بحوث في علم الأصول - ج ٥

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٣

الذي هو المدّعى في هذا ، باعتبار أن العلم الإجمالي الذي يراد حلّه بالعلم التفصيلي ، ليس متعلقه جامع الوجوب ، بل الوجوب النفسي بالخصوص ، فإننا نعلم إجمالا بوجوب نفسي متعلق إمّا بالوضوء وإمّا بالزيارة ، والعلم التفصيلي الذي يراد الحل به ، متعلقه ومعلومه هو جامع الوجوب الأعم من النفسي والغيري في الوضوء.

إذن فلا ينحل العلم الإجمالي هنا بمثل هذا العلم التفصيلي ، وإنما ينحل العلم الإجمالي فيما لو تعلّق العلم التفصيلي بسنخ المعلوم الإجمالي في أحد الطرفين ، إذن فهذا البيان ساقط عن الاعتبار.

البيان الثاني : هو أن العلم الإجمالي بوجوب أحد الأمرين نفسي ، وإن كان غير منحل ، ولكن مع هذا تجري أصالة البراءة عن الوجوب النفسي للزيارة ، ولا يعارضها أصالة البراءة عن الوجوب النفسي للوضوء.

وهذا ما يسمّى بالانحلال الحكمي ، أي الانحلال بلحاظ جريان الأصل في أحد الطرفين من دون معارض ، إذ إنّ جريان أصالة البراءة عن وجوب الزيارة ، لا تعارضه أصالة البراءة عن الوجوب النفسي للوضوء ، وذلك أنه لا أثر لجريان البراءة عن الوجوب النفسي للوضوء ، لأنّ المراد بأصالة البراءة عن الوجوب النفسي للوضوء ، إن كان هو التأمين ونفي أصل العقاب فيما إذا ترك الوضوء ، فهذا غير معقول ، لأن ترك الوضوء مساوق لترك الواجب المعلوم إجمالا ، أي : مع المخالفة القطعية ، لأن الوضوء إن كان هو الواجب النفسي ، فقد ترك ، وإن كان هو الواجب الغيري ، إذن فقد ترك الواجب النفسي الذي هو الزيارة ، بسبب ترك مقدمته التي هي الوضوء ، إذن يكون تركه مخالفة قطعيّة ، والعقاب عليه غير قابل للرفع عقلا وعقلائيا ، فلا تأمين ولا نفي للعقاب ، لأن الأصل لا يقدر على هذا التأمين ، وإنما الأصل يؤمّن بلحاظ المخالفة الاحتمالية.

وإن أريد التأمين ، بلحاظ احتمال عقاب آخر على المخالفة الاحتمالية ، وراء ذلك العقاب المفروض على المخالفة القطعية ، فهذا أمر معلوم العدم لا

١٨١

نحتمله أصلا ، لأننا لا نحتمل أكثر من واجب واحد في المقام ، ولا عقاب إلّا بمقدار ما نعلم ، فالعقاب الثاني غير محتمل ، فلا يجري الأصل فيه ليؤمّن العبد منه ، فأصالة البراءة عن الوجوب النفسي للوضوء لغو لا يعقل تأمينه. إذن ، وهذا بخلاف أصالة البراءة عن الوجوب النفسي للزيارة ، فإنه يؤمّن من ناحية ترك الزيارة ، إذ إنّ ترك الزيارة غير مساوق للمخالفة القطعية فيما إذا توضأ ، ولكن لو ترك الوضوء وزار ، فقد خالف مخالفة قطعية ، ومن هنا تجري أصالة البراءة عن وجوب الزيارة بلا معارض ، وينحل العلم الإجمالي انحلالا حكميا.

وبعبارة أخرى : إن أصالة البراءة عن وجوب الزيارة ، لا تعارضه أصالة البراءة عن وجوب الوضوء ، إذ يعلم على كل حال بترتب العقوبة على مخالفته إمّا بنفسه ، أو باعتباره يؤدي إلى ترك الواجب النفسي ، فلا تجري البراءة عنه. إذن فبلحاظ عالم الأمر لا يوجد انحلال ، ولكن بلحاظ عالم العهدة والتحميل يتم الانحلال لأنه يعلم باشتغال الذمة على كل حال ، فحال العلم الإجمالي في المقام ، حال الانحلال في سائر موارد الدوران بين التعيين والتخيير ، إذن فالنتيجة ، هي : جواز ترك الزيارة دون الوضوء.

الصورة الثالثة : هي عين الصورة الثانية ، لكن نفرض أن الواجب النفسي المحتمل ، والذي فرضنا أنه «الزيارة» هناك ، نفرضه هنا أمرا مبهما مرددا بين آلاف الأشياء غير المحصورة.

وبعبارة أخرى : هذه الصورة هي نفس الصورة الثانية ، غاية الأمر أنه على تقدير الغيرية ، يكون مقدمة لواجب نفسي مردّد بين أمور غير محصورة ، كما لو قال المولى : «توضأ» ، ولا نعلم أن الوضوء واجب نفسي أو غيري ، وعلى تقدير كونه غيريا ، فهل هو مقدمة للزيارة فالزيارة واجبة ، أو للدعاء ، فالدعاء واجب إذن ، أو للصلاة ، فالصلاة واجبة إذن ، أو لقراءة القرآن ، فقراءة القرآن واجبة ، وهكذا بحيث يدور بين أمور كثيرة.

في مثل ذلك ، يتشكل علم إجمالي بوجوب نفسي في دائرة غير

١٨٢

محصورة ، لأنه يعلم إجمالا حينئذ بواجب نفسي هو : إمّا «الوضوء» وأمّا أحد تلك الأمور الكثيرة التي يحتمل كون الوضوء مقدمة لها.

والتحقيق على ما تقدّم في أبحاث العلم الإجمالي هو : إنّ العلم الإجمالي ، إذا كان على نحو الشبهة غير المحصورة ، فلا يكون منجزا حتى لحرمة المخالفة القطعية ، فضلا عن وجوب الموافقة القطعية ، فتجري أصالة البراءة عن جميع أطراف هذا العلم الإجمالي بما فيها أصل البراءة عن الوجوب النفسي للوضوء أيضا ، بل حتى أنه يجوز ترك الوضوء أيضا.

وهنا لا يقال : إن ترك الوضوء يؤدي إلى المخالفة القطعية.

على أيّ حال ، لا يقال ذلك ، لأنه بعد أن فرضنا أن هذا العلم الإجمالي غير منجز ، حينئذ ، تجري الأصول في كل الأطراف بدون معارضة.

