقي إلى شيء هو فرع ملاءمة قوى

٥٠

النفس في الإنسان لما يشتاق إليه ، والإحساس به ، وهذه ملاءمة لا تكون إلّا عند تحقق الشرط خارجا ، وإلّا فقبل حدوث الشرط «العطش» لا يوجد أي ملاءمة بين قواه وبين شرب الماء ، إذن لا ينقدح في نفسه شوق فعلي نحو الفعل ـ شرب الماء ـ بأي معنى للفعلية.

٢ ـ الإرادة الثانية : وهي إرادة مطلقة وفعلية قبل وجود الشرط ، أو التصديق به خارجا ، ولكن ليست هذه الإرادة هي إرادة شرب الماء ، بل هي إرادة أخرى ، مطلقة وفعلية ، وغير مشروطة ، توجد دائما إلى جنب الإرادة المشروطة ، وهذه الإرادة هي ذلك الإحساس المبهم الذي كان ينتاب العلماء بأن هناك شيئا «ما» إرادته فعلية ومطلقة.

وهذا الإحساس ، وإن كان صحيحا ومطابقا للواقع ، إلّا أن متعلّق هذه الإرادة ليس شرب الماء ـ الفعل ـ بل متعلقها هو الجامع بين شرب الماء وعدم العطش ـ الارتواء ـ فهي متعلقة بعدم تحقق المجموع من شرط الوجوب ، وعدم الواجب.

وتوضيح ذلك ، هو : إنّ من يريد شرب الماء على تقدير العطش ، يريد شيئا آخر أيضا ، وهو أن لا يتحقق المجموع المركب من العطش وعدم شرب الماء ـ أي شرط الوجوب وعدم الواجب ـ فإن هذا الاجتماع مبغوض له من أول الأمر مبغوضية فعلية لمنافرته مع قواه ، فينقدح في نفسه شوق فعلي نحو أن لا يتحقق هذا المجموع المركب ، لأن عدمه مراد له من أول الأمر بإرادة فعلية ، فهذا الشخص حتى في حال ارتوائه من الماء فعلا وعدم احتياجه إليه يكره هذه الحصة من العطش ، وهي حدوث عطش لا ماء معه ، وذلك لمنافرة ذلك مع قواه الفعلية ، وبهذا ينقدح في نفسه شوق فعلي نحو أن لا يقع عطش لا رافع له ، وهذه الإرادة الفعلية المطلقة هي غير إرادة الفعل ـ شرب الماء ـ فإن هذه الإرادة لا تبعث نحو شرب الماء ، بل تبعث نحو أن لا يتحقق هذا العطش الذي لا ماء معه ، ولهذا لو فرض أن هذا الإنسان يعلم بأنه إذا صعد إلى السطح سيعطش ، ولا يجد ماء معه ، فيكون هذا داعيا له أن لا يصعد ،

٥١

فهذه الإرادة الفعلية تمنعه أن يصعد إلى السطح ، بينما إرادة شرب الماء لا دور لها في عدم الصعود الى السطح ، بل هي تبقى تدعو إلى شرب الماء لو وجد العطش ، وأمّا قبل العطش ، فالذي يمنعه أن يقدم على عطش لا ماء معه ، هو تلك الإرادة الثانية المتعلقة بالجامع المتقدم بيانه.

ولعلّ إحساس العلماء بوجدانهم ، بأن هناك شيئا «ما» فعليا قبل وجود الشرط ، وعدم التفاتهم إلى إمكان تعدد الإرادة ، حيث تكون واحدة منها متعلقة بالجامع المذكور ، هذا مع حصر النظر على إرادة شرب الماء ، كل هذا جعلهم يتخيّلون إن إرادة شرب الماء فعلية قبل العطش ، أي إنّ هذه الإرادة المشروطة فعلية من أول الأمر ، إذن فهنا إرادتان : إرادة تعيينية لشرب الماء ، وهي مشروطة بالعطش ، وهي لا وجود لها قبله ، وإرادة أخرى لعدم الحصة الخاصة. وهي المتعلقة بالجامع ـ أي العطش الذي لا ماء معه ـ وهذه الحصة من العطش يريد عدمها بالإرادة الفعلية المطلقة من أول الأمر ، وهذه الإرادة موجودة قبل وجود العطش خارجا.

