بحوث في علم الأصول - ج ٥

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٣

وهنا قد يتوّهم أنّ الحرمة ، وإن كانت تسقط عرضيا ، ولكن تثبت بنحو الترتب ، بمعنى أن الحرمة تثبت على تقدير عصيان الواجب.

ولكن هذا الكلام غير صحيح ، لأننا بيّنا أن المقام بابه باب التعارض لا التزاحم ، لكون الموضوع واحدا ، والترتب علاج في باب التزاحم لا التعارض ، وهذا من النتائج الغريبة على ذوق العقلاء ، بناء على القول بوجوب مطلق المقدمة ، واستحالة تخصيص الوجوب بالموصلة.

وإن شئت قلت : إنّ المقدمة غير الموصلة ، يستحيل حرمتها المشروطة بترك ذيها أيضا ، لأنها حينئذ تكون واجبة بالوجوب الغيري بعد استحالة التقييد بالموصلة ، وعليه فيلزم اجتماع الضدين بلحاظ حال ترك ذي المقدمة ، وحينئذ فلا مناص من الالتزام بارتفاع حرمتها مطلقا.

وأمّا الكلام في المقام الثاني ، فيقال فيه : إنّه بعد فرض أن الحرمة ترتفع عن الحصة الموصلة من المقدمة ، وبما أنّ الموصلة على قسمين : قسم منها يقصد به التوصل إلى ذي المقدمة ، وقسم منها لا يقصد به التوصل إلى ذي المقدمة.

حينئذ ، يقع الكلام في كلتا المنافاتين ، أي : التنافي بين الحرمة والوجوب النفسي بنحو التزاحم ، والتنافي بين الحرمة وبين الوجوب الغيري بنحو التعارض.

أمّا المنافاة الأولى ، فقد يقال فيها : نفس البيان السابق يجري هنا ، من ارتفاع الحرمة عن المقدمة الموصلة التي قصد بها التوصل على كل حال ، لأنّ حرمتها تنافي وجوب ذيها ، المقتضي لقصد التوصل والامتثال ، ولأنّ حرمتها تعطّل محركيّة وباعثيّة الأمر بالإنقاذ ، وتوجب استحكام التزاحم ، وتعذّر الامتثال لهما معا.

وأمّا المنافاة الثانية : التي يقع التنافي فيها بين حرمة المقدمة التي لم يقصد بها التوصل ، وبين وجوب ذي المقدمة. فقد تقدّم أن مقتضى المنافاة

٢٦١

والتزاحم بين حرمة المقدمة التي قصد بها التوصل ، وبين وجوب ذي المقدمة ، يقتضي ارتفاع الحرمة عن الحصة التي قصد بها التوصل ، بمقدار ترفع به المنافاة بين حرمة المقدمة ووجوب ذيها.

وأمّا الحصة التي لم يقصد بها التوصل ، فلا مانع من بقاء الحرمة عليها. بعد وجود المقتضي ، وهو إطلاق دليل لا تغضب ، وفقدان المانع ، وهو رعاية حق المزاحم الأقوى ، إلّا أن البيان لا يخلو من إشكال ، وإن خلا منه في المقام الأول.

وحاصل هذا الإشكال هو : إنّ ثبوت التحريم على الحصة الموصلة التي لم يقصد بها التوصل ليس له أيّ دخل في تقريب المولى نحو أغراضه الواقعيّة.

وتوضيحه ، هو : إنّ المراد من إبقاء الحرمة على الحصة التي لم يقصد بها التوصل ، إن كان الجمع بين الغرضين المولويين وتحقيقهما ، وهما تحقيق مصلحة ذي المقدمة وهي «الإنقاذ» ، واجتناب مفسدة المقدمة ، وهي «الغصب». إن كان هذا هو غرض المولى ، فهذا أمر غير معقول ، لأنّ أحدهما قهري على كل حال بعد افتراض المزاحمة بين مصلحة ذي المقدمة ، «الإنقاذ» ، ومفسدة المقدمة ، «كالغصب» ، كما مرّ.

وإن كان غرض المولى في أن لا يخسرهما معا ، فهذا حاصل في المقام على كل حال دون حاجة لتحريم الموصلة التي لم يقصد بها التوصل ، لأنّ فرض كونها موصلة هو فرض حصول أقوى الغرضين في الخارج ، وهو مصلحة الواجب ، وهو «الإنقاذ» وعدم خسارة المصلحتين.

إذن فلا أثر لتحريم الحصة الموصلة التي لم يقصد بها التوصل. إلّا إلزام المكلّف بقصد التوصل ، مع أنّه من الواضح ، أنّ قصد التوصل ليس من الواجبات شرعا ، لعدم وجود ملاك لهذا الوجوب ، وإنّما كان غرض المولى متمثلا في الغرضين المتقدمين.

٢٦٢

وهذا بخلاف تحريم الحصة غير الموصلة ، إذ هناك قلنا : إن المقتضى له موجود ، والمانع مفقود ، وذلك لأن التحريم هناك في الواقع كان بملاك أن لا يخسر كلا الغرضين ، إذ لو لم يحرّم المولى الحصة غير الموصلة ، لما كان قد حصل على مصلحة ذي المقدمة «الإنقاذ» ، ولمّا كان قد تجنّب مفسدة الغصب ، منع بذلك المكلّف عن تفويت هذا الغرض ، فتحريم الحصة غير الموصلة كان له تأثير في حفظ أحد الغرضين. إذن فلا معنى لمثل هذا التحريم في المقام إلّا إلزام المكلّف على قصد التوصل مع فرض عدم وجود ملاك لهذا الوجوب.

