بحوث في علم الأصول - ج ٥

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٣

١

٢

خطبة الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله كما هو أهله ، والصلاة والسلام على خير خلق الله ورسوله الى الناس كافة ، محمد وآله الطيبين ، الطاهرين ، المعصومين.

وبعد : فهذا هو المجلد الثالث من «بحوث علم الأصول» التي ألقاها علينا سيدنا ومولانا ، سليل العترة الطاهرة ، شهيد الإسلام ، آية الله العظمى ، السيد محمد باقر الصدر ، قدّس الله سرّه الشريف.

وقد قدر لهذا المجلد أنّ يستوعب فقط بحوث دلالات مادة الأمر ، ودلالات صيغة الأمر ، ومبحث الإجزاء إلى نهايته. وإنما كان ذلك لسببين :

وأولا : حرصي الشديد على ذكر كل تنظير ومثال ذكره السيد الشهيد أثناء البحث ، حتى الخلاصات والموجزات والتعبيرات الأخرى التي كان يصوغ بها المطلب ، أو فقرة منه ، رغم علمي بأنّ هذا يسبّب التطويل ، وإن كان لا يسبّب الملل عند المشتغلين المحصّلين.

وعذري في ذلك : إيماني بأنّ هذا العقل المحض لم يذكر شيئا. أو ينظّر

٣

له ، أو يستبدل تعبيره ، أو يوجزه ، إلّا وقد أدركت فائدة علمية أخرى يضيفها إلى روح البحث.

ثانيا : انقداحات ذهنية تخطر بالبال ما كانت تخرج عن حدّ شرح اللفظ ، أو الفكرة ، أدخلتها عباب بحر هذا السيد المعظم ، ممّا اقتضى أن لا يستوعب هذا المجلد إلّا ما ذكرت.

ومن هنا سوف يستوعب هذا المجلد بحوث مقدمة الواجب ومقدمة المستحب والمكروه ومسألة الضد ، وبحث الترتب ، والحالات الأخرى الخاصة بالأمر ، وكيفيّات تعلق الأمر ، على أن تستكمل بقية مباحث الألفاظ في مجلد رابع ، وقد يكون خامسا ، وهكذا يتسلسل ذكر بحوث أخرى تستوعب الإمارات والحجج ومباحث البراءة ، والتخيير ، والاحتياط ، والاستصحاب ، حتى أقف على آخر ما تلقّيته وكتبته تقريرا لأبحاث سيدنا وأستاذنا الشهيد الصدر «قده».

وكلني أمل بالله العظيم أن يجعل ثواب كل ما أكتبه هدية متواضعة واصلة الى روحه الطاهرة ، طامعا أن ينفعني الله بهذا الجهد يوم ألقاه ، فإنه وعد بأنّه لا يضيّع أجر عامل من ذكر ، أو أنثى ، ولو كان مثقال ذرة ، والحمد لله رب العالمين.

٢٥ شعبان بيروت المعظم ١٤١٢ ه‍

حسن عبد الساتر

٤

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد الخلق وأعز المرسلين سيدنا ونبيّنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله الطيبين الطاهرين.

وبعد ، فهذا الجزء الثالث من «بحوث في علم الأصول» التي كان قد ألقاها علينا سيدنا وأستاذنا الأعظم شهيد الإسلام آية الله العظمى ، السيد محمد باقر الصدر (قدس‌سره).

وهذا الجزء بتمامه لم يكف لاستيعاب جميع بحوث الأوامر ، وإنما استوعب جلّها ، ابتداء من دلالات مادة الأمر وانتهاء بمقدمة الواجب حتى نهايتها ، مقدمة المستحب والمكروه والحرام ، ممّا اضطرني أن أكمل بحوث الأوامر وما يتبعها من مبحث الضد ، والترتب ، والتزاحم ، وحالات الأمر الخاصة ، وتعلّق الأمر بالطبيعة أو الأفراد ، وحقيقة الواجب التخييري ، والواجب الكفائي ، والواجب الموسّع والمضيّق ، وتبعية القضاء للأداء ، وهكذا حتى يكتمل جزءا ثالثا بعون الله تعالى وكلني أمل أن يكون ثواب هذا الجهد المهدى ثوابه إلى روح سيدنا وأستاذنا الأعظم (قدس‌سره) أن يكون لي صغرى لكبرى قول النبي الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، يموت المرء إلّا عن ثلاث ، علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له ، أو صدقة جارية.