الصورة الرابعة : هي أن يفرض أن الوضوء إمّا واجب نفسي ، وإمّا واجب غيري للصلاة المعلوم وجوبها على أي حال ، بقطع النظر عن الوضوء ، بحيث لو كان الوضوء واجبا نفسيا ، إذن لاجتمع علينا واجبان نفسيان : أحدهما الصلاة ، والآخر الوضوء.

وبعبارة أخرى : إن هذه الصورة هي نفس الصورة الثانية مع اختلاف من حيث أن الواجب الآخر ثابت على كل حال ، سواء أكان الواجب الأول نفسيا ، أو غيريا وقيدا للواجب الآخر كما في الصلاة لغير الحائض ، أو الحج للمستطيع.

وهنا ذكر المحقق النائيني «قده» (١) ، أن أصل وجوب الصلاة هنا معلوم ، وأصل وجوب الوضوء معلوم أيضا ، وإنما الشك أن الصلاة هل هي متقيدة بالوضوء ـ وهو معنى الواجب الغيري ـ أو غير متقيّدة بالوضوء؟ وعليه فتجري أصالة البراءة عن الوجوب الضمني لتقيّد الصلاة بالوضوء ، ولا يعارض

__________________

(١) أجود التقريرات : الخوئي ج ١ ص ١٧٠.

١٨٣

بأصالة البراءة عن وجوب الوضوء ، لأنّ وجوب الوضوء معلوم على أيّ حال. ومعنى هذا أنّ كلا من الصلاة والوضوء واجب نفسي ، وبإمكان المكلّف إيقاع أيّ منهما قبل الآخر.

وقد استشكل في ذلك السيد الخوئي «قده» (١) ، حيث ذكر أنه في محل الكلام ، وإن كان الوضوء معلوم الوجوب ، إمّا غيريا ، وإمّا نفسيا ، ولكن واجبيّته الغيرية ليس لها أثر عقلا ، وإنما الأثر العقلي والتنجّز للواجبية النفسية.

إذن فيتشكل علم إجمالي في المقام ، إمّا بالوجوب النفسي للوضوء ، وإمّا بوجوب التقيّد ، وحينئذ يكون الوجوب النفسي للوضوء منشأ لاستحقاق العقاب على تركه ، ويكون الوجوب النفسي الضمني لتقيّد الصلاة بالوضوء منشأ لاستحقاق العقاب على عدم الإتيان بالوضوء قبل الصلاة ، سواء أتي به بعد الصلاة ، أو لم يؤت به.

والخلاصة : إنّه هنا علم إجمالي ، إمّا بوجوب نفسي استقلالي للوضوء ، أو وجوب نفسي ضمني للتقيّد.

ومقتضى القاعدة ، هو أنّ يكون هذا العلم الإجمالي منجّزا في المقام.

وأمّا دعوى أن الوضوء معلوم الوجوب على كل حال ، فإنّها غير مفيدة ، لأنه معلوم الوجوب للجامع بين الوجوب الغيري والنفسي ، والوجوب الغيري ليس قابلا للتنجّز ، فلا أثر للعلم بالجامع بين وجوب لا يقبل التنجّز ، ووجوب يقبله ، وإنما الأثر ، للعلم بالوجوب النفسي ، وهو معلوم بالعلم الإجمالي ، وأحد طرفي هذا العلم هو الوجوب النفسي الاستقلالي للوضوء ، والطرف الآخر لهذا العلم ، هو الوجوب النفسي الضمني لتقيّد الصلاة بالوضوء ، وهذا العلم يوجب تعارض الأصلين في الطرفين ، فيكون أصل البراءة عن تقيّد

__________________

(١) أجود التقريرات : الخوئي هامش ص ١٧٠ محاضرات فياض ج ٢ ص ٣٩٢.

١٨٤

الصلاة بالوضوء ، معارضا بأصل البراءة عن الوجوب النفسي للوضوء ، وبعد التساقط يجب الاحتياط ، وذلك بإيقاع الوضوء قبل الصلاة ، لكي يجزم المكلّف بالامتثال على كل تقدير.

وبتعبير آخر ، هو أننا نعلم علما إجماليا بوجوب الوضوء نفسيا ، أو وجوب تقيّد الصلاة بالوضوء نفسيا ، وهذا علم إجمالي منجز غير منحل ، لا حقيقة ، ولا حكما ، لأن الأصل المؤمّن عن وجوب التقيّد ، يعارض الأصل المؤمّن عن الوجوب النفسي للوضوء ، لأن الأصل فيه يجري بلحاظ العقوبة الزائدة في تركه ، إذ الوضوء لو كان واجبا بوجوب نفسي ، إذن كان في تركه عقوبة زائدة على عقوبة ترك الواجب الآخر على تقدير تقيّده به.

وما أفاده السيد الخوئي «قده» (١) غير تام.

والصحيح ما أفاده المحقق النائيني «قده» على أساس مبناه الذي نبني عليه نحن أيضا فنقول ، بدوا :

إنّه لا يمكن فرض كون العلم الإجمالي بالوجوب النفسي للوضوء أو التقييد منجّزا ، ومع هذا تفرضون تعارض الأصول في الأطراف ، وذلك لأنّ هذا العلم الإجمالي بالوجوب النفسي المردّد ، حاله كحال العلم الإجمالي في الصورة الثانية من الصور المتقدمة ، إذ كان العلم الإجمالي فيها مرددا ، بين كون وجوب الوضوء نفسيا ، وبين كون وجوبه غيريا لواجب غير معلوم الوجوب من غير هذه الناحية ، من قبيل زيارة «سيد الشهداء» ، فهناك أيضا كان يتشكل علم إجمالي بوجوب نفسي مردد ، بين وجوب الوضوء ، أو وجوب الزيارة ، ولا فرق بين هذا العلم الإجمالي هنا ، والعلم الإجمالي هناك ، إلّا في أن الوجوب النفسي المعلوم بالإجمال في الصورة الثانية ، هو وجوب نفسي استقلالي على كل تقدير ، بينما الوجوب النفسي المعلوم في هذه الصورة هو مردّد بين وجوب نفسي استقلالي ، أو وجوب نفسي ضمني ، لأنه إن كان

__________________

(١) نفس المصدر السابق.

