بحوث في علم الأصول - ج ٥

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٣

والجواب على هذا هو إننا نختار أن الشرط المتأخر ، «صلاة ليلة الأحد» ، لا تحدث الاحتياج في الزمن المتقدّم ـ أي حين طلوع فجر يوم السبت ـ حتى يلزم تأثير المعدوم في الموجود ، بل إن الشرط المتأخر هذا ، صلاة «ليلة الأحد» ، إنما يحدث الاحتياج في زمنه ، وحين جعله شرطا بحيث أن صلاة ليلة الأحد ، «الشرط» ، توجد حالة عند المكلف يكون معها بحاجة إلى صوم يوم السبت قد تفوته هذه الحاجة لو لم يفعلها في اليوم المتقدم ، وحينئذ فهنا ثلاث صور :

أ ـ الصورة الأولى : هي أن تحدث صلاة ليلة الأحد حاجة إلى صوم بعدي كصوم نهار الأحد ، فيكون الشرط هنا متقدما ، أو مقارنا.

ب ـ الصورة الثانية : هي أن تحدث صلاة ليلة الأحد احتياجا إلى صوم يوم السبت ، بحيث أن صوم يوم السبت في يومه ، لم يكن له أهمية ، لكن في ليلة الأحد يكون له أهمية ، غايته أن من لم يصم يوم السبت ، سيشعر بالحاجة إلى هذا الصوم ليلة الأحد ، وفيها سوف لن يستطع أن يصوم إلا إذا رجع الزمان إلى الوراء.

ومثاله الأوضح هو : كما أنّ فصل الشتاء يحدث حاجة إلى الفحم في الشتاء ، ولكن لأن المولى يعرف عجز عبده عن شراء الفحم في الشتاء ، فيأمره بشرائه في الصيف ، إن كان سيبقى حيّا إلى الشتاء ، إذن فوجوب شراء الفحم في الصيف ، مشروط بشرط متأخر ، وهو بقاؤه حيّا إلى الشتاء ، إذن فحياته في الشتاء تحدث احتياجه في الشتاء إلى الفحم ، ولا تحدث احتياجه في الصيف ، لكن حيث أن الفحم عند احتياجه في الشتاء ، غير موجود ، فالمولى يحكم بوجوب شرائه من الآن في الصيف ، لكن مشروطا بما إذا كان سيعيش إلى الشتاء ، وهذا شرط متأخر معقول ، ولا يلزم منه تأثير المعدوم في الموجود ، لأن الشرط هذا أثّر في الاحتياج في حينه ، لكن الاحتياج إلى فعل سابق.

٣ ـ الصورة الثالثة : هي أن يحدث الشرط المتأخر احتياجا إلى الجامع

٢١

بين صوم يوم السبت وصوم يوم الأحد ، لا إلى خصوص المتأخر ، ولا إلى خصوص المتقدم ، هنا أيضا يمكن للمولى في ذلك أن يحكم من أول الأمر في وجوب صوم يوم يقول : يجب أن تصوم يوما إذا صلّيت ليلة الأحد.

وفي حياتنا الاجتماعية أمثلة كثيرة : فالطبيب يصف الدواء ويكون لشربه فائدة كبيرة ، ولكن يشترط على المريض ، إذا أراد أن يحصل على فائدة ، أن يحجم عن أكل اللحم البقري مثلا ، وإلّا كان دواؤه مضرا ، فهنا قد اشترط الطبيب لتحصيل الفائدة من شرب دوائه في الزمن المتقدم ، إحجام المريض عن تناول لحم البقر في الزمن المتأخر ، وهذا شرط متأخر معقول.

ففذلكة الجواب هنا هو : إنّ الشرط المتأخر لا يولّد احتياجا قبله ، بل يولّد احتياجا حين اشتراطه ، والمولى باعتبار تحفظه على شئون عبده ، يجعل عليه وجوبا من أول الأمر ، منوطا بهذا الشرط المتأخر ، وهنا لا يلزم من ذلك تأثير المعدوم في الموجود ، بل هو تأثير موجود في موجود.

المقام الثاني :

في محذور الشرط المتأخر فيما إذا كان شرطا للواجب ، من قبيل غسل المستحاضة في ليلة الأحد الذي هو شرط في صحة صوم يوم السبت. ومحذور الشرط المتأخر في الواجب يتصوّر في موقعين.

أ ـ الموقع الأول : هو كون الشرط ـ كما في المثال ـ واقعا قبل مشروطه الذي هو صوم يوم السبت ، وكون المشروط واقعا قبل شرطه ، مع أن الشرط من أجزاء العلة للمشروط ، ويستحيل تأخره عنه استحالة تأخر العلة عن معلولها.

وجوابه : هو إنّ غسل المستحاضة ليلة الأحد ، وإن كنّا نسميه شرطا كما نسمي صوم نهار السبت مشروطا ، ولكن هذا الشرط والمشروط ليسا من باب العلة والمعلول ، بل إن غسل ليلة الأحد ليس له دخل في وجود صوم يوم السبت ، لبداهة أن المستحاضة يمكنها أن تصوم يوم السبت من دون أن تغتسل

٢٢

في ليلة الأحد ، إذ ليس صوم يوم السبت منوطا أو ناتجا عن الغسل ليلة الأحد ، وإنما نسمي الغسل بالشرط للصوم بمعنى آخر من الشرطية ، غير الشرطية التي ترجع إلى التأثير والعلّيّة. وتوضيح ذلك هو : إنّ الشرطية لها معنيان.

أ ـ المعنى الأول : هو الشرطية بمعنى المؤثريّة ، وكون شيء دخيلا في علة وجود شيء آخر ، كما يقال : إنّ ملاقاة النار مع الورقة ، شرط في إحراق النار للورقة ، وهذه الشرطية بمعنى المؤثرية ، وكون الملاقاة دخيلة في علة وقوع الاحتراق خارجا.

