بحوث في علم الأصول - ج ٥

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٣

بالحمل الأوّلي كان عاريا عن الوجود ، فالحكم بالزوجية يلازم الماهية مع ملاحظة المفهوم بالحمل الأولي.

وهذا دليل على أنّ اللازم ثابت لنفس الماهية بقطع النظر عن الوجود ذهنا وخارجا.

وأمّا ما أثير من شبهة أنّ الماهية أمر اعتباري فكيف تكون موجدة للّازم؟ ، هذه الشبهة في غير محلها ، لأنّ لازم الماهية ، نسبته إلى الماهية ، نسبة الصفة إلى الموضوع ، لا نسبة المعلول إلى العلة ، فإمكان الإنسان ، موضوعه ، الإنسان ، وزوجية الأربعة ، موضوعها الأربعة ، ولكن ليست العلة هي الإنسان أو الأربعة ، لأنّ لوازم الماهية ليس لها وجود أصلا ، بل هي واقعيّة في نفسها غير موجودة ، إذ إنّ لوح الواقع أوسع من لوح الوجود ، فهناك أشياء واقعية بنفسها ، لا علة لها كالواجب بالذات ، غاية الأمر ، أنّ الواجب بالذات ، وجوده واجب ، لأنّه محض الوجود ، وأمّا الزوجية ، فهي بنفسها واجبة بالذات ، لا بوجودها ، بمعنى أن ثبوتها للموجود الذي هو الأربعة واجب بالذات ، بينما واجب الوجود بالذات ، وجوده واجب بالذات لأنّه محض الوجود ، فلا يلزم تعدّد واجب الوجود ، إذن فالزوجية صفة ثابتة ذاتيا بنفسها ، لا بوجودها فلا علة لها.

إذن فالصحيح ما عليه المشهور ، من أنّ لوازم الماهيّة هي التي تكفي نفس الماهية في وجودها ، بخلاف لوازم الوجود ، فإنه لا يكفي في وجودها إلّا وجود الماهيّة خارجا.

وأمّا أنّ لوازم الوجود مجعولة ، فلأن نسبتها إلى الملزوم نسبة المعلول إلى العلة ، فالحرارة مجعولة بالتبع ، لأنّ الله تعالى جعل النار بالمباشرة.

وأمّا لوازم الماهيّة فليست فيها معلوليّة ، فلا يكون فيها مجعولية ، وإنما هي أمور انتزاعيّة تكون الماهيّة منشئا لها ، ولذا يقال : إن لوازم الماهية مجعولة بالعرض ، بمعنى أنّ جعل نفس الماهيّة ، هو جعل للأربعة حقيقة ،

٣٠١

ونفس هذا الجعل ينسب إلى الزوجية عرضا ومجازا وانتزاعا ، وهذا غير مصطلح الجعل بالتبع ، فإنّه يطلق على لوازم الوجود بلحاظ جاعل ملزومها ، فالحرارة إذا قيست إلى النار ، فهي مجعولة بالأصالة ، وإذا قيست إلى خالق النار ، فهي مجعولة بالتبع والعرض.

وبهذا اتضح أنّ اللوازم على قسمين : لوازم ماهية ، ولوازم وجود ، والثانية نسبتها إلى ملزومها ، نسبة المعلول إلى العلة ، فهي مجعولة من قبل ملزومها بالمباشرة ، ومن قبل جاعل ملزومها بالتبع.

وأمّا الأولى ، فنسبتها إلى الماهيّة ، نسبة الأمر الانتزاعي إلى محطّ انتزاعه ، وهي ليست مجعولة أصلا ، فتكون مجعولة بالعرض والمجاز لا بالحقيقة.

وحينئذ ، إذا أتينا إلى محل الكلام ، نرى أن وجوب المقدمة ، بحسب ظاهر «الكفاية» ، نرى أنّه من لوازم الماهيّة ـ إن كان المحقق الخراساني «قده» يجري على الاصطلاح ـ وإنما استظهرنا كون وجوب المقدمة من لوازم الماهيّة ، لأنه عبّر عنه بالمجعول بالعرض ، ولم يعبّر بالتبع.

ولكن من الواضح ، أنّه من لوازم الوجود ، لتعدد الوجود خارجا ، وتعدّد الجعل تشريعا ، فإن الشوق النفسي إلى ذي المقدمة فرد من الشوق ، غير الشوق المتعلق بالمقدمة ، فهنا شوقان : أحدهما نفسي ، والآخر غيري.

ومعنى هذا ، أن وجوب المقدمة من لوازم الوجود لا الماهيّة ، إذ من دون وجود وجوب لذي المقدمة ، لا وجوب غيري ، لأنّ هذا يترشح من ذاك. فالتعبير بأنه مجعول بالعرض كما في «الكفاية» غير مفهوم.

ـ وأما النقطة الثالثة : وهي أنّه لو سلمنا الكبرى ، وهي اشتراط أن يكون المستصحب مجعولا للشارع ، وسلّمنا أنّ وجوب المقدمة من لوازم الماهية ، وأنه مجعول بالعرض لا بالحقيقة ، لو سلّمنا بكل هذا ، فهل يكفي ذلك في مقام الجواب ، بأن نقول : إنّه مجعول بالعرض؟. وهل هذا يكفي لدفع

٣٠٢

الإشكال ولصحة إجراء الاستصحاب؟. أو فرضنا أنّا فسّرنا المجعول بالعرض بالمجعول بالتبع ، وقلنا : إنّ وجوب المقدمة من لوازم الوجود ، فهل يكفي هذا لإجراء الاستصحاب؟.

