بحوث في علم الأصول - ج ٥

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٣

في التعبدي والتوصلي ، وفي المطلق والمقيّد ، حيث قلنا : إنّه لا واسطة بين الإطلاق والتقييد ، لأن التقابل بين الإطلاق الذاتي والتقييد ، هو تقابل السّلب والإيجاب ، فإذا استحال أحدهما تعيّن الآخر ، إذن فلا بدّ إمّا من الإطلاق ، وإمّا من التقييد ، ويستحيل الإهمال.

وإنما يتعقّل هذا المدّعى ، عند من يتصوّر واسطة بين الإطلاق والتقييد اسمها الإهمال ، حيث يكون التقابل بينهما تقابل التضاد بنحو يمكن انتفاء كلا الضدين ، ويثبت ثالثهما وهو الإهمال.

وتفصيل دفع الإشكال الذي تبرهن به على استحالة التقييد ، ومن ثمّ استحالة الإطلاق ، وثبوت الإهمال ، هو أن يقال :

بأن التقييد ليس من نتائج ذات القيد وذات الفعل ، لأنه يمكن أن يوجد القيد وهو «القيام» ويوجد الفعل وهو الصدقة ، ومع هذا لا يوجد التقيّد ، وذلك بأن يكون الفعل موجودا قبل القيد ، كما لو وجدت «الصدقة» قبل «القيام» وذلك كما لو كان الأمر متعلقا بجامع «الصدقة» من دون أن يؤخذ فيه التقيّد «بالقيام» ، حينئذ يكون المطلوب بالأمر هو الجامع بين «الصدقة» البعديّة «والصدقة» القبليّة ، وحينئذ يتعيّن الإطلاق مع عدم التقييد ، وإذا كان الجامع هو المطلوب ، فلو فرض أن المكلّف صدفة أتى «بالصدقة» ، في ضمن فرد سابق على «القيام» ، إذن يمكنه أن يكتفي به ، لأنّ الجامع قد وجد في الخارج ، إذن الملزم للعبد بالإتيان بالحصة القبلية للجامع ، إنما هو الأمر بالتقيّد ، وإلّا فلو لا الأمر الضمني بالتقيّد لكان الأمر واقفا على الجامع ، وتعيّن الإطلاق بنحو يكون قابلا للانطباق على «الصدقة» قبل القيد أيضا ، ولا يبقى ملزم من ناحية شخص هذا الأمر ، بإتيان الجامع في ضمن حصة أخرى حينئذ ، إذن فتقييد الواجب الذي مرجعه إلى الأمر بالتقيّد ليس لغوا ، بل له مدلول عملي في مقام الامتثال ، وعليه ، فيكون التقييد معقولا ، لأن الإطلاق غير صحيح فيتعيّن التقييد.

وبهذا يتضح أن التقريب الثالث تام في نفسه وهو : إنّ إطلاق الهيئة لا

١٦١

معارض له ، لأن إطلاق المادة معلوم السقوط تفصيلا ، فيتمسك بأصالة الإطلاق في الهيئة بلا معارض.

ولكن هذا التقريب ، إنما يتم إذا كان القيد المحتمل الدخل على سنخ واحد في الوجوب والواجب.

أمّا إذا كان محتمل الدخل في الوجوب على نحو الحدوث ، بمعنى أن حدوثه دخيل ، وكان محتمل الدخل في الواجب على نحو الظرفية ، بنحو يكون لا بدّ من إيقاع الواجب حينه ، فيحصل التعارض لا محالة ، وأن كلا من التقيدين حينئذ ليس معلوما ، فأصالة عدم هذا التقييد تكون معارضة بأصالة عدم ذلك التقييد ، هذا كله فيما إذا كان الدليل الذي دلّ على التقييد منفصلا.

وأمّا إذا كان الدليل الذي دلّ على التقييد متصلا ، فهذا المقيّد المتصل ، تارة يفرض أن لسانه متوجه نحو الهيئة ، أو نحو المادة ، لكن المكلّف لا يعلم هل أنه متوجه نحو المادة أو نحو الهيئة ، وإن كان المتكلم يعلم ذلك من قبيل أن يقول ، تصدّق عند قيامك ، وتارة أخرى يفرض أن هذا العبد ، بحسب طبعه ، ليس متوجها نحو الهيئة بالخصوص ، ولا إلى المادة بالخصوص ، بل هو بيان لجامع التقييدين ، غايته أنه بيّنه بمثل هذه العبارة ، فيقول : «تصدّق ولا تجزي الصدقة قبل القيام» وعبارة «لا تجزي الصدقة قبل القيام» ، كما قد يكون ، لأنّ «القيام» قيد للواجب ، كذلك قد يكون بلحاظ أن القيام قيد للوجوب ، وكلاهما يناسب مع «عدم الإجزاء».

فهذه العبارة تدل على معنى مستقل يستلزم بطلان أحد الأمرين : إمّا الهيئة وإمّا المادة ، إذن فنحن نتصور المقيّد المتصل على نحوين ، فلا بدّ من الكلام على كل من هذين النحوين :

١ ـ النحو الأول : وهو كون القيد دالا على مطلب مستقل ، وليس متجها لا إلى المادة بالخصوص ، ولا إلى الهيئة بالخصوص ، وحينئذ ، فإن قلنا بأنّ تقييد الهيئة لا يستلزم تقييد المادة ، وأنكرنا انحلال العلم الإجمالي الذي تقدّم

١٦٢

في التقريب الثالث ، حينئذ يحصل التعارض في المقام بين إطلاق المادة وإطلاق الهيئة ، وذلك لأن الظهور الإطلاقي منعقد وتام في كلا الطرفين ، لأن الظهور الإطلاقي يتوقف على عدم الإتيان بالقيد ، ومن الواضح أنّ الجملة الدالة على التقييد ، لا تصلح قيدا للهيئة بالخصوص ولا للمادة بالخصوص. إذن فالإطلاق في كل من الهيئة والمادة تام.

