بحوث في علم الأصول - ج ٥

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٣

فمقتضى القاعدة تعلّق الوجوب الغيري بالجامع بين المحرّم والمباح ، فيدخل الباب في باب اجتماع الأمر والنهي بالمعنى الأعم من الاجتماع.

وحينئذ ، إن قيل : بأن الوجوب الغيري متعلّق بعنوان المقدمة ، فيكون المقام من باب تعدّد العنوان ، أي : من باب اجتماع الأمر والنهي بالمعنى المصطلح ، لأنّ عنوان الواجب غير عنوان الحرام.

فإن قلنا بجواز الاجتماع في تلك المسألة ، فلا تعارض.

وإن قلنا بعدم جواز الاجتماع ، فلا تعارض أيضا ، لاختصاص الوجوب بالموصلة.

وإن قلنا : بأن عنوان المقدمة حيثيّة تعليليّة ، والوجوب الغيري لا يتعلّق بعنوان المقدمة ، بل بواقع «نصب السلم» «والمشي إلى الشاطئ» ، أي : بواقع المقدّمة.

وحينئذ قد يتفق أن تكون الحرمة متعلقة بعنوان الغصب ، فتدخل المسألة في باب اجتماع الأمر والنهي.

وإن كانت الحرمة متعلّقة بنفس العنوان ، تعيّن القول بامتناع اجتماع الأمر والنهي ، وحينئذ ، يختص الوجوب بالموصلة إذا كان الملحوظ عالم الثبوت والدلالة الالتزامية العقلية لدليل الوجوب.

وإن كانت الدلالة التزامية لفظية ، كان من التعارض بين الخطابين ، كما مرّ في القسم الثاني.

إذن فالقسم الثالث ، على بعض تقادير هذه المسألة ، يدخل في الامتناع ، وعلى البعض الآخر ، لا يدخل.

ولعلّ هذا ، هو المراد من الثمرة المنسوبة إلى «الوحيد البهبهاني» ، من دخول المقام في مسألة اجتماع الأمر والنهي ، وحينئذ لا ترد إشكالات صاحب «الكفاية» الثلاثة.

٢٨١
٢٨٢

حكم الشك في وجوب المقدمة :

الجهة السابعة :

أو تأسيس الأصل عند الشك في وجوب المقدمة.

ومصبّ إجراء هذا الأصل ، تارة يكون نفس محطّ البحث الأصولي ، أي : مسألة الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته.

وتارة أخرى يكون مصبّه ـ المسألة الفقهية ـ أي : في مرحلة النتيجة ، وهي نفس وجوب المقدمة إثباتا ونفيا.

والصحيح ، هو : إنّه لا يمكن الرجوع في المقام ، لا إلى الأصل بلحاظ وجوب المقدمة ، ولا بلحاظ نفس الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته ، إلّا في موارد نادرة.

وتوضيح ما ينبغي أن يقال في مقام الإشكال على إجراء الأصل في كلا المقامين هو : إنّه إن أريد إجراء الأصل في الوجوب الغيري ، أي : المقدمة ، فإنه لا يجري فيها شيء من الاستصحاب أو البراءة ، وذلك لأنّ الأصل العملي لا بدّ أن ينتهي إلى الأثر العملي في مقام التعذير والتنجيز ، واستصحاب عدم الوجوب أو البراءة ، لا يجري إلّا إذا كان ينتهي إلى التنجيز والتعذير ، وإلّا يكون جعله لغوا صرفا ، لوضوح أن الأصول إنما جعلت لذلك ، وكل حكم ظاهري لا يتصوّر فيه التعذير والتنجيز ، لا تشمله أدلة الأحكام الظاهرية.

وفي مقامنا هذا ، لا يتصور تنجيزا أو تعذيرا للوجوب الغيري مستقلا ،

٢٨٣

كما أنّ الوجوب الغيري لا يقع موضوعا للثواب والعقاب ، ومن هنا فلا معنى للتأمين عليه ، لا بلسان البراءة ، ولا بدليل الاستصحاب.

نعم لو فرض أن الوجوب الغيري وقع موضوعا لحكم نفسي ، فحينئذ ، لا بأس بإجراء الاستصحاب لنفي الوجوب الغيري.

فيقال : إنّ نصب السلّم لم يكن واجبا قبل وجوب الكون على السطح ، فيستصحب عدم وجوب نصب السلّم ، ويقصد بالاستصحاب هنا ، نفي الأثر الشرعي ، وهو الوجوب المترتب عليه لو كان هناك مثل هذا الدليل ، فيكون استصحاب عدم الوجوب الغيري منتهيا إلى الأثر العملي ، لا بلحاظ محركيّة نفس الوجوب الغيري ، بل للتأمين على النتيجة المترتبة على الوجوب الغيري.

إلّا أنّ هذا غالبا ، هو مجرد فرض ، لأنّ ما يذكر له من المصاديق قابل للمناقشة.

فمثلا يقال : إنّ الدليل دلّ على حرمة أخذ الأجرة على الواجب ، وحينئذ ، هذه الحرمة ليست حكما غيريا ، بل هي حكم نفسي تكليفي أو وضعي ، بمعنى البطلان ، وقد أخذ في موضوعه عنوان الواجب ، والواجب يشمل بإطلاقه الواجب الغيري ، فإذا شككنا في اتصاف هذه المقدمة بالوجوب الغيري ، فنشك في حرمة أخذ الأجرة ، فنستصحب عدم كون هذه المقدمة واجبة ، وبالتالي نكون قد نفينا حرمة أخذ الأجرة ، لأن أخذ الأجرة ، إنما يحرم على الواجب ، وهذا العمل ليس بواجب ، فالأجرة عليه غير محرمة.