١٨٥

الوضوء هو الواجب ، فهو واجب نفسي استقلالي ، وإن كان تقيّد الصلاة بالوضوء هو الواجب ، فهو واجب نفسي ضمني.

وهنا في الصورة الرابعة يعلم بوجوب نفسي ، إمّا استقلالي متعلّق بالوضوء ، أو ضمني متعلّق بالتقيّد ، وفي الصورة الثانية ، كان يعلم بوجوب نفسي استقلالي على كل حال ، متعلّق إمّا بالوضوء وإمّا بالزيارة. إذن كيف تبنون هناك ، في الصورة الثانية ، على عدم منجّزيّة العلم الإجمالي ، ومن ثمّ على عدم تعارض الأصول في الطرفين ، وقلتم هناك : إنّ أصالة البراءة عن وجوب الزيارة ، تجري ولا يعارضها أصالة البراءة عن الوجوب النفسي للوضوء ، لأنّ فرض ترك الوضوء هو فرض المخالفة القطعية ، وأصالة البراءة لا يعقل أن تؤمّن عن المخالفة القطعية. وهذا بخلاف أصالة البراءة عن وجوب الزيارة ، فإنّها تؤمّن عن ترك الزيارة ، لأنّ ترك الزيارة لا يساوق المخالفة القطعية.

كان هذا ، هو البيان لعدم تعارض الأصول في أطراف العلم الإجمالي في الصورة الثانية.

وحينئذ يقال : بأنّ نفس ذاك البيان يأتي في المقام فيقال هنا أيضا : بأنّ أصالة البراءة عن التقيّد تجري بلا معارض ، كما كانت تجري هناك أصالة البراءة عن وجوب الزيارة بلا معارض.

وأمّا أصالة البراءة عن الوجوب النفسي للوضوء فلا تجري ، لأنه لو ترك الوضوء فهو يعلم بالمخالفة

القطعية على أيّ حال ، وبهذا لا يكون هذا الأصل مؤمّنا ، لأنه إنما يؤمّن عن المخالفة الاحتمالية لا عن المخالفة القطعية.

إذن فلا تعقل أصالة البراءة عن الوجوب النفسي للوضوء ، فتجري أصالة البراءة عن التقيّد بلا معارض ، كما ذكر المحقق النائيني «قده». إذن فلا فرق بين الصورة الرابعة هنا. والثانية هناك.

ولكن هنا ، يمكن للسيد الخوئي «قده» أن يجيب عن ذلك ، وذلك بأن

١٨٦

يبرز فرقا بين الصورة الرابعة هنا ، والثانية هناك.

وحاصل هذا الفرق هو أن يقال : بأن البيان المتقدم في الصورة الثانية لعدم جريان أصالة البراءة عن الوجوب النفسي للوضوء ، لا يجري هنا في الصورة الرابعة ، فإنه في الصورة الثانية كما يقال : بأن أصالة البراءة عن الوجوب النفسي للوضوء ، لا تؤمّن عن أصل العقاب ، لأن ترك الوضوء يساوق المخالفة القطعية للتكليف المعلوم بالإجمال ، وإن كان المراد بالتأمين بهذا الأصل عن عقاب ثان وراء هذا العقاب. فإن العقاب الثاني غير محتمل ، لأنه في تلك الصورة كان يعلم بوجوب نفسي واحد متعلّق إمّا بالزيارة ، وإمّا بالوضوء ، فإن كان متعلقا بالزيارة فالوضوء مقدمة لها ، وإن كان متعلقا بالوضوء مباشرة فلا واجب غير الوضوء ، إذن فلا يحتمل عقاب ثان حتى يؤمّن من ناحيته.

وهذا بخلافه في المقام ، فإنه هنا يمكن إجراء أصالة البراءة عن الوجوب النفسي للوضوء ويكون هذا الأصل مؤمّنا عن العقاب الثاني ، لا العقاب الأول ، لأن المفروض في المقام أن الوجوب النفسي فيه معلوم على كل حال ، وإنما الشك في أن الوضوء واجب نفسي أيضا حتى يصير عندنا واجبان نفسيّان ، أو إنّ الوضوء واجب غيري مقدمة للصلاة. وحينئذ لو فرض أن المكلّف ترك الوضوء والصلاة معا ، حينئذ وجود عقاب واحد بالنسبة إليه ، أمر مفروغ عنه لا يمكن رفعه بالأصل ، لكن هل هناك عقاب بملاك ثان؟. هذا أمر مشكوك فيه ، لأنه إن كان الوضوء واجبا غيريا ، إذن فلا عقاب من ناحيته ، وإن كان الوضوء واجبا نفسيا وقد تنجز ، فحينئذ ، سوف يعاقب بعقابين : عقاب بلحاظ ترك الصلاة ، وعقاب بلحاظ ترك الوضوء.

إذن فهنا تفيد أصالة البراءة عن الوجوب النفسي للوضوء ، لأنها تنفي العقاب الثاني ، لأن العقاب الثاني في هذه الصورة محتمل ، فلو بقي الوجوب النفسي المشكوك في الوضوء بلا مؤمّن شرعي ، لتنجز وترتب العقاب عليه ، وأصالة البراءة عنه هنا وظيفتها نفي هذا العقاب ، وهذا أثر عملي يصحح

١٨٧

جريان البراءة في المقام ، بينما أصالة البراءة عن الوجوب النفسي ، للوضوء في الصورة الثانية ، لم يكن هناك أثر عملي يصحّح جريانها ، لأن نفي أصل العقاب عند ترك الوضوء غير معقول ، ذلك للعلم بالمخالفة القطعية ، ونفي العقاب الثاني ، لا نحتاج فيه إلى الأصل ، فلا يعارض جريانه البراءة عن وجوب الزيارة ، وأمّا أصالة البراءة هنا عن الوجوب النفسي للوضوء فله أثر عملي ، وهو نفي العقاب الثاني فيما لو ترك المكلّف كلا الفعلين رأسا ، وإذا كان له أثر عملي جرى ، وإذا جرى تعارض الأصلان ، فيكون أصل البراءة عن الوجوب النفسي للوضوء ، معارضا بأصل البراءة عن الوجوب النفسي للتقيّد.