وبنظر أكثر تحليلية يقال : إنّ إرادة شرب الماء التي هي إرادة تعيينية وتحصل بعد العطش ، هي تطور للإرادة الثانية المتعلقة بالجامع ، بين اللّاعطش والماء ، أي : ارادة أن لا يعطش عطشا لا ماء معه ، ومثل هذه الإرادة يشبّع مطلوبها بواحد من اثنين : فإمّا أن لا يعطش ، وإمّا أن يعطش عطشا معه ماء. وهذه الإرادة ذات اقتضاء تحليلي في بداية الأمر ، ولكن بعد أن يحدث العطش ، يتعين اقتضاؤها وإشباعها في شرب الماء ، وتتحول من إرادة تخييرية إلى إرادة تعيينية.

إذن فالإرادة المشروطة بمثابة تطور للإرادة المطلقة ، كما في إرادة شرب الماء على تقدير العطش ، فإنها تطور لإرادة الارتواء الذي يتحقق بالجامع بين طرفيه اللاعطش والماء على تقدير العطش في أول الأمر ، ويتعين بشرب الماء في آخره.

والخلاصة : إنّه في موارد الإرادة يوجد إرادة واحدة تخييرية قائمة

٥٢

بالجامع ، وهي فعلية من أول الأمر ، وقبل تحقق الشرط ، وغير مشروطة ، وتتطور إلى إرادة تعيينية عند وجود الشرط خارجا.

هذا تمام تحقيق حال الإرادة المشروطة.

بناء على هذا ، فإن التزمنا في باب الأحكام بأن الحكم في عالم الثبوت له مرحلتان فقط هما : مرحلة الملاك ومرحلة الإرادة والشوق ، دون الالتزام بمرحلة الجعل والاعتبار ثالثة ، بل هاتان المرحلتان هما روح الحكم وملاكه ، وعند اكتمالهما يبرز المولى هذه الإرادة للمكلفين ، تارة بجملة خبرية بأن يقول أريد منك كذا ، وأخرى بجملة إنشائية بأن يقول : صلّ ، «صم» وشبه ذلك من التّفنّن في إبراز الإرادة ، ويبقى مدلول الإبراز التصديقي في كل هذه الصيغ هو هذه الإرادة.

وبناء على هذا لم يبق مجال لكلام آخر بلحاظ عالم الثبوت في الواجب المشروط ، وحينئذ يكون الحكم عبارة عمّا يستكشف من إبراز المولى الإخباري ، أو الإنشائي ، لإرادته بخطابه.

وهذا الخطاب الذي به يبرز المولى إرادته ، له كشفان : أحدهما كشف عن الإرادة المشروطة ، والآخر كشف عن الإرادة المطلقة طبقا لما تقدّم من التلازم بين الإرادتين. وهذان الكشفان لخطاب المولى ثابتان حتى لو كان الخطاب بالصيغة الشرطية ، كما في قوله : «إذا استطعت فحج» فإنه يكشف بالمطابقة عن الإرادة المشروطة ، وبالالتزام عن الإرادة المطلقة الفعلية ، وبكشف المولى بخطابه عن تلكما الإرادتين ، ينتزع عنوان الباعثية والمحركية ، إذ إنّ الباعثية والمحركية ينتزعهما العقل من خطاب المولى باعتبار كشفه عن إرادة المولى التي هي موضوع تحرّك العبد وانبعاثه نحو مراد المولى ، وحيث أن خطاب المولى يكشف عن إرادتين له ، حينئذ ينتزع العقل منه باعثيتين بلحاظ كل من الكشفين ، وتكون كل باعثية على طبق الإرادة المنكشفة ، فالباعثية المنتزعة من الخطاب باعتبار كشفه عن الإرادة المشروطة ، تكون باعثية مشروطة ، وإن كانت الإرادة المنكشفة بالدلالة الالتزامية ، إرادة مطلقة

٥٣

تكون الباعثية باعثية مطلقة ، هذا كله بناء على الالتزام بوجود مرحلتين في عالم الثبوت هما : مرحلة الملاك ، ومرحلة الإرادة والشوق.

وأمّا إذا التزمنا في عالم الثبوت بوجود مرحلة ثالثة اسمها «الجعل والاعتبار» ، حينئذ يقع البحث ثبوتا في حقيقة الواجب المشروط بلحاظ مرحلة الجعل والاعتبار.