ومن هنا يندفع تخيّل آخر ، وهو أنّ هذه الحرمة لها أثر في تحقيق غرض المولى ، وذلك بتقريب ، أنّ المقدمة المحرّمة كالغصب ، إن أتى بها لا بقصد التوصل ، إذن فالمولى قد خسر أحد الغرضين ، لأنّ الإنقاذ تحقّق بالمقدمة غير الموصلة ، لكن ابتلى بمفسدة الغصب ، لكن إذا أتى بها بقصد التوصل ، فالحسن في قصد التوصل ، يزاحم مفسدة الغصب ويتداركها ، لأنّ المولى يحصّل غرضه من ناحية ، بينما يتدارك مفسدة الغصب من ناحية أخرى.

وإن شئت قلت : إنّ ثبوت الحرمة على الحصة التي لم يقصد بها التوصل ، يلزم منه الجمع بين الغرضين ، وذلك ، باعتبار أنه يضطر المكلّف إلى قصد التوصل بالمقدمة ، وهو أمر راجح عقلا ، ويوجب انجبار مفسدة حرمة المقدمة وارتفاعها بالحسن الموجود في قصد التوصل المزاحم لمفسدة الغصب ، وتدارك هذه المفسدة بحصول غرض المولى من ناحية أخرى ، وبذلك يكون قد حفظ كلا الغرضين من حصول مصلحة الواجب النفسي ، «ذي المقدمة» ، وعدم الوقوع في مفسدة «الغضب» في المقدمة التي لم يقصد بها التوصل.

ولكن هذا الكلام غير تام ، إلّا إذا فرضنا أن للمولى غرضا لزوميا في قصد التوصل ، فيتحوّل قصد التوصل إلى غرض لزومي ، وملاك يقرّب نحو أغراض المولى ، وهو خلف فرضنا ، أنّ قصد التوصل ليس فيه حسن في

٢٦٣

نفسه ، وعليه فلا معنى لأن يقال بأنّه يتدارك به المفسدة الموجودة في الغصب.

وبهذا يبقى الإشكال واردا ، وبه يتّضح أنّ ثبوت التحريم على المقدمة الموصلة التي لم يقصد بها التوصل ليس معقولا ، وهو إن صحّ إلزام المكلّف بشيء ، لكنّه لا يصح لأن يكون ملاكا للإلزام بأي شيء.

إذن فمقتضى القاعدة ، ارتفاع الحرمة عن مطلق المقدّمة الموصلة ، وبهذا لم يبق موضوع للحرمة في المنافاة الثانية بين الحرمة والوجوب الغيري للمقدمة الموصلة ، عند ما يتوقف على المقدمة المحرّمة غرض أهم ، فإن الحرمة ترتفع عن المقدمة بمقدار ، تزول معه المنافاة بين وجوب الأهم وحرمة المقدمة.

٢٦٤

ثمرة القول بالمقدمة الموصلة

التنبيه الثاني

وهو كما ذكره المحقق الخراساني (١) تحت عنوان : «ثمرة القول ، بالمقدمة الموصلة».

وحاصل ما ذكره «قده» هو : إنّه إذا فرضنا أنّ عبادة من العبادات «كالصلاة» مثلا ، وقعت مضادة «للإزالة» وقلنا : بأن ترك أحد الضدين مقدمة للضد الآخر ، فيكون ترك الصلاة واجبا وقلنا : بأن وجوب شيء يستدعي حرمة ضدّه العام ، أي : نقيضه ، وقلنا : إنّ النهي عن العبادة يقتضي الفساد.

وإن شئت قلت : إن الضد العبادي «كالصلاة» مثلا ، إذا وقعت مزاحمة لواجب أهم «كالإزالة» مثلا ، حينئذ بناء على القول بتوقف أحد الضدين على ترك الآخر ، وكون الأمر بشيء يقتضي النهي عن ضدّه العام ، وكون النهي ولو الغيري منه مقتضيا لفساد العبادة ، بناء على هذه المباني ، سوف تقع الصلاة فاسدة إذا بنينا على وجوب مطلق المقدمة ، لكونها الضد العام للواجب الغيري وهو ترك الصلاة الواقع مقدمة للإزالة الواجبة.

وبتعبير آخر يقال : إنّه بناء على وجوب مطلق المقدمة ، يكون ترك الصلاة واجبا ، وفعل الصلاة حراما ، وعليه فالصلاة باطلة.

__________________

(١) كفاية الأصول : مشكيني ج ١ ص ١٩٢.

٢٦٥

وأمّا بناء على أنّ الوجوب الغيري يختص بالحصة الموصلة من المقدمة خاصة ، حينئذ لا يكون الوجوب متعلّقا بمطلق الترك ، بل يكون الواجب هو خصوص الترك الموصل إلى «الإزالة» ، ويكون الضد العام للترك الموصل ، ليس هو فعل «الصلاة» ، بل «رفعه» ، الذي هو أعمّ من فعل «الصلاة» أو تركها تركا غير موصل ، لأنّ الأمر بشيء يقتضي النهي عن نقيضه ، ونقيض الترك كما ذكرنا ، هو رفع الترك ، وهو آخر ما يقترن مع فعل «الصلاة» ، إذن فلا موجب لبطلانه ، لأنّ الحرمة لا تتعلّق به.

