بحوث في علم الأصول - ج ٥

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٣

الغيري للوضوء الموصل من الوجوب النفسي للصلاة ، ثم يترشح منه وجوب غيري للصلاة ، فإن بقي الأول والثالث على وجوبهما من دون تأكد ، لزم اجتماع المثلين ، وإن اتحدا لزم تقديم المتأخر وتأخير المتقدم ، لأنهما في مرتبتين مترتبتين ، وهو تهافت ، أو روح الدور.

والجواب على هذا أولا : هو ما تقدّم في الوجهين السابقين من إبطال ملاك الوجوب الغيري لذي المقدمة.

وثانيا : إبطال كون الوجوب الغيري معلولا ومتأخرا عن الوجوب النفسي ، وإنما هما معا تابعان للملاك النفسي ، فلا مانع من تأكّدهما كما نؤكّد سائر الواجبات العرضية.

* الإيراد الرابع : هو ما يظهر من عبائر تقريرات المحقق العراقي في مقام اعتراضه على القول بالمقدمة الموصلة ، حيث ذكر فيها من أن قيد الإيصال أخص مطلقا من المقدمة ، فلا يمكن التقييد بالأخص.

ومن الواضح أن هذا الكلام كأنّه التباس واقع في التقرير ، وإلّا فالتقييد المستحيل هو أن يكون المقيّد أخصّ مطلقا ، أو مساويا لقيده ، فإذا كان كذلك ، كان التقييد لغوا ، لأن التقييد ليس إلّا عبارة عن التضيق والتخصيص.

وعلى هذا يشترط أن يكون المقيّد أعمّ من قيده ، ولو من وجه. فإذا كان القيد أخص من المقيّد من وجه ، فضلا عمّا إذا كان أخصّ مطلقا ، صحّ التقييد كما في قولنا : «أكرم العالم الفقيه» ، ومقامنا من هذا القبيل.

* الإيراد الخامس : هو ما أفاده المحقق الخراساني «قده» (١) في الكفاية ، من أنّ المكلّف لو أتى بالمقدمة ، ولمّا يأت بعد بذيها ، فحينئذ ، إمّا أن يقال ببقاء الطلب الغيري ، أو بسقوطه للأول لا محالة ، لأنه من طلب

__________________

(١) بدائع الأفكار ، الآملي. ج ١ : ص ٣٩٣ ومقالات الأصول ـ العراقي ج ١١٤ : ١١٥.

٢٤١

الحاصل ، والثاني إمّا أن يكون بملاك الامتثال ، أو العصيان ، أو ارتفاع الموضوع ، كما لو رجع الميّت حيّا فارتفع موضوع تكاليف موته ، أو تحقق الفرض بفرد لا يمكن أن يعمه الطلب ، إمّا لكونه غير مقدور ، أو لكونه محرما ، أو لا إلى أحد هذه الأسباب سوى الأول ، لوضوح عدم العصيان والعقاب في المقام ، وعدم بقاء الموضوع ، وعدم المانع عقلا وشرعا ، لشمول الوجوب لهذا الفرد ، فلا محالة يتعيّن أن يكون السبب في سقوط الوجوب ، هو الامتثال ، وكونه مصداقا للواجب ، وهو معنى عدم اختصاص الوجوب بالمقدمة الموصلة.

وإن شئت قلت : إنّ الوجوب الغيري إذا كان متعلّقا بالحصة الموصلة من المقدمة ، فلو فرض أنه أتى بالمقدمة ، ولمّا يشرع بعد بذي المقدمة ، حينئذ ، إذا فرض عدم سقوط الأمر الغيري ، لزم منه طلب الحاصل ، لأنه لم يبق شيء إلّا ذو المقدمة ، وإن فرض سقوطه ، فسقوط أمر حينئذ ، لا يكون إلّا بالامتثال ، أو العصيان ، أو ارتفاع الموضوع ، أو تحقق الفرض بفرد منه ، لا يمكن أن يعمّه الأمر ، إمّا لكونه غير مقدور ، أو لكونه محرّما ، أو لا إلى أحد هذه الأسباب سوى الأول ، وهو الامتثال ، لوضوح عدم العصيان والعقاب ، وعدم بقاء الموضوع ، وعدم المانع عقلا وشرعا ، لشمول الوجوب لهذا الفرد.

وحينئذ يتعيّن أن يكون السبب في سقوط الوجوب ، هو الامتثال ، وكونه مصداقا للواجب ، وهو يعني تعلّق الأمر الغيري بذات المقدمة ، وعدم اختصاص الوجوب بالمقدمة الموصلة.

وفي مقام الجواب على هذا الإيراد نختار ونلتزم عدم سقوط الوجوب الغيري بفعل المقدمة.

ونجيب عن محذور تحصيل الحاصل ، تارة بالنقض ، وأخرى بالحل.

٢٤٢

أمّا الجواب النقضي : فيمكن إيراده ، تارة على مسالك صاحب (الكفاية) خاصة ، حيث التزم في بحث الإجزاء ، بإمكانية بقاء الأمر مع تحقّق متعلّقه ، كما في «بحث تبديل الامتثال بالامتثال» ، حيث التزم بمعقوليّته إذا لم يكن الفعل علة تامة لحصول الفرض ، وكما في «بحث التعبدي والتوصلي» ، حيث حكم ببقاء الأمر وعدم سقوطه إذا لم يأت بقصد القربة ، رغم تحقّق متعلّقه ، وهو ذات الفعل ـ لكون غرضه باقيا ، مع أنّ إشكال تحصيل الحاصل وارد فيهما أيضا ، بل فيهما لا جواب عليه أصلا ، بخلاف المقام ، كما ستعرف من خلال الجواب الحلّي.