هذا الكلام لا بأس به لو دلّ دليل على عدم جواز أخذ الأجرة على الواجب بهذا العنوان.

ولكن لم يدل دليل على ذلك بهذا العنوان ، وإنّما عدم جواز أخذ الأجرة يرتبط بإحدى نكتتين : إحداهما غير موجودة في المقدّمة على كل حال ، والثانية موجودة على كل حال ، سواء قلنا بالوجوب الغيري ، أو لم نقل.

أمّا النكتة الغير موجودة في المقدّمة على كل حال ، حتى لو قيل

٢٨٤

بالوجوب الغيري ، هي نكتة استظهار المجّانيّة من دليل الوجوب ، بمعنى أنّ المولى يوجب على المكلّف أن يعمل عملا مجانيا ، وحينئذ إن سلّم استظهار المجانية ، فهو يسلّم من جهة الأمر بشخصه ، بمعنى أنّ من أوجب عملا مجانيّا على شخص ، فلا يجوز لهذا الشخص أخذ الأجرة عليه ، أمّا الغير فلا بأس بأخذه الأجرة على ذلك العمل ، وعلى هذا فلا يجوز أخذ الأجرة على العمل من قبل المكلّف به.

وهذه النكتة لا توجد في المقدمات حتى لو قيل بوجوبها الغيري ، لأنّ مجرّد وجوبها الغيري لا يقتضي الإلزام بها مجانا ، بل إنما يقتضي إيجادها ، وأمّا الإتيان بها مجانا فيحتاج إلى دليل آخر ، ولا يكفي استظهار المجانية من دليل الوجوب.

وأمّا النكتة الثانية ، فهي : إنّ الإنسان إنما يأخذ الأجرة على عمله إذا كان مسلطا عليه ، حيث يكون له أن يبذله أو لا يبذله ، وحينئذ لا بدّ له من مقابل وأجرة في مقابل بذله ، فله أن يأخذ الأجرة.

وأمّا إذا كان لا بدّ له من أن يعمله ، فمثل هذا لم يبق له ماليّة ، فكأنّ ماليّته قد أهدرت ، وكأنّ ليس له سلطان بعد عليه ، إذ العقلاء لا يعتبرونه مسلطا بعد على عمله إذا كان لا بدّ له من أن يبذله.

وهذه النكتة لو تمّت ، فهي موجودة في المقدمة على كل حال ، لأن اللّابدية في مقام العبودية ثابتة على كل حال ، فالمكلّف كما أنّه لا بدّ له من الكون على السطح ، فإنّه لا بدّ له كذلك من «نصب السلّم» ، فمسألة عدم حرمة أخذ الأجرة غير مربوطة ، إذن بالوجوب الغيري ، من دون فرق بين القول بالوجوب الغيري وعدمه.

وقد تذكر كبرى أخرى في المقام غير هذه. وحاصلها ، هي : إنّ الفاسق لا يجوز الاهتمام به مثلا ، فيقال : لو ترك الإنسان المقدمة وهي واجبة بالوجوب الغيري ، فهو إذن فاسق ، وإذا لم تكن واجبة فلا يكون فاسقا ، فهنا

٢٨٥

يستصحب عدم وجوب المقدمة لنفي كون الإنسان التارك لها فاسقا ، فيجوز الاهتمام به.

والجواب عليه ، هو : إنّ الفسق تارة يفرض فيه كفاية الذنب الواحد ، سواء أكان صغيرا أو كبيرا ، «كما هو الصحيح» ويبقى فاسقا ما لم يتب ، فإذا تاب مع بقاء الملكة ، رجعت إليه العدالة.

وحينئذ لا مجال لهذا الكلام ، لأنّ تارك المقدّمة تارك لذيها على كل حال ، فهو فاسق.

وأمّا إذا قلنا بأن الفسق متقوّم بارتكاب الكبيرة ، والإصرار على الصغائر ، ولنفرض أنّ ذا المقدمة تركه من الصغائر فلو فرض عدم وجوب المقدمة ، إذن فلم تصدر منه إلّا صغيرة واحدة ، وهي ترك ذي المقدمة ، فلا يكون فاسقا.

وأمّا إذا بني على وجوب المقدمة يكون قد صدر منه إذن محرّمان صغيران ، المقدمة ، وذو المقدمة ، إذن فهو فاسق.

وهذا الكلام غير صحيح ، حتى لو قلنا بأنّ الفسق يكون بالإصرار على صغيرتين ، وأنه لا بدّ أن تكون الصغيرتان على كل واحدة منهما عقاب ، لقبح خاص بهما عند العقل ، وإلّا فالمقدمة قبحها إذا تركت ، قبح غيري لا عقاب عليه ، وحينئذ لو سلّمنا هذا المبنى ، فإنّ ربط الواجب الغيري بهذا غير صحيح ، لأنّ المراد من الصغائر هو بحيث أن كل صغيرة لو انفردت لعوقب عليها منفردة.

وفي المقام غير هذا ، إذ ندّعي أن الإصرار على الصغائر أمر نفساني ، وحينئذ لا يمكن نفيه باستصحاب عدمه ، أو غير ذلك ، لأنه أمر نفساني ملازم لترك الواجب ، ونفيه بنفي الأمر الخارجي لا يتم إلّا على القول بالملازمة ، بل حتى لو سلّمنا التصميم في كل صغيرة ، فإنّ عنوان الإصرار حالة نفسية ملازمة لترك الواجبين ، فلا يثبت بالاستصحاب لأنه يكون من الأصل المثبت.