ويمكنك أن تقول : إنّ نقيض الترك ، هو رفع الترك الذي هو أعم من فعل «الصلاة» أو تركها تركا غير موصل ، وهذا النقيض الأعم ، الذي هو الترك ، نسبته إلى «الصلاة» نسبة الملازم إلى الملازم ، لا نسبة الجامع إلى فرده. وعليه ، فلا تسري الحرمة إلى فعل الصلاة كي يقال بفسادها.

ثم إن المحقق الخراساني «قده» (١) دخل في سجال مع صاحب تقريرات الشيخ الأعظم «قده» ، ليثبت أنّ نسبة نقيض الترك الموصل إلى الترك الموصل هي نسبة المقارن إلى المقارن ، بينما يذهب صاحب «التقريرات» إلى أن نسبة نقيض الترك الموصل إلى الترك الموصل ، نسبة الكلّي إلى مصداقه ، والجامع إلى أفراده.

وعليه ، فالحرمة المتعلقة بالترك الموصل لا تسري إلى نقيضه.

هذا البيان الأول لثمرة القول بالمقدمة الموصلة.

والصحيح هو : إنّا حتى لو سلّمنا بكلّ الأصول الموضوعية المفروضة في تصوير هذه الثمرة ، مع ذلك لا تترتب الثمرة المتقدم ذكرها بناء على المقدمة الموصلة.

البيان الثاني ، لثمرة القول بالمقدمة الموصلة ، هو : إنّ أيّ قيد نأخذه في

__________________

(١) كفاية الأصول : مشكيني ج ١ ص ١٩٢ ـ ١٩٣.

٢٦٦

النقيض وجودا ، لا بدّ أن نأخذه في نقيض النقيض عدما ، وإلّا لم يحصل التناقض. فمثلا ، الصوم يوم الجمعة نقيضه ترك الصوم يوم الجمعة ، لا يوم السبت ، فيوم الجمعة كما أخذ في طرف الوجود ، يجب أن يؤخذ في طرف العدم.

وبناء عليه ، إن الواجب في المقام إن كان مطلق ترك الصلاة ، فينبغي أن يكون نقيضه مطلق فعل الصلاة وبلا قيد ، وأمّا إذا كان الواجب ترك الصلاة المقيّدة بالإيصال إلى الإزالة ، فينبغي أن يكون نقيضه ، فعل الصلاة حينما تكون هناك إزالة.

ومن الواضح أنّ الإنسان عند ما يصلي ، ففي فرض حالة الصلاة لا تكون إزالة ، فهي صلاة لا إزالة معها ، لعدم وجود القيد ، إذن فلا تكون نقيضا ، إذن فلا تكون باطلة ، بل هذه الصلاة صحيحة.

وهذا البيان غير صحيح ، لأنّ الأصل الموضوعي الذي بيّن به هذا البيان وهو لابدّيّة كون القيد المأخوذ في طرف الوجود مأخوذا في طرف العدم ، هذا الأصل يحتاج إلى تحقيق.

والحقيقة ، هي : إنّ كل قيد يقيّد به الوجود ، يكون نقيض المقيّد ، هو عدم المقيّد لا العدم المقيّد ، والأصل المدّعى هو أن نقيض الوجود المقيّد هو العدم المقيّد. ففي المقام لا معنى لأن تكون كل القيود المأخوذة في أحد النقيضين ، مأخوذة في النقيض الآخر ، إذ البرهان قام على أن النقيض هو عدم المقيّد ، لا العدم المقيّد.

البيان الثالث : هو إنّه إذا قلنا بوجوب مطلق المقدمة ، فترك الصلاة يجب على الإطلاق ، إذن ففعل الصلاة يحرم على الإطلاق ، إذن فتقع الصلاة باطلة.

وأمّا إذا قلنا بوجوب خصوص المقدمة الموصلة ، فمعناه ، أن الوجوب مشروط بترتب ذي المقدمة ، بمعنى أنه لا يتعلّق بأي ترك كيفما اتفق ، بل بالترك الذي إذا وقع خارجا الآن كان موصلا ، فحينئذ ، هذا الإنسان إذا لم يشأ

٢٦٧

الإزالة بل صار يصلي ، فلو فرضنا أنه ليس في حالة صلاة ، ولم يكن أيضا في حالة إزالة ، لأنّه حسب الفرض استصعب الإزالة ، إذن فترك الصلاة ليس موصلا في هذه الحالة.

والجواب ، هو : إنّ وجوب المقدمة الموصلة ليس معناه أخذ ترتب ذي المقدمة قيدا في الوجوب ، بل قيدا في الواجب ، فالصحيح هو أنّ هذا الإنسان لو فرض أنه ليس مصليا ، فلا يكون تاركا للصلاة تركا موصلا ، ولكن الوجوب يلزمه ، فيجعل هذا الترك موصلا ، فكأنّ هذا الوجوب يطلب الترك الموصل ، لا أنّه لو كان هذا الترك تركا موصلا فهو يطلبه.