ولهذا لو فرض ـ بالصدفة ـ سقوط أحد الإطلاقين ، حينئذ ، لا مانع من جريان الإطلاق الآخر ، وبجريانه نثبت أن عدم إجزاء الصدقة قبل القيام ، إنما نشأ من تقييد الطرف الآخر ، لعدم صلاحية خطاب المولى تقييد أحد الإطلاقين ، ولا ينفع في التقييد كون القيد في خطاب المولى يلزم منه تقييد أحد الإطلاقين ، وذلك لأن هذا اللزوم أعم من كون القيد قيدا ، لخصوص إطلاق الهيئة ، أو المادة.

وعليه ، فمقتضى أصالة التطابق بين مقام الإثبات ، ومقام الثبوت الذي هو معنى أصالة الإطلاق في طرف الهيئة ، مقتضى هذا هو أنّ القيد لم يؤخذ في الهيئة ، كما أن مقتضى أصالة التطابق بين مقام الإثبات ومقام الثبوت في جانب المادة الذي هو معنى أصالة الإطلاق في المادة ، مقتضى هذا هو أن القيد لم يؤخذ في المادة ، ذلك لعدم كون القيد المزبور صالحا لتقييد المادة وكذلك الهيئة.

إذن فأصالة الإطلاق تامة في نفسها في جهة المادة والهيئة ، وحينئذ تقع المعارضة بينهما ، فإن فرض كون أحدهما أقوى دلالة من الآخر ـ كما لو قلنا بأن الإطلاق الشمولي أقوى من الإطلاق البدلي ـ حينئذ قدّم أقواهما دلالة على أضعفهما دلالة ، وإن لم يكن أحدهما أقوى ، حينئذ يستحكم التعارض بينهما ويتساقطان.

هذا إذا لم نقبل بالتقريب الثالث ولم نقبل بأن تقييد الهيئة يستلزم تقييد المادة ، وأمّا إذا قبلنا بأن تقييد الهيئة يستلزم تقييد المادة ، فحينئذ يكون البيان المتصل في كلام المولى قرينة على تقييد المادة على كل حال ، لأنه يدل على

١٦٣

عدم إجزاء الصدقة الواقعة قبل القيام ، لأن عدم الإجزاء هذا ، إن كان ناشئا من تقييد المادة فهو ، وإن كان ناشئا من تقييد الهيئة ، فتقييد الهيئة يستلزم تقييد المادة أيضا ، فالخلاصة هي : أن هذا البيان المتصل في كلام المولى ، يكون دليلا على تقييد المادة على كل حال.

وبهذا تنخرم مقدمات الحكمة في جانب المادة ، لأن إحدى مقدمات الحكمة في جانب المادة هي : أن لا يأتي المولى في كلامه بما يكون دليلا على التقييد ، والمفروض أنه أتى في كلامه بما يكون دليلا على التقييد ، بينما مقدمات الحكمة في جانب الهيئة غير منخرمة ، لانعدام ما يصلح في كلام المولى لتقييدها.

وقد تقدّم وقلنا : بأن كون البيان المتصل يلزم منه التقييد ، هذا اللزوم لا يغني ، وقد قالوا في المنطق الأرسطي : إنّ الدال على اللازم الأعم لا يدل على الملزوم الأخص ، وعليه فمقدمات الحكمة في الهيئة تامة ، ويجري الإطلاق فيها بلا معارض ، بعد انخرام هذه المقدمات في طرف المادة.

٢ ـ النحو الثاني : هو أن يفرض كون القيد متجها ابتداء إلى أحد المركزين : إمّا المادة ، وإمّا الهيئة ، لكن المكلّف لم يشخّص أيّ المركزين يريد.

في مثل ذلك ، إن بنينا أنّ تقييد الهيئة لا يستلزم تقييد المادة ، إذن فهذا البيان يكون متجها نحو أحد المركزين : إمّا المادة فقط ، وإمّا الهيئة فقط ، وفي مثل ذلك لا يحصل التعارض بين الإطلاقين ، لأنّ التعارض بين الإطلاقين فرع تماميّة مقدمات الحكمة في كل من الموردين ، يعني فرع تماميّة الظهور الذي تولده مقدمات الحكمة فيهما.

وفي المقام نعلم أن مقدمات الحكمة منخرمة في أحدهما ، لأنّ القيد المتصل هنا يصلح لتقييد أحد الإطلاقين ، ولكن المكلّف لا يدري على أيّهما انصبّ القيد ، إذن فهنا لا تعارض بين الحكمتين ، وبين ظهوري الإطلاقين.

١٦٤

وحينئذ بناء على هذا لا أثر لأقوائية أحد الإطلاقين على الآخر ، كما قيل في تقدم الإطلاق الشمولي على الإطلاق البدلي ، لأن تقديم أقوى الظهورين على الآخر ، أنما هو بعد فرض ثبوت أصل الظهورين ، وهنا لم يثبت أصل الظهورين ، لأن أصل الظهورين إنما يثبت لو ثبتت كلتا الحكمتين ، والمفروض أن الحكمة هنا منخرمة في أحدهما جزما ، ومعه لا ظهور لأحدهما جزما ، إذن فليس الباب باب تعارض الظهورين حتى يقدّم أقواهما على أضعفهما ، بل الباب هنا هو باب اشتباه ما له ظهور بباب ما ليس له ظهور ، وبهذا يتعيّن الإجمال.

وأمّا إذا قلنا : بأنّ تقييد الهيئة يستلزم (١) تقييد المادة ، فأيضا ستكون النتيجة هي الإجمال ، وذلك لأن إطلاق المادة تكون حكمته منخرمة يقينا ، باعتبار وجود ما يصلح أن يكون مقيّدا له ، لأن هذا القيد المتصل إن كان متجها ابتداء نحو المادة ، فهو المطلوب ، وإن كان متجها نحو الهيئة ، فيدل بالالتزام على تقييد المادة بحسب الفرض. إذن فالحكمة في المادة منخرمة جزما ، إذن فلا ظهور في طرف المادة ، وأمّا في جانب الهيئة فالحكمة منخرمة احتمالا ، لا جزما لاحتمال أن يكون هذا القيد متجها نحوها ، فلا يقع تعارض أصلا ، ويكون المقام من مورد الإجمال ، لأن التعارض فرع استقرار الظهورين ، وفي المقام لا يوجد ظهوران ، فلا يقع التعارض بينهما من دون فرق بين أن يكون الإطلاق الشمولي أقوى ، أو لا يكون ، ذلك لأن الأقوائية لا أثر لها ، وإنما يظهر أثرها فيما لو وجد ظهوران ، وفي المقام لا يوجد ظهوران.