٢٨٦

وقد تذكر كبرى ثالثة ، وهي : براءة ذمة الناذر فيما لو نذر أن يأتي بواجب ، فإنّه لو قيل بوجوب المقدمة غيريا ، ثم أتى بهذه المقدمة ، فقد برئت ذمّته ولو لم يأت بذي المقدمة ، بخلاف ما إذا لم نقل بوجوب المقدمة ، فإنه لم تبرأ ذمته.

وحينئذ لو أجرينا استصحاب عدم وجوب المقدمة ، تثبت براءة ذمته.

وهذه الكبرى غير تامة ، لأنها موقوفة على معرفة موضوع أدلة لزوم الوفاء بالنذر ، ففي نذر صلاة ركعتين في المسجد يوجد عنوانان : أحدهما عنوان صلاة ركعتين ، وعنوان ثانوي آخر هو الوفاء ، لأنّ الركعتين وفاء.

وهنا لا إشكال في أنّ متعلّق التزام الناذر إنما هو العنوان الأول ، لأن الثاني ينشأ من الأول.

ويبقى أن نعرف متعلّق إلزام الشارع ما هو ، هل هو عنوان الوفاء بما هو وفاء بنحو الموضوعية ، أم إنّه عنوان الوفاء بما هو مشير إلى صلاة ركعتين؟.

فعلى الأول : يكون الاستصحاب الذي يجري لتحقيق أنّ هذا مصداق للطبيعة المنذورة أو لا ، يكون استصحابا مثبتا للوازم الطبيعة التي تعلّق بها التزام الناذر ، لأنّ عنوان الوفاء عنوان ثانوي ملازم عقلا مع الطبيعة التي تعلّق بها التزام الناذر.

وعلى الثاني : فلا بأس بإجراء الاستصحاب ، لأن الناذر ، إن نذر أن يأتي بواجب ثم شك ، فالحكم الشرعي تعلّق بالإتيان بواجب.

وهكذا يستخلص أن إجراء الأصل في نفس وجوب المقدمة ، لا أساس له غالبا ، على أنّ مثل هذه الثمرة يمكن تصورها في كل مسألة. هذا في المسألة الفقهية.

وأمّا المصب الثاني لإجراء الأصل ، وهو الملازمة بين الوجوبين : فمن الواضح أنه لا يجري أصل عملي ، ولا استصحاب عدم الملازمة ، وذلك بنفس

٢٨٧

النكتة المتقدمة في المصب الأول ، وهي عدم انتهائه إلى الأثر العملي من التنجيز والتعذير ، مضافا إلى أن الأثر العملي المترقب ، إنما هو الانتهاء إلى الوجوب الغيري ، والحال أنه قد فرضنا أن الوجوب الغيري لا ينتهي إلى الأثر العملي المطلوب.

بل حتى لو سلّم أن الوجوب الغيري له أثر عملي ، فمع ذلك لا يجري الأصل في الملازمة ، باعتبار أنّ ترتب الوجوب الغيري على الملازمة ، هو ترتب تكويني عقلي لا شرعي ، لأنّ الترتّب الشرعي ، هو عبارة عن ترتب الحكم المجعول على موضوعه المحدّد ، وأمّا ترتب نفس الجعل على ظروف المولى التي دعت إلى الجعل ، فهو ترتب عقلي ، لأنّه ليس بجعل آخر من قبل الشارع بما هو شارع.

وفي المقام ، الملازمة هي التي دعت المولى كي يجعل ، وليس المولى قد جعل الوجوب الغيري ، وكان موضوع جعله هو الملازمة ، كما قد جعل وجوب الحج على الاستطاعة.

وإن شئت قلت : إنّ عدم جريان الأصل في مصبّه الثاني ، وهو الملازمة بين الوجوبين أكثر وضوحا من الأول ، إذ مضافا إلى ما تقدّم من عدم انتهائه إلى أثره العملي من التنجيز والتعذير ، يقال : إن ترتب الوجوب الغيري للمقدمة على الملازمة ليس شرعيا ، لأنّ الملازمة بين الجعلين النفسي والغيري ليس شرعيا ، وإنما الشرعي هو ترتب المجعول على موضوعه ، لا ترتب الجعل على أسبابه وظروفه ، فهو ترتب عقلي ، وكذلك عدم جريانه في مورد المسألة الفقهية كما عرفت ، لأنه لا ينتهى إلى أثر عملي في مقام التنجيز والتعذير ، غير أن صاحب «الكفاية» «قده» أشار إلى عدة إشكالات أخرى تصدّى إلى دفع جملة منها (١) :

* الإشكال الأول : وهو يرد على إجراء الأصل بصيغته الاستصحابية في

__________________

(١) كفاية الأصول : مشكيني ج ١ ص ١٩٩.

٢٨٨

مورد المسألة الأصولية ، ولا يرد في المسألة الفقهيّة.

وحاصل الإشكال ، هو : إنّ استصحاب عدم شيء ، إنما يكون فيما إذا علم بعدمه في زمان ، ثمّ شكّ في انتقاضه ، وحينئذ فإن لوحظ وجوب المقدمة فيقال : كان يعلم بعدمه سابقا ، كما لو كان يعلم قبل الزوال بعدم وجوب الصلاة ، إذن فلم يكن هناك وجوب للوضوء ، وبعد الزوال يشكّ في أنه هل حدث وجوب غيري على الوضوء أو لا؟ حينئذ يستصحب عدم حدوث وجوب غيري للوضوء.