ب ـ المعنى الثاني : هو الشرطية بمعنى التخصيص والتقييد للمفهوم المأخوذ في متعلق الأمر ، فإنه يقيّد ويحصّص في عالم اللحاظ والتصور ، بشرط ، كما نتصور مفهوم الإنسان ، ثم نتصور إنسانا عالما ، فالعالم هنا صار شرطا في موضوع الإنسان ، والعلم أصبح قيدا ومحصّصا ومضيقا وحينئذ يقال : إنّ المفهوم كما يمكن تحصيصه وتقييده بقيد متقدم أو مقارن ، فكذلك يمكن تحصيصه وتقييده بقيد متأخر ، فهذه القيود كلها معقولة ، وإن سمّي القيد هنا بالشرط ، والمقيّد بالمشروط ، فإنه لا يلزم منه تأثير المتأخر في المتقدّم.

ومحذور الشرط المتأخر إنما يرد ويلزم إذا كان بالمعنى الأول دون الثاني كما هو واضح ، وحينئذ يقال : إنّ غسل المستحاضة في ليلة الأحد شرط في صوم يوم السبت ، إنما هو شرط بالمعنى الثاني دون الأول ، لإمكان أن يحدث الصوم نهار السبت دون غسل ليلة الأحد ، وعليه فيكون غسل ليلة الأحد قيدا محصّصا ـ «الصوم» ـ بخصوص الحصة المقيّدة ، لا إنّه شرط دخيل في إيجاد الصوم.

الموقع الثاني :

محذور الشرط المتأخر بلحاظ الملاك ، حيث يكون غسل ليلة الأحد شرطا ، باعتباره كفيلا في ترتب وإيجاد المصلحة التي هي ملاك وجوب

٢٣

الصوم ، إذ قد تقدّم أن مقدمة الواجب وشرطه ، يختلف عن شرط الوجوب ، بحسب عالم الملاك ، وأن شرط الوجوب يكون مؤثرا في الاحتياج ، وفي اتصاف الفعل في كونه ذا مصلحة ، من قبيل «مجيء الشتاء» الذي يوجب اتصاف النار بكونها ذا مصلحة ، وهذا بخلاف شرط الواجب الذي هو دخيل في وقوع المصلحة خارجا ، وترتبها على مقتضيها ، من قبيل «سدّ منافذ البيت» الذي هو دخيل في ترتب مصلحة الدفء على النار خارجا ، فإذا لاحظنا غسل ليلة الأحد بالنسبة إلى مصلحة صوم يوم السبت ، والأثر الذي يترتب على هذا الصوم ، يكون نسبته إليه نسبة الشرط بالمعنى الأول إلى مشروطه ، فيكون من قبيل سدّ المنافذ بالنسبة إلى الدفء ، فكما أن الدفء معلول إجمالا لسد المنافذ ، فكذلك في المقام ، فإن شرطية الغسل ، إذا أضيفت إلى المصلحة ، تكون شرطية بالمعنى الأول ، ويكون الغسل دخيلا ومؤثرا في إيجاد تلك المصلحة ، وترتبها على ذيها.

غاية الأمر أنّ دخل الشرط هنا يكون بنحو الشرطية ، لا بنحو الاقتضاء ، كما لو فرضنا إن المقتضي للمصلحة هو الصوم ، والشرط في إيجادها وترتبها على مقتضيها ، هو الغسل ، وهنا نشبه المصلحة بالإحراق ، والصوم نشبّهه بالنار ، أي بمقتضى الإحراق ، والغسل نشبهه بالملاقاة أو جفاف الورق الذي هو شرط في ترتب الإحراق على النار ، إذن فنسبة الغسل إلى المصلحة ، نسبة الجفاف والملاقاة إلى الإحراق ، فلو كان الغسل متأخرا عن ترتب المصلحة كما في غسل ليلة الأحد المتأخر عن صوم نهار السبت ، حينئذ نقول :

إن كانت المصلحة قد ترتبت في نهار السبت ، إذن يلزم تأثير المتأخر في المتقدم ، لأن المصلحة المترتبة في نهار السبت ، متأثرة ومتولدة من غسل ليلة الأحد. وعليه فقد أثّر المتأخر في المتقدم ، وهذا من قبيل أن يقال : إنّ احتراق الورقة في نهار السبت ، كان بتأثير الملاقاة في ليلة الأحد ، وإن كانت المصلحة لم تترتب في نهار السبت ، وأنما ترتبت ليلة الأحد ، وعند الغسل ، فحينئذ لا يكون الغسل مؤثرا قبل وجوده ، بل يكون مؤثرا حين وجوده. وهنا

٢٤

نسأل : إنّه كيف وجدت المصلحة بعد انعدام المقتضي لها ، إذ سبق وفرضنا أن المقتضي لها إنما هو الصوم ، والشرط لها إنما هو الغسل؟ فإن فرضنا أنها لم توجد في زمان الصوم ، وإنما وجدت في الليل ، مع أن الصوم هو المقتضي ، إذن فيلزم أن يكون المقتضى قد وجد بعد انعدام المقتضي ، من قبيل ما إذا كانت النار يوم السبت ، وجفاف الورقة حصل في ليلة الأحد ، والمفروض أن النار كانت قد انطفأت ليلة الأحد ، وحينئذ يحصل الاحتراق ليلة الأحد ، قبل انطفاء النار من ناحية جفاف الورقة ، وهذا غير معقول. هذه هي صياغة محذور الشرط المتأخر في الموقع الثاني.