ولكن قبل الدخول في بحث حقيقة الواجب المشروط بلحاظ مرحلة الجعل والاعتبار ، ينبغي أن نوضح إشكالا سابقا في برهان النظرية الأولى مع جوابه ، حيث أنهم كانوا قد ذكروا هناك : بأن المولى ، قبل أن تتحقق الاستطاعة والعطش خارجا ، فهو يصدر الخطاب ، مع أن الخطاب إنما يصدره المولى توصلا إلى مراده ، واستطراقا إلى مطلوبه ، وهذا يكشف عن فعلية الإرادة ، وقد أجبنا هناك بجواب إجمالي حيث قلنا إنّ صدور الخطاب ـ كما ذكر ـ إنما كان من باب المقدمات المفوّتة.

ولكن تفصيل هذا الجواب الإجمالي ، هو أن يقال : إنّ صدور الخطاب من المولى قبل الاستطاعة والعطش ، إنما كان بمحركية الإرادة الثانية لا الأولى ، حيث قلنا فيما تقدّم : إنّ المولى له إرادة فعلية مطلقة متعلقة بجامع «أن لا يوجد عطش لا ماء معه». ومن الواضح أنه لو لم يجعل هذا الخطاب من أول الأمر ، إذن فسوف يوجد عطش لا ماء معه ، وحينئذ ، فباعتبار التحفظ من ناحية هذه الإرادة الفعلية غير المنوطة يصدر الخطاب ، فالخطاب إذن من شئون محركيّة الإرادة الثانية دون الأولى.

٣ ـ المرحلة الثالثة :

من مراحل الحكم هي مرحلة الجعل والاعتبار بعد مرحلتي الملاك والإرادة ، وهذه المرحلة وإن لم يكن لها أي أثر في مقام الثبوت ، لأن تمام الأثر في نظر العقل إنما هو عالم الملاك والإرادة مع تصدّي المولى لإبرازهما وتحصيلهما ، ولكن رغم هذا فقد يقال إنّ هذه المرحلة هي صياغة عقلائية

٥٤

جرى عليها العقلاء في مقام صياغة العالم الأول والثاني ، حيث يصوغون إراداتهم وكراهاتهم بلسان الجعل والاعتبار ، كتنظيم عقلائي بين الموالي والمكلفين. وحينئذ بناء على هذه المرحلة أيضا ، يقع البحث في أن الشرط في الواجب المشروط هل هو قيد في متعلق الإلزام ، أو هو قيد في الإلزام نفسه بالضبط ، كما جرى هذا السؤال في عالم الملاك والإرادة؟.

والصحيح في المقام : أن القيد قيد في نفس الإلزام والوجوب ، وليس في متعلقه ، وقد يبرهن على هذا بمجموع أمرين :

أ ـ الأمر الأول : هو أن كل قيد اختياري أخذ قيدا في متعلق الإلزام ، أي : في الواجب ، لا بد أن يكون محرّكا نحوه من قبل ذلك الوجوب ، لأن فرض كون القيد قيدا في الواجب ، هو فرع فعلية الوجوب قبله ، ومع فعلية الوجوب قبله ، يكون الوجوب محرّكا نحو متعلقه ، ومتعلقه هو المقيّد ، والتحريك نحو المقيّد ، تحريك نحو القيد. إذن فكل قيد اختياري أخذ قيدا في الواجب ، لا بدّ من كون الوجوب محرّكا نحوه.

ب ـ الأمر الثاني : هو أن القيود غير الاختيارية ، يستحيل أن تؤخذ قيدا في الواجب ، بل يجب أخذها قيدا في الوجوب ، لأنها لو أخذت قيدا في الواجب للزم محركية الواجب نحوها ، كما يلزم أيضا كون الوجوب فعليا قبل وجودها وقد قلنا : إنّ فعلية الوجوب مساوقة مع محركيته نحو متعلّقه ، ومتعلقه هو المقيّد ، والتحريك نحو المقيّد تحريك نحو القيد ، وقد فرض أن القيد غير اختياري ، والتحريك نحو غير الاختياري غير معقول.