وتارة أخرى ينقض عليه بالواجبات الضمنية التي لا إشكال في عدم سقوطها بتحقّق متعلقاتها التي هي الأجزاء الضمنية للواجب ، مع جريان نفس البرهان المذكور في المقام ..

وأمّا الجواب الحلّي : فإن له صيغة بدوية لحل إشكال تحصيل الحاصل في الواجبات الضمنية ، وحاصلها ، هو أن الواجب الضمني إنما لا يسقط وجوبه قبل تحقق الكل ، باعتباره مقيّدا بانضمام سائر الأجزاء ، فالجزء الذي هو التكبيرة مثلا ، مقيّدة بلحوق باقي أجزاء الصلاة بها ، وهو غير حاصل قبل حصول الكل بتمامه.

وفيه إنّ غايته أنّ يكون الوجوب الضمني على المقيّد من ذات التكبيرة وتقيّدها بانضمام الباقي ، فينحل إلى أمرين : واحد بذات المقيّد ، والآخر بالتقيّد ، ولا معنى لافتراض كون الأمر الضمني المتعلّق بالمقيّد أيضا متعلّقا به بما هو مقيّد بانضمام التقيّد المذكور إليه ، وإلا التسلسل.

وعليه ، فيرجع الكلام بلحاظ الأمر الضمني المتعلّق بذات الجزء.

والصحيح في الجواب الحلّي أن يقال : إن تحصيل الحاصل ، إنّما يتعقّل بلحاظ الواجبات الاستقلاليّة التي تكون لها المحركيّة والباعثيّة والمحصليّة ، وأمّا الواجبات الضمنية فليست مستقلّة ، وإنما هي أجزاء تحليليّة للوجوب ،

٢٤٣

فليس لها تحصيل مستقلّ ، بل لها جزء التحصيل من خلال تحصيل الأمر الاستقلالي بالكل ، فليس هناك طلب من المولى ، إلّا طلب تحصيل واحد ، باعتبار وجود وجوب واحد بالمركب ، وهو تحصيل لغير الحاصل ما دام لم يتحقّق الكل بعد.

إذن فلا موضوع لإشكال تحصيل الحاصل في الوجوب الضمني ، كما أنّه لا معنى لافتراض سقوطه ، ما دام أنّه ليس وجوبا مستقلا.

وهذا الجواب كما يجري في الواجبات الضمنيّة ، يجري في المقام أيضا ، بناء على القول بالمقدّمة الموصلة ، حيث أنه يرجع ، بحسب الروح والجوهر ، إلى أنّ الحب والشوق والوجوب الغيري ، متعلّق بمجموع المقدمات التي تساوق العلّة التامة التي لا تنفك عن ذي المقدمة ، فتكون كلّ واحدة من المقدمات واجبا ضمنيا غيريا لا يسقط وجوبه بمجرد تحققها.

هذا بناء على كون إرادة ذي المقدمة من جملة المقدمات ، وأن ترتّبه عليها تكويني ، كما هو على مسلك القوم ، ومثلها هجمة النفس التي يقول بها الميرزا «قده» بعد الإرادة.

وأمّا بناء على ما هو الصحيح ، من تخلّل القدرة بين الإرادة والفعل ، فالمقدمات مجموعة لا تساوق العلّة التامة دائما.

وحينئذ لا بدّ من القول : إمّا بتقييد المقدمة الواجبة بالموصلة ، فأيضا يكون الأمر بذات المقدمة ضمنيا ، وإمّا القول : بتعلّق الوجوب الغيري بذات الحصة الموصلة الذي يعني تعلّقه بالحصة التوأم بناء على معقوليته.

وحينئذ أيضا لا يلزم تحصيل الحاصل ، لأنّ ذات تلك الحصة غير حاصلة إلّا في موارد تحقّق ذي المقدمة.

نعم لو قيل بوجوب مطلق للمقدمة ، لزم القول بسقوط الوجوب الغيري كي لا يكون الحاصل ، ولا يجدي دفعه ، كونه وجوبا تبعيا ، فإنّ طلب

٢٤٤

الحاصل والشوق نحو أمر حاصل ، مستحيل على المولى ، حتّى لو التفت إلى المقدميّة.

* الإيراد السادس : هو ما ذكره المحقق الخراساني «قده» ، وهو أن أخذ قيد في الواجب لا يكون جزافا ، وإنما يكون باعتبار دخله في ملاك ذلك الوجوب الغيري ، إذن فلا يمكن أخذه قيدا في الواجب.

وإن شئت قلت : إنّه لا يوجد مقتض لاختصاص الوجوب بالمقدمة أو الحصة الموصلة ، إذ ملاك إيجاب المقدمة لا يمكن أن يكون ترتّب ذي المقدمة عليها ، لوضوح عدم الترتب المذكور في غير الأفعال التسبيبية ، إذن فلا بدّ أن يكون الملاك أمرا آخر ، من إمكان ذي المقدمة ، أو القدرة عليه ، أو حصول ما لولاه لما حصل ، أو التهيؤ والاقتراب من فعل ذي المقدمة ، على اختلاف في الصياغات المستفادة من كلمات المحقق الخراساني «قده». وكل هذه الحيثيات عامة لا تختص بالمقدمة الموصلة.

وهذا البرهان يختلف عن سوابقه ، فإن السابق كان بصدد إبداء مانع ومحذور في قيد التوصّل ، بينما هذا البرهان في مقام بيان نفي المقتضي لقيد التوصل.

وتوضيحه يتوقّف على معرفة ما هو ملاك الوجوب الغيري.