٥
٦

مقدمة الواجب

تحقيق عنوان المسألة

والموضوع فيها هو المقدمة الوجودية ، لا المقدمة الوجوبية وبتعبير آخر : المراد بها مقدمات وجود الواجب أي : ما يتوقف إيجاد الواجب على إيجاده. إذ المقدمة على قسمين : أحدهما : المقدمة الوجودية ، وثانيهما : المقدمة الوجوبية ، وهذان القسمان يختلفان بحسب عالم الجعل وعالم الملاك معا.

أمّا بحسب عالم الجعل : فالوجوبية تؤخذ مفروضة الوجود في مقام جعل الحكم ، ويكون الوجوب منوطا بها.

وأمّا المقدمة الوجودية فهي ليست دخيلة في اتصاف الفعل بكونه ذا ملاك ومصلحة ، فيكون الوجوب مطلقا من ناحيتها ، وغير منوط بها ، ولا هي مأخوذة مفروضة الوجود في مقام جعله.

وأمّا بحسب عالم الملاك : فالمقدمة الوجوبية يكون وجودها كفيلا باتصاف الفعل ، كونه ذا مصلحة فيما إذا كانت اختيارية ومقدورة للمكلف ، ومن هنا أخذ وجودها قيدا وشرطا للوجوب ، ومن ثمّ لا يتوهم ترشح الوجوب عليها.

والخلاصة : إنّ المقدمة الوجوبية دخيلة في احتياج الإنسان إلى هذا الفعل ، بينما المقدمة الوجودية دخيلة في ترتّب المصلحة خارجا.

٧

أو بتعبير آخر : هي دخيلة في إشباع حاجة الإنسان فعلا ، فمثلا : برودة الهواء مقدمة وجوبية للرغبة في النار ، بمعنى أن اتصاف النار بكونها ذات مصلحة ، واحتياج الإنسان إليها ، إنما يكون متى صار الشتاء ، فبرودة الهواء مقدمة وجوبية بمعنى أنها دخيلة في اتصاف النار بكونها ذات مصلحة ، وفي احتياج الإنسان إليها ، وأمّا بعد أن برد الهواء ، وأصبحت النار ذات مصلحة ، وأصبح الإنسان محتاجا إليها ، فهنا عندنا مقدمة وجودية وهي سدّ شبابيك الغرفة ، إذ لو لم تسدّ الشبابيك لم يحصل الدّفء خارجا ، ولم تشبع حاجة الإنسان خارجا ، فسدّ الشبابيك مقدمة وجودية لأنها دخيلة في إشباع هذا الاحتياج وتحققه خارجا ، وليس في أصل احتياج الإنسان إلى النار. فمحل النزاع إنما هو المقدمة الوجودية لا الوجوبية ، لوضوح أن الوجوبية بعد أخذها مفروضة الوجود في المرتبة السابقة على الحكم ، يستحيل أن يترشح الوجوب عليها من ناحية ذاك الحكم ، فموضوع النزاع هو المقدمة الوجودية ، وفي ترشح الوجوب عليها ، هذا ، من ناحية موضوع النزاع.

وأمّا من ناحية محمول النزاع : وهو الوجوب ، بمعنى أن مقدمة الواجب ، واجبة أولا؟ : فليس المراد بوجوب مقدمة الواجب اللّابدية التكوينية ، بمعنى الشيء الذي لا يمكن أن يوجد الواجب بدونه ، فإن هذا عبارة أخرى عن المقدّميّة ، أو هو عينها ، فلا معنى للنزاع في أنه لا بدّ من وجوده ، أو ليس لا بدّ من وجوده ، كما أنه ليس المراد أيضا اللّابدية العقلية ، بمعنى حكم العقل بتنجيز الإتيان بالمقدمة عليه ، وعدم صحة الاعتذار من قبل المكلف بأنه إنما ترك الواجب لكون مقدمته غير موجودة ، كما لو أراد أن يعتذر للمولى عن ترك الصلاة لكونه غير متوضئ ، فإن هذا العذر محجوج بحكم العقل ، فهذا المعنى للّابدية ليس محل الكلام ، وإن كان هذا المعنى شيئا أزيد من المقدميّة ، لكنه ليس هو محل النزاع ، لكونه محل اتفاق من الجميع ، فإن العقل بعد إن يستقل بتنجّز التكليف ، ووجوب امتثاله ، فإنه لا محالة يرى أن ترك المقدمة ليس معذّرا ، كما أنه ليس المراد من وجوب

٨

المقدمة في المقام ، الوجوب المولوي المجعول جعلا فعليا على عنوان المقدمة الإجمالي أو التفصيلي ، لوضوح أن الجعل الفعلي لا محالة يتوقف على الالتفات التفصيلي من قبل الجاعل إلى المقدمة ، مع أنه كثيرا ما يكون الجاعل غافلا عن المقدمة أصلا ، إذن فلا معنى لدعوى الوجوب المولوي الفعلي.