وبذلك يتضح ثبوت فرق فنّي بين هذين القسمين من حيث النتيجة ، إذ إنّه في القسم الثاني لا يمكن التمسك بإطلاق الهيئة ، ولا يفيد أن يكون إطلاق الهيئة أقوى من إطلاق المادة ، بينما في القسم الأول فقد يمكن التمسك

__________________

(١) المفروض أن أصل تقييد الهيئة احتمالي ، فلازمه احتمالي أيضا للابدية السنخية بين اللازم والملزوم ، ولكون الدال على اللازم الأعم لا يكون دالا على الملزوم الأخص ، والمفروض أن البيان صالح لتقييد كلا الإطلاقين. إذن فيرجع الكلام طردا إلى أقوى الظهورين ، ولو بقرينة خارجية ، فيترجح وإلّا فيتساقط (المقرر).

١٦٥

بإطلاق الهيئة ، وتكون دعوى الأقوائية مقيدة أيضا في تقديم إطلاق الهيئة على إطلاق المادة.

هذا تمام الكلام فيما إذا فرض كون القيد منفصلا أو متصلا.

وفي إطار البحث حول تعارض إطلاق المادة مع إطلاق الهيئة ذكر المحقق النائيني «قده» كلاما مفيدا ، خصوصا في بحث التعادل والتراجيح نستعرضه للفائدة.

وقد تقدّم معنا أن أحد الوجوه التي قدّم فيه إطلاق الهيئة على إطلاق المادة ، إنما كان بسبب أقوائية إطلاق الهيئة على إطلاق المادة ، وذلك تطبيقا لقانون متفق عليه في الأصول ، وهو أنه من صور الجمع العرفي بين الدليلين صورة تقديم الأقوى دلالة على الأضعف دلالة.

وفي بحثنا حول تعارض إطلاق المادة مع إطلاق الهيئة ، يبيّن المحقق (قده) نكتة حاصلها :

إنّ الدليلين المتعارضين (١) ، تارة يكون تعارضهما تعارضا بالذات ، بمعنى أنهما متكاذبين بلسانهما من قبيل أن يقول : «لا تكرم أيّ فاسق» ، ويقول في خطاب آخر : «أكرم الهاشمي» ، فهنا هذان الخطابان متعارضان تعارضا ذاتيا ، لأن قوله : «أكرم الهاشمي» ، يشمل «الهاشمي الفاسق» ، وقوله : «لا تكرم أيّ فاسق» يشمل «الهاشمي الفاسق» ، فينفي بهذا ، جواز إكرامه ، ومن هنا يقع التعارض الذاتي بن الدليلين.

وتارة أخرى يكون تعارضهما بالعرض ، وليس ذاتيا ، كما لو حصل هذا التعارض بالصدفة والاتفاق ، من قبيل أن يقول في دليل : «لا يضرّ الصائم ما صنع لو اجتنب ثلاث ـ الطعام والشراب والنساء» ، ويقول في دليل آخر. «المرأة لا تقضي صلاتها التي فاتتها أيّام عادتها» ثم إنّه علم صدفة من الخارج

__________________

(١) فوائد الأصول : الكاظمي ج ١ ص ١١٩ ـ ١٢٠.

١٦٦

أن أحد هذين الدليلين مقيّد ، إمّا بمثل قوله : إنّ الصائم يجب عليه زائدا على اجتناب الثلاث ـ أيضا «اجتناب الارتماس في الماء» ، وإمّا بمثل قوله «إن المرأة يجب عليها قضاء صلاة الآيات» لو كانت قد فاتتها أيّام عادتها ، وهذا تعارض نشأ من العلم الخارجي ، إذن هو تعارض بالعرض.

وحينئذ يقال : إن قانون تقديم أقوى الدليلين دلالة ، على أضعف الدليلين دلالة إنما يكون في القسم الأول ، أي : عند ما يكون التعارض ذاتيا دون القسم الثاني الذي يكون التعارض فيه عرضيا.

وعند تطبيق هذه الكبرى على محل الكلام في تعارض إطلاق الهيئة مع إطلاق المادة ، نجد أن التعارض هذا بينهما إنما هو من القسم الثاني ، أي التعارض العرضي ، لأن إطلاق الهيئة ، وإطلاق المادة ، لا تعارض بينهما في أنفسهما ، وإنما نشأ التعارض بينهما من ناحية العلم الخارجي بطرو القيد على أحدهما. ومن هنا لا يمكن إعمال قوانين الجمع العرفي التي منها تقديم أقوى الظهورين على أضعفهما ، لكون التعارض بينهما بسبب الدليل الخارجي على كذب أحد الإطلاقين ، وفيه لا يقدّم الأقوى دلالة على الأضعف دلالة.

ودعوى تعطيل إعمال قانون الجمع العرفي في مثل المتعارضين بالعرض ، لا يتنافى مع ارتكازاتنا العرفية ، التي هي الأساس في قوانين الجمع العرفي ، فإن ارتكازنا العرفي يقضي بأنه إذا وجد عامّان : أحدهما أقوى من الآخر من قبيل ، «لا يضر الصائم ما صنع إذا اجتنب ثلاث» ، والآخر أضعف من قبيل «الحائض لا تقضي ما فاتها من الصلاة» ، فيعمّ «صلاة الآيات» ، فلو علم من الخارج وقوع خلل في أحد هذين العامين ، فالعرف يرى أن قوة الظهور في أحدهما قرينة على توجيه القيد إلى الأضعف ظهورا.

وهذا بحث كبروي نافع في معرفة النكتة الداعية لهجر الارتكاز العرفي في أن تقديم أقوى الظهورين على أضعفهما لا يجري في موارد التعارض بالعرض ، وقد قرّبت هذه الشبهة بعدة تقريبات :

١٦٧

التقريب الأول : وهو محتمل (أجود التقريرات) (١) ، وظاهر تقريرات أخرى (٢) للمحقق النائيني «قده».