الظاهر أن المطلب لا يخلو من إشكال ، لأننا في الكبرى ، اشترطنا كون مورد الاستصحاب مجعولا من قبل الشارع ، لأن الاستصحاب تصرّف من قبله ولا يمكن إجراؤه إلّا على القابل لذلك ، وحينئذ نقول : إن هذا المجعول بالعرض وبالتبع يقبل الرفع حقيقة ، ولكن الرفع بالعرض أو بالتبع ، لا الرفع بالذات.

فإن اشترطنا هذه القابلية ، حينئذ ، لا بدّ من أن نجعل الرفع الاستصحابي رفعا بالعرض أو بالتبع ، وهذا معناه رفع الأمر بذي المقدمة وهو خلف.

وإن قلنا : بإنه وإن كان لا يقبل الرفع بالأصالة ، ولكن لا بأس بأن يرفع بالأصالة تعبّدا ، فهذا إنكار للكبرى التي فرضنا التسليم بها.

وحاصل الكلام ، هو : إنّ الرفع الذي يعقل بالنسبة إلى هذا المجعول بالعرض أو بالتبع ، إنّما هو الرفع بالعرض أو بالتبع.

فإن أردتم بالاستصحاب الرفع بالتبع أو العرض ، فهذا يساوق رفع الأمر بذي المقدمة ، وهو خلف.

وإن أردتم رفعه بالذات ، مع أنه لا يقبل الرفع بالذات ، فهذا رجوع إلى إنكار الكبرى التي فرغنا عنها ، فالنقطة الثالثة إذن لا تفيد ما أريد بها من فائدة.

والخلاصة ، هي إنّه في مثل المقام لا يمكن إجراء الاستصحاب ، وذلك لأنه إن أريد بالتعبّد الاستصحابي نفس الموجود بالعرض أو بالتبع دون الموجود بالذات وبالأصالة ، فهذا ليس تحت تصرف المولى أيضا ، والمفروض اشتراط كون المستصحب تحت تصرف المولى.

٣٠٣

وإن أريد بالاستصحاب نفي الموجود بالعرض أو بالتبع ظاهرا ، أي : رفع الأثر العملي من وجوده ، فهذا خلف اشتراط كون المستصحب تحت تصرف الشارع ، وإنكار للكبرى ورجوع للالتزام بالكبرى الأخرى التي فرغنا عنها في النقطة الأولى ، وبهذا ننهي الكلام عن الأصل العملي ، ونستأنف الكلام في الملازمة مباشرة ، لتحقيق أنّه : هل يوجد ملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته؟.

٣٠٤

الجهة الثامنة

الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدمته

والذي ينبغي أن يقال في هذا المقام ، هو أن الوجوب له ثلاث مراحل :

أ ـ عالم الملاك ، أو عالم المصالح والمفاسد.

ب ـ عالم الشوق والحب والبغض.

ج ـ عالم الجعل والإنشاء والاعتبار.

وفي المقام ، لا ينبغي إدخال العالم الأول في النزاع والخلاف ، إذ لا ينبغي الخلاف في أنّه لا يوجد ملاك نفسي للمقدمة ، وإلّا لكان خلف كونها واجبا غيريا ، كما أنّه لا معنى لأن يقال : إن وجود مصلحة في ذي المقدمة يستوجب مصلحة نفسية في المقدمة ، كما أنه لا إشكال في وجود مصلحة غيرية في المقدمة ، وهي تسهيل الوصول إلى ذيها ، إذن فالملاك النفسي في المقدمة مقطوع العدم ، وإنّما ينحصر الخلاف في العالمين الآخرين في الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته ، وحينئذ يقال :

إن الصحيح هو عدم وجود ملازمة بين الوجوبين في عالم الجعل والإنشاء والاعتبار ، وذلك لأن الملازمة المدّعاة ، تارة تدّعى بنحو الاستتباع القهري ، من قبيل استتباع الإحراق للإلقاء في النار ، وأخرى تدّعى الملازمة بمعنى كون أحد الأمرين يحقق داعيا ومناسبة للّازم الآخر ، من قبيل أن يزور زيدا فتكون هذه الزيارة داعيا لأن يزور أباه من دون استتباع قهري.

٣٠٥

إذن فالملازمة لها نحوان :

فإن ادّعي النحو الأول : فهو غير معقول أصلا بين الجعلين ، لأنّ الجعل فعل اختياري للجاعل ، يصدر منه بالإرادة والسلطنة والاختيار ، فلا معنى لأن يكون جعله لذي المقدمة مستلزما لجعل المقدمة.

والملازمة القهرية أنما تتعقل بين الأفعال ونتائجها الخارجية ، لا بين فعلين مباشرين للفاعل ، يستند كل منهما إلى مبادئه من الاختيار والإرادة ، لا لفعل مباشري آخر. إذن فإنشاء الوجوب النفسي لا يعقل أن يستتبع قهرا إنشاء للوجوب الغيري.