ويستخلص من كلما المحقق الخراساني «قده» وغيره عدة صيغ لهذا الملاك :

الصيغة الأولى : هي أنّ الملاك في الواجب الغيري ، هو جعل ذي المقدمة ممكنا ، وليس الملاك وجود ذي المقدمة مباشرة ، لوضوح أن وجوده ليس من الفوائد المترتبة دائما على المقدمة ، لوضوح انفكاكهما في كثير من الأحيان ، إلا في المقدمات السببيّة ، وما يترتب على المقدمة هو إمكان المقدمة ، وملاك الواجب الغيري لا بدّ أن يكون سنخ أمر مترتب دائما على المقدمة ، هو إمكان ذيها ، لا وجوده الخارجي.

٢٤٥

ومن الواضح أن التوصل ليس له دخل في الإمكان ، إذ إنّه بمجرد نصب السلّم ، يصبح التوصل إلى السطح ممكنا ، سواء صعد أو لا.

وهذه الصيغة ، لها مناقشة عامة ، ستأتي «إن شاء الله» ، ولها مناقشة خاصة.

وهي أنّ إمكان ذي المقدمة ، إن أريد به ما يقابل الامتناع الذاتي ، المسمّى بالإمكان الذاتي ، فهو من شئون ذات ذي المقدمة ، فافتراض كونه بسبب المقدمة خلف واضح.

وإن أريد به ما يقابل الامتناع الوقوعي ، المسمّى عندهم بالإمكان الوقوعي ، أي الذي لا يلزم من وقوعه محال ، أي : لا تكون علّته محالة ، فهذا إنّما يتوقف على أن لا تكون المقدّمة محالة ، بل تكون ممكنة ، ولا يتوقف على إيجادها كي يؤمر بها.

وإن أريد منه ما يقابل الامتناع بالغير ، أي : إنّ وجوده بسبب وجود علّته ، لا الإمكان بالغير ، فهو يقابله الوجوب بالغير المساوق لوجود ذي المقدمة وهو خلف المقصود.

ومثل الإمكان ، القدرة على ذي المقدمة ، فإنها لا تتوقف على فعل المقدمة ، بل على القدرة على المقدمة.

الصيغة الثانية : هي أن الملاك في وجوب المقدمة كونها موجبة للقدرة على ذيها.

وهذه تشبه الصياغة السابقة ، وهذه الصياغة ، فيها مضافا إلى الإشكال العام ، أنّ القدرة على ذي المقدمة تحصل بالقدرة على مقدماتها ، ولا تكون متوقفة على إيجادها ، كيف ولو كانت كذلك لانقلبت المقدمة إلى مقدمة الوجوب ، لأن القدرة شرط في التكليف ، ومعه يستحيل وجوب تلك المقدمة لما تقدّم من عدم ترشح الوجوب على مقدّمات الوجوب.

٢٤٦

الصيغة الثالثة : هي أن يكون الملاك والفرض من المقدمة ، هو حصول (١) ما لولاه لما حصل ذوها.

وقد يبيّن بتعبير آخر ، كسدّ باب العدم لذيها من ناحيتها ، كما عليه المحقق العراقي «قده» ، (٢) أو التهيؤ لفعل ذيها على تعبير آخر ثالث.

وهذه عبائر شتى ترجع إلى روح واحدة هي الاقتراب إلى ذي المقدمة الذي هو الواجب النفسي ، ومن الواضح توقفه على فعل المقدمة وإيجادها خارجا.

ويجاب عن هذه الصيغة : بأنّ هذه العناوين ، وكذلك عنواني القدرة ، وإمكان ذي المقدمة ، لا يمكن أن تكون هي الفرض من إيجاب المقدمة ، وإنما الذي يكون غرضا لإيجابها ، إنما هو أصل وجود ذيها به ، والذي لا يكون إلّا في الحصة الموصلة منها ، والذي هو معنى كون الفرض في إيجاب المقدمة ، هو التوصل.

والبرهان على هذا المدّعى ، هو : إنّ أيّ غرض يفرض غير أصل وجود ذي المقدمة ، فإمّا أن يفرض كونه غرضا نفسيا ، أو إنّه غرض غيري من أجل غرض آخر.

والأول : خلف ، لأنّ المفروض عدم وجود أكثر من واجب نفسي له مقدمات ، ولو فرض كون مثل التهيؤ مثلا غرضا نفسيا ، كانت المقدمة موصلة بلحاظه دائما ، لكونه فعلا توليديا.

والثاني : إمّا أن يفرض أنّ ذلك الفرض الغيري كالتهيؤ مثلا هو أيضا من أجل غرض آخر غيري أيضا ، أي لتهيؤ آخر ، فيلزم التسلسل ، وإن فرض أنه من أجل غرض نفسي آخر غير وجود ذي المقدمة ، كان خلفا أيضا كالاحتمال

__________________

(١) كفاية الأصول : مشكيني ج ١ ص ١٨٦.

(٢) كفاية الأصول : مشكيني ج ١ ص ١٨٤ ـ ١٨٥.

٢٤٧

الأول ، وإن فرض أنه من أجل وجود ذي المقدمة ، كان معناه ، أنّ الفرض من أوّل الأمر هو وجود ذي المقدمة لا غير ، وهذا لا يكون إلّا مع الحصة الموصلة من مقدماته.

وهذا البرهان يطابقه الوجدان أيضا إذا راجع الإنسان عالم الأشواق والإرادات الغيرية في النفس.

وهذا البرهان كما يكون برهانا على إبطال البرهان السابق ، كذلك يكون بنفسه برهانا لإثبات اختصاص الوجوب الغيري بالموصولة من المقدمات ، لأنّ الفرض إذا كان هو أصل وجود ذي المقدمة ، فهو لا يكون متحقّقا إلّا مع الحصة الموصلة ، وبهذا يكون المقام الثاني من البحث ، وهو إثبات اختصاص الوجوب الغيري ـ على القول به ـ بالمقدمة الموصلة ، برهانا عليه أيضا.