وقد تصدّى المحقق الخراساني (١) للإجابة على ذلك وتوضيح جوابه يتوقف على بيان أمرين :

الأمر الأول :

هو أن الأشياء على ثلاثة أقسام :

أ ـ القسم الأول : أشياء واقعية موجودة في الخارج من قبيل وجود الماء ، والهواء ، والبياض ، والحلاوة.

ب ـ القسم الثاني : أشياء اعتبارية صرفة ، يخلقها العقل متى يشاء ، ويتحكّم فيها من قبيل أن يعتبر وجود بحر من زئبق ، أو جبل من ذهب ، وهذه أشياء اعتبارية صرفة ، ونسبة العقل إليها نسبة الفاعلية والخلق ، أي متى ما أراد العقل ينشئ بحرا من زئبق.

ج ـ القسم الثالث : قسم وسط بين الأمرين ، فلا هي أمور موجودة في الخارج ، ولا هي اعتباريات محضة ، ويسميها الحكماء بالاعتباريات الواقعية ، يعني أنها اعتباريات في مقابل القسم الأول ، أي إنها لا وجود لها في الخارج ، ولكنها في الوقت نفسه ، ليست اعتبارية محضة ، بل فيها جنبة واقعية ، من قبيل

__________________

(١) كفاية الأصول : مشكيني ج ١ ص ١٤٧ ـ ١٤٨ ـ ١٤٩.

٢٥

الإضافات التي تحصل بين الأشياء ، فكون فلان متقدما على فلان ، لا يعني أن هذا التقدم أمر اعتباري محض مثل بحر الزئبق ، إذن فلا يدخل في القسم الثاني لوضوح أن العقل ليس مسلطا عليه كتسلطه على اعتبار بحر من زئبق ، فلو أراد مئات المرات أن يسلخ التقدم عن نبوة عيسى «ع» على نبوة خاتم الأنبياء «ص» فلا يستطيع ، لأن التقدم أمر واقعي ، فالعقل هنا دوره دور الانفعال والقبول ، لا دور الإنشاء والفاعلية ، كما أن هذا القسم ليس من القسم الأول لوضوح أنه لو كان لتقدم هذه الحادثة ، على تلك الحادثة وجود واقعي في الخارج ، إذن لكانت هي حادثة من الحوادث ، فيكون أيضا لها تقدم ، وهكذا حتى يلزم التسلسل في العلل والمعلولات الخارجية ، وهو مستحيل.

إذن فالإضافة لا هي من الأول ، ولا هي من الثاني ، بل هي قسم برأسه يسمونها بالاعتباريات الواقعية التي لها جنبة واقعية ، بمعنى أن العقل متى ما قاس شيئا إلى شيء آخر ، انتزع منه ونشأ في وعاء العقل مفهوم هو التقدم ، وقد سمّينا هذه الأشياء في بحث المعنى الحرفي بأشياء لوح الواقع ، تمييزا لها عن القسم الأول ، الذي هو لوح الاعتبار.

الأمر الثاني :

هو أن الملاك ، كما يكون المصلحة والمفسدة ، أيضا يكون الملاك هو الحسن والقبح ، وأحدهما يختلف عن الآخر ، فالمصلحة والمفسدة عبارة عن أمور موجودة في الخارج ، فهي داخلة في القسم الأول من قبيل صحة المزاج ، قدرة النفس ، شدة الصبر ، كمال الإيمان ، كل هذه أمور حقيقية موجودة في الخارج ، وأمّا الحسن والقبح العقليان فبابهما ليس باب المصالح والمفاسد ، فقد يحكم العقل بحسن شيء وفيه أعظم المفاسد ، وقد يحكم بقبح شيء وفيه أعظم المصالح ، وذلك كما لو تخيّل إنسان أن النبي عدوّ لنبي يغرق فأنقذه من باب أنه عدو النبي ، فهذا العمل قبيح لأنه جرأة على النبي ، لكن فيه مصلحة عظيمة لأنه حفظ به الدين ، فهنا الحسن والقبح منحاز بحسب توصلات العقل إليه في جملة من الأحيان ، والحسن والقبح يرجعان إلى القسم الثالث أي :

٢٦

إلى أمور اعتبارية ، وأحكام عقلية ، لكن ليس من قبيل بحر من زئبق ، بل من قبيل التقدم والتأخر ، فإن العقل يعتبر حسن العدل وقبح الظلم رغم أنفه أحيانا ، فلو أراد أن يشعر نفسه بحسن الظلم ، لما استطاع ، وهذا معناه أن الحسن والقبح من القسم الثالث.

وبعد هذا يأتي جواب المحقق الخراساني (١) على محذور الشرط المتأخر في الموقع الثاني ، فهو يرى أن المحذور إنما يرد لو كان الملاك عبارة عن المصالح والمفاسد : فلو كان الملاك في وجوب صوم المستحاضة هو المصلحة أو شدة الإيمان ، حينئذ يرد المحذور ، لأن المصلحة من القسم الأول ، أي : من الأمور الواقعية والوجودات التكوينية في الخارج ، فيستحيل أن يؤثر فيها الشرط المتأخر عنها ، وإلّا استحكم الإشكال ، ولزم تأثير المتأخر في المتقدم ، ولكن إذا فرض أن الملاك في وجوب صوم المستحاضة إنما هو الحسن والقبح ، بناء على الحسن والقبح العقليين ، كما لو كان المولى قد أدرك حسنا في هذا الصوم وعليه أوجبه ، حينئذ يقال : إنّ الحسن والقبح حيث أنهما من القسم الثالث ، أي : من المقولات الاعتبارية العقلية التي لها جنبة واقع ، فبالإمكان أن يكون معلولا لأمر اعتباري مثله ، لأن الأمر الاعتباري من القسم الثالث يمكن أن يستند إلى أمر من سنخه اعتباري ، وهذا الأمر هو إضافة التقدم والتأخر ، والعنوان الذي ينتزعه العقل إنما هو عنوان تعقّب غسل المستحاضة لصومها ، إذن فالحسن ناشئ من عنوان انتزاعي هو عنوان القبلية الذي هو ناشئ من مقايسة العقل بين الصوم والغسل ، وهذه القبلية حاضرة لدى العقل دائما ، فلم يلزم في المقام محذور أصلا ، لأن الحسن أمر اعتباري ، وقد نشأ من أمر اعتباري مقارن له وهو عنوان القبلية. وهذا العنوان نشأ من مقايسة العقل ، إذن فدور غسل المستحاضة الليلي هو أنه أحد طرفي مقايسة العقل.