وإن ادّعي النحو الثاني : بمعنى كون أحد الأمرين يحقّق داعيا ومناسبة للّازم الآخر ، فهو أمر معقول ، إذ قد يوجد فعلا مناسبة لفعل آخر ، كما لو كانت زيارته لزيد مناسبة وداعيا لأن يزور أباه ، ولكن هذا الأمر المعقول غير واقع في المقام ، إذ ليس هناك داع لإيجاب المقدّمة في عالم الجعل والإنشاء ، لأن الجعل له داعيان وكلاهما مفقود.

ـ الداعي الأول للجعل : هو أن يبرز المولى شوقه وعواطفه النفسية ، ولذا قلنا سابقا : بأنّ الجعل له دور الكشف عن العالم السابق.

ـ الداعي الثاني للجعل : هو أنّ المولى يريد أن يعيّن مركز المسئولية ويحدّدها ، لأنه قد يشتاق إلى شيء ، ولكن يلقي في عهدة المكلّف بعض مراحل هذا الشيء لا نفسه ، فمثلا ، المولى يشتاق فيما يشتاق إليه ، إلى أن يكون المكلّف بعيدا عن الفحشاء والمنكر ، ولكن لا يريد أن يجعل ذلك في عهدته ، لأنه لا يحسن التصرف ، فيجعل في عهدته مقدمة المحبوب وهو الصلاة ، مع أن الصلاة هي ذي المقدمة وليست المقدمة ، ولكنه يدخل المقدمة في العهدة ، ويكون هذا الجعل بالجعل والاعتبار والإنشاء ، وبهذا الجعل يحدّد أنّ ما يدخل في عهدته «ما هو» فيدخل المقدمة في العهدة.

ـ وإن شئت قلت : إنّ الداعي الثاني للجعل هو أن يكون المولى في مقام

٣٠٦

تحديد مركز المسئولية ، وتعيين ما يدخل في عهدة المكلّف ، كما لو فرض أنّ مقدمات المحبوب المولوي ليست جميعها تحت قدرة المكلّف ، فيترك له الفرصة في تحقيق محبوبه عند التمكن ، وبهذا الجعل ، يكون قد حدّد ما يدخل في العهدة ، وبهذا التحديد يكون كأنه أدخل المقدمة في العهدة أيضا ، وكلا هذين الأمرين لا يعقل تصوره هنا.

أمّا الأول فغير صحيح باعتبار أنّ الشوق إلى المقدمة يكفي في مقام الكشف عنه ، نفس جعل وجوب ذي المقدمة ، لو تمّت الملازمة بين الشوقين في العالم الثاني ، وإن لم تتم الملازمة بين الشوقين ، فلا شوق إذن حتى يكشف عنه نفس جعل ذي المقدمة.

فالنتيجة ، هي : إنّه إن كانت ملازمة بين الشوقين ، فإن الجعل الكاشف عن الشوق الملزوم بالمطابقة ، يكشف عن الشوق اللّازم بالالتزام.

وأمّا الداعي الثاني ، فغير صحيح ، لأن تحديد مركز المسئولية وما يدخل في عهدة المكلّف ، إنما هو المحبوب المولوي ، لأن الدخول في العهدة مساوق للتنجز ، وقد عرفت غير مرة أن الواجب الغيري لا عقاب له ، ولا ثواب له ، حتى يدخل في العهدة ، إذن فلا يقبل التنجز ، وعليه ، فكلا الداعيين غير موجود ، إذن فالملازمة بالنحو الثاني غير صحيحة.

وأمّا الملازمة في عالم الشوق والحب ، بمعنى أنّ الشوق إلى ذي المقدمة هل يكون علة للشوق إلى المقدمة؟.

والتحقيق فيه ، هو التلازم والعلية بين الحب النفسي والحب الغيري ، بعد أن كان الشوق من الأمور التكوينية ، وشأنه أن يستتبع قهرا أمرا تكوينيا آخر ، وهذا هو ملاك الحب النفسي إن لم يكن هو نفسه ، وهذا بخلاف الجعل والإنشاء والاعتبار ، فإنها من الأفعال الاختيارية ، ويمكنك أن تتأكد من تشخيص هذا التلازم والعليّة من خلال العلل التكوينيّة بين الأشياء في عالم الطبيعة ، حيث لا يمكن فيها إثبات عليّة شيء لشيء بالبراهين العقلية ، كما في

٣٠٧

إثبات عليّة النار للإحراق ، فإن الإنسان مهما أوتي من قوة الفكر ، يبقى عاجزا عن ذلك ، دون أن يهتدي إليه ، ما لم يجرب ويضع يده في النار ، حينئذ يدرك اقتران المعلول بعلّته ، أو يرى أثار المعلول ، دون أن يملك في هذا الاستتباع والاقتران أيّ اختيار.