وبهذا يتم الكلام في تحقيق ما هو الواجب من المقدمات ، وقد عرفت أنه الحصة الموصلة منها دون سواها.

٢٤٨

صياغة وجوب المقدمة

ومعنى الموصل المعروض للوجوب الغيري

في هذا المقام. يوجد عدة تصويرات لذلك :

* التصوير الأول ، هو أن يقال : بأنّ الواجب الغيري هو المقدمة بقيد ترتب ذيها عليها الذي يكون قيدا منتزعا من مرتبة متأخرة عن وجود ذي المقدمة أيضا ، وهذا هو المعنى الذي كان يفرض للمقدمة الموصلة في إشكالات استلزام الدور والتسلسل ، واجتماع المثلين ، باعتبار توقفه على ذي المقدمة ، غير أنّه تقدّم عدم تماميّة تلك الإيرادات.

وإنّما الصحيح في ردّه هو أنّ أخذ حيثية الترتب في الواجب الغيري ، معناه انبساط الوجوب الغيري عليها ، مع أن الملاك في تعلّق الشوق والوجوب الغيري بشيء ، ليس إلّا وقوعه في طريق تحقيق الواجب النفسي.

ومن الواضح عدم دخل الحيثية المذكورة في ذلك ، فلا يعقل أخذها فيه.

* التصوير الثاني ، هو : أن يؤخذ قيد الموصليّة مع المقدمة ، ويدّعى أنّها ليست متقوّمة بتحقق ذيها ، وإنّما هي معلولة لذات المقدمة ، فكل من الموصليّة وذي المقدمة معلولان عرضيّان للمقدمة ، وهذا هو الذي أفاده المحقق الأصفهاني «قده» (١) لدفع غائلة المحاذير السابقة.

__________________

(١) فوائد الأصول : الكاظمي ج ١ ص ١٦٦.

٢٤٩

وفيه ، أنّ هذا التصوير لا يدفع المحذور الذي أوردناه على التصوير السابق ، من أنه لا يعقل تعلّق الوجوب الغيري بالحيثيّة المذكورة بعد فرض كونها غير دخيلة في إيجاد ذي المقدمة ، ولو فرض ملازمتها مع المقدّمة الدخيلة في إيجاده ، فإنّ الوجوب لا يسري من الملازم إلى اللّازم.

* التصوير الثالث ، هو : ما أفاده المحقق العراقي «قده» ، (١) من تعلّق الوجوب الغيري بالحصة التوأم مع سائر المقدمات وذي المقدمة ، وتوضيح ذلك ببيان أمرين :

الأمر الأول : إنّ تعلق الأمر بشيء ، قد يكون بنحو الإطلاق ، وقد يكون بنحو التقييد بقيد مع خروج القيد ، ودخول التقيّد في موضوع الحكم ، وقد يكون بنحو خروج القيد والتقيّد ، وبقاء ذات المقيّد موضوعا للحكم ، كقولك :

«خاصف النعل هو الإمام» (ع) حيث لا خصوصية «لخصف النعل» في إمامة الذات المقدّسة أصلا ، وإنما موضوع الحكم المشار إليه هو الذات الشريفة.

الأمر الثاني : هو أنّ تعلّق الأمر بالمقدّمة بنحو الإطلاق خلف برهان المقدمة الموصلة المفروغ عن صحته ، وتعلّق الأمر بها مقيّدة بانضمام سائر المقدمات للوصول إلى ذي المقدمة معناه : تقيّد كل جزء من المقدمة بالأجزاء الأخرى ، وبالتالي توقف كل جزء على الآخر ، وهو دور مستحيل. ولهذا حكم باستحالة افتراض كون الجزء في الواجب النفسي المركّب أيضا ، مقيّدا بالأجزاء الأخرى ، فيتعيّن أن يكون الوجوب الغيري متعلّقا بالحصة التوأم من المقدمة التي هي نتيجة التقييد.

والجواب عن هذا ، ببطلان كلتا المقدّمتين.

أما الأولى : فلما تقدّم مرارا من عدم معقوليّة الحصة التوأم في باب

__________________

(١) مقالات الأصول : العراقي ج ١ ص ١١٥ ـ ١١٦.

بدائع الأفكار : الآملي ج ١ ص ٣٨٨ ـ ٣٨٩.

٢٥٠

تقييد المفاهيم والقضايا الحقيقيّة ، وإنما يتعقل أخذ القيد مشيرا إلى الحصة من المصاديق المتشخّصة في الخارج بقطع النظر عن التقييد.

وأمّا الثانية : فلوضوح عدم الدور ، فإنه من الخلط بين المقدمة الشرعية والمقدمة العقليّة ، لأن لازم تقييد كل جزء بالجزء الآخر ، أو كل مقدمة بالأخرى ، لازم ذلك ، أنّ الجزء المقيّد بما هو مقيّد ، متوقّف على تحقّق ذات الجزء الآخر ، وكذلك العكس ، لا توقّف ذات الجزء على الجزء الآخر ، فالموقوف غير الموقوف عليه.

* التصوير الرابع : هو أنّ الوجوب الغيري متعلّق بمجموع المقدّمات المساوقة مع العلة التامة ، وحصول ذي المقدمة ، ولكن لا بعنوان المقدميّة والعليّة التي هي كالموصليّة ، عناوين انتزاعيّة لا دخل لها في وجود ذي المقدمة ، بل يتعلّق الوجوب بواقعها وعنوانها الذاتي ، دون أخذ حيثيّة الإيصال تحت الوجوب والشوق الغيري.