وإنما المراد من وجوب المقدمة في المقام ، هو الوجوب المولوي الفعلي المجعول على المقدمة ، ارتكازا وشأنا ، بحيث لو التفت إليه لطلبه ، وهذا الوجوب الذي تصدق معه هذه القضية الشرطية ، وهي أنه ، «لو التفت لطلبه» فيكون الطلب موجودا بوجود ارتكازي شأني يخرج إلى عالم الفعليّة بمجرد الالتفات.

وأمّا النسبة بين هذا المحمول والموضوع ، فهي المدّعى ، بأن ثبوت الوجوب للمقدمة باعتبار الملازمة العقلية ، ودعوى أن مقدمية المقدمة تستلزم عقلا هذا الوجوب المولوي الشأني التقديري الارتكازي.

كما أن النزاع ليس في خصوص الدلالة اللفظية الالتزامية للأمر بشيء على وجوب مقدماته ، والتي هي أخص من مطلق الملازمة العقلية ، لأن الدلالة اللفظية الالتزامية إنما تكون في اللازم البيّن ، لا في مطلق اللازم ، ولو كان خفيا ، إذ لا مبرّر لقصر النزاع على خصوص ذلك بعد أن كانت النتائج والآثار المطلوبة من إثبات الوجوب الغيري مترتبة على هذه الدلالة اللفظية الالتزامية إن ثبت الوجوب الغيري بالملازمة العقلية ، سواء أكانت هذه الملازمة بدرجة تستتبع الدلالة اللفظية ، أو لم تكن كذلك ، فخصوصية كون الملازمة بدرجة تستتبع الدلالة اللفظية ليس لها دخل في الغرض المقصود ، كي يكون النزاع مقصورا على ذلك.

والخلاصة : إنّ البحث ليس عن خصوص الدلالة اللفظية الالتزامية للأمر بشيء على وجوب مقدماته ، وإنما البحث في مطلق الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدماته ، سواء أكانت هذه الملازمة بيّنة بحيث تشكل دلالة لفظية

٩

التزامية أو لم تكن كذلك ، إذ لا مبرر لقصر البحث على ذلك بالخصوص بعد أن كانت النتائج والآثار المطلوبة من هذا البحث غير مقصورة على ذلك.

هذا هو تحقيق عنوان المسألة ، ثم نستأنف الكلام عن المقدمات ، وقيود الواجب ، في فصلين رئيسين :

١٠

الفصل الأول

في تقسيمات المقدمة

قسّمت المقدمة إلى أقسام ، منها : المقدمة الوجودية ، والمقدمة الوجوبية ، وقد أشرنا إليها في تحقيق عنوان النزاع.

وهنا تقسيمات أخرى لا موجب للتعرض لها ، ولا أثر للحديث عنها من قبيل تقسيمها إلى مقدمة عقلية ، وشرعية ، ومقدمة وجود ، ومقدمة صحة ، ومقدمة داخلية وخارجية ، كما قسّمت كما في (الكفاية) إلى الشرط المقارن والمتقدم والمتأخر ، فإن هذه الأقسام كلها مستأنفة في المقام إذ إنّه متى ما تحققت المقدميّة الوجودية ، جاء النزاع وجرى الكلام في وجوبها ، وعدم وجوبها سواء أكانت المقدميّة ذاتية وهي المسمّاة بالمقدمة العقلية من قبيل «نصب السلّم للكون على السطح» ، أو كانت مقدمية شرعية عرضية نشأت من تقييد الواجب بفعل من الأفعال كمقدميّة الوضوء للصلاة الناشئة من أخذ الصلاة مقيدة بالوضوء ، فإنّ ذات الصلاة غير متوقفة على الوضوء ، لكن الصلاة المقيدة بالوضوء بما هي مقيّدة ، متوقفة عليه ، وهذا المسمّى ب ب (المقدمة الشرطية).

وعلى أي حال ، فأيّ شيء يكون مقدمة وجودية يكون موجبا للدخول في محل النزاع ، ويبحث فيه عن وجوبه ، وعدم وجوبه.