وحاصله ، أنه يعلم إجمالا بكذب أحد الإطلاقين في المقام. إمّا كذب إطلاق الهيئة ، وإمّا كذب إطلاق المادة ، فيكون المقام من قبيل ما إذا علم إجمالا بكذب أحد الخبرين ، فكما أنه هناك لا يعمل قانون الأقوائية ، فكذلك هنا.

وتوضيحه ، هو إنّه إذا وردت رواية تقول : «أكرم النحوي» ، ووردت رواية أخرى ، تقول : «لا تكرم فساق النحويين» ، فهنا عام وخاص ، وهنا إن فرضنا أننا لم نعلم إجمالا بكذب أحد الراويين في نقله ، فنتعبّد بكل من الكلامين ، ونحمل العام على الخاص ، فنخصّص «أكرم النحوي» ، بلا «تكرم فساق النحويين» ، وهذا هو الجمع العرفي. وأمّا إذا علمنا إجمالا أن أحد هذين الراويين قد كذب في نقله ، يعني ، إمّا زيد لم يسمع من الإمام قوله : «أكرم النحوي» ـ وإمّا عمرو ، لم يسمع من الإمام قوله : «لا تكرم فسّاق النحويين» ، في مثل ذلك ، لا نبني أن الكاذب هو ناقل العام ، لوضوح أن العلم الإجمالي بالكذب ، نسبته إليهما على حد سواء ، وكون أحدهما ناقلا للأضعف ظهورا ، لا يثبت كونه كاذبا ، بل قد يكون الأمر بالعكس. إذن فيتعامل مع هاتين الروايتين معاملة المتعارضين ، ولا يقدّم أقواهما على أضعفهما.

إذن يقاس محل الكلام بذلك فيقال : إن إطلاق المادة وإطلاق الهيئة كهاتين الروايتين ، وقد علم إجمالا بكذب أحدهما ، والعلم الإجمالي بالكذب نسبته إليهما على حد سواء ، ومجرد كون الظهور أقوى في الهيئة ، وكون ظهور الإطلاق ضعيفا في المادة ، لا يعيّن أن يكون أحدهما أولى بالكذب من الآخر.

والجواب هو : أنّ هذا التقريب مبني على الخلط بين مرحلتين : بين

__________________

(١) أجود التقريرات : الخوئي ج ١ ص ١٦٣ ـ ١٦٤.

(٢) فوائد الأصول : الكاظمي ج ١ ص ١١٩ ـ ١٢٠.

١٦٨

مرحلة الصدور ، ومرحلة الدلالة والكشف عن المراد الواقعي للمتكلم ، هنا لا بدّ من التفريق بينهما وذلك ، لأن الراويين إذا نقلا كلامين عن المولى :

أحدهما نقل العام والآخر نقل الخاص فهنا مرحلتان :

المرحلة الأولى : هي أن هذين الكلامين هل صدرا من المولى حقيقة ، أو أنه لم يصدر أحدهما من المولى حقيقة.

المرحلة الثانية : بعد فرض صدور كلا الكلامين من المولى ، حينئذ يصير الكلام في مرحلة الدلالة والكشف عن المراد الواقعي للمولى.

وبتعبير آخر : بعد الفراغ عن مرحلة الصدور ، ننتقل إلى الكلام ، حول أنّ إرادة المولى الجدّيّة على طبق كشف أيّ الكلامين؟.

وهنا يقال : بأنّ قواعد الجمع العرفي التي منها تقديم أقوى الظهورين ، هذه القواعد ، عملها في المرحلة الثانية ، مرحلة الدلالة والكشف ، لأنه فيها وقع التناقض والتنافي بين الكاشفيّتين ، حيث في هذه المرحلة يصلح أن يكون أقوى الظهورين قرينة على المراد من الآخر ، فيقدّم الخاص على العام.

ولكن لو كان الإشكال واقعا في المرحلة الأولى ، وهو كذب أحد الكلامين إجمالا ، حينئذ ، هنا لا مجال لإعمال الجمع العرفي ، وتقديم أقوى الظهورين على أضعفهما ، وذلك لأننا لم نحرز بعد ظهور ظهورين حتى نقدّم أقواهما على أضعفهما.

وبهذا يتضح أن قياس العلم الإجمالي بكذب أحد الراويين على محل الكلام ، هو قياس في غير محلّه ، لأنّ العلم الإجمالي بكذب أحد الراويين مربوط بالمرحلة الأولى ، بينما محل الكلام مربوط بالمرحلة الثانية ، أي : إنّ التنافي بن الظهورين يقع في المرحلة الثانية ، وفيها لا بدّ من إعمال قواعد الجمع العرفي حينئذ.

التقريب الثاني : هو أن حجيّة كل إطلاق مشروطة بعدم المقيّد ولو

١٦٩

منفصلا ، فإن المقيّد المنفصل يهدم أصل الظهور ، والمقيّد المتصل يهدم حجيّة الظهور دون أصله.

وفي المقام نعلم إجمالا أن أحد الإطلاقين بعينه المعيّن عند الله تعالى ، المجهول عندنا ، قد ورد عليه مقيّد منفصل ، وبهذا تسقط حجيّته يقينا ، والإطلاق الآخر لم يطرأ عليه مقيّد منفصل ، فتبقى حجيته. إذن فنحن بين إطلاقين : أحدهما المعيّن عند الله ساقط عن الحجية ، والآخر المعيّن كذلك باق على حجيته. فالمقام إذن من موارد تمييز الحجة عن اللّاحجة ، وفي مثل ذلك لا تجري قواعد الجمع العرفي ، وإنما يجري تقديم أقوى الحجّتين على أضعفهما ، فيما إذا لم يكن أحدهما ساقطا عن الحجية جزما ، والآخر باق على الحجية جزما ، وأمّا حيث حجية أحدهما ساقطة جزما ، والآخر حجيته باقية جزما فلا ، بل هو من باب تمييز الحجة عن اللّاحجة ، لا تقديم أضعفهما.

وهذا التقريب لا يمكن المساعدة عليه ، وذلك لأن حجية الإطلاق ليست مشروطة بعدم وجود مقيّد في علم الله تعالى ، بل بعدم وجود مقيّد بحسب فهمنا.