ولكنّ هذا الفرق الذي يمكن للسيد الخوئي «قده» أن يطرحه بين الصورتين ، ليس مفرّقا على مباني المحقق النائيني «قده» في باب تنجيز العلم الإجمالي ، وتوضيح ذلك يحتاج إلى بيان مقدمة :

وهذه المقدمة هي أن يقال : بأنه لا إشكال في أن جريان الأصول المؤمّنة في أطراف العلم الإجمالي غير معقول ، ولكن الميرزا «قده» اشترط في عدم معقولية هذه الأصول أن تكون هذه الأصول الجارية في كل الأطراف ، أو الطرفين ، على نحو بحيث يمكن للمكلّف إذا استند عليها جميعا في عرض واحد ، وفي وقت واحد ، أن يقع في المخالفة القطعيّة ، كما لو فرض أنه علم إجمالا بوجوب الظهر ، أو الجمعة ، فأجرى في وقت واحد أصالة البراءة عن وجوب الظهر وأصالة البراءة عن وجوب الجمعة فجمع بين التركين استنادا إلى مجموع الأصلين ، فإنه في مثل هذه الحالة لا يعقل جريان الأصول ، لأنه ترخيص في المخالفة القطعيّة.

وأمّا لو فرض أن الأصول جرت في تمام الأطراف ، لكن مع هذا فالمحذور عقلي إذ إنّه عاجز عن الاستفادة من تمام هذه الأصول ، بحيث يترك هنا ويترك هناك ، مستندا إلى الأصلين مثلا ، فالأصول المؤمّنة تجتمع ولكن استنادات المكلف إليها لا يمكن أن تجتمع ، في مثل ذلك. قال المحقق النائيني «قده» : بإمكان جريان الأصول جميعا ، إذ لا يلزم من جريانها جميعا

١٨٨

أن يقتحم المكلف هنا وهناك وهنالك ، ويجمع بين هذه الاقتحامات ، ويخالف مخالفة قطعية ، باستناده إلى هذه الأصول ، فإن مثل هذا المطلب لن يقع خارجا ومثال ذلك : الشبهة غير المحصورة ، فإنه فيها إذا علم إجمالا أن أحد الأواني الموجودة في بلده الكبير هي نجسة ، فيعلم إجمالا بحرمة الشرب بواحد من هذه الأواني ، هنا قال المحقق النائيني «قده» ، ونحن معه نقول : بأنه يمكن إجراء أصالة الطهارة في تمام أطراف الشبهة غير المحصورة ، لأنه لو أجريت أصالة الطهارة وأصالة الإباحة في تمام هذه الأواني ، حينئذ سوف لن يتمكن المكلف أن يستند إليها جميعا في عرض واحد ، وليس حالها حال الظهر والجمعة ، إذن فلا بأس باجتماع الأصول ، لأن اجتماعها إذا كان يؤدي إلى اجتماع المخالفات الاحتماليّة ، فهو غير معقول ، وأمّا إذا لم يؤدّ إلى ذلك فلا بأس به.

وحينئذ على ضوء هذا المبنى نعالج محل الكلام فنقول :

إن أصالة البراءة في محل الكلام عن الوجوب النفسي للوضوء ، لا يظهر تأمينها وأثرها ، فيما إذا أتى بالصلاة وترك الوضوء ، لأن هذا التارك للوضوء يعلم بوقوع مخالفة واحدة منه ، لأن الوضوء إن كان واجبا نفسيا فقد عصى ، وإن كان شرطا في الصلاة ، إذن فقد عصى الأمر بالصلاة ، إذن فهو قد عصى كلا الأمرين ، ولم تصدر منه معصية ثانية يقينا ، لعدم احتمال أن يكون قد صدرت منه معصيتان في المقام ، لأنه لا يحتمل أن يكون الوضوء واجبا نفسيا وشرطا في وقت واحد.

إذن ففي فرض ترك الوضوء والإتيان بالصلاة ، فإن أصالة البراءة عن الوجوب النفسي للوضوء ، لا تحدث فيه تأثيرا ، لأنه إن أريد بها التأمين من ناحية أصل العقاب ، فغير معقول ، لأنه يعلم بالمخالفة القطعية. وإن أريد التأمين لنفي العقاب الثاني ، فهو معلوم العدم. إذن فهذا الأصل ليس مركز تأمينه هو هذا المكلّف الذي ترك الوضوء وأتى بالصلاة.

نعم هذا المكلّف يكون مركزا للتأمين من ناحية أصالة البراءة عن

١٨٩

الوجوب الضمني للتقيّد ، لأن هذا المكلّف الذي ترك الوضوء وأتى بالصلاة ، ومن بعدها أتى بالوضوء ، حينئذ مثل هذا المكلّف يكون قد أمّن عن إيقاع الوضوء قبل الصلاة ببركة أصالة البراءة عن التقيّد.

وهنا مكلّف آخر وهو الذي يترك العملين معا ، الوضوء والصلاة ، مثل هذا المكلّف ، إذا أجرى أصالة البراءة عن الوجوب النفسي للوضوء ، فإنه يظهر لهذا أثر بالنسبة إليه ، وهو التأمين عن العقاب الثاني.

وبهذا يتّضح أن مؤمّنيّة كل من الأصلين والاستناد إليهما معا في حال ، غير حال الاستناد إلى الأصل الآخر ، وأنه لا يمكن الاستناد إلى الأصلين معا في عرض واحد ، فالمكلّف الذي يستفيد من هذا الأصل ، غير المكلف الذي يستفيد من ذاك الأصل ، لأن المكلف الذي يستفيد من أصالة البراءة عن الوجوب النفسي للوضوء ، هو من ترك الوضوء والصلاة معا ، وهذا سوف لن يستفيد من الأصل الآخر ، وهو أصالة البراءة عن التقيّد ، فهو ترك الصلاة رأسا ، فلا يؤمّنه أصالة البراءة عن التقيّد بالوضوء ، وإنما يستفيد من أصالة البراءة عن التقيّد ، من أتى بالصلاة ، ثم أتى بالوضوء بعدها ، ولا يعقل أن يوجد شخص واحد يستفيد من كلا الأصلين إلّا مع فرض تعدّد الواقعة ، فإنها فيها لا بأس بجريان الأصلين معا ، فتجري أصالة البراءة عن التقيّد ليستفيد منها من يصلّي ثم يتوضأ بعد ذلك ، وتجري البراءة عن الوجوب النفسي للوضوء ، ليستفيد منها ذلك الشقي الذي يترك الوضوء والصلاة معا ، من أجل نفي العقاب الثاني بالنسبة إليه.

