بحوث في علم الأصول - ج ٥

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٣

الفصل الرابع

مبحث الترتب

والكلام فيه يقع في إمكانيّة الأمر بالضد المهم مترتبا على ترك الأهم ، فالبحث فيه يقع في عدة جهات :

١ ـ الجهة الأولى : هي كون الثمرة المطلوبة منه ، هي التوصل إلى إثبات الأمر بالمهم في موارد التزاحم

وبحسب الحقيقة ، هي : إنّ المقصود بالترتب هو ، تحقيق حال أنّ المتزاحمين هل يرجعان إلى التعارض أو لا؟ إذ أنّه سيتّضح أنّ رجوع الدليلين المتزاحمين إلى التعارض ، مربوط بالقول بإمكان الترتب ، وعدم إمكانه ، إذ إنّنا إذا قلنا بإمكان الترتب ، وإنّه يمكن التكليف بالضدين لكن مع كون أحدهما مشروطا بعدم امتثال الضد الآخر ، حينئذ لا يقع تعارض بين خطاب «صلّ» وخطاب «أزل» ، بلحاظ عالم الجعل الذي هو مدلول الخطاب ، لأنّ كلّ خطاب منهما ينشئ حكما على موضوعه ، إذا كان قادرا عليه ، ف «صلّ» ينشئ حكما بإيجاب الصلاة على القادر عليها ، وخطاب «أزل النجاسة» ينشئ حكما بوجوب الإزالة على القادر عليها ، ولا منافاة بينهما ، غاية الأمر ، أنّ المكلّف خارجا إذا اشتغل «بالصلاة» مثلا ، يخرج عن كونه قادرا على «الإزالة» ، وهكذا إذا اشتغل بالضد الآخر ، يخرج عن كونه قادرا على فعل ضده ، فهو إذا اشتغل بالإزالة مثلا ، يخرج موضوعا عن خطاب «صلّ» ، لأن كلا من الخطابين مقيّد بالقدرة

٤٠١

على متعلقه ، وفي موارد التزاحم ليس للمكلف إلّا قدرة واحدة ، فإمّا أن يصرفها في «الإزالة» فيرتفع موضوع «الصلاة» ، وإمّا أن يصرفها في «الصلاة» فيرتفع موضوع «الإزالة».

وبهذا يكون المكلف ، إمّا داخلا تحت هذا الموضوع ، أو تحت ذاك الموضوع ، ولا يتصور دخوله تحت الموضوعين معا.

إذن بناء على إمكان الترتب ، لا يقع تعارض بين الخطابين.

وأمّا بناء على عدم إمكان الترتب ، وتطبيق القدرة على مصداقها ، فإنّه حينئذ تقع المعارضة بين الخطابين ، وحينئذ ينبغي أن نطبق قوانين باب التزاحم ، إذ يكون ارتفاع أحد الخطابين حينئذ ، أمرا لا بدّ منه ، وإلّا لزم طلب الضدين المستحيل ، ولهذا كان إمكان الترتب أحد مبادئ باب التزاحم ، لأنّه إذا استحال الترتب استحال جعل الخطابين معا ، إذ إنّ المكلف ليس قادرا إلّا على أحدهما عند ترك الآخر ، فيكون مرجع الخطابين ، كما لو قال : «أزل النجاسة» إذا تركت الصلاة ، «وصلّ» إذا تركت «الإزالة» ، لا أزل على الإطلاق ، ولا «صلّ» على الإطلاق.

ولذلك بناء على هذا ، كان لا بدّ من سقوط أحد الخطابين ، وحينئذ ، يدخل باب التزاحم في كبرى باب التعارض ، ويطبق عليه قوانين باب التعارض.

إذن ، إن نحن قلنا بإمكان الترتب ، فبابه يكون باب التزاحم ، وهو باب مستقل.

وإنّ لم نقل بإمكان الترتب ، يكون باب التزاحم حينئذ ملحقا بباب التعارض.

وهذا البيان كاف لتصور الثمرة.

٤٠٢

إلّا أنّ السيد الخوئي «قده» (١) ، ذكر أن ثمرة بحث الترتب تظهر في فرعين :

أ ـ الفرع الأول : هو فيما إذا تزاحم الواجب المضيّق مع واجب مضيّق ، فإنّه هنا لا إشكال في عدم معقوليّة الأمر العرضي مع الأمر الآخر ، وحينئذ نحتاج في تصحيح أحد الأمرين إلى الأمر الترتبي أو الملاك ، وحيث أنه لا طريق إلى الملاك ، فينحصر بالترتب ويصح أحد الأمرين.