وبعبارة أخرى : هي مشروطة بعدم العلم بالمقيّد المنفصل ، لا بعدم واقع المقيّد المنفصل.

وفي المقام لا يوجد علم تفصيلي بمقيّد أيّ واحد من الإطلاقين ، لا إطلاق الهيئة ، ولا إطلاق المادة ، وإنما هناك علم إجمالي ، ونسبة هذا العلم الإجمالي إلى كلا الطرفين على حد سواء ، فلا يتعيّن أحدهما للسقوط دون الآخر حتى يقال : إنّ هذا من موارد تمييز الحجة عن اللّاحجة.

فدعوى أنّ هذا من موارد تمييز الحجة عن اللّاحجة ، مبنيّة على تخيّل أن حجية الإطلاق مشروطة بعدم واقع المقيّد المنفصل في علم الله تعالى ، وعليه يكون أحد الإطلاقين ساقطا عن الحجّية واقعا ، والآخر حجيته باقية.

مع أنه لا موجب لذلك ، لأن حجيّة كل إطلاق وظهور ، مشروطة بعدم وصول المقيّد المنفصل ، وليس بعدم واقع المقيّد المنفصل.

١٧٠

والمفروض هنا أن المقيّد المنفصل لم يصل لا هنا ولا هناك ، إلّا بعلم إجمالي نسبته إلى كلا الطرفين على حد سواء.

إذن فلا يتعيّن أحدهما للسقوط والآخر للثبوت ، بل في كل منهما مقتضي الثبوت ، وإنما المانع عن ثبوتهما معا هو العلم الإجمالي.

التقريب الثالث : هو أن تقديم أقوى الدليلين على أضعف الدليلين ، إنما هو باعتبار كون أقوى الدليلين قرينة على المراد من أضعف الدليلين ، فالخاص قرينة على العام ، والمقيّد قرينة على المطلق ، والقرينة مرجعها عرفا إلى كون اللفظ متعرضا بمدلوله لما يكون صالحا لتفسير مدلول الدليل الآخر.

فإنه بذلك حينئذ يقال : إنّ الخاص قرينة على العام ، لأنّ الخاص بمدلوله ينفي العموم ، ونفيه للعموم قرينة على أنّ المراد بالعام ليس العموم ، بل هو الخصوص.

وأمّا إذا فرضنا أن كلا منهما ليس لمدلوله تعرّض إلى مدلول الآخر ، غاية الأمر ، علم من الخارج صدفة ، أن أحد المدلولين غير مطابق للواقع ، إذن فلا يبقى مجال لأن يكون أحدهما قرينة على الآخر ، فقوله : «لا يضر الصائم ما صنع» ، لا يكون قرينة على أن المراد من قوله : «الحائض لا تقضي صلاتها» ، غير صلاة الآيات ، إذ لا معنى لهذه القرينيّة ، نعم لو ورد «أن الحائض تقضي صلاة الآيات» ، فهذا يصير قرينة ، لأنه بمدلوله يتعرض لنفي مدلول ذاك ، فالقرينيّة دائما فرع أن يكون أحد الدليلين يتعرض بمدلوله لنفي مدلول الدليل الآخر ، وهذا غير موجود في موارد التعارض بالعرض.

ولعلّ هذا التقريب ، وإن كان هو أحسن هذه التقريبات ، ولكنه غير تام.

وتوضيحه هو : إنّه إن أريد بهذا البيان ، أنّ القرينيّة فرع أن يكون أحد الدليلين متعرضا بمدلوله لحال مدلول الدليل الآخر بالدلالة المطابقية فقط ، بحيث لا تكفي الدلالة الالتزامية العرفية ، فهذا أول الكلام ، فإنّ القرينيّة كما

١٧١

تصلح للتعرض بالدلالة المطابقية كذلك ، تصلح لأن تكون بالتعرض بالدلالة الالتزامية.

وإن أريد أنه لا بدّ من أن يكون أحد الدليلين بمدلوله متعرضا لحال مدلول الدليل الآخر إمّا مطابقة ، وإمّا التزاما ، فهذا صحيح ، وهذا موجود في المقام أيضا ، لأنّ كلا من الدليلين له مدلول التزامي ، وهو : إنّه لو كان أحد الأمرين كذبا ، إذن فالكاذب غيره ، يعني أن عموم الصائم لا يضره ما صنع إذا اجتنب ثلاث ، هذا العموم يقول : إنّه لو كان لا بدّ من ثبوت أحد أمرين : إمّا مفطريّة أمر رابع.

وإمّا وجوب صلاة الآيات على الحائض قضاء ، إذن فذاك هو الواجب ، لا هذا هو الثابت.

كما أنّ دليل الحائض لا تقضي ما فاتها من الصلاة ، يدل بالدلالة الالتزامية على أنه لو كان لا بدّ من ثبوت أحد الأمرين ، من وجوب قضاء صلاة الآيات على الحائض ، أو مفطّريّة الأمر الرابع للصائم ، فالمفطر الرابع ثابت لا القضاء ، وهاتان دلالتان التزاميّتان متعارضتان بالذات في المقام.

غاية الأمر ، أنّ كلا منهما على نهج القضية الشرطية ، ولكن الشرط فيهما واحد ، والجزاء متباين ، ولهذا تعارضا ، لأنّ الشرط فيهما معا يقول : إنّه لو كان أحد الأمرين صادقا إذن فغيري هو الكاذب ، والآخر يقول : غيري هو الكاذب. فالشرط إذن ، أنه لو كان أحد الأمرين كاذبا ، فكل منهما يتهم الآخر بأنه الكاذب.

وهنا وظيفة الدليل الثالث الذي هو العلم الإجمالي ، إثبات شرط هاتين القضيتين الشرطيتين.

وبهذا يتضح أن كلّ متعارضين بالعرض ، هما متعارضان بالذات ، باعتبار هاتين الدلالتين الالتزاميّتين.

١٧٢

الواجب النفسي ، والواجب الغيري

ومن جملة تقسيمات الواجب ، تقسيمه إلى الواجب النفسي والغيري ، والواجب الغيري من هذا البحث هو الذي لأجله عقدت مسألة مقدمة الواجب لإثباته.