إذن فمحل استفادة كل من الأصلين ، غير محل الاستفادة من الأصل الآخر. وهذا يصير من قبيل الأصول في الشبهة غير المحصورة ، حيث أن شخصا واحدا لا يمكن أن يستفيد من أصالة الطهارة في هذه الآنية ، وهذه الآنية ، وهكذا ، بل يستفيد من بعضها ، وهنا كذلك ، فإن المكلّف لا يمكن أن يستفيد من كلا الأصلين ، لأنه إن ترك كلا الفعلين ، إذن فسوف تنحصر فائدته العملية في إجراء أصالة البراءة عن الوجوب النفسي للوضوء ، لنفي العقاب

١٩٠

الثاني ، مع توطين نفسه على العقاب الأول ، وإن فرض أن المكلّف كان قد صلّى ثم توضأ بعد ذلك ، فهذا سوف لا ينفعه أصالة البراءة عن الوجوب النفسي للوضوء ، لأنه على أيّ حال هو معاقب ، وموطّن نفسه على العقاب الأول ، وإنما سوف ينفعه أصالة البراءة عن التقيّد ، فالانتفاع العملي في هذا الأصل في حال ، لا يجتمع مع حال الانتفاع العملي بالأصل في الطرف الآخر.

وبهذا يثبت على مبنى المحقق النائيني «قده» ، جريان الأصلين معا بلا معارضة.

إذن فالصحيح أن العلم الإجمالي في المقام غير منجز ، وبما ذكرناه تبيّن وجود ملاك للانحلال الحكمي ، وعدم منجزيّة العلم الإجمالي في الصورة الثانية ، بل وفي الصورة الرابعة.

وهذا الملاك للانحلال هو قانون كلّي للانحلال ، لا يختص بخصوص المقام ، بل يسري في مقامات عديدة.

والضابط الكلي لهذا القانون ، هو : إنّه كلّما تشكّل علم إجمالي بأحد تكليفين ، وكانت مخالفة أحد التكليفين مستلزمة لمخالفة الآخر ، لا محالة ، بخلاف العكس ، في مثل ذلك ، التكليف الذي تكون مخالفته مستلزمة لمخالفة الآخر لا تجري البراءة عنه ، لأنّ مخالفته مساوقة للمخالفة القطعية ، فلا معنى للتأمين عنه ، وتجري البراءة عن التكليف الآخر ، الذي لا تكون مخالفته مساوقة لمخالفة الطرف الأول ، بلا معارض.

وهنا استعراض لبعض المقامات التي ينطبق عليها هذا القانون :

المقام الأول : هي مسألتنا ، وهي فيما إذا علم بالوجوب النفسي للمقدمة أو لذي المقدمة ، فإنّ هذا القانون ينطبق هنا ، لأن الوجوب النفسي المحتمل تعلّقه بالمقدمة ، تكون مخالفته مستلزمة لمخالفة التكليف النفسي الآخر ، فإنّ من ترك المقدمة استلزم تركه هذا ، ترك ذي المقدمة أيضا ، إذن فلا تجري

١٩١

البراءة عن الوجوب النفسي المحتمل للمقدمة ، وتجري أصالة البراءة عن الوجوب النفسي المحتمل لذي المقدمة.

المقام الثاني : هو فيما إذا كان عندنا ضدّان عرضيان ولهما ثالث ، من قبيل استقبال القبلة واستدبار القبلة ، فإنهما ضدان لهما ثالث ، وهو أن لا يستقبل ولا يستدبر ، وعلم إجمالا بأنه إمّا الاستقبال واجب ، وإمّا الاستدبار حرام ، وهذا العلم الإجمالي ينطبق عليه هذا القانون ، وذلك لأن مخالفة أحد الطرفين ، وهو حرمة الاستدبار ـ الذي يكون بالاستدبار ـ تكون مستلزمة لمخالفة وجوب الاستقبال دون العكس ، فإن مخالفة وجوب الاستقبال يكون بترك الاستقبال ، وترك الاستقبال لا يلزم منه استدبار القبلة ، إذ لعلّه يترك الاستقبال ولا يستدبر ، فهنا لا تجري أصالة البراءة عن حرمة استدبار القبلة لأن الاستدبار ملازم مع المخالفة القطعية ، فتجري البراءة عن وجوب الاستقبال بلا معارض.

المقام الثالث : هو ما إذا وجد عندنا أمران وجوبيان وكانا متغايرين ، وكان أحدهما أخص موردا من الآخر ، وعلم بوجوب أحدهما ، من قبيل أن نعرض وجود منارة في دار ، وعلم إمّا بوجوب استقبال المنارة عن قرب ، وإمّا بوجوب استدبار الدار التي فيها المنارة ، وهنا استقبال الدار التي فيها المنارة عن قرب يلزم الاستدبار ، ولكن الاستدبار لا يلزم من الاستقبال عن قرب ، إذ قد يستدبر حائط الدار التي فيها المنارة من خراج الدار ، فلو علم إجمالا بوجوب استدبار هذه الدار ، أو بوجوب استقبال المنارة عن قرب ، حينئذ يقال : إنّه لا تجري أصالة البراءة عن وجوب استدبار حائط الدار ، لأن ترك استدبار حائط الصحن مساوق للمخالفة القطعية على كل حال ، لأن من ترك استدبار حائط منارة الدار ، فقد ترك الاستقبال عن قرب ، بخلاف وجوب استقبال المنارة عن قرب ، فإن مخالفة الاستقبال لا يلزم منه ترك الاستدبار رأسا ، فتجري البراءة عن وجوب استقبال المنارة عن قرب بلا معارض ، وهذا إنما يكون في كل أمرين وجوديين متغايرين مورد أحدهما أخص من مورد

١٩٢

الآخر من دون مقدمية في البين ، فإنّ ترك الأعم يكون تركا للأخص دون العكس ، حينئذ تجري البراءة عن ترك الأخص كما تقدّم في المثال.

المقام الرابع : هو موارد الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين بالمعنى الأعم الشامل للدوران بين التعيين والتخيير ، إذ إنّ الأقل والأكثر له معنى أعم ، ومعنى أخص.

فمعناه الأعم يشمل الشك في الجزء والشرط ، ويشمل أيضا دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، كما لو وجب إطعام مردّد بين إطعام الحيوان ، وإطعام الإنسان.

ومعناه الأخص ، هو عبارة عن الأجزاء والشرائط كما إذا شكّ في الجزء والشرط.