هذا مضافا إلى أنّه لو كان هذا بيان الثمرة ، لكان اللّازم الالتزام ببطلان العبادة بناء على القول بالمقدمة الموصلة أيضا فيما لو فرض أنّ هذا المكلّف سنخ مكلّف لو لم يكن عليه صلاة لأزال ، فكان ينبغي التفصيل بين مكلّف هو لا يريد أن يزيل بنفسه ، وبين مكلّف لا يريد أن يزيل ، لأنه يحمل همّ الصلاة ، فالصحيح من هذه البيانات هو ما تقدّم سابقا.

ولنا على هذه الثمرة إشكالان :

الإشكال الأول ، هو : إنّه لو سلّمنا بكل الأصول الموضوعية لهذه الثمرة ، مع ذلك نقول : إنّ إمكان تحصيل مقدمة موصلة حرام أيضا في المقام ، وذلك أنه لو بنينا على وجوب المقدمة الموصلة ، فمعناه أن الترك الموصل سوف يكون مقدمة للإزالة ، إلّا أنّ هذه الأصول الموضوعية للثمرة بنفسها ، تستبطن أن يكون فعل أحد الضدين مقدمة لترك الضد الآخر ، لأنّ الملاك في المقدّميّة هو التمانع بين الضدين ، فالتمانع إن قبلناه ، ينتج مقدميّة هذا الترك لذاك الفعل ، ومقدّميّة ذاك الفعل لهذا الترك ، وعليه يمكن القول بأن الإزالة واجبة وتركها حرام ، وفعل الصلاة موصل لترك الإزالة ، إذن فهو مقدمة موصلة للحرام ، فتكون الصلاة حراما ، إذن فالصلاة حرام لا لأنها نقيض للترك الواجب ، حتى يقال : الترك الواجب هو الترك الموصل خاصة ، والصلاة ليست نقيضا للترك الموصل ، بل لأنّها مقدمة موصلة للحرام فهي حرام ، ففعل الإزالة

٢٦٨

واجب ، وتركها حرام ، فمقدّمته الموصلة وهي الصلاة حرام ، إذن فلا يبقى فرق بين القولين من حيث النتيجة.

غاية الأمر أنه بناء على وجوب مطلق المقدمة ، حرمت الصلاة لأنها نقيض الواجب ، وبناء على خصوص المقدمة الموصلة ، تكون الصلاة حراما لأنها مقدمة موصلة للحرام.

الإشكال الثاني ، هو : إنّ الصلاة على القول بالمقدمة الموصلة ، تتصف بالحرمة ، بنفس الملاك الذي تتصف فيه بالحرمة ، بناء على القول بمطلق المقدمة ، وتوضيح ذلك بأمرين :

الأمر الأول ، هو : انّ وجوب المقدمة الموصلة ، مرجعه إلى وجوب متعلق بمركّب ارتباطي تكون ذات المقدمة جزءا منه ، وجزؤه الآخر هو سائر المقدمات.

الأمر الثاني ، هو : انّه كما أن الحب النفسي الاستقلالي المتعلّق بالشيء يكون ملازما لبغض نقيضه ، فكذلك الحب الضمني هو ملازم لبغض نقيضه ، والحب الضمني دائما متعلق بذات الجزء لا بالجزء المقيّد ، وهذا الحب الضمني حاله تماما حال الحب الاستقلالي في أنه سبب في بغض نقيضه. غاية الأمر ، أنّ الحب الضمني يقتضي بغض نقيضه بالبغض الاستقلالي الغيري ، لأن الحب يكون بملاك تحصيل الفائدة ، وهي لا تكون إلّا حين تجتمع الأجزاء ، والبغض يكون عند فوات الفائدة ، وهي إنّما تفوت بفوات بعض الأجزاء ، فالحب الضمني يترشّح منه بغض غيري استقلالي على نقيضه ، فيثبت أن وجوب المقدمة الموصلة ، مرجعه إلى وجوب ارتباطي متعلق بالمركب الذي يكون ترك الصلاة جزءا منه ، فترك الصلاة له حبّ ضمني ، وهذا الحب الضمني متعلق بذات ترك الصلاة ، فضده العام هو فعل الصلاة ، فيكون فعل الصلاة مبغوضا بغضا غيريا استقلاليا ، فتكون الصلاة حراما وباطلة على كلا القولين. إذن لا ثمرة بين مطلق المقدمة وخصوص الموصلة.

٢٦٩

ثم إن صاحب «الكفاية» (١) فتح مناقشة ثالثة مع الشيخ الأعظم «قده» نقلها عن تقريراته ، وصار بصدد دفعها ، ونحن نتعرّض لها من خلال بيانين ، للتشويش الذي يعتورها.