والكلام في هذا التقسيم يقع في عدة جهات :

الجهة الأولى :

في تعريف الواجب النفسي والغيري :

وقد عرّف الواجب النفسي بأنه : ما وجب لا لواجب آخر ، وعرّف الواجب الغيري بأنه : ما وجب لواجب آخر.

وأشكل على تعريف الواجب النفسي ، بأنه لا ينطبق على جلّ الواجبات ، وذلك لأنها واجبات لغيرها ، وإنما ينطبق عليها تعريف الواجب الغيري.

وتوضيح ذلك ، هو : إنّ جلّ الواجبات الشرعية ، إنما وجبت باعتبار المصالح والملاكات المترتبة عليها ، لا باعتبار ذاتها.

وحينئذ ، إن كانت تلك المصلحة المترتبة على الواجب ، بدرجة اللزوم والوجوب ، إذن فقد انطبق على الواجب الواجب الغيري وخرج عن كونه واجبا نفسيا ، لأنه وجب لواجب آخر ، وإذا لم تكن المصلحة بدرجة اللزوم والوجوب ، إذن فلا يجب شيء لأجلها ، إذ كيف يجب شيء لأجل شيء لا يجب؟

١٧٣

وبهذا يلزم أن تكون كل الواجبات التي نسميها نفسية ، ونرتب عليها أثار الواجب النفسي ، أن تكون غيرية ، اللهمّ إلا ذلك الواجب النفسي الذي تكون مصلحته ذاتية له ، بحيث يكون ذاته هو بعينه المصلحة ، لا أن المصلحة شيء مترتب عليه من قبيل «المعرفة بالله تعالى» فإنها مضافا إلى ترتب أعظم المصالح عليها ، فإنها هي بذاتها أعظم مصلحة يمكن افتراضها للإنسان ، لأنه بها كمال الإنسان ، فهذه المعرفة تكون واجبا نفسيا لأنّ مصلحتها ذات الواجب وعين الواجب ، بينما تكون الصلاة ، والزكاة ، والصوم ، ونحو ذلك ، واجبات غيرية.

والجواب عن هذا الإشكال ، هو : إنّ مناط الواجب النفسي والواجب الغيري ، لو كان هو عالم الملاك ، أو عالم الشوق والإرادة ، بمعنى أن الواجب النفسي ما كان ملاكه لا لملاك آخر ، وشوقه لا لشوق آخر ، والواجب الغيري ما كان ملاكه لملاك آخر ، أو ما كان شوقه لشوق آخر ، لو كان هكذا ، إذن لتمّ هذا الإشكال ، لأن ملاك الصلاة إنما هو لملاك آخر ، والشوق إلى الصلاة ، إنما هو بالشوق للفوائد المترتبة على الصلاة من حيث التصاعد في مراتب القرب من الله تعالى ، فتكون الصلاة واجبا غيريا بلحاظ عالم الملاك ، وبلحاظ عالم الشوق والإرادة ، ويكون الإشكال لازما.

ولكن الغيريّة والنفسيّة لا تضافان ، بحسب الحقيقة ، بلحاظ عالم الملاك ولا بلحاظ عالم الشوق والإرادة ، بل بلحاظ عالم تحميل المسئولية والإلقاء في العهدة ، فإنّ المولى بعد أن يحرز الملاك ويشتاق ، يحمّل مسئولية القضيّة على العبد ، ويجعلها في عهدته.

وهذه المسئولية ، وهذا التحميل ، وإدخال العمل بالعهدة من قبل المولى بلحاظ هذه المرتبة ، يقاس ويلاحظ الواجب النفسي والواجب الغيري ، لأنّ الواجب النفسي نقصد به ذاك الواجب الذي يعاقب على تركه ، والواجب الغيري هو ذاك الذي لا يعاقب على تركه بما هو هو ، هذا هو حاق المطلب.

١٧٤

والميزان في معاقبة المولى على الترك ، وعدم معاقبته على تركه بما هو هو ، ميزان ذلك ، أنّ المولى إذا جعل المطلب على عهدتنا مستقلا ، فالعقل يحكم بأنّ الإخلال به موجب للعقاب ، لأن عهدة المكلّف انشغلت بإشغال المولى لها فأصبحت مدينة بهذا الشيء للمولى.

فإذا لم يأت المكلف بما اشتغلت به عهدته وذمّته ، يكون مقصرا ومعاقبا ، وأمّا إذا لم يجعل الشيء في العهدة إلّا تبعا لشيء آخر ، وإنما المجعول في العهدة هو ذاك الشيء الآخر ، إذن فلا عقاب ، وإنما العقاب على ذاك الشيء الآخر ، باعتبار أن إشغال العهدة والمدينيّة إنما هي باعتبار ذاك الشيء الآخر ، لا بلحاظ هذا.

إذن فما هو مورد للعقاب حقيقة والمسمّى بالواجب النفسي ، هو ما كان مستقلا في الإدخال بالعهدة ، وما هو ليس موردا للعقاب بما هو هو والمسمّى بالواجب الغيري ، هو ما كان غير مستقل في الإدخال في العهدة ، بل كان ثابتا لشيء آخر ، وذاك الآخر هو الداخل في العهدة.

إذن فالتبعية والأصالة لا تلحظان في الواجب النفسي والغيري بلحاظ عالم الملاك ، وعالم الحب ، وعالم الشوق ، بل بلحاظ عالم اشتغال الذمة.

وبناء على ذلك يقال في المقام : بأن الصلاة بحسب عالم الملاك والشوق ، وإن كانت ثابتة للفائدة المترتبة عليها ، وهي القرب من الله تعالى ، ولكن في مقام اشتغال العهدة أدخل المولى الصلاة في ذمتنا مستقلا ، لا أنه أشغل عهدتنا بتلك الفائدة لكي تكون الصلاة تبعا لتلك الفائدة ، وحينئذ حيث أنه أعمل مولويته مستقلا بالنسبة إلى الصلاة ، فسوف تقع الصلاة موضوعا لوجوب الحركة عقلا ، ولاستحقاق العقاب على تقدير عدمها ، وهذا هو الواجب النفسي.