__________________

(١) كفاية الأصول : مشكيني ج ١ ص ١٤٧ ـ ١٤٨.

٢٧

والخلاصة : إنّ الحسن ناشئ من عنوان انتزاعي ، وهو عنوان القبلية ، وعنوان القبلية نشأ من مقايسة العقل بين الصوم والغسل ، وحيث أن القبلية أمر اعتباري حاضر لدى العقل ، فيكون الشرط مقارنا ، وبهذا ينتفي المحذور.

وبتعبير آخر ، إذا كان الملاك هو الحسن والقبح العقليين المنتزعين من عناوين اعتبارية ناشئة من مقايسة العقل بين الصوم والغسل ، فبالإمكان استناد هذا الملاك إلى شرط من سنخه اعتباري كعنوان تعقيب الصوم بالغسل ، فهنا عنوان تعقيب الشرط ، الغسل ، أو مسبوقية الواجب ، الصوم به وتقدمه عليه يمكن أن ينتزع منه العقل الحسن ، أو من عكسه القبح ، وهذه القبلية أو البعدية تنشأ من مقايسة العقل بين الصوم والغسل ، وهي حاضرة لدى العقل دائما ، فيكون الشرط مقارنا ، ولا محذور.

والجواب على ما تخلّص به المحقق الخراساني من إشكال الشرط المتأخر هو أن يقال :

إن ما قاله المحقق الخراساني لا يصلح تفسيرا للواقع المحسوس من موارد الشرط المتأخر كظاهرة واقعية موجودة في تكاليف الناس التي تكون بملاك المصالح والمفاسد ، وإن كان كلامه يكفي لتفسير الشرط المتأخر المأخوذ في أحكام المولى المبنية على ملاك الحسن والقبح العقليين.

إذن فالشرط المتأخر معقول أيضا في أحكام المولى بملاك المصالح والمفاسد ، ولا يختص بأحكام المولى بملاك الحسن والقبح ، إذ كثيرا ما يأمر الطبيب المريض بشرب الدواء مشروطا بشرط متأخر كالمشي بعد استعمال الدواء ، أو النوم ، أو غير ذلك.

ومن الواضح أن هذه القيود إنما تكون شروطا بلحاظ المصلحة والمفسدة ، لأن الطبيب لا يهمه كثيرا أن يفكر بالمقولات الاعتبارية لينتزع منها بالمقايسة حسنا وقبحا ، وإنما هو يفكر في مصلحة المزاج ، إذن فالشرط المتأخر كظاهرة واقعية موجودة في تكاليف المولى بملاك المصالح والمفاسد ،

٢٨

لا يمكن تفسيرها بمسألة الحسن والقبح العقليين.

إذن فلا بدّ من استئناف جواب عام لسائر موارد الشرط المتأخر ، ما كان منه شرطا لتكليف مولوي بملاك المصلحة والمفسدة ، أو شرطا لتكليف بملاك الحسن والقبح العقليين.

وتحقيق الحال في تفسير الشرط المتأخر بلحاظ موقع الملاك هو : إنّ الإشكال والتحيّر نشأ من افتراض أن الواجب «صوم نهار السبت» ، يشكّل المقتضي من أجزاء العلة ، والغسل يشكّل الشرط من أجزائها ، كما في صوم المستحاضة ، وكلا الجزءين يشكلان العلة لشيء واحد هو المصلحة الملحوظة للمولى في فعل الواجب ، وحيث أن هذين الجزءين مختلفين في وقوعهما من حيث الزمان ، لأن أحدهما يقع نهار السبت ، والثاني في ليلة الأحد ، وحينئذ يقع الإشكال فيقال : إن فرض تحقق المصلحة حين وجود المقتضي «الصوم» إذن يلزم تأثير الشرط المتأخر «الغسل» قبل وجوده ، ومعناه تأثير المعدوم ، وإن فرض تحققها حين الشرط «الغسل» بعد انقضاء المقتضي «الصوم» إذن كيف وجد المقتضى «المصلحة» بعد انعدام المقتضي ، فإن معناه تأثير المقتضي بعد انقضائه ، وهو تأثير للمعدوم في الموجود ، وكلا الفرضين محال.

ولكن هذا الافتراض بلا ضرورة ، إذ يمكن اقتراح افتراض آخر ينحل به الإشكال ، وهو أن يكون المقتضي «الصوم» علة لشيء هو الحلقة المفقودة بين الواجب والمصلحة المطلوبة ـ بلا شركة مع الشرط ـ «الغسل» ثم إن ذاك الشيء الذي يبقى إلى زمان الشرط المتأخر «الغسل» مع الشرط المتأخر ، يشكلان بمجموعهما علة تامة للمصلحة ، وبهذا تكتمل أجزاء العلة فتحصل المصلحة ، ومثال ذلك : شرب الدواء وشرطه ، فإن الدواء هنا بمثابة صوم المستحاضة ، والشرط المتأخر وهو التمشي بعد استعمال الدواء ، هو بمثابة غسل المستحاضة ، فهنا شرب الدواء يكون مقتضيا لأثر في البدن هو عبارة عن درجة حرارة معينة ، إذن فهذه الدرجة الحرارية تكون معلولة لشرب الدواء ،

٢٩

وتنشأ معه ، ولكن تبقى حتى بعد زوال هذا المقتضي ، وفرض بقاء الحرارة «الأثر» بعد زوال المقتضي «شرب الدواء» أمر مفروغ عنه ، ولم يستشكل فيه أحد ، كالبنّاء الذي يبني ، ثم يموت ، ويبقى البناء محفوظا بقانون جاذبية الأرض ، وتماسك أجزاء البناء ، فكذلك الدرجة الحرارية «الأثر» فإنه حدوث ينشأ مقارنا مع شرب الدواء ، بينما بقاء الحرارة يحفظ بقانون جاذبية البدن.