وأمّا بناء على عدم إمكان الترتب ، فإنّه لا يمكن تصحيح العبادة المزاحمة.

ب ـ الفرع الثاني : هو فيما إذا زاحم الواجب الموسّع الواجب المضيّق ، فإنّه حينئذ ، إنّ قلنا بإمكان تعلّق الأمر بالجامع الشامل للفرد المزاحم لا عرضيا ، فلا موجب للترتب كما لو التزمنا بما سلكه المحقق الثاني «قده» ، فإنّه حينئذ لا بأس بتصحيح العبادة المزاحمة دون الالتزام بالأمر الترتبي ، بل يكفي الأمر العرضي.

أمّا إذا التزمنا بعدم معقوليّة الأمر بالجامع الشامل للفرد المزاحم ، بناء على مسلك المحقق النائيني «قده» ، فحينئذ لا يعقل الأمر العرضي بالفرد المزاحم ، وحينئذ نرجع إلى الأمر الترتبي.

وهذا الكلام حوله ثلاث نقاط :

١ ـ النقطة الأولى : هي : إنّه من الأفضل في صياغة ثمرة القول بالترتب ، جعل الثمرة هو ما قلناه ، فيكون بطلان العبادة وصحتها من آثار ونتائج تلك الثمرة ، لأن بطلان العبادة وتصحيحها هو دخول الدليلين في باب التعارض ، وعدم دخولهما فيه ، فيقال : بأنّ ثمرة الترتب هي التي تتكفل ببيان ما إذا كان الدليلان يدخلان في باب التعارض ، أو لا يدخلان.

__________________

(١) محاضرات فياض : ج ٣ ص ٩١ ـ ٩٢ ـ ٩٣.

٤٠٣

فعلى القول بعدم دخول الدليلين في باب التعارض ، تصحّ عباديّة الفرد المزاحم المهم ، كما أنه بناء على عدم إمكان الترتب يدخلان في باب التعارض ، وحينئذ تكون الثمرة عدم صحة عبادية الفرد المزاحم.

إذن فتصحيح العبادة وعدمها يكونان من متفرعات ومظاهر هذه الصياغة التي عرضناها للثمرة.

٢ ـ النقطة الثانية : هي إنّه لا ندري لما ذا ترك السيد الخوئي «قده» النظر إلى مبناه في مسألة اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده ، أو عدم الاقتضاء ، إذ قد صرّح السيد الخوئي «قده» (١) هناك ، بأن القدرة ليست شرطا في موضوع التكاليف ، لا ببرهان العقل ، ولا ببرهان النقل ، حيث ادّعى هناك بأن التكليف عبارة عن اعتبار الفعل في ذمة المكلف ، وهو أمر سهل المئونة ، إذ كما يمكن اعتباره في ذمة القادر ، فكذلك يمكن اعتباره في ذمة العاجز.

وبناء على مقالة السيد الخوئي «قده» هذه ، لم نعد بحاجة إلى الترتب أصلا ، بل عليه نقول حينئذ : بأن الأمر بالضدين معا ، أمر سهل المئونة ، إذ الأمر بالصلاة على إطلاقها ، وبالإزالة على إطلاقها ، ليس أسوأ حالا من أمر المشلول بالحركة فيعقل توجه الأمر نحوه ، لأن خطاب التكليف اعتبار نفساني ، غاية الأمر أن العجز ينشأ من إطلاق الخطابين ، بينما في المشلول العجز ينشأ من إطلاق الخطاب الواحد ، فإطلاق «أزل» وإطلاق «صلّ» ليسا بأسوإ حالا من التكليف بالضدين ، أو المحال ، لأنّ التكليف أمر اعتباري!.

وبهذا يتضح ، أنّ اشتراط القدرة في التكليف من المبادئ التصديقيّة للترتب.

واشتراط القدرة في التكليف ، منوط بنقطة أشير إليها سابقا في التعبّدي والتوصّلي.

__________________

(١) فوائد الأصول : الكاظمي ج ١ ص.

٤٠٤

وحاصلها ، هو : إنّه حتى لو فرضنا أن التكليف هو عبارة عن اعتبار العقل إنّ التكليف على ذمة المكلّف ، لكن مع هذا نقول ، بأنّ الخطاب العرفي المتكفّل لهذا الاعتبار ، كان بداعي الجد والتحريك ، إذ إنّ هذا الاعتبار ، تارة يكون بداعي الجد ، وأخرى يكون بدواع هزليّة وسخرية. وهنا نحن ندعي أن خطاب «صلّ» ، له ظهور في كونه ناشئا من داعي الجد والتحريك ، وهذا المطلب مدلول سياقي ، وإلّا صار كلام الحكيم غير مصان عن الهزل والسخرية واللغو.