وهذا هو التصوير الصحيح ، غير أنه ربّما استشكل فيه من وجوه :

الوجه الأول : توهّم اختصاصه بالمقدّمات التوليدية التي تساوق العلة التامة دون غيرها التي يبقى بينها وبين تحقيق ذيها اختيار وإرادة.

وهذا فيه ، أن من جملة أجزاء المقدمات ، الإرادة نفسها ، فلو أخذها حينئذ في المجموع ، كانت مساوقة مع العلة التامة.

الوجه الثاني : هو أنّ أخذ الاختيار معها غير معقول ، لأنّها ليست باختيارية وإلّا تسلسل ، والتكليف لا بدّ وأن يتعلّق بالفعل الاختياري.

وهذا فيه أولا : عدم اشتراط الاختيارية في الواجبات الغيرية التي هي قهرية على ما تقدّم ، فإنّ المحذور في التكليف بغير المقدور ، إمّا هو عدم إمكان الباعثيّة والداعويّة ، وهذا مختص بالواجب النفسي ، وإمّا إحراج المكلّف وإيقاعه في العصيان ، وهذا أيضا غير حاصل في الوجوب الغيري ، إمّا

٢٥١

لأنه لا عقاب عليه كما تقدّم ، وإمّا باعتبار أن الإحراج بهذا المقدار ، واقع بلحاظ الواجب النفسي على كل حال.

وفيه ثانيا : أنه يمكن افتراض اختيارية الاختيار ، سواء فسّرناه بالإرادة ، كما عن المحقق الخراساني «قده» (١) ، أو فسّرناه بإعمال القدرة وهجمة النفس ، كما هو عند المحقق النائيني «قده» (٢) ، وذلك باختيار مقدماته من التأمل والبحث عن المصلحة ، ونحو ذلك ، فإنه بذلك ، يصبح إرادة الفعل الاختيارية ، إمّا بالإرادة والاختيار الموجود قبلها كما هو مسلك المحقق الخراساني «قده» (٣) ، حيث يشترط في اختيارية الاختيار وجود اختيار وإرادة قبله ، أو بنفسها ، كما هو مسلك المحقق النائيني «قده» ، حيث يرى أن اختيارية كل شيء غير الاختيار ، تكون بالاختيار ، ولكن اختيارية الاختيار تكون بنفسها ، لرجوع كل ما بالعرض إلى ما بالذات.

وعليه ، فيمكن الأمر الغيري بمجموع المقدّمات التي منها اختيار الفعل المساوق مع العلة التامة ، وهذا هو الجواب الذي اختاره المحقق الأصفهاني (٤) لرد الاعتراض المذكور.

غير أن الصحيح عدم تماميّة ذلك ، باعتبار ما تقدّم سابقا ، من أنّ تعلّق الإرادة بالإرادة مستحيل ، لأنّ الإرادة في الصور الاعتيادية ، لا تكون إلّا عن مصلحة في المراد ، فإذا كان الفعل المراد كامل المصلحة ، فهو يقتضي تحقّق إرادة الفعل ابتداء ، وإلّا فكما لا تتحقق تلك الإرادة ، لا تتحقق إرادتها أيضا ، لعدم ملاك فيها غير الملاك الطريقي الثابت في الفعل نفسه ، والذي افترض عدم تماميّته.

__________________

(١) نهاية الدراية : الأصفهاني ج ١ ص ٣٥٤ ـ ٣٥٥.

(٢) بدائع الأفكار : الآملي ج ١ ص ٣٩٢.

مقالات الأصول : العراقي ج ١ ص ١١٦.

(٣) كفاية الأصول : مشكيني ج ١ ص ١٠٠ ـ ١٩٠.

(٤) فوائد الأصول : الكاظمي ج ١ ص ٦٨ ـ ٦٩.

٢٥٢

ربّما يقال : إن احتمال وجود مصلحة في الفعل توجب الإرادة الطولية ، وذلك بإرادة البحث والتأمل في وجود المصلحة في الفعل ، وعدم وجودها ، فيحصل التصديق ثمّ العزم والجزم والإرادة ، فلا يلزم تعلّق الإرادة بالإرادة ، كي يقال باستحالته.

فإنه يقال : بأن إرادة الفعل غير موقوفة على حصول العلم بالمصلحة فيه ، بل احتمالها أيضا كاف لقدح الإرادة نحوه ، غايته أنه قد يفرض وجود مشقّة في الفعل ، ولذلك لو فرض عدم أيّ مشقّة فيه ، لأقدم عليه وأراده ، ففي المورد المذكور توجد إرادة للفعل في الواقع ، ولكنها ضعيفة بحاجة إلى دفع المزاحم لها بالفحص والتأمل ، فلا تكون إرادة للإرادة.

وقد يقال : بأنّ هذا المقدار كاف لإراديّة الإرادة ، فإن وجود الإرادة الشديدة إنما جاءت بسبب إرادة دفع المزاحمات ، فكانت بالتسبيب إراديّة ، وإن لم تكن بنفسها إراديّة ، اللهم إلّا أن يشترط في إرادية شيء نشوؤه عن إرادة مباشرة.

الوجه الثالث : هو أنّ أخذ الإرادة مع سائر المقدمات ، لا يجدي في صيرورة المقدمة موصلة ، لأنّ مجموعها مع الإرادة أيضا ، لا تكون علة تامة كي تساوق الإيصال ، وذلك لما تقدّم من أن حصول الإرادة نحو الفعل ، لا يستلزم أن يكون الفعل واجبا بالغير ، بل لا يزال ممكن الوجوب ، وللمكلّف أن يتركه بمقتضى سلطنته التي قلنا إنّها غير مفهوم الوجوب بالغير.