وهنا يسأل ، بأنه : لما ذا أعمل المولى مولويته لإشغال عهدتنا بالصلاة ابتداء ، ولم يشغل عهدتنا بتلك الفائدة المترتبة على الصلاة؟.

١٧٥

والجواب عن هذا يكون بوجوه :

الوجه الأول : وحاصله ، هو أنّ المولى لا يمكن أن يدخل تلك الفائدة في العهدة ، ولهذا اضطر إلى إدخال الصلاة في العهدة كمقدمة إعدادية لهذه الفائدة ، وبعد إدخالها أصبحت موضوعا لحكم العقل بوجوب الامتثال ، وهذا هو معنى الواجب النفسي عند المحقق النائيني «قده» (١).

وهذا الكلام متين ، ولا يرد عليه ما أورده السيد الخوئي «قده» (٢) من دعوى ، أنّ هناك غرضين للمولى : أحدهما ، الغرض الأقصى ، وهو أن يكون الإنسان صدّيقا ، وهناك غرض أدنى ، وهو الإعداد لتلك المرتبة.

والصلاة إذا لوحظت بالنسبة إلى الغرض الأقصى ، فهي مقدمة إعدادية ، ولكن إذا لوحظت بالنسبة إلى الغرض الأدنى فهي ، علة تامة ، وتكون تحت الاختيار ، وحينئذ لما ذا لم يجعل هذا الغرض تحت العهدة ، وعدل إلى المقدمة؟.

وهذا لا يتم بناء على ما هو الصحيح عنده وعندنا من اختصاص الوجوب والشوق الغيريين بالمقدمة الموصلة.

وتوضيح ذلك ، هو : إنّ الغرض الأدنى وهو الإعداد والتهيؤ ، غرض مقدّمي لا نفسي ، والإرادة دائما تتعلّق بالحصة الموصلة من المقدمة كما سيأتي ، وحينئذ لا بدّ للمولى من إدخال أحد شيئين في العهدة : إمّا خصوص الإعداد والتهيؤ الموصل ، وإمّا مطلق الإعداد.

فإن فرض أنه يدخل في العهدة خصوص الإعداد الموصل إلى الغرض الأقصى ، فإنّ التهيؤ والإعداد أيضا هو ليس تحت القدرة ، وليس اختياريا ، لأنّ الإعداد الموصل إلى الغرض الأقصى فرع التمكّن من الإيصال إلى الغرض

__________________

(١) أجود التقريرات : الخوئي ج ١ ص ١٦٧.

(٢) أجود التقريرات : الخوئي ج ١ هامش ص ١٦٧.

١٧٦

الأقصى ، والمفروض أن الغرض الأقصى ليس تحت القدرة فهو غير اختياري.

وإن فرض أنه أدخل في العهدة ذات الإعداد بلا قيد الإيصال ، أي : الإعداد والتهيؤ الأعم ، فهذا حاله حال الصلاة أيضا ، من حيث أنه ليس هو المطلوب الحقيقي ، لا النفسي ، ولا الغيري ، وإنما هو المطلوب بالمسامحة ، وحينئذ أيّ فرق في إعمال المسامحة بين أن يطلب ذات الإعداد ، أو أن يطلب ذات الصلاة ، إذن ما ذكره المحقق النائيني «قده» هو الصحيح.

الوجه الثاني :

هو أنّ الصحيح أن يقال : إننا لو فرضنا أن غرض المولى تحت الاختيار ، والمقدمة وهي الصلاة تحت الاختيار أيضا ، لكن مع هذا ، يتصدّى المولى نفسه لإدخال المقدمة في عهدة المكلّف ، حرصا منه على التوصل إلى غرضه وبسبب كون الغموض يلف المصلحة المطلوبة للمولى ، وليس بمقدور المكلّف تشخيصها إلّا من قبل المولى ، وحتى لا يكون للمكلّف عذر في مقدّميّة هذه المقدمة ، فتبقى مرهونة بمزاج المكلف نفسه ، لأجل ذلك ، فإنّ المولى هو نفسه يتصدّى لتشخيص مقدّميّة هذه المقدمة وإحرازها ، فيجعلها في عهدة المكلّف ، ولذلك فهي تبقى في عهدته ، لأن المولى نفسه أحرزها وأدخلها في عهدة المكلّف.

ففرق واضح في باب المقدمات : بين مقدمة يتصدّى المولى نفسه لإدخالها في العهدة مستقلا ، دون أن يترك الأمر في تشخيصها إلى المكلّف ، صيانة له عن الخطأ في مقام تشخيص المصلحة المطلوبة للمولى.

وهذا كثيرا ما يتفق أن يشخص المولى المقدمة ، خصوصا إذا كانت أسبابها غامضة ومجهولة في نظر المكلّف ، كما لو جعل في عهدة المكلف تكليفا كان الغرض منه حفظ النظام الاجتماعي ، فإنّ المولى لا يترك للمكلفين أنفسهم تشخيص ما ينحفظ به النظام ، وتشخيص المقدمات الموصلة لذلك ، مع العلم باختلاف أذواقهم وأنظارهم في تشخيص ما يوصل من مقدمات ،

١٧٧

لحفظ النظام ، لأجل ذلك ، يتصدّى بنفسه إلى تعيين ما ينحفظ به النظام من مقدمات ويجعله مستقلا في عهدة المكلّف ، تفاديا لما يقع من المكلفين من أخطاء ، لو ترك الأمر إليهم ، ولو جعلت العهدة على ذي المقدمة ابتداء.

وبهذا اتضح أن هذه الواجبات واجبات نفسية باعتبار أنها مستقلة في الدخول في العهدة ، وإن لم تكن مستقلّة ملاكا واشتياقا ، إلّا أن ما هو الميزان والموضوع بحكم العقل ، باستحقاق العقاب ، إنما هو الاستقلال في الدخول في العهدة ، وهذه مستقلة في الدخول في العهدة.