وهذه هي الطريقة العامة لإثبات أيّ سببية محتملة بين شيئين ، ولا ينبغي سلوك طريقة البراهين القبلية لإثبات أنّ حب ذي المقدمة علة لحب المقدمة ، بل لا بدّ من الاستقراء والملاحظة والتجربة الوجدانية التي وعاؤها النفس ، حيث لا مطمع في برهان إلّا الوجدان ، إذ هو الذي يدرك التلازم بين إرادة الواجب النفسي وبين مقدماته ، وأن الإنسان دائما كلّما أراد شيئا أراد مقدماته تبعا لمراده النفسي (١).

وهذا الوجدان لم ينكره حتى أولئك الذين التزموا رسميا بعدم وجوب المقدمة ، كالسيد الخوئي «قده» (٢) ، حيث يصرح بذلك الوجدان ثم يستدرك على نفسه ، بأنّ هذا ليس قولا بوجوب المقدمة ، إذ الوجوب حكم شرعي بينما الشوق ليس حكما شرعيا.

ولكن الصحيح إنّ هذا القول هو قول بالوجوب ، إذ إنّ النزاع ليس في الألفاظ ، وإنما البحث في وجوب المقدمة بالقدر الذي يحقّق ثمرة النزاع ، والثمرة هي وقوع التعارض بين دليل الأمر بالإنقاذ ، وبين دليل حرمة الغصب ، بناء على القول بوجوب مطلق المقدمة ، لأنّ خطاب «أنقذ» يترشح منه وجوب غيري على دليل «الغصب» ، فيجتمع دليلان على شيء واحد وهما «أنقذ ولا تنقذ» ، بينما لا يقع التعارض على القول بعدم الوجوب ، ولكن بعد اعترافنا بترشح حب مولوي من ذي المقدمة مطلق على المقدمة يقع التعارض.

ونحن لسنا وقفا على اصطلاحات الحكم ، بل نحن تبعا للثمرة ، إذ لا

__________________

(١) بل تكاد تكون إرادة المقدمات شأنا تكوينيا من شئون المراد للنفسي الأصلي.

(٢) أجود التقريرات : ج ١ ص ٢٣١.

٣٠٨

يفرق الحال فيها بين كون الوجوب الغيري هو الجعل أو الحب ، فإنّ ميزان التعارض إنما هو الحب مع البغض ، وليس الجعل مع الحب ، ولا الجعل مع الجعل.

وعليه ، فيكون هذا القول قولا بوجوب المقدمة ، غاية الأمر أنه وجوب وجعل بلحاظ عالم الشوق والحب.

ثم إنّه بقيت أدلة حاول القائلون بوجوب المقدمة أن يستدلوا بها نستعرضها تباعا :

الدليل الأول :

وهو يتكون من مقدمتين : كبرى ، وصغرى.

أمّا الكبرى : فهي أنه كلما صحّ على الإرادة التكوينية ، يصح على الإرادة التشريعية ، لأنهما من سنخ واحد.

وأمّا الصغرى : فهي أنه يصح على الإرادة التكوينية الملازمة بين إرادة الشيء وإرادة مقدمته ، فينتج أنه تصدق الملازمة في جانب الإرادة التشريعية.

والصغرى في هذا الدليل يمكن أن تقرّب بأحد تقريبين :

التقريب الأول : هو أنه قد صحّ إن إرادة ذي المقدمة تستلزم إرادة المقدمة ، بمعنى إن كل من اشتاق أن يأتي بفعل ، فهو يشتاق للإتيان بمقدماته ، وذلك بدليل أنه يأتي بالمقدمة ، وإلّا فلو لم يصح ، لما أتى بالمقدمة ، وهذا البرهان «إنّي» ، بمعنى أنّ المريد يأتي بالمقدمة ، وهذا معلول للشوق الغيري ، فهو مشتاق إذن للمقدمة ، إذ الفعل الصادر عن المختار ، ما كان ليصدر لو لم تتعلق به الإرادة.

وهذا البرهان «الإنّي» هو الذي يميّز الإرادة التشريعية عن الإرادة التكوينية ، إذ إنّه غير موجود في الإرادة التشريعيّة ، ومن هنا جعلت الملازمة في الإرادة التكوينية أمرا مفروغا عنه ، ولذلك استدلّ به على الإرادة

٣٠٩

التشريعية ، وحينئذ بضم تلك الكبرى نثبت الملازمة في طرف الإرادة التشريعيّة.

وهذا التقريب غير تام ، وذلك لأن البرهان «الإنّي» على الملازمة بين الشوقين ، وهو استكشاف وجود الشوق الغيري إلى المقدمة ، بلحاظ أنّ الفاعل يأتي بها خارجا ، مثل هذه الملازمة ، غير تامة ، لأنّ الإتيان بها لا يكشف عن الشوف للمقدمة ، بل قد يكون أتى بها بمحركيّة الشوق والإرادة التكوينية المتعلقة بذي المقدمة ابتداء ، فلذلك يعمل الفاعل قدرته بإتيان المقدمة أولا ، ثم ذي المقدمة ثانيا ، إذن فليس صدور المقدمة كاشفا «إنّيّا» عن الشوق إلى ذي المقدمة.

وحينئذ يمكن لمن يشكّك في الملازمة بين الإرادتين في التشريعية ، أن يشكك في الإرادة التكوينيّة أيضا ، ويقول : لا ملازمة بين الشوقين والإرادتين حتى لو سلّمت الكبرى ، إذ لم تثبت الملازمة في طرف التكوينيّة حتى تسري إلى التشريعية.