وبناء على هذين الأمرين نقول : إنّ الاستطاعة التي هي شرط في الواجب المشروط ، لو أنها أخذت قيدا في الواجب لا في الوجوب ، حينئذ فإمّا أن تكون مأخوذة قيدا في الواجب بمطلق وجودها ، وإمّا أن تكون قد أخذت قيدا بوجودها الاتفاقي الغير ناشئ من الوجوب.

فإن كانت هذه الاستطاعة قد أخذت في الواجب بمطلق وجودها ، إذن

٥٥

يلزم بحكم الأمر الأول ، أن يكون الوجوب محرّكا نحوها ، كما يلزم أن يعاقب المكلف إذا لم يسع لتحصيلها ، وقد عرفت أن التحريك نحوها خلف ، لأننا نريد أن نتصور وجوب الحج بنحو لا يحرّك نحو الاستطاعة.

وإن كانت هذه الاستطاعة قد أخذت قيدا في الواجب بوجودها الاتفاقي اللّااختياري الغير ناشئ من الوجوب لا بمطلق وجودها ، إذن فوجودها الاتفاقي غير اختياري للمكلف ، ولا يعقل التحريك نحوه ، وحينئذ يلزم محذور الأمر الثاني ، وهو أخذ القيد غير الاختياري قيدا في الواجب ، وهو غير معقول ، كما برهن في الأمر الثاني. وبهذا يتعيّن أن تكون الاستطاعة مأخوذة قيدا في الوجوب ، لا في الواجب.

والخلاصة هي : إنّه بعد أن تبيّن إمكان تصور المطلق والمشروط في المرحلة الثالثة من مراحل مقام الثبوت ، وهي مرحلة الجعل والاعتبار ، وتبيّن أن جملة من القيود لا بدّ أن تكون قيودا للوجوب ، لا للواجب محضا.

حينئذ يمكن رسم وتأسيس ضابطة كلية قائمة على أصل موضوعي ، نكتته وروحه هي : إنّ كل قيد لم يؤخذ قيدا في الوجوب ، بل أخذ محضا في الواجب ، يلزم محركية الوجوب نحوه.

وقد عرفت أنّ محركيّة الوجوب نحو قيد الواجب ، فرع فرض فعلية الوجوب قبل وجوده ، وهو فرع فرض فاعلية هذا الوجوب ومحركيته ، وبمحركية الوجوب نحو قيد الواجب غير الاختياري ، يلزم المحذور المتقدم ،

وبهذا يمكن أن نؤسس لضابطة كلية بها ، يمكن أن نعرف أيّ القيود يجب أن تؤخذ في الوجوب ، وأيّ القيود يجب أن تؤخذ في الواجب وحينئذ نقول :

إن الشروط والقيود على قسمين بلحاظ عالم الملاك :

أ ـ القسم الأول : شروط في أصل اتصاف الفعل إنّه ذو ملاك ، وفي أصل

٥٦

احتياج المكلف إلى الفعل ، من قبيل برودة الهواء بالنسبة إلى النار ، والاستطاعة بالنسبة إلى الحج.

ب ـ القسم الثاني : هو ما يكون قيدا في ترتب المصلحة خارجا ، مع فرض فعليّة الاتصاف قبله ، من قبيل سدّ المنافذ بالنسبة للدفء ، والتحريك الخارجي بالنسبة لوقوع الحج.

أمّا القسم الأول من القيود ، فهي تارة تكون اختيارية ، بمعنى أنه يمكن الإلزام بها من قبل المولى ، وأخرى يفرض أنها ليست اختيارية ، بمعنى أنه لا يعقل الإلزام بها من قبل المولى.

فإن فرض كون هذه القيود في أصل اتصاف الفعل بأنه ذو مصلحة ، فإن فرض كونها قيودا اختيارية ، فهذه القيود لا يمكن سحبها من الوجوب ، وأخذها في الواجب محضا ، وذلك ببرهان عدم المقتضي لذلك ، لأن هذه القيود هي التي بها يتحقق الملاك ، فلو فرض أنها سحبت عن الوجوب ، وأخذت في الواجب ، لزم بناء على الأصل الموضوعي المتقدم ، أن يكون الوجوب محرّكا نحوها ، لأنها سحبت عن الوجوب ، وأخذت في الواجب ، مع أنه لا مقتضي للتحريك نحوها ، إذ إنّ المولى لا مقتضي عنده لكي يحرك نحو شيء يكون دخيلا في أصل اتصاف الفعل في كونه ذا مصلحة ، بل المولى يحرك نحو المصلحة لو اتصف الفعل بها ، لا أنه يحرك نحو أن يتصف الفعل في أنه ذو مصلحة.