البيان الأول ، هو : انّ نقيض كل شيء رفعه ، فنقيض الفعل هو رفعه ، ونقيض الترك هو رفعه ، فالفعل ليس هو النقيض لما هو الواجب ، لا على القول بوجوب مطلق المقدمة ، ولا على القول بوجوب خصوص المقدمة الموصلة ، إذ على القول بوجوب مطلق المقدمة ، يكون الواجب هو مطلق الترك ، ويكون نقيضه هو رفعه ، وعلى القول بوجوب خصوص المقدمة الموصلة ، يكون الواجب هو الترك الموصل ، ويكون نقيضه هو الترك الموصل ، لا الفعل ، ولكن الفعل ملازم مع النقيض ، بناء على القول بوجوب مطلق المقدمة ، فيكون الفعل حراما من باب أنه ملازم مع نقيض الواجب ، لا إنّه هو نقيض الواجب ، فحرمة الفعل بناء على القول بوجوب مطلق المقدمة ، ليس باعتباره نقيضا ، بل لأنه ملازم للنقيض ، وهذا بعينه يتمّ بناء على القول الآخر ، وهو وجوب المقدمة الموصلة ، فيقال : الواجب هو الترك الموصل ، والنقيض المحرّم هو رفع الترك الموصل ، ورفع الترك الموصل المتعلق بالحرمة له حصتان ، لأن الترك الموصل عبارة عن المجموع المركّب من الترك والإيصال ، فرفعه يعني رفع المجموع ، وذلك ، تارة يكون برفع هذا الجزء ، وأخرى يكون برفع ذلك الجزء ، فهنا حصتان : رفع ذات الترك ، ورفع حيثيّة الإيصال ، وكلتاهما تحرم ، لأنّ الحرمة انحلاليّة ، وإحدى هاتين الحصتين ملازمة مع الفعل ، وهي رفع الترك الموصل الناشئ من رفع ذات الترك ، إذن فقد أصبح الفعل ملازما مع الحرام فهو حرام.

وبهذا لم يبق فرق بين القول بالمقدمة الموصلة ، أو القول بمطلق المقدمة ، وبهذا التقريب لا يرد كلام صاحب «الكفاية» ، إذ يستفاد من

__________________

(١) كفاية الأصول : مشكيني ج ١ ص ١٩٢ ـ ١٩٣.

٢٧٠

«الكفاية» (١) ، إنّه بناء على القول بالمقدمة الموصلة ، لا يكون الفعل ملازما مع النقيض أصلا ، بل هو أمر مقارن ، قد يتّفق وقد لا يتفق ، فلا ملازمة بين نقيض الواجب والفعل ، لإمكان الانفكاك بينهما.

ومثل هذا من «الكفاية» لا يرد على الشيخ الأعظم «قده» ، وذلك ، لأن صاحب «الكفاية» «قده» ناظر إلى جامع النقيض ، إذ ملازمة الفعل مع الحرام ليس بمعنى ملازمته مع جامع رفع الترك الموصل ، بل مع حصة من حصص رفع الترك الموصل الذي هو النقيض.

نعم يرد عليه : إنّ الحرمة لا تسري إلى الملازم ، وفرضها أنها لا تسري إلى الملازم ، هو فرض أنّ الثمرة المذكورة غير صحيحة ، فيتسجل إشكال ثالث على الثمرة.

البيان الثاني ، لكلام الشيخ «قده» ، هو أن يقال : بأنّ نقيض كل شيء رفعه كما تقدّم ، ويدعي أنّه إذا كان الواجب مطلق المقدمة ، فيحرم رفع مطلق الترك ، والفعل ليس هو النقيض ، بل هو مصداق النقيض.

وهو كما ترى ، ففي البيان الأول ، يدعي أنّ الفعل ملازم للنقيض ، بينما هنا يدّعي أنّ الفعل مصداق للنقيض ، ولا إشكال في أن الحرمة تسري من المفهوم إلى مصداقه.

وهذا أمر صحيح ، ولو أنكر السراية إلى الملازم.

وأمّا بناء على القول بالمقدمة الموصلة ، فالوجوب يتعلّق بالترك الموصل ، والحرام هو نقيضه ، أي : رفعه ، ورفعه له مصداقان : أحدهما : الفعل ، والثاني هو الترك المجرد.

ومن الواضح أنّ الجامع إذا حرم حرمت كلّ مصاديقه ، لأنّ الحرمة

__________________

(١) كفاية الأصول : مشكيني ج ١ ص ١٩٣.

٢٧١

انحلالية ، فعلى كلا القولين ، الفعل ليس هو النقيض ، بل هو مصداق النقيض.

وهذا البيان نستخلص الجواب عليه من كلام صاحب «الكفاية» (١) ، وذلك بدعوى التفصيل ، فالفعل مصداق للنقيض على القول بوجوب مطلق المقدمة ، ولكن ليس مصداقا على القول بالمقدمة الموصلة.

وهذا التفصيل لا وجه له بهذا النحو ، وذلك ، لأنّ نكتة دعوى المصداقيّة واحدة فيهما ، وهي صحة الحمل ، فيقال : هذا الفعل رفع للترك ، ورفع للترك الموصل ، فإن كانت صحة حمل عنوان على مصداق بالحمل الشائع يدل على المصداقيّة ، فهو مصداق على كلا القولين ، وإن لم يكن الحمل صحيحا ، أو لم يكن دليلا ، فهو كذلك على كلا القولين ، من دون فرق ، وبهذا يبدو أن البيان الثاني تام.