ثم إن هذه «الأثر» تبقى إلى زمان الشرط ، «التمشّي» فتؤثر في صحة البدن ، التي هي ملاك الواجب ، وبهذا يكون المقتضي لصحة البدن هو الأثر «الحرارة» مع الشرط «التمشّي» ، فتكون الصحة معلولة لأمرين مجتمعين في وقت واحد ، فلا يلزم نشوء متقدّم من متأخر ، ولا تأثير متقدم في متأخر ، وبهذا يعرف أن منشأ إشكال الشرط المتأخر هو إسقاط الحلقة المفقودة في الوسط ، أي افتراض أن مقتضي الملاك هو شرب الدواء ، وهذا بخلاف ما لو فرض أن شرب الدواء «المقتضي» يشكل علة للحرارة ، ثم إن الحرارة مع التمشّي «الشرط» يشكلان جزءين متعاصرين من علة واحدة.

وهذا شيء يكاد يكون مطردا في كل مقتضي يظهر أثره ، رغم كون ذلك المقتضي مشروطا بشرط متأخر.

وبهذا ندرك وجود حلقة مفقودة تكون هي مع الشرط المتأخر المقتضي للمصلحة المطلوبة ، وليس ما سمّي بالمقتضي الذي هو شرب الدواء ، وإنما هذا المقتضي مجرد موجد للأثر الذي شكّل مع معاصرته للشرط المتأخر ، تمام العلة في وجود الملاك. إذن فمتى وجدنا شيئين أحدهما ينتج عن الآخر ، رغم كونهما غير متعاصرين ، نستكشف لا ، محالة ، الحلقة ، المفقودة ، وبذلك لا يبقى بحسب الحقيقة شرط متأخر ، وإنما يوجد عند ما نسقط حلقة في الوسط من حلقات التسلسل السببي.

فإذا بنينا على هذا في الأمور التكوينية ، فليكن الأمر التعبدي المولوي بالصوم المشروط بغسل متأخر عنه من هذا الباب ، إذ يمكن للمولى في مقام الجعل أن يجعل وجوبه متعلقا بالدواء مع التمشي ، وإن كان المحصّل الحقيقي

٣٠

للملاك «المصلحة» هو الحرارة مع التمشي ، إلّا أن الطبيب لا يطلب من المريض إيجاد الحرارة في جسمه ، لأن التكاليف لا بدّ وأن تتعلق بعناوين مفهومة ، وإنما يطلب منه استعمال هذا الدواء ، فيكون بذلك قد علّق وجوبه على جزءين ليسا بدرجة واحدة ، وإنما هما بدرجتين غير متعاصرتين ، أحدهما يؤثر في علة الملاك ، والآخر جزء من علة الملاك. وهذا المثال نتعقله في صوم المستحاضة ، لأن صومها نهار السبت مشروط بغسل ليلة الأحد ، وهما جزءان غير متعاصرين زمانا ، وبالتالي منهما لا يمكن أن يشكلا مجموع العلة التامة لشيء واحد ، بحيث يكون أحدهما المقتضي ، والآخر الشرط ، لكن على ضوء ما تقدّم نستكشف في عالم الملاك : أن أحد هذين الجزءين وهو الصوم ، ليس هو المقتضي للمصلحة «الملاك» ابتداء ، بل هو مقتضي لحالة نفسانية ، وهذه الحالة النفسانية ببقائها واستمرارها حينما تقترن مع الغسل ، تؤثر في المصلحة «الملاك» فالمصلحة توجد عند الغسل في ليلة الأحد ، وليس في نهار السبت ، ولا يستشكل حينئذ ، بأنه كيف وجدت المصلحة «الملاك» في ليلة الأحد ، مع أن المقتضي وهو الصوم ، قد وجد نهار السبت وقد انقضى ، لأننا نقول : إنّ صوم نهار السبت ، ليس هو المقتضي المباشر لهذه المصلحة «الملاك وإنما هو مقتضي المقتضي من قبيل شرب الدواء المقتضي لانبعاث الحرارة ، والحرارة مع التمشّي «الشرط المتأخر» هي المقتضية للصحة «الملاك». وهنا كذلك ، فإن الصوم حين وجوده أثّر في مقتضاه ، ومقتضاه ببقائه مع الغسل أثّر في الملاك «المصلحة».

وبهذا يتبيّن أن الشرط المتأخر لا أساس له في الواجبات والتكاليف ، وإن ما يبدو فيها أنه شرط متأخر ليس متأخرا.

المقام الثالث :

من المقامات التي أشرنا إليها في بداية البحث هي : إنّ محذور تأثير المتأخر في المتقدم ، كما يرد في الشرط المتأخر ، يرد أيضا في الشرط

٣١

المتقدّم. كما قرره المحقق (١) الخراساني بأن العلة يجب أن تكون بتمام أجزائها مقارنة للمعلول ، فلا يجوز أن تكون متقدمة عليه بلحظة ، ولا متأخرة عنه كذلك ، وبعد قيام البرهان على لزوم التقارن بينهما ، يقع الإشكال في الشرط المتقدم حيث يقال : إنّه لو كان مؤثرا في وجود المعلول رغم كونه جزء العلة ، إذن للزم تأثير المعدوم في الموجود ، إذ إنّ الشرط المتقدم معدوم حين وجود مشروطه.