فموارد الأقل والأكثر بمعناهما الأعم ، وفي تمام مصاديقها ، يجري فيها هذا القانون العام. فإنه دائما يكون مخالفة الأقل مخالفة للأكثر لا محالة ، سواء أكانت مخالفة الأقل عبارة عن وجوب تسعة أجزاء في مقابل وجوب عشرة أجزاء ، أو وجوب ذات المقيّد في مقابل وجوب المقيّد ، أو وجوب عنوان الحيوان في مقابل وجوب عنوان الإنسان. فعلى أي حال وجوب مخالفة الأقل يلزم منه مخالفة وجوب الأكثر لا محالة مخالفة قطعية ، دون أن يلزم من مخالفة الأكثر مخالفة الأقل ، فتجري البراءة حينئذ عن وجوب إكرام الإنسان ، وعن وجوب العشرة ، وعن وجوب المقيّد ، فالبراءة دائما تجري عن وجوب الأكثر ، نعم موارد الأقل والأكثر بالمعنى الأخص يتميّز ببيان الانحلال وببرهان أخر لا يشمل الأقل والأكثر بالمعنى الأعم ، ولا يشمل المقامات الثلاثة الأول والثاني والثالث ، كما لو علم بوجوب تسعة أجزاء ، إمّا مطلقا ، وإمّا مقيّدا بشرط ، حينئذ يقال : بأن أصالة البراءة عن وجوب المطلق لا تجري ليعارض أصالة البراءة عن وجوب المقيّد ، بقطع النظر عن هذا القانون المتقدم ، وذلك لأن وجوب المطلق ينحل إلى أمرين : أحدهما ، وجوب ذات المطلق ، وثانيهما ، إطلاقه. أمّا وجوب ذات المطلق الجامع المقسمي

١٩٣

المحفوظ في ضمن المطلق والمقيّد ، فهذا وجوبه معلوم على كل حال ، ولو في ضمن المقيّد ، فلا معنى لإجراء البراءة عنه. وأمّا إجراء البراءة عن إطلاق المطلق ، فهذا في نفسه لا معنى له ، بمعنى أن دليل البراءة في نفسه ، قاصر دلالة عن الشمول له ، لأن دليل البراءة يوسّع ، والإطلاق ليس فيه ضيق حتى يكون رفعه توسعة ، إذن فهو غير مشمول لمفاد الدليل أصلا من أول الأمر.

إذن فأصالة البراءة عن وجوب المطلق في نفسها ، غير معقولة ، لقصور الدليل في نفسه ، لأن ذات المطلق معلوم والدليل يقول «رفع ما لا يعلمون» ، وإطلاقه ليس شيئا ثقيلا حتى يشمله دليل «رفع ما لا يعلمون» ، إذن فتجري البراءة عن وجوب المقيّد دون معارض.

وبهذا يتضح أنه يوجد عندنا قانونان للانحلال الحكمي : أحدهما هو القانون الذي شرحناه آنفا ، وهو : كون مخالفة أحد الطرفين مستلزمة لمخالفة الآخر ، وهذا سيّال في المقامات الأربعة المتقدمة.

وهناك قانون آخر للانحلال تختص به موارد الأقل والأكثر الارتباطيين بالمعنى الأخص من المقام الرابع ، وهو أنه لا معنى ـ بحسب لسان دليل «رفع ما لا يعلمون» ـ لإجراء أصالة البراءة عن وجوب المطلق ، لأنه إن أريد نفي وجوب ذات المطلق ، فهو معلوم ، وإن أريد نفي إطلاق المطلق ، فهو ليس أمرا ثقيلا ليرفع بإطلاق دليل البراءة.

وبهذا يتضح أيضا أن جريان البراءة في الأقل والأكثر الارتباطيين بالمعنى الأخص ، أوضح من جريان البراءة في المقام ، لأن فيه اجتماع كلا الملاكين للانحلال وكلا التقريبين.

وبعد أن طبّقنا القانون العام الآنف على حالة ما إذا علم بوجوب شيء ، أو بوجوب مقدمته ، كما لو علم إجمالا ، بوجوب نفسي متعلق بالزيارة المقيّدة بالوضوء ، أو بوجوب نفسي متعلق بالوضوء ، كانت نكتة الانحلال هنا هي ، إنّ مخالفة الوجوب النفسي المتعلق بالوضوء ، مستلزمة لمخالفة الوجوب

١٩٤

النفسي المتعلق بالزيارة ، دون العكس ، فمتى ما تحفّظنا على هذه النكتة ، تحفّظنا على الانحلال ، ومتى ما زالت هذه النكتة ، زال الانحلال.

ومن هنا نقول : إن الوجوب النفسي المحتمل تعلقه بالوضوء ، مع الوجوب النفسي المحتمل تعلّقه بالزيارة ، نقول : إن زمانهما واحد ، وظرفهما واحد ، ، وهو من الزوال إلى الغروب ، وحينئذ ، من الواضح أن نكتة الانحلال موجودة هنا ، لأن من ترك الوضوء من الزوال إلى الغروب ، فقد ترك الزيارة أيضا ، إذن فقد خالف كلا التكليفين مخالفة قطعية.

والنكتة تبقى محفوظة لو وسّعنا من دائرة الوجوب النفسي للوضوء المحتمل ، كما لو كنا نعلم مثلا ، بوجوب الزيارة المقيدة بالوضوء بين الزوال والغروب ، أو بالوجوب النفسي للوضوء ، لكن في أفق أوسع من ذلك ، سواء أكانت الأوسعيّة من حيث الابتداء ، أي من طلوع الشمس إلى الغروب ، أو من حيث الانتهاء ، يعني من الزوال إلى طلوع الفجر ، أو من حيث الابتداء والانتهاء معا ، فإنه على جميع هذه الحالات ، تصدق نكتة الانحلال ، وهي أن مخالفة الوجوب النفسي المحتمل تعلّقه بالوضوء ، يستلزم مخالفة الوجوب الآخر أيضا ، فالانحلال ثابت.