قلت : كل تلك التقسيمات لا موجب ولا أثر للتعرض لها ، وإنما الذي

١١

يستحق التعرض له هو آخر هذه التقسيمات ، وهو تقسيم المقدمة إلى الشرط المقارن والمتقدم والمتأخر ، تمهيدا للدخول في إشكالية تعقل الشرط المتأخر بل المتقدم. كما ألحقه المحقق الخراساني به حيث ادّعى سراية إشكال تعقل المتأخر إلى المتقدم. وصياغة إشكال عدم تعقّل الشرط المتأخر هو أن يقال :

إنّ الشرط المتأخر غير معقول في نفسه باعتبار أن هذا الشرط ، إمّا أن يفرض أنه لا يؤثر في مشروطه شيئا ، وإمّا أن يفرض أنه يؤثر شيئا.

فإن فرض الأول : فهو خلف الشرطية إذ لا نتعقّل للشرطية معنى إلّا التأثير الضمني للمشروط ، وأن الشرط جزءا من أجزاء العلة المولدة للمشروط ، فسلخه عن المؤثرية هو سلخ عن الشرطية ، وهو خلف.

وإن فرض الثاني وهو كونه مؤثرا : فحينئذ نسأل : هل أن تأثير هذا الشرط يكون في ظرف مشروطه المتقدم ، أو في ظرف وجود نفس الشرط المتأخر ، حيث أنه يوجد عندنا زمانان : زمان للمشروط ، وزمان للشرط المتأخر ، وفي أي الزمانين فرض التأثير للشرط هو غير معقول.

أمّا كون التأثير في زمان المشروط ـ الزمان المتقدم ـ هو غير معقول ، ذلك لأن الشرط المتأخر معدوم في الزمان المتقدم ، فيلزم من تأثيره في الزمان المتقدم تأثير المعدوم ، وهو باطل بالبداهة العقلية لأن المعدوم بما هو معدوم ، لا يمكن أن يؤثر في عالم الوجود.

وإن فرض أن هذا الشرط المتأخر مؤثر في الزمان الثاني ، وهو زمن وجوده ، حينئذ لا يلزم تأثير المعدوم لأنه موجود في هذا الظرف ، لكن يلزم حينئذ أن يكون مؤثرا في الماضي ، مع أن الماضي قد وقع ، والواقع لا ينقلب عمّا وقع عليه ، فيكون مستحيلا لاستحالة انقلاب الواقع عمّا وقع عليه.

هذا تقريب إشكال الشرط المتأخر ، ولحل هذا الإشكال ينبغي البحث في مقامات ثلاثة :

١٢

١ ـ المقام الأول : في تحقيق حال محذور الشرط المتأخر فيما إذا كان شرطا لنفس الحكم للوجوب.

٢ ـ المقام الثاني : في حال إشكال الشرط المتأخر فيما إذا كان شرطا متأخرا للواجب لا للوجوب.

٣ ـ المقام الثالث : فيما ألحقه المحقق الخراساني بالشرط المتأخر ، وهو الشرط المتقدم ، حيث ادّعى أن إشكالية المتأخر تسري إلى الشرط المتقدم أيضا.

أمّا المقام الأول :

وهو في محذور الشرط المتأخر لنفس الحكم ، للوجوب ، كما لو فرض أن المولى حكم بوجوب الصلاة في النهار على من لا يصلي صلاة الليل في الليلة القادمة ، أو يصلي صلاة الليل في الليلة القادمة ، فحينئذ ، صلاة الليل وجودا أو عدما ، تكون شرطا متأخرا في أصل وجوب الصلاة في النهار.

وقد ذكر المحقق (١) الخراساني في مقام دفع إشكال الشرط المتأخر في باب الأحكام ، أن ما هو الشرط بحسب الحقيقة إنما هو الوجود اللحاظي الذهني للشرط المتأخر لا الخارجي ، والوجود اللحاظي مقارن دائما.

وتوضيحه : إنّ الحكم هو فعل من أفعال المولى ، وقائم بالمولى قيام الجعل بالجاعل ، والإنشاء بالمنشئ ، فهو قائم في نفس المولى لا في الخارج ، ومن الواضح أن الجاعل في مقام جعل وجوب الصلاة في النهار على من يصلي الليل في الليلة القادمة ، هذا الجعل يتوقف على لحاظ الشرط ـ صلاة الليل في الليلة القادمة ـ لوضوح أنه لو لم يلحظ أصلا الشرط ـ «الصلاة في الليلة القادمة» ، لما أمكنه أن يجعل مثل هذا الجعل. إذن فشرط هذا الجعل إنما هو الوجود اللحاظي لصلاة الليلة القادمة ، لا الوجود الخارجي

__________________

(١) كفاية الأصول : مشكيني ج ١ ص ١٤٥ ـ ١٤٦.