والجواب ، هو : إنّ برهان اختصاص الوجوب بالمقدمة الموصلة ، لم يكن يقتضي الاختصاص بالمقدمة التي يستحيل أن ينفك عن ذيها بمعناها المعقولي الفلسفي ، إذ لا موجب لأخذ ذلك قيدا ، وإنما تمام النكتة والملاك هو إيجاب المقدمة التي يضمن معها حصول ذي المقدمة بحسب عالم الأفعال الاختيارية الذي هو عالم التكاليف ، لا عالم الأفعال الطبيعيّة القسرية الذي هو عالم الوجوب والامتناع.

٢٥٣

ومن الواضح أن مجموع المقدمات ، بما فيها الإرادة الكاملة الواجدة لمقتضياتها ، الفاقدة لمزاحماتها في عالم الأفعال الاختيارية ، هو الذي يضمن معه حصول ذي المقدمة ، فإن هذا هو الطريق الذي لا ينفك عن ذي المقدمة بالمعنى المناسب مع باب السلطنة والاختيار ، فإن العاقل إذا تمّت عنده كل هذه ، حقّق المراد لا محالة.

الوجه الرابع : هو أن الأمر بالإرادة غير معقول ، باعتبارها المقتضي المباشر للإيجاب النفسي على ذي المقدمة ، لما هو ثابت في محله ، من أنّ الأمر بشيء يتضمّن قدح الداعي والإرادة في نفس المكلّف نحو الفعل ، فكيف يكون ذلك مأمورا به أيضا بالأمر الغيري ، فإنه من تحصيل الحاصل.

وجوابه : هو ما تقدّم ، من أنّ الأمر الغيري ليس بداعي المحركيّة والتحصيل ، كي يشكل عليه بإشكال تحصيل الحاصل ، وإنما هو أمر تبعي قهري.

ولو فرض أنّه من أجل المحركيّة والباعثيّة ، فلا وجه لتخصيص الإشكال بالإرادة خاصة من أجزاء المقدمة ، بل سائر أجزائها أيضا تكون إرادتها متضمّنة للوجوب النفسي.

الوجه الخامس : هو أن الأمر بالشيء ، إنما هو لقدح الإرادة في نفس المكلّف نحوه ، فالأمر بالمقدّمة إنما يكون لقدح إرادة تلك الإرادة ، مع أنّ الإرادة لا تكون من مقدمات حصول الواجب خارجا ، بل يتحقّق الواجب من دونها دائما أو غالبا ، فكيف يكون مطلوبا غيريا.

وجوابه : هو أنه مضافا إلى ما تقدّم من عدم كون الأمر الغيري لقدح الإرادة نحو الغيري ، فإن هذا من الخلط بين المطلوب التشريعي للمولى ، والمطلوب التكويني له ، فإن الإرادة التي تنقدح بالأمر هي مراد تكويني للمولى يحصّله بنفس أمره ، فهو فعله بالتسبيب ، وهو من مقدّمات التحصيل ، وليس من مقدمات حصول الواجب ، ليكون فعله مطلوبا من الغير تشريعا ولو غيريا.

٢٥٤

وبعد استعراضنا لبراهين عدم اختصاص الوجوب بالمقدمة الموصلة ، فقد تحصّل لدينا البرهان على المقدمة الموصلة أثناء مناقشتنا للبرهان السادس.

ثم استعرضنا الصياغات المتصورة للمقدمة الموصلة ، واستقرّ رأينا على آخر تلك الصياغات ، مع دفع الاعتراضات المتوجهة إليها ، وقد بقي علينا أن نبحث في الأدلة التي أقامها مؤسّس نظرية المقدمة الموصلة صاحب الفصول «قده» وهذه هي :

الدليل الأول : ويتمثل في الإحالة على الوجدان القاضي بأنّ الشخص إذا أراد (١) شيئا ، فإنما يريد خصوص الحصة الموصلة من مقدماته ، لا طبيعي المقدمة الجامع بين الموصلة وغيرها.

ونحن إن قبلنا هذه الإحالة ، إلّا أنها ليست دليلا ملزما في مقابل القائلين بوجوب مطلق المقدمة ، فإنهم أحالوا على الوجدان أيضا ، وبذلك تكون الإحالة على الوجدان قد صدرت من كلا الطرفين.

الدليل الثاني : يتمثل في دعوى شهادة الوجدان بصحة تصريح المولى (٢) بأنه يريد خصوص الحصة الموصلة من المقدمة ، مع أن الوجوب لو كان متعلقا بطبيعي المقدمة لكان هذا التمييز من قبل المولى جزافا.

وهذا الوجدان هو عين الوجدان السابق ، غاية الأمر ، أنّ ذاك وجدان نفس المطلب المدّعى ، وهذا وجدان صحة الإخبار عن ذاك المطلب المدّعى ، فهناك لوحظ مقام الثبوت ، وهنا لوحظ مقام الإثبات.

الدليل الثالث : هو أنّ المولى يمكنه أن يحرّم (٣) المقدمة غير الموصلة

__________________

(١) كفاية الأصول : مشكيني ج ١ ص ١٠٠ ـ ١٩٠.

(٢) نهاية الدراية : الأصفهاني ج ١ ص ٢٠٧.

(٣) الفصول في الأصول : محمد حسين بن محمد رحيم ص ٨٧.

٢٥٥

فيقول : «إذا غرق إنسان في نهر ساحله مملوك ، أنقذ هذا الغريق ، وأحرّم عليك أن تتصرف بالأرض تصرفا لا يترتب عليه إنقاذه».