إذن فالتحريك نحو هذا القيد بلا مقتضي ، وبهذا البرهان يستحيل جر القيود من دائرة الوجوب ، وأخذها في دائرة الواجب إنّها للزوم التحريك نحوها ، مع أن هذا التحريك بلا مقتض ، وبهذا يتعيّن أن تكون قيودا في الوجوب.

وإن فرض كون هذه القيود الاتصافية إنّها ليست اختيارية ، بمعنى عدم معقولية الإلزام بها مولويا ، إمّا لأنها خارجة عن الاختيار محضا كالزوال ،

٥٧

وطلوع الفجر ، وإمّا لكون هذه القيود ، وإن كانت اختيارية في نفسها ، ولكن قيّدت بكونها اتفاقية ، حينئذ لا يعقل التكليف بالحصة الاتفاقية من قبل المولى ، وحينئذ أيضا ، البرهان قائم على أنه لا يمكن سحب هذا القيد من دائرة الوجوب ، وأخذه في الواجب محضا ، وذلك لعدم المقتضي ، ولوجود المانع معا.

أمّا عدم المقتضي فلنفس البيان السابق ، إذ إنّ هذه القيود لو سحبت من دائرة الوجوب ، وأخذت في الواجب محضا ، يلزم محركية الوجوب نحوها بناء على الأصل الموضوعي السابق ، والتحريك نحوها بلا مقتض ، لأن المولى لا يهمه أن يحدث ملاك ، وإنما الذي يهمه أنه لو حدث الملاك ، فيجب أن يستوفى. وأمّا المانع ، فلأن هذه القيود قيود غير اختيارية ، والتكليف بغير الاختياري غير معقول ، فلو فرض أن هذا القيد أخذ في الواجب محضا دون الوجوب ، إذن يلزم فعلية الوجوب قبل وجوده ، وفعلية الوجوب مساوقة مع محركيته ، إذن فيكون محركا نحو متعلقه ، ومتعلقه المقيّد ، والتحريك نحو المقيّد بما هو مقيّد ، تحريك نحو القيد أيضا ، مع أن القيد غير اختياري في المقام. إذن فالمانع موجود.

وعليه فقيود الاتصاف أجمع ، لا يمكن سحبها من دائرة الوجوب ، وأخذها في دائرة الواجب ، أمّا ما كان منها اختياريا فلعدم المقتضي ، وأمّا ما كان منها غير اختياري فلعدم المقتضي ولوجود المانع أيضا. وبهذا يتعين أن قيود الاتصاف سواء أكانت اختيارية ، أو غير اختيارية ، يتعين أخذها قيودا في الوجوب ، ولكن بعد أخذها هكذا ، لا مانع من أخذها قيدا في الواجب ، فيقول : من استطاع يجب عليه الحج المقرون مع الاستطاعة ، بحيث لو أخّر الحج إلى أن زالت عنه الاستطاعة ، وحجّ متسكعا بعد ذلك ، لم يقبل منه ، فيكون القيد للوجوب وللواجب وهذا أمر معقول لو فرض أن وقوع الفعل مقارن مع هذا القيد دخيل في ترتب المصلحة خارجا ، بحيث أن المصلحة المطلوبة من الحج لا تقع إلّا إذا وقع الحج قبل زوال الاستطاعة ، فحينئذ لا

٥٨

بأس بأن تؤخذ الاستطاعة قيدا في الوجوب ، وقيدا في الواجب ، لوجود المقتضي وعدم المانع.

أمّا وجود المقتضي : فلما افترض من أن المصلحة لا تترتب خارجا إلّا على الحصة من الحج المقرونة بالاستطاعة.

وأمّا عدم المانع فباعتبار أن المانع كان هو التكليف بغير المقدور ، وهنا أخذ الاستطاعة التي هي غير مقدورة في الواجب ، لا يلزم منها التكليف بغير المقدور ، لأنها قد أخذت قيدا في الوجوب أيضا.