١٣

لها ـ والوجود اللحاظي هذا ، مقارن مع الجعل والحكم ، فإن لحاظ المولى لصلاة الليلة القادمة موجود حين جعل المولى ، فيكون مقارنا مع الحكم ، وما هو متأخر عن الحكم ، وهو الوجود الخارجي لصلاة الليلة القادمة ، ليس شرطا بحسب الحقيقة.

وقد اعترضت مدرسة المحقق النائيني (١) على إجابة صاحب الكفاية حيث قالت : إنّ هذا الكلام خلط بين الجعل والمجعول ، إذ إنّه يوجد في عالم إنشاء الحكم أمران : أحدهما الجعل ، وثانيهما المجعول. أمّا الجعل. فهو أمر لا يتوقف على وجود الشرط والموضوع خارجا ، وإنما يكفي في تحققه لحاظه من قبل المولى ، وتقديره من قبل الجاعل ، كأن يلحظ المولى موضوعا كليا ، ويقدّر وجوده ، ويفترض تحققه ، ثم ينشئ وجوبا عليه فيقول : من يصلي الليل من الليلة القادمة ، يجب عليه الصلاة في نهاره ، وهذا جعل يتحقق من المولى حتى لو لم يوجد هناك مصلّ أصلا في الخارج ، لأن هذا الجعل مرجعه إلى قضية شرطية وتقديرية ، يكفي في شرطه لحاظه وتقديره من قبل الجاعل دون أن يتوقف على وجود الشرط والموضوع خارجا.

إذن فهذه القضية الشرطية بما هي قضية شرطية حقيقية ، هي الجعل. وأمّا المجعول : وهو الحكم الفعلي ، فإنه عبارة عن فعلية جزاء هذه القضية بفعلية شرطها ، فهو متوقف على فعلية الشرط وتحققه خارجا ، إذ إنّ المولى بعد أن أنشأ تلك القضية الشرطية المعلقة بين الأرض والسماء ، وجد خارجا من يصلي صلاة الليل ، وبهذا أصبح الشرط في القضية الشرطية فعليا ، وعليه فلا محالة يصبح الجزاء ، وهو الحكم ، فعليا ، ويخرج من عالم التقدير إلى عالم التحقيق ، وتنشأ قضية تنجيزية بدلا عن القضية الشرطية ، مفادها ، أنّ فلانا يجب عليه الصلاة في النهار فعلا ، وهذه قضية تنجيزية وفعلية ، وهذا هو

__________________

(١) محاضرات فياض : ج ٢ ص ٣١١ ـ ٣١٢ فوائد الأصول : الكاظمي ج ١ ص ١٥٦ ـ ١٥٧.

١٤

المجعول. وحينئذ يقال : إنّ ما ذكره المحقق الخراساني من أن الشرط هو اللحاظ الملحوظ ، إنما يناسب عالم الجعل عالم إنشاء القضية الشرطية ، كما ينشئ المولى قضية شرطية ، ويقول : إذا استطاع المكلف فليحجّ ، فإنه هنا لا يحتاج إلّا إلى الافتراض والتقدير ، وهذا هو اللحاظ الذي يحتاجه الجعل ، لا الوجود الخارجي ، والوجود اللحاظي هذا يقارن الجعل دائما.

وأمّا عالم المجعول : أي عالم القضية الفعلية الذي يتحول فيه المجعول من التقديرية إلى التحقيقية تبعا لتحوّل الشرط من التقدير إلى التحقيق ، فإنه في هذا العالم ، فعلية المجعول تابعة لوجود الشرط خارجا ، ويكون وجوب الحج بالفعل فرع وجود استطاعة بالفعل ، لا فرع لحاظ الاستطاعة أو وجودها لحاظا. وعليه فإذا فرض كون هذا الشرط متأخرا ، فيكون الوجوب والحكم فرع أمر ، ونتيجة أمر ، بعد لم يولد ، وحينئذ يلزم تأثير المعدوم ، أو تأثير المتأخر في المتقدم ، لأن الشرط هنا هو الوجود الخارجي ، لا الوجود اللحاظي ، إذن فلا يتم كلام المحقق الخراساني.