التقريب الثاني : هو إنّه لا إشكال في أنّ إرادة ذي المقدمة في موارد الإرادة التكوينية تستدعي تصدّي المريد إلى حفظ المقدمة ، لا تصدّي بالشوق فقط ، بل بحفظها بإعدادها وتهيئتها حتى لو لم يتعلق بها شوق ولا إرادة ، وهذه القضية صادقة في الإرادة التكوينية بالبداهة ، وهذا يقتضي أن يسري ذلك إلى الإرادة التشريعية أيضا ، غاية الأمر ، أنّ الحفظين يختلفان باختلاف الإرادة ، فحفظها في موارد الإرادة التكوينية يكون بإعمال القدرة على فعل المقدمة ، وفي موارد الإرادة التشريعية ، يكون حفظ المقدمة ، بإيجابها على المكلّف ، وبهذا يثبت وجوب المقدمة.

وهذا التقريب ، غير قابل للإنكار في طرف الإرادة التكوينية ، ولنفرض أنّ كلّ ما يصح في الإرادة التكوينية يصح في الإرادة التشريعية ، ولكن من قال إنّ حفظ المقدمة في الإرادة التشريعية ينحصر بإيجابها على المكلّف ، فإن هذا من وجوه الإرادة التشريعية ، وليس كل وجوهها ، إذ إنّ من وجوه حفظها الأخرى قد يكون بحكم العقل بلا بدّيّة المقدمة ، خصوصا وأنّه لا دليل على

٣١٠

حفظها بنحو آخر كالحكم بالوجوب خاصة ، لا سيّما أن هذا الإيجاب لا حافظيّة له بما هو أمر غيري ، لأنه لا منجّزية ولا محركيّة له ، وإنما حفظها بحكم العقل بلا بدّيّة المقدمة لاقتضاء إيجاب ذي المقدمة الإتيان بالمقدمة في مقام الامتثال ، إذ إنّ هذا حفظ مولوي بالمقدار الممكن للمولى كمولى وآمر ، ولذلك ، ليس على هذا النوع من الأوامر الغيرية ، ثواب ولا عقاب.

إذن فصغرى هذا الدليل بكلا تقريبيها في عالم الشوق ، وفي عالم الحفظ ، غير تامة ، حتى لو فرض تمامية كبراه.

الدليل الثاني : على وجوب المقدمة ، هو أنّه لو لم تجب لجاز تركها ، وإذا جاز تركها ، فإمّا أن يفرض أن المولى يعاقب التارك لها أو لا.

فإن فرض أنّه لا يعاقب : كان معناه ، انقلاب الواجب النفسي المطلق إلى الواجب المشروط ، ومن ثمّ انقلاب مقدمة الوجود إلى مقدمة للوجوب ، ومعنى هذا ، أنّ الصلاة غير واجبة إلّا على من يتوضأ.

وإن فرض أنه يعاقب التارك لها : فهذا خلف جواز الترك المفروض ، فكيف يعاقب على ما جاز تركه؟. إذن فكلا التاليين في الشرطية الثانية باطل ، إذن فمقدّم القضية الشرطية باطل ، وهذا المقدم هو التالي في الشرطية الأولى فتكون الشرطية الأولى باطلة أيضا ، وببطلان الشرط ، «وهو عدم وجوب المقدمة» يثبت وجوبها إذن.

وهذا الدليل ، مطابق لما نقله صاحب الكفاية «قده» (١) عن أبي الحسن البصري (٢).

مع شيء من التعديل ، فنقول : ما ذا يراد من جواز الترك في الشرطية

__________________

(١) كفاية الأصول : مشكيني ج ١ ص ٢١٠.

(٢) الإحكام في أصول الأحكام : الآمدي ج ١ ص ٩٥.

٣١١

الأولى ، «لو لم يجب لجاز تركه» فهل يراد جواز ترك الوضوء بما هو وضوء؟ ، أو جواز تركه بلحاظ تمام الحيثيات المترتبة على هذا الترك؟ ، كترك الصلاة مثلا؟.

فإن أريد الأول ، أي : جواز ترك الوضوء بما هو وضوء ، فالشرطية الأولى صادقة.

وأمّا الشرطية الثانية فإننا نختار عقاب التارك ، ولا يلزم الخلف لجواز الترك ، لأنّ الجواز من ناحية كونه وضوءا ، ولكن العقاب من ناحية استتباعه لترك الصلاة المقيدة بالوضوء ، ولم نجوّزه ، إذن لا علاقة بينهما.

وإن أريد من جواز الترك في الشرطية الأولى الجواز من كل جهة وبلحاظ تمام الحيثيّات ، إذن فالشرطية الأولى غير صادقة فهي ممنوعة ، إذ لا ملازمة بين المطلبين ، فإنّه لا يلزم من عدم وجوب المقدمة ، جواز تركها من جميع الحيثيات المستتبعة للترك. إذ معنى أنه لا يجب ، أي : لا يجب من حيث أنه هو هو لا يدخل في جواز الترك إذن فهذا الدليل إمّا الشرطية الثانية فيه كاذبة أو الأولى.