وأمّا في مورد المسألة الأصولية ، وهي الملازمة بين وجوب المقدمة وذيها : فهنا يستشكل بالحالة السابقة ، لأنّ الملازمة لو كان لها حالة ثابتة فهي أزلية الثبوت ، وعلى فرض عدمها ، فهي أبدية العدم ، إذن فلا موضوع للاستصحاب فيها على كل حال.

وتحقيق الكلام في ذلك أنّ للملازمة معنيان :

المعنى الأول : هو أن تكون الملازمة من طرز القضية الشرطية ، كما نقول : لو وجد وجوب الصلاة ، لكان مستلزما لوجوب الوضوء. وهذه الملازمة على فرض صدقها ، فهي صادقة حتى قبل تحقّق طرفيها الشرط والجزاء ، وليست لها حالة سابقة حتى تستصحب.

المعنى الثاني للملازمة ، هو : أن تكون الملازمة بنحو القضية الفعلية ، أي : إنّ علّيّة وجوب الصلاة لوجوب الوضوء ، ليست لأجل أنه بحيث لو وجد وجوب الصلاة ، وجد وجوب الوضوء ، إذ إنّ هذه العليّة إذا أخذت بثبوتها الفعلي المنتزعة في طول وجود العلة خارجا ، فهي مسبوقة بالعدم لا محالة ، لأنّ هذه العليّة شأن من شئون وجود وجوب الصلاة في الخارج ، إذ قبل وجود الوجوب للصلاة ، لا عليّة له. ومن هنا يجري استصحاب العدم الأزلي لهذه العليّة والملازمة.

إذن ففرق بين نحوي العليّة ، بين النحو اللولائي ، والنحو الفعلي ، إذ

٢٨٩

الثاني مسبوق بالعدم ، فيجري الاستصحاب فيه.

* الإشكال الثاني : وهذا الإشكال لا يختص بمورد المسألة الفقهية ، بل يعم المسألة الأصوليّة وحاصله :

إنّنا نريد أن ننفي بالأصل الوجوب الغيري ، وإجراء الأصل العملي لنفي الوجوب الغيري ، يؤدي إلى احتمال ارتكاب المحال ، إذ نحتمل الملازمة بين الوجوبين : النفسي والغيري ، واستحالة الانفكاك بينهما ، وإجراء الأصل لنفي الوجوب الغيري ، تفكيك بين ما يحتمل أنهما متلازمان ، والتفكيك بينهما مستحيل ، ومعنى هذا ، أننا نعمل عملا نحتمل كونه مؤديا إلى محال ، فيكون محالا ، إذ احتمال المحال محال ، وثبوت ما يحتمل استحالته محال.

بينما الأصول العملية وبقية الحجج الشرعية ، لا بدّ من انتهائها إلى نتائج مقطوعة لا محتملة ، وإلّا فإحتمال الاستحالة في ثبوت التعبّد ، مساوق مع عدم ثبوته.

وهذه النكتة تختص بالمقام ، وهي بخلاف ما لو أجرينا استصحاب عدم وجوب الدعاء عند رؤية الهلال ، فإننا هناك لا نحتمل أن يؤدي ذلك إلى المحال.

وقد تعرض صاحب الكفاية (قده) (١) للجواب على هذا الإشكال حيث قال : إنّه يكون تاما على تقدير ، ولا يكون تاما على تقدير آخر ، ذلك لأنّ الاستصحاب لا ينفي الوجوب الغيري واقعا وحقيقة ، وإلّا قلنا بالتصويب ، وإنما ينفي فعليّة ذلك الحكم ، وحينئذ فإن كانت الملازمة المحتملة بين الوجوبين محتملة في مرحلة الواقع دون مرحلة الفعليّة ، أي : بين واقع وجوب الصلاة والوضوء ، لا فعليّة وجوب الصلاة أو الوضوء ، إذا كان هكذا ، فالإشكال غير وارد ، وذلك لأننا لا نحتمل الملازمة في مرحلة الفعلية.

__________________

(١) كفاية الأصول : مشكيني ج ١ ص ١٩٩ ـ ٢٠٠.

٢٩٠

إذن فما هو محتمل الاستحالة ، يكون بلحاظ مرحلة ، والتفكيك بالأصل يكون بلحاظ مرحلة أخرى. وأمّا إذا كانت الملازمة المحتملة محتملة في كلا العالمين ، بحيث أن وجوب الصلاة واقعا ، يستلزم وجوب الوضوء واقعا ، ووجوبها فعليا ، يستلزم وجوبه فعليا ، إذا كان هكذا ، يتم الإشكال ، لأننا سنوجد تفكيكا بين الفعليتين بالأصل ، ونحن نحتمل استحالة ذلك.

وهذا الكلام ينحل إلى مطلبين.

* المطلب الأول : هو أنّ الإشكال ، غير وارد على تقدير.

* المطلب الثاني : هو أنّ الإشكال ، وارد على تقدير احتمال الملازمة في كلا العالمين.

* أمّا المطلب الأول : فإنّ الظاهر من لحن عبارة المحقق الخراساني «قده» (١) هو الميل إلى هذا المطلب ، وهو أنّ الملازمة المحتملة ، إنّما هي في مرحلة الواقع دون الفعلية ، بينما المنفي بالأصل ، هو مرحلة الفعليّة دون الواقع.