وتحقيق الكلام في المقام هو : إنّ إشكال استحالة الشرط المتأخر للوجوب يتصور في ثلاثة مواقع :

الموقع الأول :

موقع عالم الجعل ، والمقصود به ، عالم إنشاء الحكم على موضوعه المقدّر الوجود على نهج القضية الشرطية ، وهذا العالم يمكن تصوير محذور الشرط المتأخر فيه بتقريبين :

أ ـ التقريب الأول : هو أن يصاغ المحذور بصيغة لزوم تأثير المتأخر في المتقدم ، وتأثير المعدوم في الموجود.

وهذا التقريب يندفع بما ذكره المحقق الخراساني ، من أن المؤثر في جعل المولى ، إنما هو لحاظ المولى لا جعله ، فإن الجعل عملية اختيارية للمولى ، وهي مربوطة بلحاظاته وتصوراته ، وهي متقدمة ، وإنما المتأخر هو

١٥

الوجود الخارجي ، فما هو مؤثر ، وهو لحاظ المولى ، هو متقدم ، وما هو متأخر ، ليس مؤثرا في الجعل.

ب ـ التقريب الثاني : لمحذور الشرط المتأخر هو دعوى التهافت في اللحاظ ، كما يستفاد من كلمات المحقق النائيني (١) ، وهو محذور آخر ، حتى مع افتراض أن الشرط هو اللحاظ.

وحاصله : إنّ المولى عند ما يجعل حكمه بوجوب الحج منوطا بالاستطاعة ، فهذا يعني أنه أخذ الاستطاعة مفروغا عنها ، وثابتة في نفسها ، وحينئذ ينشئ الوجوب ، وحينئذ يقال : إنّ الاستطاعة إذا كانت شرطا مقارنا أو متقدما يعقل لحاظها هكذا ، ولكن إذا فرض أن الشرط كان متأخرا من قبيل صلاة ليلة الأحد المأخوذة شرطا في وجوب صلاة يوم السبت.

فهنا يقع التهافت ، في عالم اللحاظ لدى الجاعل ، فإن أخذ صلاة ليلة الأحد مفروغا عنها معناه ، أن المولى بعد أن يفرغ عنها هكذا ، فإنه لا يرى من الزمان بعد إلّا الزمان الذي يبتدئ من الأحد فصاعدا ، وعليه فكيف يحكم بوجوب صلاة يوم السبت ، مع أن زمان يوم السبت غير مرئي للمولى ، ولا يمكنه إرجاع عجلة الزمن إلى الوراء ، ليرى زمان يوم السبت ، فيشرّع له ، إذ معنى أخذ صلاة الأحد شرطا هو الفراغ عنها ، وجعل الوجوب يوم السبت معناه عدم الفراغ عن صلاة الأحد ، وهذا تهافت واضح في اللحاظ.

والجواب على استشكال المحقق النائيني هو : إنّه لا تهافت في المقام وذلك لأن أخذ الشرط مفروغ الوجود ، يختلف باختلاف كيفية فرض تحققه ، فإن فرض أخذ وجوده مفروضا سابقا ، فهذا تهافت ، وأمّا إذا أخذ مفروض الوجود في موطنه اللّاحق ، بمعنى أن المولى نظر إليه ولاحظه في زمانه الموجود فيه ، وهو ليلة الأحد مثلا ، وقال بصيغة المضارع ، إذا كان سوف

__________________

(١) أجود التقريرات : الخوئي ج ١ ص ٢٢٥ ـ ٢٢٦ فوائد الأصول : الكاظمي ج ١ ص ١٥٧ ـ ١٥٩.

١٦

يصلي صلاة الليل من ليل الأحد ، فالصلاة يوم السبت واجبة عليه. إذن فأخذ الشرط مفروض الوجود ، مساوق مع موطنه ، وهذا ليس رجوعا إلى الوراء حتى يلزم التهافت ، بل إن المولى قفز بنظره إلى ما وراء حاجز الزمن الذي هو يوم السبت ، قفز إلى ليلة الأحد ، ولاحظ الصلاة التي سوف تكون في هذه الليلة ، ثم عاد لكي يتصورها يوم السبت ، ويشرّع على ضوئها.

وبعبارة أخرى : إنّ تقدير الغسل في ليلة الأحد ، لا ينحصر في تقديرها ماضية ، وفي الزمان السابق ، بل أمر التقدير والفرض واللحاظ بيد الملاحظ ، فله أن يقدّر ذلك مستقبليا ، أي : يقدر أن العبد سوف يصلي في الليلة القادمة ، لأن تحديد ظرف المقدّر من حيث فرضه مستقبلا ، أو ماضيا ، يكون بيد المقدّر نفسه فلا يلزم أي تهافت في اللحاظ.