والجواب هو إنّ هذه المشكلة قد انحلّت على ضوء ما تقدّم في المقام الثاني ، حيث عرفنا أن منشأ هذه المشكلة كان بسبب حذف حلقة من حلقات التسلسل السببي في الوسط ، عند ما نتكلم بلحاظ الملاك ، فإن الشرط المتقدم يؤثر دائما في أمر مقارن له ، وهذا الأمر المقارن يؤثر مع الشرط في المشروط المقارن له ، إذن فلا شرط متقدم ، فلا إشكال.

وأمّا إذا تكلّمنا بلحاظ الواجب ، فقد عرفت فيما سبق أيضا بأن الشرط فيه يكون بمعنى التحصيص والتضييق ، لا بمعنى المؤثريّة. ولكن الأصحاب لأنهم لا يرون مشكلة في الشرط المتقدم بحسب وجدانه العرفي والخارجي ، بل حتى من قبل منهم الاستحالة في الشرط المتأخر ، لم يقبلها في الشرط المتقدم ، لكن حيث أن المحقق الخراساني طرح إشكال تأثير المعدوم في الموجود ، بصيغة فلسفية معقولة ، دون ما أي فرق بين الشرط المتأخر والمتقدم ، لذلك تصدّى المحقق (٢) الأصفهاني ، والمحقق (٣) الخوئي ، للجمع بين ذلك الوجدان وهذا البرهان ، بدعوى أن الشرط المتقدم معقول لكن بحيث يكون فاقدا لمعنى المؤثرية ، وعليه يقول المحقق الأصفهاني بأن الشرط على قسمين :

__________________

(١) كفاية الأصول : المشكيني ج ١ ص ١٤٥.

(٢) نهاية الدراية : ج ١ ص ٢٧٦.

(٣) محاضرات فياض : ج ٢ ص ٢٠٥ ـ ٢٠٦ مطبعة الآداب النجف الأشرف.

٣٢

أ ـ القسم الأول : الشرط الذي يساهم في تكميل فاعلية المقتضي للإعطاء ، أو قابلية المقتضي للأخذ ، وهذا معنى المؤثرية.

ب ـ القسم الثاني : الشرط الذي لا يكون خلّاقا لأمر حقيقي ، لا بنحو تتميم فاعلية المقتضي ، ولا بنحو تتميم قابلية المحل المقتضى ، فهو ليس من قبيل تتميم فاعلية النار للإحراق ، ولا من قبيل جفاف الورقة ويبوستها الذي يتمم قابلية الورقة لأخذ هذا الاحتراق ، وإنما وظيفة هذا الشرط هي أن يقرّب المعلول إلى مكان إمكان حصوله من ناحية علته ، فأثره إعطاء صفة الإمكان للمعلول ، وسلب صفة الامتناع عنه ، من دون أن يخلق شيئا لا في النار التي تخلق ، ولا في الورقة التي تحترق ، وقد سمّى هذا بالمقدمات الإعدادية ، فالخطوات التي يخطوها الإنسان نحو الكرسي ، هي شروط للوصول إلى الكرسي لا إلى الجلوس عليه. إذن هذه الخطوات لم تتمم فاعلية الفاعل ، لأن فاعليته وقدرته على الجلوس تامة في نفسه إذا لم يكن إنسانا مشلولا ، وهي لم تتمم قابلية الكرسي لأن الكرسي ، قد رتّبه النجّار وهيّأ قابليته ، وإنما كانت هذه الخطوات دخيلة في تقريب إمكان الجلوس من الفاعل ، أو تقريب الجلوس نحو الإمكان. وعلى ضوء هذا ، فالشرط المتقدّم معقول في هذا القسم الثاني دون الأول.

وهذا الكلام رغم اشتهاره لم نتعقله ، لأنه إمّا أن يرجع إلى ما قرّرناه ، وإمّا أن لا يكون له معنى ، لأن قوله : «إن هذا الشرط يقرّب الشيء نحو الإمكان.» يعني نحو اللّاامتناع.

فهنا نقول : إنّه إن أريد بهذا اللّاامتناع ، اللّاامتناع الذاتي من قبيل اجتماع النقيضين فهو مستحيل ، لأن الماهية الممتنعة ذاتا ، يستحيل أن تقترب نحو الإمكان ، والماهية الممكنة ذاتا ، لا معنى لتقريبها نحو الإمكان ، إذ يستحيل تبدل ذاتيّات الماهية من الامتناع إلى الإمكان ، فإنه خلف ، كونه ذاتيا. وإن أريد بالتقريب نحو الإمكان واللّاامتناع ، التقريب نحو اللّاامتناع بالغير ، وهو امتناع الشيء بسبب عدم وجود علته ، كالشخص لا يحرث

٣٣

الأرض ، ولا يبذرها ، ولا يسقيها ، فيمتنع عن جني ثمر منها ، لأن العلة غير موجودة ، إن أريد بالشرط الإعدادي أنه هكذا يقرّب نحو الإمكان المقابل للامتناع بالغير ، فهذا معناه أنه يقرب نحو وجود العلة ووجود المؤثّر ، إذن فلا بد في المرتبة السابقة على هذا التقريب ، أن نفترض أنه مؤثر لكي يكون مقربا نحو وجود العلة ، لأن الامتناع بالغير يزال بوجود العلة ، إذا المقرّب نحو الإمكان ، والمبعّد عن الامتناع بالغير يعني ما يكون محققا لبعض أجزاء العلة. وعليه فلا بدّ في المرتبة السابقة على وظيفته ، وهي كونه مزيلا للامتناع بالغير ، أن يفرض أنه جزء العلة وله دور «ما» في إيجاد المعلول ، لكي يكون وجوده مقربا نحو اللّاامتناع بالغير.