الدليل الثالث :

هو أننا نتمسك بالأوامر الشرعية والعرفية المتعلقة ببعض المقدمات ، إذ نستكشف منها بطريقة «الإنّي» ثبوت الحب والإرادة الغيرية فيها ، لا سيّما ونحن نعلم أنّه لا يوجد ملاك نفسي في مورد هذه الأوامر ، فيتعيّن أن يكون منشؤها هو الحب الغيري.

وإذا ثبت الحب الغيري في مورد ، ثبت في كل مورد ، لأنّ الملازمة لا تتبعض.

وهذا الدليل غير صحيح ، لأنه إن أريد الاستدلال بهذه الأوامر على طريقة الكشف «الإنّي» ، بدعوى أن هذه الأوامر تكشف «إنّا» عن وجود مبدئها في نفس المولى ، وهو الشوق إلى المقدمة.

٣١٢

أو فقل : إن أريد أنّه يستكشف الملازمة من تلك الأوامر ببرهان «الإنّي» ، بدعوى أنّه لو لا ثبوت الملازمة ، لما كان هناك سبب أو داع لتلك الأوامر بتلك المقدمات ، فهو غير صحيح.

وذلك لأنّ هذه الأوامر ثبوتا ، كما يمكن أن تكون بداعي الشوق النفسي إلى المقدمة ، يعقل أن تكون بداعي الإرشاد إلى مقدميتها ، ودخلها في الغرض من الواجب النفسي ، وإذا كان للشيء علّتان ، فلا يمكن كشف إحداهما بالخصوص ، فلا يثبت بها الشوق والحب النفسي.

وإن أريد الاستدلال بهذه الأوامر بعد ضم ظهورها في كونها في مقام التكليف ، بدعوى أنّ حملها على الإرشاد خلاف الظاهر ، فتكون حجة على الشوق والحب المتعلق بالمقدمة ، غاية الأمر أنها حجة تعبّديّة ، ولو من باب الظهور ، على وجوب المقدمة والشوق إليها.

إن أريد هذا ، حينئذ يرد عليه ، إنّه لا ظهور للأوامر الواردة في الشرائط ، والمقدمات ، والأجزاء ، والمعدّات ، والموانع ، وغيرها ، بل إنّ تلك الأوامر لها ظهور في أنّ النظر إلى تحقيق ماهية المركب من تلك الأجزاء ، والشرائط ، والمقدمات.

هذا مضافا إلى أنّ المستدل بهذا الظهور المدّعى هو واحد من اثنين :

فإن كان المستدل بهذا الظهور هو ممّن يجد في وجدانه حب المقدمة ، فقد سبق وحكم وجدانه بثبوت الملازمة.

وإن كان المستدل بهذا الظهور هو ممّن لا يجد في وجدانه حب المقدمة ، فإنّ هذا الثاني قد انتفت عنده الملازمة ، وهي لا تتبعّض ، لو كانت تتبعض لسقط الدليل من أصله.

نعم لو تعقلنا الشك في الوجدانيّات التي منها هذا المقام ، فقد يرجع الشاك فيها إلى هذا الظهور من عدم احتماله للتفصيل في الوجوب الغيري ،

٣١٣

وإلّا لم يكن هذا دليلا على الملازمة كما تقدّم.

وبهذا يتضح أنّ الصحيح ما قلناه في البرهنة على الملازمة في عالم الجعل ، دون عالم الشوق والحب ، فإنه لا يصح فيه البرهان ، وإنما يتوقف على الوجدان. إذن فلا يصح واحد من هذه الوجوه.

ثم إن المحقق الخراساني «قده» تعرض في «الكفاية» (١) لإنكار تفصيلين في وجوب المقدمة :

التفصيل الأول : هو بين القول بوجوب المقدمة فيما إذا كانت شرطا شرعيا ، فتكون واجبة لكون فرض الشرطية والمقدميّة الشرعية مساوقا لفرض الإيجاب ، وبين القول بعدم وجوب المقدمة لإنكار الملازمة فيما إذا لم تكن شرطا شرعيا ، بل كانت مقدمة تكوينية خارجية كنصب السلّم.

وحاصل هذا الإنكار هو : إنّ الشرطيّة والمقدميّة لا يعقل أن تكون متحصلة من الوجوب الغيري لها كي يستكشف ثبوته بها ، لأن الوجوب الغيري فرع الشرطية والمقدميّة فهو موقوف عليها ، بل الشرطية الشرعية منتزعة من الأمر النفسي بالمقيّد ، فإن الأمر حينما يتعلّق بالصلاة المقيّدة ، ينتزع أنّ القيد شرط ومقدمة ، وهذه المقدميّة بحسب الحقيقة هي مقدميّة تكوينية أيضا ، غاية الأمر أن ذا المقدمة ليس هو ذات الصلاة فقط ، بل الصلاة مع التقييد.

إذن فمن الخطأ أن نتصوّر أن الشرطية والمقدميّة تارة تكون شرعية ، وأخرى تكون تكوينيّة ، بل هي دائما تكوينية ، وإنما ذو المقدمة تارة يكون ذات الفعل ، وأخرى يكون الفعل المتقيّد بما هو متقيّد ، بنحو دخول التقيّد وخروج القيد ، فيسمّى الشرط شرعيا ومقدمة شرعية ، لأن التقيّد من شأن الشارع.