وتختل هذه النكتة في فرضين :

الفرض الأول : هو فيما إذا فرضنا أن الوجوب النفسي المحتمل تعلّقه بالوضوء ، محدود بزمان مباين مع زمان الوجوب النفسي المحتمل تعلقه بالزيارة ، كما لو كان يعلم إجمالا ، إمّا بوجوب نفسي للوضوء بين طلوع الشمس إلى الزوال ، وإمّا بوجوب نفسي للزيارة المقيّدة بالوضوء من الزوال إلى الغروب بنحو بحيث ، أنه على تقدير أن يكون الوضوء واجبا نفسيا ، لا يقبل منّا إلّا الوضوء قبل الزوال ، وبناء على أن تكون الزيارة واجبا نفسيا ، ويكون الوضوء شرطا لا يقبل منّا الوضوء إلّا بعد الزوال ، ففي مثل هذه الفرضيّة يكون علما إجماليا منجزا ، لأنه تكون مخالفة كل واحد من التكليفين ، غير مستلزمة لمخالفة الآخر ، بل مباينة لمخالفة الآخر ، إذ يمكن

١٩٥

حينئذ للمكلف أن يخالف هذا دون ذاك ، وذلك بأن يترك الوضوء قبل الزوال ، ويتوضأ بعد الزوال ويزور ، إذن فهذا أمر خالف الوجوب النفسي للوضوء ، ولم يخالف الوجوب النفسي للزيارة.

ويمكن للمكلف أن يعكس المطلب ، وذلك بأن يتوضأ قبل الزوال ، ولا يزور بعد الزوال ، فيكون قد خالف الوجوب النفسي للزيارة ، ولم يخالف الوجوب النفسي للوضوء ، لأنه لا تلازم بين المخالفتين.

وفي مثل ذلك تجري أصالة البراءة وتتعارض في الطرفين ، لأن أصالة البراءة عن الوجوب النفسي للوضوء قبل الزوال ، تعارض أصالة البراءة عن الوجوب النفسي للزيارة المقيّدة بالوضوء بعد الزوال.

وهذا الكلام لا يفرّق فيه بين الصورة الثانية والرابعة ، أي : إنّه لا يفرّق بين أن تكون الزيارة معلومة الوجوب في نفسها ، أو أن لا تكون معلومة الوجوب في نفسها ، فإن لم تكن معلومة الوجوب في نفسها ، حينئذ سوف يتشكل علم إجمالي بوجوب نفسي للوضوء قبل الزوال ، أو بوجوب نفسي للزيارة المقيّدة بالوضوء بعد الزوال ، وهنا ينجّز العلم الإجمالي ، لأنّ كلا من الطرفين ، مخالفته لا تستلزم مخالفة الطرف الآخر.

وكذلك الحال لو كانت الزيارة معلومة الوجوب في نفسها ، وإنما الشكّ في تقيّدها بالوضوء بعد الزوال ، فإنه أيضا ، المكلّف يعلم إجمالا بوجوب نفسي متعلّق بالوضوء قبل الزوال ، أو بوجوب نفسي ضمني متعلّق بتقيّد الزيارة بالوضوء بعد الزوال ، وكل من هذين الوجوبين لا يلزم من مخالفة أحدهما مخالفة الآخر ، فلو لم يتوضأ قبل الزوال ، وتوضأ بعد الزوال ، فقد امتثل الوجوب الضمني ، وعصى الوجوب النفسي ، ولو أنه عكس المطلب ، انعكس عليه المطلب.

فتتعارض إذن أصالة البراءة عن الوجوب النفسي مع أصالة البراءة عن الوجوب الضمني.

١٩٦

الفرض الثاني : هو أن نفرض أن دائرة الشرط أوسع من دائرة الواجب النفسي ، وذلك بأن نفترض أن الوضوء إذا كان واجبا نفسيا فهو واجب قبل الزوال ، كما تقدّم في الفرض السابق ، وأمّا إذا كان واجبا غيريا ، وشرطا في الصلاة ، فشرط الصلاة كما يتحقق بالوضوء بعد الزوال ، كذلك يتحقق بالوضوء قبل الزوال أيضا ، إذ الصلاة ليست مقيّدة بالوضوء بعد الزوال خاصة ، وإنما هي مقيّدة بمطلق وقوع الوضوء قبلها ، وبهذا يختلف عن الفرض السابق ، لأننا في الفرض السابق كنّا نفرض أن الوضوء إذا كان شرطا فيكون وجوده المتأخر عن الزوال ، شرطا خاصا دون وجوده السابق على الزوال ، أمّا هنا فنفرض سعة في الشرط ، فالوضوء يفي بالشرط ، سواء أكان قبل الزوال أو بعده.

والآن لو جئنا نرى الصورة الثانية ، وحال الصورة الرابعة ، على ضوء هذا الفرض.

فنرى أن الصورة الثانية وهي ما إذا فرض تردّد أمر الوضوء ، بين كونه واجبا نفسيا ، أو شرطا في واجب نفسي آخر وهو الزيارة ، ونفرض أنّ الزيارة لم يثبت وجوبها النفسي من غير هذه الناحية ، إذن فيتشكل علم إجمالي بوجوب نفسي استقلالي مردّد بين أن يكون متعلقا بالوضوء قبل الزوال ، أو بالزيارة المقيّدة بالوضوء ولو قبل الزوال.

ومن الواضح أن هذين التكليفين المعلوم أحدهما إجمالا ، لا ينطبق عليهما قانون الانحلال المذكور ، لأن مخالفة أيّ واحد من الطرفين لا يستلزم مخالفة الطرف الآخر ، بل يمكن أن ينفك مخالفة كل واحد من الطرفين عن مخالفة الطرف الآخر ، فيمكن للمكلّف أن يخالف الوجوب النفسي المحتمل تعلّقه بالوضوء قبل الزوال ، ولكن يمتثل الوجوب الآخر ، وذلك بأن يترك الوضوء قبل الزوال ، ويتوضأ ويزور بعد الزوال ، فيخالف الوجوب النفسي المحتمل للوضوء ، لأنه لم يأت به في ظرفه ، ولكنّه قد امتثل الوجوب النفسي المحتمل تعلّقه بالزيارة ، وقد ينعكس المطلب ، وذلك بأن يتوضأ قبل الزوال ،

١٩٧

ولكن لا يزور بعد الزوال ، فيكون قد امتثل الوجوب النفسي المحتمل تعلّقه بالوضوء ، ولكنّه لم يمتثل الوجوب النفسي المحتمل تعلّقه بالزيارة المقيّدة بالوضوء ، إذ لم يزر أصلا.

إذن فالمخالفتان بينهما عموم من وجه ، وليس أحدهما مستلزما للآخر.

أذن فلا ينطبق عليهما قانون الانحلال.

إذن فالعلم الإجمالي منجز ، والأصول متعارضة ومتساقطة في الطرفين.