وكلامنا في هذا الدور حيث يقال : إنّه كيف يكون دخيلا وله دور في إيجاد المعلول والحال أنه متقدم أو متأخر عنه في الوجود؟ وإن أريد بالشرط المعدّ ، أنه مقرّب للأثر نحو الإمكان بمعنى ثالث وهو الإمكان الاستعدادي في المادة ، كما في البيضة ، فإنه يمكن ذاتا أن تتحول إلى دجاجة ، لكن تحتاج إلى إمكان استعدادي كدرجة معينة من الحرارة ، ووضع معين لها ، وحينئذ ينشأ فيها بالتدريج إمكان استعدادي كدرجة معينة من الحرارة ، ووضع معين لها ، وحينئذ ينشأ فيها بالتدريج إمكان استعدادي لكي تتقبّل صورة الفرخ. فإن كان المراد بالإمكان الاستعدادي هذا ، بأن نفترض أن الشرط المتقدم يعطي للشيء الإمكان الاستعدادي لإيجاد المصلحة خارجا ، حينئذ نقول : إن هذا الاستعداد والتهيؤ ، إن فرض كونه مجرد أمر اعتباري انتزاعي ينتزعه العقل ، فمن غير المعقول أن يكون الأمر الاعتباري مؤثرا ودخيلا حقيقة في إيجاد شيء في الخارج وهو المصلحة. وإن فرض كونه أمرا حقيقيا وحالة معينة في البيضة تنشأ من ناحية هذه المقدمات الإعدادية ، وتبقى إلى أن تكتمل سائر أجزاء العلة ، ويصبح البيض دجاجا ، فمعنى هذا إذن أن هذا شرط مقارن وليس متقدما ، لأنه أصبح مؤثرا في إيجاد الدجاجة ، بعد أن بقي محفوظا بالمادة حتى قارن مع وجود الدجاجة وهذا يرجع إلى ما ذكرنا سابقا من أن الشرط

٣٤

المتقدم كالشرط المتأخر ، يفتقد حلقة في الوسط تسمّى عندهم بالإمكان الاستعدادي.

وعندنا كما عرفت ، فالنزاع ليس في التسمية ، وإنما في واقع المطلب ، إذن فالشرط هذا ليس بدعا من الشروط ، بل هو شرط مؤثر في الإمكان الاستعدادي بنحو مقارن للدجاجة في المثال ، وللمصلحة في حقيقة المطلب وبهذا يندفع إشكال الشرط المتأخر والمتقدم ، وبذلك ننهي الكلام في تقسيمات المقدمة.

٣٥
٣٦

الفصل الثاني

في تقسيمات الواجب

قسّم الواجب إلى أقسام :

منها تقسيمه إلى الواجب المشروط ، والواجب المطلق ، فالواجب المشروط مثل الحج ، فإنه واجب مشروط بما هو واجب ، أي : إنّ وجوبه مشروط بالاستطاعة ، ومطلق من ناحية الزوال ، ووجوب الظهر مشروط بالزوال ، ومطلق من ناحية الاستطاعة ، فكل منهما مطلق من ناحية شرط الآخر ولهذا قسّموه هكذا.

وقد وقع الإشكال في مقامين ، في تعقّل الواجب المشروط ، حيث يكون الوجوب مشروطا :

المقام الأول : في إمكان الوجوب المشروط عقلا وفي مقام الثبوت ، أي : في معقوليته في نفسه ، بقطع النظر عن ألسنة الأدلة الكاشفة في الآيات والروايات ـ عالم الإثبات والإبراز ـ حيث يقال بعدم معقولية الوجوب المشروط ، بل الوجوب دائما مطلق ، وإنما الاشتراط دائما يكون في الواجب.

المقام الثاني : الإشكال بحسب مقام الإثبات ، وإبراز الإيجاب بصيغة الأمر ، حيث يقال : إنّ الشرط هنا يرجع إلى مدلول المادة الذي هو الواجب ، دون مدلول الهيئة الذي هو الوجوب ، إذن فكلا الإشكالين عقلي وثبوتي ، لكن

٣٧

أحد الإشكالين يتجه نحو مقام الثبوت للوجوب ، والأخر يتجه نحو مقام الإثبات للوجوب.

فالكلام يقع أولا في الإشكال الثبوتي ، بقطع النظر عن عالم الإثبات ، بمعنى أننا نتتبع الوجوب وهو لا يزال في نفس المولى ، لنرى هل يمكن تقسيمه إلى مشروط ومطلق.

وفي مقام الثبوت للوجوب يوجد عندنا ثلاث مراحل :

١ ـ المرحلة الأولى : مرحلة الملاك.

٢ ـ المرحلة الثانية : مرحلة الإرادة والشوق.

٣ ـ المرحلة الثالثة : مرحلة الجعل والاعتبار على طبق هذا الشوق.

ونحن إذ نتتبع الوجوب بقسميه في هذه المراحل الثلاثة ، لنتعرف على معنى المشروط والمطلق في كل واحدة من هذه المراحل ، ولنبدأ بالواجب المشروط على ضوء هذه المراحل فنقول :

أمّا الواجب المشروط بلحاظ ـ مرحلة الملاك ـ المرحلة الأولى : فلا إشكال في انقسام الملاك إلى مشروط ومطلق ، وتعقل ذلك ، وذلك لأن الملاك معناه «الاحتياج» فالاحتياج عبارة أخرى عنه ، كاحتياج الإنسان إلى النار ، ومن الواضح أن الاحتياجات على قسمين :

أ ـ القسم الأول : احتياجات موجودة دائما ، وغير منوطة بشيء ، دون شيء. كالاحتياج إلى الهواء سواء أكان باردا أو حارا.