وبتعبير آخر يقال : إن المقدميّة لا يعقل أن تكون متوقفة على الإيجاب

__________________

(١) كفاية الأصول : مشكيني ج ١ ص ٢٠٣.

٣١٤

الغيري لها كي يستكشف ثبوته بها ، لأنّ الإيجاب الغيري موقوف عليها ، فكيف يصح أن يكون منشأ لها ، بل هي منتزعة من الأمر النفسي بالمقيّد.

هذا مع أن المقدمة الشرعية هي مقدمة عقليّة في واقعها ، ولا فرق بينها وبين المقدمات العقلية الأخرى من حيث المقدميّة ، وإنما الفارق بينهما يكون بلحاظ ذي المقدمة ، فإنه في المقدمة الشرعيّة تارة يكون ذو المقدمة هو المقيّد المأمور به لا ذات الفعل ، وأخرى يكون ذو المقدمة هو ذات الفعل ، ويبقى توقّف المقيّد على المقدمة الشرعية أمرا عقليا لا محالة.

التفصيل الثاني : هو التفصيل بين المقدمة التي تكون سببا توليديا ، وبين غيرها.

فالأول : يكون في فرض كون الواجب من سنخ المسبّبات التكوينية التي تقع قهرا بعد وقوع أسبابها ، فيتعلق الوجوب بالمقدمة لاستحالة تعلّقه بذي المقدمة ، لخروجه عن الاختيار.

والثاني : ما لم تكن المقدمة فيه سببا توليديا ، بل كانت من قبيل نصب السلّم للكون على السطح ، فلا يتعلّق الوجوب بها لعدم الملازمة.

ويجاب على الأول : بأنّ هذا ليس تفصيلا في وجوب المقدمة ، وإنما هو لأجل أنّ الأمر والوجوب النفسي ، إنما يتعلق بالمقدور ، والقدرة إنما تكون على السبب التوليدي ، لا على المسبّبات.

ويجاب على الثاني : بأنّ هذه النكتة غير واردة في غير الأسباب التوليدية ، حيث يكون ذو المقدمة تحت القدرة أيضا.

ومن هنا فإنّ هذا التفصيل ليس تفصيلا ، بل هو اختيار لتعلّق الوجوب النفسي بالمقدمة التي تكون سببا توليديا ، وإنكارا للوجوب الغيري.

وهذا اختيار باطل ، لأنه يتخيّل عدم القدرة على ذي المقدمة ، وانحصار القدرة بالمقدمة ، وهو غير صحيح ، إذ ليس المراد من كون المسبّب مقدورا

٣١٥

كونه ممّا يمكن فعله بقوة عضليّة أو نفسانية حتى يقال بأن الاحتراق ليس فعلا لنا ، وإنما فعلنا إلقاء الورقة في النار.

وإنّما المراد بالقدرة التي هي شرط عقلي للتكليف ، كون المكلّف بحيث لا يقع في حرج ، ويكون الفعل تحت سلطنته ، أو كونه بحيث إن شاء فعل ، وإن شاء ترك ، وهذا يصدق على ذي المقدمة المسبّبية والمقدمة السببية.

إذن فالوجوب يتعلّق بالمسبّب.

٣١٦

خاتمة

في مقدمة المستحب والحرام والمكروه

فأمّا مقدمة المستحب : فوزانها وزان مقدمة الواجب ، ولا كلام زائد فيها عنه.

وأمّا مقدمة الحرام : فهي تختلف إلى حدّ «ما» عن مقدمة الواجب ، فلو فرض أنّ الواجب كان له مقدمات عديدة يتوقف عليها جميعا ، فبناء على القول بالملازمة ، يترشّح الوجوب عليها جميعها.

وأمّا الحرام : فيكفي في تركه ترك إحدى المقدمات ، ومن هنا ، فإنه لا يترشح حرمة على كل المقدمات ، ولا يترشح الوجوب على جميع التروك ، بل على بعضها ، وهذا البعض الذي يجب تركه فيه تفصيل.

وحاصل هذا التفصيل : هو إنّ الحرام إذا كان له عدة مقدمات ، فتارة يفرض أنّ إحدى هذه المقدمات موقعها بحسب قطار هذه المقدمات هو الأخير ، أي : إنّها تقع في آخر قطار هذه المقدمات ، بحيث أنّه بعد وجودها يوجد الحرام.

وتارة أخرى يفرض أنّ المقدمات هذه ، هي من حيث التقديم والتأخير واحدة ، من حيث موقعها من ذي المقدمة.

وحينئذ يقال : إنّه إذا فرض الشق الأول ، وهو كون هذه المقدمات مترتبة بحيث أنه بعد وجود المقدمة الأخيرة يوجد المحرم ، حينئذ تكون المقدمة الأخيرة هي الحرام وحدها ، وتركها هو الواجب وحده ، وأمّا ترك ما قبلها من

٣١٧

المقدمات فلا يقع واجبا ، لا تعيينا ولا تخييرا ، لأنّه يكفي في ترك الحرام ترك المقدمة الأخيرة.