إذن فهنا يوجد بحثان : أحدهما ، جريان الأصل فيما لو كانت الملازمة بين الوجوبين في مرحلة الأحكام الواقعية فقط. والثاني : عدم جريانه فيما إذا كانت الملازمة بينهما في مرحلة الأحكام الفعليّة.

وهنا لا بدّ من التساؤل ، بأنه ما ذا يريد المحقق الخراساني «قده» من مرحلة الفعليّة ومرحلة الواقع في الأحكام الشرعية ، إذ إنّ هناك ثلاثة معان للفعلية في قبال الواقع :

المعنى الأول : هو أنّ الفعلية ، وكما يتناسب مع مصطلح المحقّق الخراساني «قده» فيها ، هي الأحكام الإنشائية التي لا يكون على طبقها إرادة

__________________

(١) كفاية الأصول : مشكيني ج ١ ص ٢٠٠.

٢٩١

مولوية تامة ، أي : إنّه لا حقيقة لها سوى الاعتبار والإنشاء ، ثم تصبح أحكاما فعليّة ، وفي مرتبة الحكم الفعلي ، عند ما يكون على طبقها إرادة مولوية جادة.

والخلاصة : إنها حكم إنشائي لكن فيه روح الحكم الفعلي ولذا قال : إنّه لا تنافي بين الأحكام الإنشائية لأنها مجرد لقلقة لسان واعتبار.

وعلى هذا الأساس جمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية في ردّه على شبهة ابن قبة ، فذهب إلى ارتفاع فعليّة الحكم الواقعي في موارد الأصول والإمارات ، وبقائه إنشائيا محضا ، حيث أنه لا تناقض في اجتماع حكمين متضادين على مستوى الإنشاء والاعتبار ، وإنما التناقض والاستحالة في اجتماع إرادتين واقعيتين فعليتين. فلو أنه قام أصل مثلا ، أو إمارة ، على خلاف الحكم ، فيكون هذا خلافا للحكم الإنشائي لا الفعلي ، فيرفع الحكم الفعلي دائما ويبقى الإنشائي.

وحينئذ لو كان مراد المحقق الخراساني «قده» من الفعليّة هذا المعنى ، إذن فمعناه أن الملازمة المحتملة ، إنما هي بين الوجوب الإنشائي للصلاة ، والوجوب الإنشائي للوضوء ، واستصحاب عدم وجوب الوضوء لا ينفي الوجوب الإنشائي للوضوء ، بل ينفي الوجوب الفعلي له.

وإن شئت قلت : إنّه بناء على إرادة هذا المعنى للفعليّة ، يكون من الوضوح بمكان ، عدم صحة دعوى اختصاص التلازم بين الوجوبين في مرحلة الأحكام الواقعية ، وعدم ثبوته في الأحكام الفعلية.

إذ كيف يمكن توهّم التلازم بين الإنشاءين اللّذين هما مجرد لقلقة لسان واعتبار ، ودعوى عدم التلازم بين الإرادتين الحقيقيّتين ، فإن هذا من البطلان بمكان.

بل إنّ الأمر على العكس من ذلك تماما ، لأنّ المولى قد ينشئ وجوب الصلاة دون وجوب الوضوء ، ولكن لو أراد الصلاة جدا لأراد الوضوء.

المعنى الثاني ، للفعليّة بحسب مصطلح المحقق النائيني «قده» : حيث

٢٩٢

يصطلح بالفعليّة في مقابل الجعل ، دون الإنشاء ، إذ الجعل لا ينفك عن الإرادة ، بخلاف الإنشاء ، ويريد بالفعلية المجعول ، فالمولى إذا حكم بوجوب الحج على المستطيع ، فهذا جعل ، فإذا صار مستطيعا في الخارج ، وصار الحج واجبا عليه فهذه فعليّة.

وهنا يقال : بأنّه إذا أراد المحقق الخراساني «قده» من الفعليّة هذا المعنى ، فكلامه أيضا واضح البطلان ، وذلك ، لأنّ الاستصحاب لا يمس الجعل الواقعي ، ولا المجعول الواقعي ، وإلّا فأيّ معنى لاعترافه ، بأن الاستصحاب يهدم الفعليّة ، مع أنه لا يهدم المجعول الواقعي الذي هو معنى الفعليّة.

وأيضا لا يبقى معنى للتفكيك بين الملازمة في مرحلة الفعلية والواقعيّة ، فإن الجعل إذا لازم الجعل ، كان المجعول ملازما للمجعول دائما.

وإن كان لا يحتمل عادة أن ينظر صاحب «الكفاية» «قده» إلى مصطلح الميرزا «قده» هذا في معنى الفعليّة ، فإن الإمارات لا ترفع المجعول.

المعنى الثالث للفعلية ، وهو من اصطلاحات المحقق الأصفهاني «قده» (١) : فإنّه اصطلح بالفعليّة ، فعليّة الباعثيّة والمحركيّة التي هي مترتبة على الوصول ، ولهذا فهو يرى أن فعليّة كل حكم فرع وصوله ، فهي عنده متقوّمة بالوصول ، وهي مقاربة لمرحلة المنجزيّة بحسب الاصطلاح العام ومساوقة له.

وحينئذ إذا أخذنا بهذا الاصطلاح يتم جواب صاحب «الكفاية» «قده» إذ إنّه من الواضح أن لا تلازم بين الوجوبين والحكمين في مرحلة الفعلية والتنجز. إذن فلا بأس بالتفكيك بينهما إذ لا ملازمة بين وصول الوجوب النفسي وبين وصول الوجوب الغيري ، وحينئذ يصح ما ذهب إليه المحقق

__________________

(١) نهاية الدراية : ج ١ ص ٣٧٣ حاشية الحاشية.