فإذا تمّ هذا المدلول ، حينئذ ، يقال : بأنّ هذا المدلول يشترط فيه القدرة لأنه لا يعقل أن يتصدّى المولى لتحريك غير القادر.

نعم لو فرض أن الخطاب مجرد عن هذا المدلول التصديقي ، وبني على الخيال والهزل واللغو في كلام المولى ، فإنّه حينئذ يكون عدم اشتراط القدرة صحيحا.

إذن فالحق إنّ اشتراط القدرة لا محيص عنه ، وينبغي أن يكون اشتراط القدرة أصلا موضوعيا لبحث الترتب.

٣ ـ النقطة الثالثة : هي : إنّ ما أشير إليه من أنّ الترتب لا تظهر ثمرته فيما إذا تزاحم الواجب الموسّع مع المضيّق ، إلّا إذا قلنا بعدم إمكان تعلّق الأمر العرضي بالجامع كما سلكه المحقق «النائيني» «قده» (١) ، ورفضه السيد «الخوئي» «قده» (٢) ، بدعوى أن المحقق النائيني خالف مبناه في كون التقابل بين الإطلاق والتقييد من تقابل العدم والملكة ، حيث أنه إذا استحال التقييد استحال الإطلاق ، فقد قلنا هناك ونكرر هنا : بأن ما أورده السيد الخوئي «قده» على الميرزا «قده» ، كان من خطأ السيد الخوئي «قده» في تطبيق مقصود الميرزا «قده» ، لأن شمول الحكم للفرد المزاحم ، وإطلاقه له ، إنّما هو من

__________________

(١) محاضرات فياض : ج ٣ ص ٥٣ ـ ٦٣ ـ ٦٦.

(٢) فوائد الأصول : الكاظمي ج ١ ص ١٨١ ـ ١٨٢ ـ ١٨٤.

٤٠٥

نتائج عدم التقييد بغير المزاحم ، وهو معقول كالتقييد بغير المزاحم.

وعلى كل حال فقد تقدم منّا مناقشة ما أورده السيد الخوئي «قده» على أستاذه الميرزا «قده» ، وقد تبيّن معنا أن السيد الخوئي «قده» قد أخطأ في تطبيق قاعدة الميرزا «قده» القائلة بكون التقابل بين الإطلاق والتقييد هو من تقابل العدم والملكة فإذا استحال التقييد استحال الإطلاق ، كما أن مسلك المحقق النائيني «قده» من أن اقتضاء الأمر بطبعه يستدعي (١) القدرة ، وحينئذ يستحيل تعلق الأمر بالجامع بين المزاحم وغير المزاحم.

وعليه فلا تظهر الثمرة في هذا الفرع ، وإنّما تظهر الثمرة في مورد مزاحمة المضيّق للمضيق ، فقد عرفت أنّ هذه الثمرة إنّما تكون من آثار وفروع الصيغة التي طرحناها ، كما عرفت أن اقتضاء الأمر بطبعه للقدرة ، لا يستدعي استحالة تعلق الأمر بالجامع بين المزاحم ، وغير المزاحم ، كما سلكه الميرزا «قده» (٢).

وبهذا يتّضح أن ما ينبغي جعله ثمرة للبحث عن إمكان الترتب كما عقدت له الجهة الأولى ، إنّما هو الصياغة العامة التي طرحناها ، وهي دخول الأمر بالمتزاحمين في باب التعارض على القول باستحالة الترتب ، وعدم دخولهما في باب التعارض بناء على القول بإمكان الترتب ، دون الصياغة الثانية التي ذكرها السيد الخوئي «قده» في تصحيح الضد العبادي.

ولكن كلا من الصيغة الأولى العامة التي طرحناها ، والصيغة الثانية التي طرحها السيد الخوئي «قده» ، كل منهما يتوقف على افتراض أصلين موضوعيين لا بدّ من الفراغ عنهما :

أ ـ الأصل الموضوعي الأول : هو كون القدرة شرطا في التكليف وقيدا له ، فلو لم نبن عليه ، وقلنا بأنّ التكليف بغير المقدور معقول ، فإنّه حينئذ لا

__________________

(١) محاضرات فياض : ج ٣ ص ٦٤ ـ ٦٧.