الجهة الثانية :

وهي في تأسيس الأصل اللفظي والعملي ، فيما إذا شك في كون واجب أنه نفسي أو غيري ، كما إذا قال المولى ، «توضأ» وشككنا في أنه واجب نفسي أو غيري ، فما هو مقتضى الأصل في ذلك؟. فالكلام يقع في مرحلتين :

المرحلة الأولى :

في تأسيس الأصل اللفظي ، وقد تقدّم الكلام عليه عند ما تكلمنا في أن الإطلاق في صيغة الأمر يقتضي كون الواجب نفسا عينيا تعينيا.

ولذلك ، فليس لنا الآن إلّا أن نفهرس عناوين تقريبات الإطلاق المتقدمة في ذلك :

التقريب الأول : هو أن الإطلاق الأحوالي لمفاد الهيئة ، وسواء وجب شيء آخر ، أو لا ، يقتضي كون وجوب الصلاة وجوبا نفسيا.

التقريب الثاني : هو دعوى أن الوجوب النفسي متخصّص بخصوصية عدميّة ، وهي عدم النشوء من الغير ، والغيري متخصّص بخصوصية وجودية ، وهي النشوء من الغير ، وكلما دار الأمر بينهما ، تعيّن بالإطلاق نفي الخصوصية الوجودية ، وإثبات الخصوصية العدمية.

التقريب الثالث : هو أن يتمسك بإطلاق دليل الواجب الذي يحتمل كون

١٧٨

الوضوء مقدمة له ، مثلا ، دليل «صلّ» يتمسك بإطلاق المادة فيه لنفي كون الوضوء قيدا في الصلاة ، فيثبت كون الوضوء واجبا نفسيا.

التقريب الرابع : هو التمسك بالإطلاق ، بمعنى أصالة المطابقة بين مقام الإثبات ، ومقام الثبوت ، فكما أن المولى في قوله : «توضأ» وجّه تحريكه استقلالا بين مقام الإثبات نحو الوضوء ، فمقتضى أصالة المطابقة في مقام الإثبات ومقام الثبوت أنه ثبوت أيضا قد توجّه التحريك استقلالا نحو الوضوء لا تبعا.

التقريب الخامس : هو التمسك بإطلاق المادة في خطاب «توضأ» مثلا ، لأنّ هذا الخطاب إذا كان غيريا ، فبناء على ما هو الصحيح من اختصاص الوجوب الغيري بالمقدمة الموصلة ، حينئذ يكون الوضوء بنفسه مقيدا بالإيصال إلى ذي المقدمة ، وأمّا بناء على أن يكون واجبا نفسيا ، فهو على إطلاقه سواء «صلّى» بعده ، أو لم «يصلّ» بعده ، فنتمسك بإطلاق المادة في «توضأ» لنفي أخذ قيد التوصل في متعلّق الخطاب. وبالتالي نستكشف من عدم أخذه قيدا في الخطاب ، عدم كونه واجبا غيريا ، وكونه واجبا نفسيا.

المرحلة الثانية :

وهي أنه إذا لم يوجد أصل لفظي فننتهي إلى الأصول العملية ، فتكون هذه المرحلة في أنه ما هو مقتضى الأصل العملي؟.

وهنا صور نتعرّض لها مع تحقيق حالة كل واحدة منها :

الصورة الأولى : هي أن يكون الوضوء المردّد بين كونه نفسيا أو غيريا ، أن يكون على تقدير كونه غيريا ، مقدمة لواجب نفسي غير فعلي في حق المكلف فعلا ، كما في الحائض إذا دار أمر وضوئها بين أن يكون واجبا نفسيا بالنسبة لها رغم عادتها ، أو أن يكون واجبا غيريا مقدمة للصلاة ، والصلاة ليس بواجبة عليها.

وفي مثل ذلك ، لا إشكال في أن مرجع هذا الفرض ، إلى الشك البدوي

١٧٩

في الوجوب النفسي ، إذ على تقدير أن يكون الوضوء واجبا غيريا ، فلا وجوب غيري هنا ، إذ لا وجوب للصلاة فعلا حتى يكون الوضوء واجبا غيريا للصلاة ، وإنما الشك شكّ في كونه واجبا نفسيا فقط ، فهو شك بدوي في الوجوب النفسي ، وفيه تجري أصالة البراءة عن الوجوب النفسي بلا إشكال.

وبعبارة أوجز ، هي أن يعلم بكون الوضوء مثلا ، إمّا واجبا نفسيا ، أو غيريا ، لواجب آخر غير فعلي في حق المكلّف ، كالصلاة على الحائض ، وهنا تجري أصالة البراءة عن الوجوب النفسي للوضوء.

الصورة الثانية : هي أن يفرض أن هذا الوضوء مردد بين كونه واجبا نفسيا ، أو واجبا غيريا من أجل الزيارة بنحو بحيث أن الزيارة في نفسها لا نعلم بوجوبها ، وإنما يثبت وجوبها لو كان هذا واجبا غيريا ، فهنا يتشكل علم إجمالي بوجوب أحد الفعلين : إمّا الوضوء وإمّا الزيارة ، لأن الوضوء إن كان واجبا بالوجوب النفسي ، فهو ، وإلّا فهو مقدمة للزيارة التي هي واجبة بالوجوب النفسي.

إذن فيعلم إجمالا بوجوب أحد الأمرين : إمّا الوضوء وإمّا الزيارة المقيدة به ، وحينئذ يقع الكلام حول منجّزيّة هذا العلم الإجمالي ، وكونه موجبا لتعارض الأصول في الطرفين ، أو أنه غير منجز.

قد يبين عدم منجزية العلم الإجمالي في المقام بأحد بيانين :

البيان الأول : هو أن يقال : بأن العلم الإجمالي بوجوب أحد الفعلين : إمّا الوضوء ، وإمّا الزيارة ، منحل إلى العلم التفصيلي بوجوب الوضوء ، لأن الوضوء على أي حال ، واجب إمّا بالوجوب النفسي ، وإمّا بالوجوب الغيري ، إذن فهو معلوم الوجوب تفصيلا ، فينحل هذا العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي المتعلق بأحد طرفيه ، وبعد الانحلال يكون الشك في وجوب الزيارة شكا بدويا ، فتجري فيه أصالة البراءة عن وجوب الزيارة.

وهذا البيان غير تام ، وذلك لعدم تعقل الانحلال الحقيقي في المقام

١٨٠