٢٩٣

الخراساني «قده» في المقام ، من أن الاستصحاب يهدم الفعليّة لا الواقع ، لأن الاستصحاب يحجب الحكم الواقعي فيصبح دون فعليّة ومن دون تنجز.

وبهذا يكون كلام صاحب «الكفاية» «قده» هو الجواب الصحيح.

* وأمّا المطلب الثاني : وهو ما لو التزمنا بأنّ الاستصحاب يؤدي إلى التفكيك في مرحلة الفعلية ، وكانت الملازمة المحتملة في مرحلة الفعلية كذلك ، وذلك كما لو أخذنا بالتفسير الأول للفعليّة بحسب مصطلح صاحب «الكفاية» «قده».

وقد اعترف صاحب «الكفاية» «قده» هنا في جوابه على إشكال احتمال ارتكاب المحال ، بأنّ الإشكال وارد ، وأن الاستصحاب هنا لا يعقل جريانه للمحذور المذكور.

ولكن المحقق الأصفهاني «قده» (١) في حاشيته على الكفاية لم يقبل بذلك وقال : بأنّ الاستصحاب ، وإن كان هنا مؤديا إلى أمر محتمل المحال ، ولكن لا بأس بالتمسّك بدليله وإجرائه ، إذ إنّ الاستصحاب مفاد دليل اجتهادي وهو : لا تنقض اليقين بالشك. وهنا نفرض أن الاستصحاب أمر يحتمل استحالته ، لأنه يحتمل أن يكون مؤديا إلى المستحيل ، ولكن على أيّ حال ، فإن الاستصحاب هو مؤدّى دليل من قبل المولى ، فلا يمكن طرح هذا الدليل لمجرد احتمال الاستحالة ، ما لم تقم حجة على خلافه ، واحتمال الاستحالة ليس حجة ، فلا يمنع عن تصديق الحجة ، لأن الاحتمال لا يساوق القطع بالبطلان ، بل هو مجرد احتمال للبطلان.

وهنا نذكر مثالين ، (٢) لتوضيح الفكرة وتمهيدا للجواب :

المثال الأول : هو أننا لو فرضنا أننا شاكّون في استحالة تكلّم الميت ، ثم

__________________

(١) نهاية الدراية : الأصفهاني ج ١ ص ٣٧٣ ـ ٣٨٤.

(٢) كفاية الأصول : مشكيني ج ١ ص ١٩٩.

٢٩٤

قامت بيّنة على أنّ ميتا «ما» تكلّم ، وقد شملت أدلة الحجية تلك البيّنة ، فهل كنّا نقول هنا : إننا لا نقبل بالبيّنة ، لاحتمال استحالة ما أخبرت عنه؟. طبعا لا نقول ذلك ، وذلك لأنّ الدليل الدال على حجية البيّنة ، يقتضي العمل بها ما لم يحصل دليل على خلافها ، وهنا في المقام لم يحصل يقين ، وإنّما هو مجرّد احتمال استحالة ما أخبرت عنه.

المثال الثاني : هو إنّه لو فرض أننا نشك في إمكان جعل الحجيّة لخبر الواحد ، فحينئذ ، لو دلّ ظهور آية أو سنّة متواترة على حجيّة خبر الواحد ، فهل كنّا نرفع اليد عن هذا الظهور؟. طبعا لا ، وذلك لأنّ مقتضى حجيّة الظهور المفروغ عنها ، هو أنّه يجب العمل ، بها ما دمنا لم نقطع ببطلان مفادها.

ومقامنا من قبيل هذين المثالين ، إذ مجرّد احتمال الاستحالة بسبب الاستصحاب ، لا يوجب رفع اليد عن الحجة القائمة على هذا الاستصحاب.

إلّا أن هذا الكلام هنا غير صحيح ، وإن كان متينا في المثالين.

وتوضيحه ، هو : إنّه حينما تقوم الحجة التعبّديّة على شيء ، حينئذ يوجد ويثبت أمران : أحدهما يثبت تعبدا ، والآخر يثبت وجدانا لا تعبدا.

ففي مثال قيام الإمارة على تكلم ميّت «ما» ، فإنّ كلام الميّت يثبت تعبّدا لا وجدانا ، بينما حجيّة البيّنة أي : نفس الأمر الأول ، يثبت وجدانا.

وكذلك الحال في المثال الثاني ، إذ هناك أمر ثابت تعبدا وهو حجيّة الخبر ، وهناك أمر ثابت وجدانا ، وهو حجيّة الظهور.

فلو فرضنا أنّ الأمر الأول الثابت تعبّدا ، كان يحتمل استحالته ، بخلاف الثاني الثابت وجدانا ، حينئذ ، يتمّ كلام صاحب «الكفاية» «قده» ولا يلزم محذور عقلي ، إذ في المثال الأول نقول : إنّ ما يحتمل استحالته ، هو أن يتكلّم الميّت ، وإمّا أن يتعبّد المولى بتكلّم الميّت ، فليس بمحتمل الاستحالة ، فما هو محتمل الاستحالة ، وهو تكلّم الميّت ، لم نثبته وجدانا بل أثبتناه تعبّدا ، وأمّا ما أثبتناه وجدانا فهو غير محتمل الاستحالة.

٢٩٥

وكذلك في المثال الثاني ، فإنّ حجيّة خبر الواحد ، أمر يثبت تعبّدا ، وحجيّة الظهور التي معناها الثبوت التعبدي للأول ، أمر يثبت وجدانا ، فما هو محتمل الاستحالة لم نثبته وجدانا ، وما نثبته وجدانا لا نحتمل استحالته.