إذن ففرض فعلية الوجوب هو فرض وجود القيد خارجا ، ومع وجود القيد خارجا حينئذ يكون تحريك الوجوب تحريكا نحو المقيّد الذي وجد قيده ، والتحريك نحو المقيد الموجود قيده ، هو تحريك نحو ذات المقيد ، والتقيّد ، لا نحو القيد ، لأن المقيّد هو عبارة عن ذات المقيّد والتقيّد والقيد ، فإذا فرضنا أن القيد أخذناه في الوجوب ، فأيضا نكون قد أخذناه في الواجب ، وحينئذ فرض فعلية الوجوب هو فرض وجود القيد ، ومع وجود القيد ، يكون التحريك نحو المقيد تحريكا نحو ذات المقيّد والتقيّد ، لا نحو القيد ، لأن القيد مفروض الوجود في المقام ، وذات المقيّد والتقيّد كلاهما اختياري في المقام ، فالتحريك نحوهما أمر معقول ، ولا يلزم منه محذور.

وأما القسم الثاني ، وهي القيود الدخيلة في وقوع المصلحة خارجا ، فهي على قسمين :

أ ـ القسم الأول : منها ، ما يكون اختياريا.

ب ـ القسم الثاني : منها ، ما لا يكون اختياريا.

وحينئذ فإن فرض كونها اختيارية : إذن فلا تؤخذ في الوجوب ، بل تؤخذ محضا في الواجب ، لأن المقتضي موجود والمانع مفقود ، أمّا كون المقتضي موجودا لأخذها في الواجب ، فلأنها دخيلة في وجود المصلحة بعد فرض فعلية المصلحة ، فيكون التحريك نحوها موافقا مع المقتضي المولوي

٥٩

في نفس المولى ، وأمّا كون المانع مفقودا ، فلأن المانع هو لزوم التحريك نحو أمر غير اختياري ، والمفروض أن هذا النوع من القيود اختياري ، إذن فلا يلزم التحريك نحو أمر غير اختياري ، وإن فرض كون قيود هذا القسم أنها غير اختيارية ولكنها قيود في ترتب المصلحة خارجا ، لا في اتصاف الفعل في كونه ذا مصلحة ، كما لو فرض أن طلوعا من نهار شهر رمضان قيد في ترتب المصلحة ووجودها ، لا في اتصاف الصوم بأنه ذو مصلحة ، ولكن هذا القيد غير اختياري ، في مثل ذلك لا يعقل سحبه من دائرة الوجوب ، وأخذه محضا في الواجب ، بل لا بدّ من أخذه في دائرة الوجوب ، مضافا إلى أخذه في الواجب ، إذ لا يعقل إطلاق الوجوب من ناحيته ، وإن كان مقتضي إطلاق الوجوب موجودا ، لأن المفروض أن هذا القيد ليس دخيلا في اتصاف الفعل في كونه ذا مصلحة ، إذ لو كان يمكن للمولى أن يجعل الوجوب مطلقا لجعله ، ولكن لوجود المانع.

وذلك لأن الوجوب إذا كان مطلقا وغير مقيد بذلك القيد ، إذن سوف يكون مطلقا من ناحيته ، وإذا كان مطلقا من ناحيته ، يلزم كونه محركا نحو المقيّد حتى في حالات عدم وجود القيد ، وهو تحريك نحو أمر غير اختياري ، وهو غير معقول.

نعم هناك استثناء واحد لهذا الحكم وهو فيما إذا أحرز المولى في نفسه ، أن القيد سوف يوجد خارجا في حق جميع المكلفين الذين جعل الخطاب في حقهم ، وأن الفجر طالع يقينا ، حينئذ وإن كانت قيود الترتب والوجود قيودا غير اختيارية ، ولكن لمّا كان المولى في نفسه يعلم بوجودها ، حينئذ لا بأس بجعل الوجوب مطلقا من ناحيتها ، لأن إطلاق الوجوب من ناحيتها غاية ما يلزم منه هو محركية الوجوب نحو المقيّد ، بقيد غير اختياري ، ولكن المقيد بقيد غير اختياري سيكون وجوده اختياريا ، وإنما يكون القيد بغير الاختياري غير اختياري فيما إذا لم يضمن وجود القيد الغير اختياري ، وأمّا في حالة ضمان وجود القيد غير الاختياري حينئذ يكون المقيّد به اختياريا لا محالة.

٦٠