ب ـ القسم الثاني : احتياجات منوطة بشيء ، كالاحتياج إلى النار ، فإنه احتياج منوط ببرودة الهواء ، والاحتياج المشروط ـ الملاك ـ ليس له وجود قبل الشرط أصلا ، حيث قبل أن يبرد الهواء لا حاجة إلى النار ، إذ الحاجة أمر تكويني خارجي ينشأ من برودة الهواء ، وإلّا فقبل برودته لا يوجد مصداق للملاك أصلا ، فالحاجة المطلقة هي الحاجة الموجودة بالفعل ، وعلى كل

٣٨

تقدير. إذن فمعنى المطلق بلحاظ الملاك ، هو الحاجة الفعلية الثابتة على كل تقدير ، ومعنى المشروط بلحاظ الملاك هو الحاجة غير الموجودة إلّا بوجود شيء ، كالبرودة ، فيسمّى ذاك الشيء شرطا في الملاك دون أن ينازع أحد في هذا.

وأمّا الواجب المشروط بلحاظ مرحلة الإرادة والشوق ، المرحلة الثانية ، فإنه لا إشكال في وجود إرادة مشروطة وإرادة مطلقة ، كإرادة شرب الدواء مشروطة بظهور المرض ، وإرادة الطعام مطلقة غير مشروطة بالمرض.

ولكن وقع النزاع في كيفية تخريج وتفسير هذه الإرادة المشروطة ، وبأي نحو يكون وجودها ، فهنا نظريات في تفسيرها وتمييزها عن الإرادة المطلقة.

النظرية الأولى :

وهي المنسوبة إلى تقريرات الشيخ الأعظم (١) (قده) وحاصلها :

وإنّ الإرادة المشروطة من حيث هي إرادة غير مشروطة ، بل هي إرادة كاملة الفعلية من دون فرق بينها وبين ما يسمّى بالإرادة المطلقة من حيث الفعلية والتحقق ، فكلتاهما إرادة فعلية موجودة في أفق نفس المريد بالفعل ، فإرادة شرب الماء ، أو الطعام ، هي كإرادة شرب الدواء المسمّاة بالإرادة المشروطة ، كلتاهما إرادة ، ولا فرق بينهما من ناحية الفعلية والتحقق ونحو الوجود ، وإنما الفرق بينهما من ناحية المتعلق ، فالإرادة المطلقة : إرادة فعلية متعلقة بوجوب شيء غير مقيد بتقدير من التقديرات ، بينما الإرادة المشروطة هي أيضا إرادة فعلية ، لكنها تعلقت بوجود شيء مقيّد بتقدير من التقديرات ، كشرب الدواء عند وجود المرض ، فهذه «العندية» أخذت قيدا في المراد ، لا في الإرادة.

فإن قيل : إن هذه «العندية» إذا كانت مأخوذة قيدا في المراد ، إذن فيلزم

__________________

(١) مطارح الأنظار : الأنصاري ج ١ ص ٤٤.

٣٩

التحريك نحوها حينئذ ، لأن شروط المراد هي شروط الواجب ، فإن كانت الإرادة تكوينية ، كما في مثال شرب الدواء ، فإنه إن أراد شر به فيلزم أن يتحرك نحو تمريض نفسه حتى يتحقق قيد مراده ، وإن كانت الإرادة تشريعية كما لو أراد من الغير أن يشرب الدواء عند المرض أو الوضوء عند الصلاة ـ وفي كلا المثالين القيد للمراد ـ فيلزم إلزام العبد وتكليفه من قبل المولى.

فالجواب إنّ هذا الشرط المنوطة به الإرادة ، وإن كان مأخوذا في المراد ، لكنه مأخوذ فيه على نحو لا يترشح الإلزام من الإرادة إليه ، بحيث لا يعقل الإلزام به ، بخلاف سائر القيود الأخرى ، فإنه يعقل الإلزام بها من قبل تلك الإرادة ، كما لو أراد المولى من عبده أن يشرب الدواء عند المرض في كأس نظيفة ، فهنا قيدان : أحدهما ، أن تكون الكأس نظيفة ، وهذا القيد يترشّح الإلزام عليه من قبل هذه الإرادة.

والقيد الثاني : هو أن يكون عند المرض.

ولكن هذا القيد الثاني ، لا يترشح عليه الإلزام من قبل هذه الإرادة وإن كان قيدا في المراد ، ووجه عدم الترشح هذا هو : أن هذا القيد أخذ بوجوده الاتفاقي قيدا في الواجب لا بوجوده المطلق ، أي : أخذ المرض قيدا بشرط أن لا يكون ناشئا من محركية هذه الإرادة ، ومثل هذا القيد يستحيل الإلزام به من قبل هذه الإرادة ، لأنه بمجرد الإلزام به من قبل هذه الإرادة يخرج عن كونه مصداقا للقيد المفروض. إذن فالقيود هي قيود للمراد دون أن يكون للإرادة قيد أصلا ، وإنما الإرادة فعلية التحقق والوجود دائما ، وإن ما يسمّى قيدا للإرادة ، إنما هو قيد للمراد ، لكنه أخذ قيدا بوجوده الاتفاقي الغير ناشئ من هذه الإرادة. ولذا يستحيل الإلزام به من قبل هذه الإرادة ، وهذه النظرية قد تبدو غريبة ، حيث أنها أرجعت كل القيود إلى المراد ، وأعفت حتى الإرادة المشروطة من شرطها وأرجعتها إلى كونها شرطا للمراد.

وبهذا لم يبق فرق بين إرادة المولى شرب الماء من عبده ، وبين إرادته منه شرب الدواء عند المرض ، فكلتا الإرادتين فعلية ، وإنما الفرق بينهما في

٤٠