وأمّا في المقام ، لو فرض أننا تمسّكنا بدليل الاستصحاب لإثبات عدم وجوب المقدمة ، فهنا أمران :

الأمر الأول : ثابت تعبدا ، وهو عدم الوجوب الواقعي الغيري للمقدمة.

الأمر الثاني : ثابت وجدانا ، وهو نفس هذا التعبّد بعدم ذلك الواقع ، بلحاظ دليل حجيّة الاستصحاب.

وهذا التعبّد بحسب الفرض موجب لارتفاع فعليّة الواقع حقيقة ، لأنّ الأحكام الظاهرية المخالفة للواقع ، توجب ارتفاع الفعليّة عن الواقع حقيقة ، فالاستصحاب ينفي الوجوب الغيري الواقعي تعبّدا ، وينفي وجدانا فعليّة الوجوب الغيري الواقعي ، وحينئذ ، فما هو محتمل الاستحالة هنا ، محرز وجدانا ، لأننا أحرزنا وجدانا أن لا فعليّة للوجوب الغيري ، وهذا نحتمل استحالته ، وكيف نحرز وجدانا شيئا وفي الوقت نفسه نشكّ في استحالته وإمكانه؟.

وبهذا يتبيّن أن الحق مع صاحب «الكفاية» «قده».

* الإشكال الثالث : وهو مبنيّ على مقدّمتين :

المقدمة الأولى : هي أنّ الاستصحاب باعتباره تصرّفا شرعيا ، فهو لا يقع إلّا على مجعولات الشارع ، وما هو تحت تصرفه رفعا ووصفا ، فيشترط في المستصحب أن يكون مجعولا شرعيا ، أو موضوعا لحكم شرعي.

المقدمة الثانية : هي أنّ وجوب المقدمة ليس مجعولا شرعيا ، وذلك باعتبار أنّ وجوب المقدمة من قبيل لوازم الماهيّة لوجوب ذي المقدمة ،

٢٩٦

ولوازم الماهيّة ليست مجعولة ، لا بالجعل البسيط لأنه خلف كونه لازما ، ولا بالجعل التأليفي ، لأن لوازم الماهية ذاتية ، والذاتي لا يعلّل.

أمّا عدم جعله بالجعل البسيط : فلأنّ المفروض أنه لازم ، وليس له جعل مستقل ابتداء ، بل المجعول ابتداء ، هو الملزوم ، وهو ذو المقدمة.

وأمّا عدم جعله بالجعل التأليفي : فلأنّه من لوازم الذات المجعولة وهي ذات المقدمة ، إذ بجعلها يجعل ، وإلّا لزم تحصيل الحاصل ، إذن فيبقى أن وجوب المقدمة مجعول جعلا قهريا ، أو ذاتيا ، فلا يكون الوجوب الغيري مجعولا من قبل المولى إذن.

وهذا ينتج : أن الاستصحاب لا يجري في وجوب المقدمة ، لأنه ليس مجعولا شرعيا ، بحسب المقدمة الثانية.

وقد عرفت أنّه يشترط فيه أن يكون مجعولا شرعيا ، أو موضوعا لحكم شرعي بمقتضى المقدمة الأولى.

وقد أجاب صاحب «الكفاية» على هذا : بأنّ وجوب المقدمة ، وان لم يكن مجعولا بالأصالة بالجعل البسيط الذي هو مفاد كان التامة ، أو التأليفي الذي هو مفاد كان الناقصة ، ولكنّه مجعول بالعرض ، وذلك بجعل منشئه ، من قبيل جعل الجزئية والشرطية.

وهنا في المقام قد جعل الوجوب بجعل ذي المقدمة ، وهذا يكفي لجريان الاستصحاب فيه ، لأنّه تحت سلطان الشارع.

وتوضيح الحال في صحة الإشكال والجواب ، يستدعي التكلم في ثلاث نقاط.

النقطة الأولى : وهي في تحقيق المقدمة الأولى القائلة : بأنه يشترط في جريان الاستصحاب ، أن يكون مجعولا شرعيا ، أو موضوعا لحكم شرعي.

٢٩٧

النقطة الثانية : هي في أنّ وجوب المقدمة ، هل هو مجعول بالأصالة ، أو بالتبع ، أو بالعرض ، وما هو معنى لوازم الماهية ، ولوازم الوجود ، ونسبة الوجوب الغيري إلى الوجوب النفسي على أساس ذلك؟.

النقطة الثالثة : هي أنّه لو سلّمت المقدمتان ، فهل يتم كلام صاحب «الكفاية» «قده»؟.

ـ أمّا النقطة الأولى : فإنه لا برهان على كبراها ، من كون المستصحب حكما شرعيا ، أو موضوعا لحكم شرعي ، وإنّما الشرط أن ينتهي إلى أثر عملي في مقام التنجيز والتعذير ، ولو لم يكن مجعولا.

أمّا وجه شرطيّة ما ذكرناه : فلأنّ هذا هو حقيقة الحكم الظاهري ، فإن الأحكام الظاهرية هي أحكام تنجيزية وتعذيرية ، فإذا لم يترتّب ذلك تكون لغوا.

وأمّا أنّ ما شرط ليس شرطا ، فلأنّ توهم اشتراط أن يكون المورد مجعولا ، إنّما هو بدعوى أنّ الاستصحاب تصرف شرعي ، فيحتاج إلى محل قابل ، والمحل القابل إنما هو مجعولات الشارع وموضوعاتها.