وإن شئت قلت ، إنّه لا موجب لهذا التفصيل بينهما بعد افتراض أن نقيض كل شيء رفعه أصلا موضوعيا لهما ، إذ لو كانت مصداقيّة الفعل لرفع الترك المطلق ، باعتبار انطباقه وحمله عليه بالحمل الشائع ، فهذا الملاك بنفسه موجود بالنسبة إلى الفعل ورفع الترك الموصل ، غاية الأمر ، أنّ هذا النقيض له مصداقان ومنشئان يحمل عليهما بالحمل الشائع.

إذن فلا يرد على هذا التقريب ما ذكره في «الكفاية» (٢) من أن الترك المطلق ، نقيضه رفعه ، والفعل مصداق له ، لأنه عينه ، ومتحد معه ، فتسري الحرمة إليه ، بخلاف الفعل بالنسبة إلى الترك الموصل ، فإنه ليس نقيضه ، ولذلك يرتفعان معا.

ولكون كلا هذين البيانين يشتركان في أصل موضوعي واحد هو أنّ نقيض كل شيء رفعه.

__________________

(١) كفاية الأصول : مشكيني ج ١ ص ١٩٣.

(٢) المصدر السابق.

٢٧٢

ولكون هذا الأصل الموضوعي هو الذي أوجب القول ، بأنّ الفعل بعنوانه ليس هو النقيض ، فليس هو رفعا للترك بل هو إمّا ملازم أو مصداق.

مثل هذا اضطرّ المحقق الأصفهاني «قده» (١) للدخول في مناقشة هذا الأصل الموضوعي المفترض في البيانين ، حيث قال : إنّ هذا الالتزام إنما كان بملاحظة ما هو المشهور في الألسنة ، من أن نقيض كلّ شيء رفعه ، والفعل أمر وجودي ، وليس رفعا للترك ، بل رفعه ونقيضه اللّاترك ، هو غفلة عن المراد بالرفع ، فإنّ الرفع في هذه العبارة كما عليه أهله هو الأعم من الرفع الفاعلي والرفع المفعولي ، فالترك رفع للفعل ، وهذا رفع فاعلي ، والترك مرفوع بالفعل وهذا رفع مفعولى ، والإنسان إنما يكون نقيضا للّاإنسان حيث أنه مرفوع به ، واللّاإنسان يكون نقيضا للإنسان حيث أنه رافع له ، وإلّا لم يتحقق التناقض بين شيئين أبدا ، بداهة أنّ اللّاترك وإن كان رفعا للترك ، لكن الترك ليس رفعا للّاترك ، والمناقضة إنما تكون بين الطرفين.

وهنا يمكن أن يقال : بأن المحقق الأصفهاني «قده» لعلّه يريد أن يبطل كلا التقريبين معا ، ويبيّن وجه التفكيك بين موقع الفعل بناء على وجوب مطلق المقدمة ، فإن موقع الفعل بناء عليه إنما هو نقيض الترك الواجب ، بينما موقعه على القول بالمقدمة الموصلة ، ليس نقيض الواجب ، إذ إنّ الفعل يرفع بالترك فيكون نقيضه ، أي : مرفوعه ، وهذا رفع مفعولي ، فلو فرض أنّ الواجب الغيري هو الترك لحرم الفعل تبعا له ، وأمّا الترك الموصل فليس الفعل رفعا له ، لا بالمعنى الفاعلي ، ولا بالمعنى المفعولي ، وإنما يكون الفعل مرفوعا بذات الترك وليس هو الواجب.

وتحقيق المطلب ، هو : إنّنا لا نريد أن نفتّش عن النقيض في مصطلح الفلاسفة ، وإنما نريد أن نعرف الملاك الموضوعي الذي اقتضى أن يكون الأمر بالشيء مقتضيا للنهي عن ضدّه العام ، وما هي حدود ذلك الضد العام ، إذ قد

__________________

(١) نهاية الدراية : الأصفهاني ج ١ ص ٣٦٣.

٢٧٣

يكون ذلك الضد أوسع أو أضيق منه في المصطلح الفلسفي ، ولما ذا فصّل الأصوليون بين الضد العام والخاص ، وما هي النكتة التي اقتضت أن نرى الفعل من باب الضد العام على كلا القولين ، أو من باب الضد الخاص ، أو من باب الضد العام على أحد القولين ، والضد الخاص على قول آخر؟

فالضد العام يمكن أن نعبّر عنه بأحد تعبيرين ، حيث يمكن إدّعاء أن كليهما مساوق مع الوجدان القاضي بأنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه العام.

التعبير الأول ، يقال فيه : إنّ الضد العام هو الشيء الذي يكون معاندا للشيء الآخر ابتداء ، كمعاندة الترك للفعل ، ومعاندة الفعل للترك ، وليس في طول معاندة شيء آخر ، فإنّ كل شيء يعانده ابتداء عدمه ، وعدم كل شيء يعانده ابتداء معدومة ، وهذه معاندة ابتدائية.

ثمّ إنّ هناك معاندة أخرى تتوقف على هذه المعاندة ، وهي المعاندة بين الأمور الوجودية ، كالمعاندة بين أن يكون الإنسان سائرا في هذه الجهة ، وسائرا في تلك الجهة ، فالمعاندة الثانية مبتنية على المعاندة الأولى ، وهذه المعاندة الثانية هي المسماة بالضد الخاص ، ولو بطلت المعاندة بين الأمر الوجودي والعدمي ، بطلت المعاندة بين الوجودين.