وهذا البيان ، إن أراد به صاحب «الفصول» إقامة برهان على مدّعاه ، فهو ليس ببرهان على ذلك ، لأنه غاية ما يثبت هو اختصاص الوجوب بالمقدمة الموصلة ، فيما إذا حرّم المولى غيرها ، وهذا لا إشكال فيه ، فإن الوجوب الغيري دائما يختص بالفرد المباح من المقدمة حتى المقدمة الموصلة حينما يكون لها أفراد.

نعم إذا كان مراده من هذا البيان ، الرد على أولئك القائلين بأن اختصاص الوجوب بالمقدمة الموصلة ، غير معقول في نفسه للدور أو التسلسل وغيره ، إذا كان مراده هكذا ، لكان كلامه وجيها ، فإنّه لو كان يلزم الدور ، فما ذا يقولون حين يحرّم المولى غير الموصلة؟.

فإن قلتم باختصاص الوجوب بالموصلة ، فيأتي إشكال الدور.

وإن قلتم بأنّ الوجوب لمطلق المقدمة ، كان هذا خلف المفروض من تحريم المقدمات غير الموصلة.

إلّا أنّ المحقق الخراساني (١) نفى هذا الوجدان أصلا ، وادّعى قيام البرهان على امتناع تحريم المولى للمقدمة غير الموصلة.

وحاصل هذا البرهان : إنه يلزم تحصيل (٢) الحاصل في طرف الأمر بذي المقدمة ، أي إنّه لو حرّم المولى المقدّمة غير الموصلة ، لكان الأمر بإنقاذ الغريق تحصيلا للحاصل ، وذلك لأن الأمر به مشروط بالقدرة تكوينا ، والقدرة شرعا.

ومعنى القدرة شرعا ، إباحة الشيء وإباحة مقدماته ، وإباحة الاجتياز

__________________

(١) كفاية الأصول : مشكيني ج ١ ص ١٩٠.

(٢) كفاية الأصول : مشكيني ج ١ ص ١٩٢.

٢٥٦

وعدم حرمته تتوقف على الإيصال ، فيكون وجوب الإنقاذ مشروطا بالقدرة الشرعية المتوقفة على إباحة المقدمة المتوقفة على إيصالها.

والنتيجة : إنّ الأمر بذي المقدمة متوقف على وجود ذي المقدمة ، وهذا تحصيل الحاصل.

وقد أبرز المحقق النائيني «قده» (١) نقطة الاشتباه في هذا البرهان ، وهي أنّ هناك خلطا بين أن يكون قيد التوصل قيدا للإباحة ، أو قيدا للمباح ، فالكلام إنما يتم لو كان التوصل قيدا للإباحة فقط.

وتوضيحه ، هو : إنّ وجوب ذي المقدمة متوقف على إباحتها ، ولكن إباحة المقدّمة ليست متوقفة على الإيصال ، بل هي ثابتة قبله ، نعم المباح هو الحصة الموصلة ، فالإيصال قيد في المباح لا الإباحة ، من قبيل قيود الواجب لا الوجوب.

وكلام المحقق النائيني «قده» هذا في غاية المتانة.

ولكن نضيف إليه ، إنّه لو فرض أن التوصل كان قيدا للإباحة لا للمباح ، فلا إشكال أيضا ، بمعنى أنّه لو فرضنا أنّ القيد للإباحة ، فوجوب الإنقاذ يتوقف على إباحة الاجتياز ، وهي تتوقف على الوصول. فوجوب الإنقاذ يتوقف على الوصول.

ونحن نقول : بأن وجوب الإنقاذ لا يتوقف على إباحة الاجتياز ، نعم نقول بالتوقف على عدم الحرمة المطلقة ، وهي مفروضة العدم.

وتوضيحه : إنّ المقدمة ، تارة تتّصف بحرمة مطلقة ، سواء أوتي بذي المقدمة ، أم لم يؤت ، وأخرى تكون حرمتها مشروطة بعدم الإتيان بذي المقدمة ، أمّا القسم الأول فهو غير معقول ، وأمّا اجتماع الأمر بالإنقاذ مع الحرمة المشروطة للمقدمة ، فهو أمر معقول ، إذ لا تعارض ولا تزاحم أصلا ،

__________________

(١) أجود التقريرات : الخوئي ج ١ ص ٢٤٠ فوائد الأصول الكاظمي ج ١ ص ١٦٦.

٢٥٧

فالأمر بالإنقاذ يتوقف على عدم الحرمة المطلقة.

الدليل الرابع : هو أنّ الغرض من الواجب الغيري ، إنما هو التوصل (١) إلى الواجب النفسي ، إذن فلا محالة يجب أن يختص الوجوب الغيري بحدود المقدمة الموصلة ، لأنّ الوجوب يكون بحجم ما فيه الغرض ، وهذا الوجه صحيح متين بعد إدخال التشقيقات السابقة ، فإنه يرجع إليه برهاننا الذي أقمناه سابقا عن المقدمة الموصلة.

وبهذا يتّضح ، أن الصحيح هو اختصاص الوجوب الغيري ـ على القول به ـ بالمقدمة الموصلة.

كما اتّضح أنّ ترشّح الوجوب الغيري على المقدمة ، إذ كانت مباحة ، إنما يكون بحدود المقدمة الموصلة.

وأمّا إذا كانت المقدمة محرّمة في نفسها ، وقد وقعت مقدّمة لواجب أهم في ملاكه ، حيث كان لا بدّ من التضحية بحرمتها لمرجوحيّة ملاكها ، فيجتاز المكلّف الأرض المغصوبة ، وينقذ الغريق ، حينئذ يسأل أنه : بأيّ مقدار ترتفع الحرمة على المقدّمة ، فهل ترتفع الحرمة الغصبيّة عنها مطلقا ما دام الغريق في الماء ، سواء قصد التوصل لإنقاذه أم لم يقصد ، أو إنها ترتفع عن الاجتياز المحرّم بحدود الموصل للإنقاذ؟. وبعد افتراض أن الحرمة ترتفع عن الموصلة فقط ، فهل هي ترتفع عن مطلق الموصلة ، أو إنها ترتفع عن خصوص الموصلة التي يقصد بها التوصل؟.