وهذا الكلام صوري ، لأنّ الاستصحاب تصرف شرعي ظاهري لا واقعي.

إذن ، فمرجعه إلى التعبّد بثبوت شيء وعدم ثبوته ، وبأن التعبّد واسع يمكن أن يشمل غير المجعولات الشرعية ، ويتعبّد بها إذا انتهت إلى الأثر العملي ، فمثلا عند ما يجري استصحاب الخمرية ، فليس معناه ، إيجاد الخمر حقيقة ، بل معناه ، الإثبات التعبّدي للخمرية ، وهذا يقبله المجعول الشرعي وغيره على السواء.

إذن فالكبرى في نفسها غير تامة ، ثم إنّه لو فرضنا تماميّة الكبرى المتقدمة ، فالنقطة الثانية غير تامة.

٢٩٨

ـ وأمّا النقطة الثانية ، وهي : إنّ موضوع الاستصحاب هل يشترط فيه أن يكون مجعولا بالأصالة ، أو بالتبع ، أو بالعرض ، أو لا يشترط شيء من ذلك؟.

وبعبارة أخرى : هل وجوب المقدّمة من لوازم الماهية ، أو لوازم الوجود؟. وهل له مجعولية من قبل الشارع؟. وما هو نحو مجعوليته؟؟.

تنقيح ذلك ، يتوقف على معرفة لوازم الماهية ، ولوازم الوجود.

وهنا ذكروا ، بأنّ اللوازم تقسم عادة إلى هذين القسمين المذكورين ، فالإمكان من لوازم ماهيّة الإنسان ، والزوجية من لوازم ماهية الأربعة ، والحرارة من لوازم الوجود بالنسبة إلى النار.

والفرق بين النحوين ، هو أنّ لوازم الماهيّة يكفي في تحقّقها وثبوتها وواقعيتها نفس الماهية بلا حاجة إلى أن تكون موجودة لا خارجا ولا ذهنا.

فإنّ إمكان الإنسان أمر واقعي من دون حاجة إلى كونه موجودا ، لا في الذهن ، ولا في الخارج ، بل حتى لو لم يوجد إنسان ذهنا أو خارجا ، فإمكانه أمر محفوظ في الواقع ونفس الأمر.

ولوازم الوجود تحتاج في تحققها وثبوتها إلى أن تكون الماهيّة موجودة حقيقة.

فماهيّة النار بما هي ، لا تترتب عليها الحرارة ، بل على النار في الخارج ، فاللازم إذا كفى فيه ذات الماهيّة فهو لازم الماهية ، وإذا لم يكف فيه ذات الماهية في نفس الأمر والواقع ، بل كان لا بدّ من وجود الماهية في الخارج ، فهو لازم الوجود.

واعترض على هذا ، المحقق الأصفهاني «قده» (١) حيث قال : إنّ جعل

__________________

(١) نهاية الدراية : الأصفهاني ج ١ ص ٣٨٣ ـ ٣٨٤.

٢٩٩

لازم الماهيّة ، بمعنى ما يكون نفس الماهية كافيا في ثبوته ، فهذا أمر غير معقول بناء على أصالة الوجود ، وبناء على كون الماهيّات أمورا اعتبارية ، فالماهية بما هي ، وقبل أن تلبس ثوب الوجود ، كيف تكون مؤثرة وعلة للازم من اللوازم؟. وإنّما تكون مؤثرة وتؤثر إذا لبست ثوب الوجود.

إذن فاللازم عند المحقق الأصفهاني «قده» دائما يكون لازما للوجود ، غاية الأمر ، أنّه تارة يكون لازما لكلا نحوي الوجود فهو لازم الماهية ، وأخرى يكون لازما للوجود الخارجي فقط فهو لازم الوجود ، فالزوجية لازم الماهيّة لأنها تلزم الماهية الموجودة ذهنا وخارجا ، وأمّا الحرارة فهي من لوازم الوجود لأنها تنشأ من الوجود الخارجي للنار ، لا الوجود الذهني.

وهذا الاعتراض على التفسير المشهوري للوازم الماهية والوجود غير صحيح ، فإنّ إرجاع لوازم الماهية إلى لوازم مطلق الوجود مطلقا ، غير صحيح لأننا ندرك بالضرورة ، أنّ الماهية يثبت لها اللازم حتى لو قيّدت بعدم مطلق الوجود ، إذ يصدق قولنا ، الأربعة زوج وليست فردا بالضرورة ، ولو لم تكن هذه الأربعة موجودة ، لا في ذهننا ، ولا في الخارج.

ونحن عند ما نحضر الأربعة المعدومة بقول مطلق في ذهننا ، فإنّ هذا الإحضار ، وإن كان معدوما ، لكنّه موجود في الذهن بالحمل الشائع ، فمفهوم الأربعة غير الموجود بالحمل الأولي ، هو موجود بالحمل الشائع ، ونحمل عليها الأربعة بالحمل الأولي ، والوحدة التاسعة من وحدات التناقض هي وحدة الحمل.

وحينئذ ، عند ما نحكم على الأربعة الموجودة بالحمل الشائع بأنّها غير موجودة ، يمكن أن نلحظها بكلا الحملين.

وهذا برهان على أنّ الزوجية لا تحتاج إلى الوجود ، وإلّا لما صدق حمل الزوجية على المفهوم الملحوظ بالحمل الأولي ، إذ إنّ مفهوم الأربعة

٣٠٠