وعليه يصح أن يقال : إنّه كلّما كان المعاند معاندا بالنحو الأول ، فهو ضد عام ، وكلّما كان معاندا بالعرض أي : بالنحو الثاني فهو ضد خاص.

التعبير الثاني : وهذا التعبير هو نفس الأول ، لكن نصوغه بتعبير آخر أصولي ، فنقول : إنّ كلّ شيئين متعاندين إذا أحضرهما الإنسان في نفسه ، فتارة يفرض أنه بالإمكان أن يحبّهما معا رغم تعاندهما ، غاية الأمر أنّه لا يمكن للعبد أن يأتي بهما معا ، وذلك ، كالكون في مكانين ، في مقام علي «ع» ومقام الحسين «ع» ، فإن الأمر بأحدهما لا يقتضي النهي عن الآخر ، وتارة أخرى ، يفرض أنّ المتعاندين سنخ متعاندين ، بحيث أنّ النفس البشرية تضيق عن

٢٧٤

حبّهما معا ، كالصلاة ، وترك الصلاة ، فالأمر بأحدهما يقتضي النهي عن الآخر.

وهذا التعبير الثاني ، مواز للتعبير الأول ، فإذا عرفنا نكتة الوجدان الأصولي القاضي بأن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده العام ، فإنّنا نرى هذه النكتة موجودة في المقام ، فإنّ من أحبّ الترك الموصل ، لا يمكنه أن يحبّ الفعل ، وكذلك من أحبّ الترك المطلق لا يحب الفعل.

إذن فليست نكتة التفصيل بين الضد العام والضد الخاص ، هي أنّه لا يمكن أن يرتفعا معا ، أو يجتمعا معا ، وإلّا لتمّت شبهة الكعبي ، فالترك الموصل هو من الضد العام عند الأصوليين أيضا.

وعليه فالثمرة المزبورة باطلة. والمناقشة الثالثة هي الصحيحة.

٢٧٥
٢٧٦

ثمرة وجوب المقدمة

الجهة السادسة :

بعد أن انتهى الكلام حول ثمرة المقدمة الموصلة ، نستأنف الكلام حول ثمرة البحث في مقدمة الواجب ، والمقصود بالبحث هنا ، هو ثمرة البحث من الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدمته ، لا ثمرة تمام ما تقدّم من العناوين.

وتوضيح الحال يتوقف على مقدمة ، حاصلها إنّ الثمرة يتصور افتراضها على نحوين :

النحو الأول ، هو : إنّه تارة تكون ثمرة البحث عن أصل جعل المولى ، من قبيل أنّ حجيّة خبر الواحد هل يثبت بها جعل المولى لوجوب السورة أو وجوب صلاة الجمعة ، لأنّ زرارة أخبر بذلك مثلا؟ ، وهذه ثمرة عن أصل الجعل.

النحو الثاني ، هو : أن نفرض الفراغ عن الجعل والعلم مسبّقا ، كما لو كان قد صدر من المولى جعلا للحكم على موضوع كلّي ، وإنّما يقع البحث في أن موضوع أو متعلّق ذلك الجعل الكلي ، هل ينطبق على هذا المورد أو لا ينطبق؟.

فمثلا حرمة أخذ الأجرة على الواجب ، هي جعل من الجعول ، إذا ثبت برواية زرارة ، يكون ثمرة لحجيّة خبر الواحد ، وهو من النحو الأول ، فإذا وقع البحث في أنه هل هذا واجب حتى يحرم أخذ الأجرة عليه أو لا؟. فهذه ثمرة

٢٧٧

من النحو الثاني ، وهذا النحو الثاني ليس هو المقصود في بحث ثمرة وجوب المقدمة ، وإنما المقصود من البحث في المسألة الأصولية هنا ، هو النحو الأول ، وهو إثبات جعل شرعي ، لا تطبيق جعل ثابت على صغرى من صغرياته بعد الفراغ عن أصل الجعل.

بناء على هذا ، قد يقال : بأنّ بحث الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدمته ، لا ثمرة أصوليّة له ، لأنّ الثمرة لا تخلو من أحد أمرين :

الأمر الأول ، هو أن يقال : إنّ الثمرة من الملازمة ، هي التوصل إلى الوجوب الغيري للوضوء ، أو نصب السلم ، وهذه ثمرة أصولية تدخل في النحو الأول ، لأنه يستكشف بالملازمة أصل جعل الوجوب الغيري ، وهذا هو مفاد عبارة المحقق الخراساني (١).

إلّا أنه اعترض عليه : بأنّ الثمرة المتوقّعة من المسألة الأصولية ، وإن كان هو إثبات جعل من قبل المولى ، ولكن ليس كل جعل وكل حكم ، بل الحكم الذي يكون موضوعا للثواب والعقاب ، وقابلا للتنجز وعدمه ، لأنّ هذا هو المهم عند الفقيه ، والوجوب الغيري لا يقرّب ولا يبعّد ، أي : لا ثواب عليه بنفسه ، ولا عقاب على تركه بنفسه ، فلا شأن للفقيه به ، فلا يكون ثمرة للمسألة الأصوليّة ، لأنّ الوجوب الغيري خارج عن اهتمام الفقيه.