وأمّا إذا فرض الشق الثاني ، وهو كون تلك المقدمات بمجموعها علة تامة عرضية ، وتتبادل التقديم والتأخير فيما بينها ، حينئذ يكون الواجب ترك أحدها تخييرا.

نعم إذا أتى بها ما عدا واحدة ، تعيّن وجوب الترك في الأخيرة ، دون أن يكون هنا طلب تخييري لترك أحدها ، وذلك لأنّ ترك المقدمة الواقعة في المرتبة السابقة ، يستتبع ترك تلك المقدمة ، إذن فلا وجه لطلبه ولو تخييرا ، لأنه يكون من باب طلب مجموع التركين ، في حين أن امتثال الحرمة غير موقوف عليهما ، بل هو موقوف على أحدهما ، وحيث أنّ أحد التركين واقع ، فسوف تكون حرمة مجموع المقدمات مؤدية إلى المنع عن الأخيرة وطلب تركها تعيينا. هذا بنحو الكبرى.

والتحقيق بنحو الصغرى هو : إنّ كل فعل كان بحيث يصدر عن الإرادة والاختيار بعد تمام مقدماته ، ولا تكون مقدماته من قبيل الأسباب التوليدية ، يكون دائما من الشق الأول ، وعليه فتكون إرادة الحرام فقط حراما لأنها أحد أجزاء مجموع مقدماته ، ويكون تركها واجبا تعينيا ، لأنها الجزء الأخير من العلة التامة.

وأمّا إذا كان الحرام مسبّبا توليديا لمقدماته ، كما لو حرم قتل المؤمن مثلا ، وكان إلقاؤه من شاهق سببا لقتله ، فإنه ، في مثل ذلك ، لو كانت المقدمة والعلة التامة مجموع أمور عرضيّة ، حيث أنّ كلا منها يتبادل التقديم والتأخير مع الآخر فيما بينها ، حينئذ يكون الواجب ترك أحدها تخييرا.

وقد يتعيّن هذا المطلوب التخييري تعيّنا عقليا ، فيما إذا انحصر فيه الموصول إلى الحرام ، وأمّا إذا لم ينحصر الوصول إلى الحرام في واحد من المطلوبات التخييرية ، حينئذ لا يطلب تركه ولا يحرم فعله ، إلّا إذا صار

٣١٨

صغرى لكبرى حرمة التجري ، فيكون حراما ، ولكن حرمة غير الحرمة المبحوث عنها في محل الكلام.

وبهذا يتضح أنّه في المحرمات الاختيارية التي لا تكون مسبّبات توليدية ، بل هي صادرة عن الإرادة والاختيار حتى بعد تماميّة كل المقدمات الأخرى ، فإن الإرادة فيها تتصف بالحرمة الغيرية دون المقدمات الأخرى ، فتكون من الشق الأول.

ولكن وقع البحث ، في أن هذه المقدمة ـ الإرادة ـ المتّصفة بالحرمة الغيرية ، هل تتّصف بحرمة نفسية ، أو لا تتصف؟.

قد يقال : بأنّه لو أتى بالمقدمة هذه بقصد التوصل إلى الحرام ، فإنّها حينئذ تتصف بالحرمة النفسية ، ولكن هذا بحث يحتاج إلى دليل فقهي سوف نتعرض له في بحث التجري.

كما أنّ هناك بحثا آخر وهو ، إنّ الشخص الذي يعرف من نفسه أنّه لو أتى بالمقدمات ، سوف ينهار أمام إغراء الحرام فيقع فيه ، هنا قد يقال : إنّ هذه المقدمات ، وإن لم تكن متصفة بالحرمة الغيرية لتوقف الحرام فيها على الإرادة ولم توجد بعد ، ولكن قد يقال باتصافها بالحرمة النفسية ، ولو كانت بملاك طريقي ، بلحاظ (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ ،) بناء على استظهار كون المراد من الوقاية هو التحرّز عن موارد تؤدي به إلى غضب الله سبحانه ، ومن ثمّ إلى النار ، كما هو ظاهر التوقي ، وهذا أجنبيّ عن محل الكلام في الحرمة الغيرية.

وأمّا مقدّمات المكروه ، فالكلام فيها مثل الكلام في مقدّمات الحرام بلا زيادة أو نقصان.

وبهذا ينتهي الكلام حول الأوامر مادة وهيئة ودلالة ، مع استعراض أقسام الواجب والإجزاء ومقدمة الواجب وغيره.

٣١٩

مسألة الضد

هل الأمر بالشيء يقتضي النهي عن هذه؟

وقد قسّم صاحب (الكفاية) (١)(٢) البحث إلى فصول :

١ ـ الفصل الأول : الضد الخاص.

٢ ـ الفصل الثاني : الضدّ العام.

٣ ـ الفصل الثالث : ثمرة البحث.

ومن الواضح أن المقصود بالضد الخاص : الأمر الوجودي الذي يقابل الواجب تقابل التّضاد.

والمقصود بالضد العام : الأمر العدمي ، وهو ما يقابل الواجب تقابل السّلب والإيجاب.

__________________

(١) كفاية الأصول : مشكيني ج ١ ص ٢٠٥ ـ ٢٠٦.

(٢) كفاية الأصول : مشكيني ج ١ ص ٢٠١.

٣٢٠