فالكلام في مقامين :

المقام الأول : في أنّ ارتفاع الحرمة ، هل يكون عن المقدمة الموصلة ، والمقدمة غير الموصلة؟.

المقام الثاني : في أنّ ارتفاع الحرمة ، هل يكون عن مطلق الموصلة ، أو

__________________

(١) الفصول في الأصول : محمد حسين بن محمد رحيم ص ٨٧.

٢٥٨

عن خصوص الموصلة التي قصد بها التوصل؟.

أمّا الكلام في المقام الأول ، فيقال : إنّه لمعرفة أنّ الحرمة بأيّ مقدار ترتفع عن المقدمة ، لا بدّ من ملاحظة ما هو طرف المنافاة مع هذه الحرمة ، وهنا طرف لمنافاتين :

المنافاة الأولى : بين حرمة الاجتياز ووجوب ذي المقدمة. أي : إنقاذ الغريق وهي منافاة بملاك التزاحم في مقام الامتثال ، لتعدّد موضوع الحكمين ، وتعذّر امتثالهما معا ، إذ لا يعقل الأمر بشيء والنهي عن مقدمته.

المنافاة الثانية : هي بين حرمة المقدمة ، ووجوبها الغيري ، وهي مبنيّة على القول بالملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته ، بخلاف الأولى ، وهذا تناف بملاك التعارض ، لأنّ الحرمة والوجوب واردان على موضوع واحد في مرحلة الجعل ، وقبل أن تصل النوبة إلى الامتثال.

بعد دراسة هاتين المنافاتين نحدد المقدار الذي نرفع اليد عنه من الحرمة.

أمّا المنافاة الأولى : فلو التفتنا إليها بما هي ، وقطعنا النظر عن الثانية ، فإنّنا نرى أن التزاحم يقع بين الواجب النفسي وحرمة المقدمة الموصلة خاصة ، أي : بين «لا تغصب» وبين «أنقذ الغريق» ، وهنا لا بد من تقديم الأهم ، وهو «إنقاذ الغريق» وعليه ، فلا بدّ من رفع اليد عن حرمة الاجتياز ، لأنه ضروري ، وإلّا تعذّر امتثال خطاب «أنقذ الغريق» ، أي : ذي المقدمة.

وأمّا الحصة غير الموصلة من المقدمة ، فمقتضى الحرمة فيها موجود ، وهو مبغوضيّة الغصب ، والمانع مفقود ، لأنّ المانع ليس رعاية حق المزاحم الأهم ، فالمزاحمة ترتفع بمجرد سقوط الحرمة عن الحصة الموصلة ، لأنّ هذا المكلّف يمكنه حينئذ الامتثال ، وذلك بإن يجتاز اجتيازا موصلا ، حيث أنه لو إجتاز الأرض ولم ينقذ يعاقب بعقابين.

إذن فالحرمة تختص بالحصة غير الموصلة من المقدمة.

٢٥٩

وأمّا المنافاة الثانية : التي تكون بملاك التعارض بين الحرمة والوجوب الغيري للمقدمة ، على القول به.

فإن بنينا على أنّ الوجوب الغيري يختص بالموصلة ، فلا إشكال في أن الوجوب الغيري يطرد الحرمة عن متعلّقه الذي هو الحصة الموصلة ، دون أن يكون هناك تعارض بين الجعلين : بين حرمة الحصة الموصلة من المقدمة ووجوبها ، وإنّما يكون من التزاحم بين المجعولين.

وأمّا إذا بنينا على أنّ الوجوب الغيري يتعلّق بالجامع بين الموصلة وغيرها ، فهذه الدعوى ، تارة تكون ، بدعوى أنّ المقتضي قائم بالجامع ، ولا مقتض للتخصيص بالموصلة ، كما هو في البرهان السادس ، وتارة أخرى ، تكون بدعوى أن اختصاص الوجوب بالموصل فقط محال بنفسه ، للدور والتسلسل.

فإن ادّعي الأول : فلا بدّ من الالتزام بأنّ الوجوب يتعلق بخصوص الموصلة ، ويبقى غير الموصل على الحرمة ، كما هو الحال فيما لو اتصف بعض أفراد الموصل بالحرمة ، فإن الوجوب يرتفع عنه.

وإن ادّعي الثاني : أي استحالة تخصيص الوجوب الغيري بالموصلة ، حينئذ يقع التعارض بين دليل حرمة هذه المقدمة ، ولو الحصة غير الموصلة منه ، وبين دليل الوجوب الغيري ، لأنّ الوجوب الغيري إن تعلّق بالمطلق ، فهو ينافي حرمة غير الموصلة ، وإن تعلّق بالموصلة فقط ، فقد فرض أن ذلك محال عند القائل. إذن فتحصل المعارضة بين حرمة المقدمة ، ووجوب ذي المقدمة ، باعتبار أنّ وجوب ذي المقدمة لا يلائم حرمة المقدمة ، ولو بحصتها غير الموصلة لاستحالة اجتماعهما ، فلو فرض تقديم دليل الوجوب الغيري على دليل الحرمة ، فلا بدّ من الالتزام بسقوط الحرمة رأسا عن مطلق المقدمة حتى غير الموصلة ، بحيث أن المكلّف لو إجتاز الأرض ، ولم ينقذ ، يعاقب بعقاب واحد.

٢٦٠