وأمّا إذا جئنا نرى الصورة الرابعة التي يدور أمر الوضوء فيها بين أن يكون واجبا نفسيا قبل الزوال ، أو أن يكون شرطا للصلاة المفروغ عن وجوبها بعد الزوال ، فهنا الشك في الوجوب الضمني المتعلّق بالتقيّد ، فيتشكل علم إجمالي بوجوب نفسي ، إمّا استقلالي متعلق بالوضوء قبل الزوال ، وإمّا بوجوب ضمني متعلّق بتقيّد الصلاة بمطلق الوضوء سواء أكان بعد الزوال أو قبل الزوال ، وهنا ينطبق قانون الانحلال المذكور ولكن بالعكس ، بمعنى أن أصالة البراءة تجري عن الوجوب النفسي للوضوء ، ولا تجري أصالة البراءة عن الوجوب الضمني ، وذلك لأن مخالفة الوجوب النفسي للوضوء لا يلزم منه مخالفة الوجوب الضمني ، فلو أن إنسانا لم يتوضأ قبل الزوال ، وتوضأ بعد الزوال ، وصلّى ، فقد خالف الوجوب النفسي المحتمل تعلقه بالوضوء ، ولكنه لم يخالف الوجوب الضمني المحتمل تعلّقه بالتقيّد.

وأمّا مخالفة الوجوب الضمني ، فلو فرض أن المكلف خالف الوجوب الضمني وعصاه ، فيكون عصيانه للوجوب الضمني الذي هو طرف العلم الإجمالي ، أن لا يتوضأ ، لا قبل الزوال ولا بعد الزوال ، ولكن يصلّي ، أمّا أنه يصلّي ، فلأنه لو لم يصلّ فقد عصى الوجوب النفسي المعلوم تفصيلا ، وهو وجوب الصلاة ، وأمّا أنه لا يتوضأ ، لا قبل الزوال ولا بعد الزوال ، فلأنه لو توضأ قبل الزوال أو بعد الزوال ، فقد تحقق الشرط ، لأن المفروض كفاية الوضوء قبل الزوال في تحقق الشرط ، فمعصية الوجوب الضمني بمقدار

١٩٨

الوجوب الضمني الواقع طرفا للعلم الإجمالي ، يكون بأن يصلي دون وضوء ، لا قبل الزوال ، ولا بعده.

ومن الواضح ، أنه حينما يصلي ولا يتوضأ ، لا قبل الزوال ولا بعده ، حينئذ يكون هذا مخالفة قهرية للوجوب النفسي المحتمل تعلّقه بالوضوء أيضا ، فتحصل المخالفة القطعية لا محالة.

وهذا معناه أن مخالفة الوجوب الضمني تستلزم مخالفة الوجوب النفسي ، ولكن مخالفة الوجوب النفسي لا تستلزم مخالفة الوجوب الضمني.

وحينئذ يقال : إنّ أصالة البراءة عن الوجوب الضمني لا تجري ، لأنه في فرض مخالفة الوجوب الضمني يعلم بالمخالفة القطعيّة على كل حال ، لأنه يلزم من مخالفة الوجوب الضمني مخالفة الوجوب النفسي على أي حال ، فإذا كان جريان أصالة البراءة «عن الوجوب الضمني» للتأمين من العقاب ، فهذا غير معقول ، لأن مخالفة الوجوب الضمني تستلزم مخالفة الطرف الآخر ، وهي المخالفة القطعية ، إذن فأصالة البراءة عن الوجوب الضمني ، لا تكون مؤمّنة بخلاف أصالة البراءة عن الوجوب النفسي للوضوء ، فإنها تؤمّن دون أن تستلزم مخالفة للطرف الآخر ، إذن فهنا ينطبق قانون الانحلال في المقام.

الجهة الثالثة :

من الواجب النفسي والغيري ، هي في استحقاق العقاب والثواب على الأوامر الغيرية ، مخالفة وامتثالا.

والكلام في ذلك يقع أولا في العقاب ، وثانيا في الثواب.

وأمّا العقاب : فلا إشكال في أن مخالفة الأوامر النفسية توجب استحقاق العقاب ، لأن مخالفة الأوامر النفسية على خلاف حق الطاعة الثابتة للمولى على العبد ، هي تضييع لحق المولى ، وتضييع الحق يصحّح العقاب لا محالة من قبل من له الحق على من عليه الحق.

١٩٩

وأمّا مخالفة الأمر الغيري فتوضيح الحال فيه هو أن يقال :

إن العقاب على نحوين :

النحو الأول : هو العقاب بالملاك الانفعالي.

النحو الثاني : هو العقاب بالملاك المولوي.

ومقصودنا من الملاك الانفعالي : هو العقاب الذي ينشأ من غضب المولى وتألّمه لفوات غرضه ، فينفعل ويضرب عبده عقابا له لما سبّبه له من انفعال ، وقد يتحقق من غير المولى أيضا ، ممّن ليس له حق الطاعة ، فقد ينفعل لمخالفة أوامره فيعاقب انفعاليا.

والعقاب المولوي ، نقصد به : ذاك العقاب الناشئ من حكم العقل بالمولوية والطاعة.

أمّا العقاب الانفعالي : فلا إشكال بأنه غير موجود على مخالفة الأمر الغيري ، ولم يصدر عن المولى إلّا انفعال واحد وهو فيما إذا خالفه عبده ، ولم يأت له بمطلوبه ، وهذا الانفعال هو بسبب عدم حصول غرضه النفسي الذي أمر به ، وهو الماء البارد مثلا ، دون أن يحصل له انفعالات عديدة بعدد ما ترك المكلّف من المقدمات لتحصيله ، بل انفعاله مهما كثرت المقدمات أو قلّت ، على وتيرة واحدة.

وبعبارة أخرى : إن ضمّ ترك المقدمة إلى ترك ذي المقدمة ، كضم الحجر إلى جنب الإنسان ، إذ بعد أن يفرض أنه ترك ذا المقدمة فلا يهمّه بعدئذ إن ترك المقدمة ، أو أتى بها.

وأمّا العقاب المولوي الثابت باعتبار حق الطاعة والمولوية ، فلا بدّ وأن يرجع فيه إلى العقل الذي أدرك حق الطاعة لمعرفة موضوع هذا الحق.

والذي ندركه بعقولنا هو : إنّ موضوع حق الطاعة هو أيضا ذاك الانفعال ، بمعنى أن العقل يرى أن العبد بوجوده وعضلاته هو امتداد للمولى ،

٢٠٠