الموقع الثاني :

إشكال أخذ الشرط المتأخر في عالم المجعول ، وفي هذا الموقع يأتي نفس الإشكال السابق الصادر عن مدرسة المحقق النائيني ، والذي حاصله : إن الحكم بعد أن يجعل من قبل المولى بنحو القضية الشرطية ، فتكون فعليّة الجزاء معلولا لفعلية الشرط خارجا ، وإذا كان الشرط متأخرا ، فيكون المتأخر علة للمتقدم ، وهو محال.

وجوابه هو : إنّ عالم المجعول عالم خيالي ، وحاصله أن المولى بعد أن يجعل وجوب الحج على المستطيع بنحو القضية الشرطية ، ويقول : (لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ،) ثم وجدت الاستطاعة بعد ذلك في زيد ، لم يحدث شيء جديد ، فلو أنه حدث شيء جديد ، لجاء الإشكال ، بأن هذا شيء جديد قد حدث وشرطه متأخر ، وبه يلزم أن يكون المتأخر علة للمتقدم.

ولكن نقول بعد أن يتم الجعل ، وبعد أن تتحقق الاستطاعة خارجا ، لا يحدث شيء جديد لم يكن حادثا ، لأن هذا الشيء الذي يفترض حدوثه

١٧

بحدوث الاستطاعة ، وفعليّة وجوده بفعلية وجود الاستطاعة خارجا ، إمّا أن يكون نسبته إلى ذلك الجعل من قبل المولى نسبة المجعول إلى الجعل ، وإمّا نسبة المسبّب إلى السبب ، يعني أن هذا هو مجعول ذاك الجعل ، أو مسبّب ذاك السبب ، فإن كانت النسبة بين الشيء الحادث عند الاستطاعة وبين جعل (لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ،) إن كانت النسبة هي نسبة المجعول إلى الجعل ، فهذا مستحيل ، لأن نسبة المجعول مع الجعل نسبتهما نسبة الوجود والإيجاد ، فإن الجعل إيجاد والمجعول وجود ، والإيجاد والوجود متحدان حقيقة ، ومتغايران اعتبارا ، فلو كان هذا هو مجعول ذاك ، إذن لكان عينه ، واستحال أن يتخلّف عنه ، لوحدة الإيجاد مع الوجود ، إذن فلا يمكن أن تكون نسبة هذا الشيء الحادث إلى ذلك الجعل ، نسبة المجعول إلى الجعل ، لأنه خلف تعددهما وتغايرهما وتعدد الفترة بينهما ، مع أن الوجود والإيجاد متحدان حقيقة.

وإن كان نسبة هذا الشيء الحادث إلى ذلك الجعل ، نسبة المسبب إلى السبب. ونسبة المقتضي لمقتضيه ـ ولا عجب ، إذ كثيرا ما يوجد المقتضي بدون مقتضى لمدة من الزمان ، ريثما تستكمل شرائطه فيحدث ـ فإن قيل إنّ النسبة هي هكذا ، نسبة المقتضى إلى المقتضي ، والمسبّب إلى السبب ، فيكون أقل محذورا من الأول ، لكنه باطل في نفسه أيضا ، لأن هذا المسبب ، وهذا المقتضى الذي يحدث حين وجود الاستطاعة ، إمّا أن يحدث في عالم الخارج ، خارج نفس المولى والجاعل ، أو في عالم نفس الجاعل ، وكلاهما باطل. أمّا كونه باطلا إذا حدث في عالم خارج نفس الجاعل ، فلوضوح أن الوجوب ليس من الحقائق الخارجية كالبياض ، والصفرة ، والحرارة ، والبرودة ، بحيث يوجد شيء في الخارج اسمه «الوجوب». وأمّا كونه باطلا إذا حدث في عالم نفس المولى والجاعل كشيء جديد ، بمعنى أن المولى عند ما يستطيع شخص ، يحدث في نفسه شيء جديد ، فهذا غير صحيح ، لأن فعلية الحكم تابعة لواقع وجود الاستطاعة خارجا ، سواء التفت المولى إلى ذلك ، أو لم يلتفت ، اعتقد بوجود الاستطاعة أو لم يعتقد ، إذن فكيف يتصوّر أن يكون

١٨

واقع الاستطاعة بوجوده الخارجي محدثا شيئا في نفس المولى؟

وبهذا البيان يتضح : إنّ المجعول ليس له ثبوت حقيقة وراء عالم الجعل ، وإنما هذا مجرد نظر تصوري للجاعل ، فإن الجاعل حينما فرض مستطيعا ، وحكم عليه بالوجوب ، فكأنه خيّل له بنظره التصوري كأن هذا الوجوب قذفه ورماه على المستطيع الذي لم يوجد بعد ، فكأنه رمى الوجوب على عالم آخر غير عالم نفسه ، لأن الاستطاعة غير موجودة حقيقة ، إلا أن هذا مجرد خيال ، فإن كل ما وجد هو هذا الجعل القائم في عالم نفسه.