الأمر الثاني ، هو أن نقول : بأنّ وجوب المقدمة الغيري يحقق تطبيقا من تطبيقات جعل مفروغ عنه من قبيل حرمة الأجرة على الواجبات ، فإنه بواسطة الملازمة يمكننا تشخيص ومعرفة أن المجعول ما هو ، على اختلاف في بعض التشقيقات ، ومثل هذه الثمرة ليست ثمرة أصولية ، بل تتصور لأي بحث في مفردات المعرفة البشرية. وتقع ثمرة له ، وعليه ، فهي أجنبية عن الثمرة الأصولية. ومن هنا قيل بأنه لا ثمرة لهذا البحث.

__________________

(١) كفاية الأصول : مشكيني ج ١ ص ١٣٩ ـ ١٩٢.

٢٧٨

إلا أن الصحيح وجود ثمرة أصولية على بعض الأقوال والتقادير في وجوب المقدمة ، حيث يقع التنافي بناء عليه ، بين وجوب ذي المقدمة النفسي ، مع حرمة المقدمة ، ومن ثمّ يقع التعارض بين دليليهما ، وقد لا يقع على بعض التقادير الأخرى.

وتوضيح ذلك ، هو أنّ المقدمة على ثلاثة أقسام :

القسم الأول : مقدمة مباحة بطبعها ، وبتمام أفرادها.

القسم الثاني : مقدمة محرّمة بطبعها ، بقطع النظر عن مقدميّتها.

القسم الثالث : مقدمة هي بطبعها بعض أفرادها حرام ، وبعضها الآخر مباح.

أما القسم الأول ، فلا يتصوّر فيه ثمرة على القول بوجوب المقدمة ، لأنه من الواضح أنه لا تزاحم ، ولا تعارض.

أمّا القسم الثاني ، فهو من قبيل توقف إنقاذ الغريق على الاجتياز المحرّم.

فهنا يوجد دليلان : دليل «لا تغصب» ، ودليل «أنقذ الغريق» ، وكل من الدليلين يدل على ثبوت الجعل على القادر ، والقادر هو ، إمّا شخص غير مشغول ، أو شخص مشغول بواجب مساو لهذا الواجب.

وحينئذ ، إن بنينا على عدم وجوب المقدمة رأسا ، وأنكرنا الملازمة ، فهذان الدليلان متزاحمان ، وليس بينهما تناف وتعارض ، لأنّ الجعل في كل منهما لا ينافي الجعل في الآخر ، بل كل منهما يطلب امتثاله مع القدرة ، مع أن المكلّف لا يستطيع امتثالهما معا. وحينئذ في مثله ، يجري قانون التزاحم في مقام الامتثال ، فيقدّم الأهم ، فإن كان الأهم هو ذو المقدمة ، فيجب امتثال خطابه.

وإن بنينا على وجوب المقدمة ، وقلنا : إنّ الواجب هو خصوص المقدمة

٢٧٩

الموصلة ، فالأمر كذلك أيضا ، فلا تعارض بين الدليلين ، وذلك لأن دليل «لا تغصب» ينشئ حرمة على القادر غير المبتلي بواجب مساو أو أهم ، فإن كان «الانقاذ» مساو أو أهم ، فمعناه ، أن دليل «لا تغصب» ينشئ حرمة على من لا ينقذ الغريق.

وهنا لا تعارض بين الدليلين ، بل الدليلان متزاحمان ، فيجري قانون التزاحم ، فيقدم الأهم ملاكا.

وأمّا إذا قلنا باستحالة اختصاص الوجوب بالمقدمة الموصلة ، حينئذ سوف يتحقّق تعارض بين «لا تغصب» ، و «أنقذ الغريق» ، لأن دليل «أنقذ» يستتبع وجوبا متعلقا بمطلق المقدمة ، أي : بمطلق الغصب ، الجامع بين الموصل وغيره ، وهذا ينافي حرمة الغصب ولو على تقدير عدم «الإنقاذ» ، إذن فيحصل تعارض بين الحرمة والوجوب ، وتسري المعارضة إلى دليليهما ، وحينئذ إذا لم يكن عندنا علم من الخارج ، فيجب أن نتعامل مع الدليلين معاملة المتعارضين ، إذن فقد ظهرت ثمرة في هذا القسم.

وأمّا القسم الثالث ، وهو ما إذا كانت المقدّمة لها فردان : أحدهما بطبعه محرّم ، والآخر بطبعه محلّل.

وهنا إذا بنينا على عدم وجوب المقدمة ، فلا تعارض ولا تزاحم.

وأمّا إذا قلنا بوجوب المقدمة ، وقلنا : إنّ الوجوب ثابت على الحصة المباحة ، كما هو المشهور ، لعدم وجود مقتض لترشيح الوجوب الغيري على المقدمة المحرّمة بطبعها ، فلا تعارض أيضا.

وأمّا إذا بنينا على مدّعى السيد الخوئي «قده» (١) من أنّ الوجوب الغيري ، «مقتضيه» ، نسبته إلى المباح والمحرّم على حدّ واحد ، لأنّ ملاك الشوق الغيري هو التوقف ، وهو موجود في كلتا المقدمتين على حد سواء ،

__________________

(١) محاضرات فياض : ج ٢ ص ٤٣١ ـ ٤٣٢.

٢٨٠