من هنا أنكرنا ما اصطلح عليه بالوجوب الفعلي ، أو بفعلية الوجوب ، إذ كل وجوب فعلي حين فعلية جعله ، وإن كان قد تحصل هناك فاعلية ومحركية عقلا لهذا الجعل عند ما يتحقق موضوعه في الخارج ، وينطبق على المكلف.

فباب المجعول ليس أكثر من باب الانطباق والانتزاع ، دون ربط بالتأثير والتأثر ، وباب الانطباق والانتزاع ثابت ، بقطع النظر عن الحكم والوجوب من قبل المولى ، فلو قيل : إنّ فلانا سيغتسل في الليلة القادمة ، لا يعني ذلك تأثير شيء متأخر في زمان متقدم. إذن فإشكال عدم معقولية الشرط المتأخر ، لا موضوع له في الموقع الثاني ، موقع عالم المجعول.

الموقع الثالث :

محذور أخذ الشرط المتأخر ، في عالم الملاك ، وتقريره أن يقال : إنّه تقدّم أن شرط الوجوب يكون له مؤثرية تكوينية في احتياج العبد إلى الفعل ، فيكون الاحتياج صفة تكوينية معلولة ، وشرط الوجوب مؤثر في هذه الصفة ، وهذا يختلف عن شرط الواجب ، الذي له مؤثرية في إشباع هذه الحاجة وتحققها ، إذن فشرط الوجوب يختلف عن شرط الواجب خطابا وملاكا ، وحينئذ إن كان شرط الوجوب مقارنا معه ، من قبيل الزوال مع وجوب صلاة الظهر ، فلا بأس به ، لأن الزوال حين صيرورته أحدث احتياجا

١٩

فعليا عند المكلّف ليصلي أربع ركعات ، فيكون هذا من باب تأثير الموجود في الموجود.

وأمّا إذا كان شرط الوجوب متأخرا ، من قبيل صلاة يوم الأحد تكون شرطا في وجوب «صوم يوم السبت» ، فمعنى هذا : إنّ الشرط المتأخر للوجوب هنا ، قد أحدث احتياجا عند العبد لصوم يوم السبت. وهذا الاحتياج صفة تكوينية واقعية ثابتة ، بقطع النظر عن جعل المولى ، بناء على اعتقادنا من تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد ، وعدم كونها جزافا وعبثا ، ومعنى هذا أن صلاة يوم الأحد مؤثرة في ملاك وجوب صوم يوم السبت ، أي مؤثرة في اتصاف الفعل بأنه ذو ملاك ومصلحة ، إذن فالاحتياج الذي هو صفة تكوينية معلولة لشرط الوجوب ، قد حدثت يوم السبت ، بسبب شرط الوجوب ، الذي هو صلاة ليلة الأحد ، وهذا تأثير للمعدوم في الموجود.

وقد يقرّر هذا المحذور بتعبير آخر ، فيقال : إن المكلف في آن طلوع الفجر عليه يوم السبت ، هو في واحدة من حالتين :

فإمّا أن يكون محتاجا إلى الصوم بحسب المصالح والمفاسد المولوية ، وأمّا أن لا يكون محتاجا إليه كذلك ، فإن فرض كونه غير محتاج إليه ، إذن فلا يجب عليه الصوم ، لأن الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد. وإن فرض كونه محتاجا إلى الصوم ، فهذا الاحتياج إن لم يكن مربوطا ومعلولا لصلاة ليلة الأحد ، إذن فمعنى هذا ، أن وجوب صوم يوم السبت ثابت في حق جميع المكلفين من صلّى منهم ليلة الأحد ، ومن لم يصلّ ، لأن الكل يكون حينئذ محتاجا ، وهذا خلف كون الاحتياج صفة تكوينية معلولة.

وإن فرض كون هذا الاحتياج فجر يوم السبت مربوطا ومعلولا لصلاة ليلة الأحد ، إذن فهذا تأثير للمعدوم في الموجود ، والمفروض أن الموجود هنا ، وهو الاحتياج ، هو صفة واقعية تكوينية ، وهي أسبق رتبة من عالم الجعل والمجعول.

٢٠