(٢) فوائد الأصول : الكاظمي ج ١ ص ١٨٢.

٤٠٦

تظهر ثمرة ، لا بالصيغة المختارة الأولى ، ولا بصيغة السيد الخوئي «قده» ، لأنه حينئذ لا مانع من الأمر العرضي بالضدين ، بل يكون الأمر بهما معا معقولا ، فلا يدخلان في باب التعارض ، كما أنه يكون الإتيان بكل منهما صحيحا ، ومجزيا ، ومصداقا للواجب ، لأن كلا منهما يكون ذا أمر عرضي فتصح به العبادة.

وحينئذ لا يبقى معنى للبحث في إمكان الترتب وعدمه ، إذ تصح العبادة بالأمرين العرضيّين ، سواء أمكن الترتب ، أو استحال.

ب ـ الأصل الموضوعي الثاني : هو أن لا نقول باقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضده ، لأننا إذا قلنا باقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضده ، فلا تظهر الثمرة في كلتا الصياغتين.

أمّا أنّه لا تظهر الثمرة للصيغة المختارة : فلأنه حينئذ يتعيّن التعارض بين الأمر بالضد مع النهي عنه ، ، سواء قلنا بإمكان الترتب ، أو لم نقل.

لأنّ القول بإمكان الترتب ، إنّما يدفع محذور الأمر بالضدين ، ولا يدفع محذور اجتماع الأمر والنهي في موضوع واحد ، كما أنه لو قلنا بالاقتضاء يكون الضد محرما ، ومعه يستحيل التكليف به ، إذ يلزم اجتماع الحرمة والوجوب في موضوع واحد وهو تعارض.

وأمّا أنّه لا تظهر الثمرة للصيغة الثانية : فلأنّ دليل الأمر يقع طرفا للمعارضة ، ويصبح لزاما علينا تطبيق قوانين التعارض ، وبعد تقديم دليل الإزالة ، حينئذ لا يمكن الالتزام بالأمر بالصلاة ، سواء قلنا بإمكان الترتب أو عدمه ، وذلك لأنها منهي عنها.

إذن فبناء على الاقتضاء لا تظهر الثمرة لكلتا الصيغتين.

والخلاصة : أنه يمكن بيان ثمرة الترتب بأحد تقريبين.

فإمّا أن تبيّن بالتقريب الأول الأعم والأشمل وذلك بأن يقال :

٤٠٧

إنّ بحث إمكان الترتب وامتناعه تكون ثمرته عند ما يتكفّل بيان دخول المتزاحمين في التعارض ، وعدم دخولهما.

فإنّ قيل بعدم إمكان الترتب ، حينئذ يدخل المتزاحمان في باب التعارض ، وإلّا فلا ، ويكون التزاحم بحثا مستقلا.

وإمّا أن تبيّن ثمرة الترتب بالتقريب الثاني الذي طرحه السيد الخوئي «قده» (١) من تصحيح العبادة المضادة للواجب الأهم المضيّق فيما إذا قلنا بالأمر الترتبي ، وإلّا فلا يمكن تصحيح العبادة المضادة للأهم.

والتقريب الأول ، فيه امتيازان عن الثاني :

١ ـ الامتياز الأول : هو أنّ التقريب الثاني الذي طرحه السيد الخوئي «قده» ، من متفرعات التقريب الأول وشئونه ، فالثمرة الحقيقيّة هي ما قيل في التقريب الأول بنحو لا تصح الصيغة الثانية إلّا بتمام التقريب الأول لتفرعها عليه ، وذلك لأنه يوجد فرعان :

أ ـ الفرع الأول : وهو ما إذا زاحم المضيّق مضيقا أهم منه.

ب ـ الفرع الثاني : هو ما إذا زاحم الموسّع في فرد منه آخر مضيق.

والآن نريد أن نطبّق الصيغة الثانية على كل من الفرعين ، لنرى أنه كيف هي في تطبيق الصيغة الأولى.

أمّا تطبيق الصيغة الثانية في الفرع الأول ، وهو ما إذا زاحم مضيّق مضيّقا أهم منه ، فيقال في الصيغة الثانية : إنّ الأمر الترتبي هو الذي يصحّح العبادة المزاحمة للأهم ، ، وهذا التصحيح نشأ من إثبات الأمر الترتبي بخطاب «صلّ» وإثباته إيجابا وسلبا مربوط بأنه ، هل وقع بين الخطابين تعارض ، أو لم يقع؟ فإن قلنا بامتناع الترتب ، فيقع التعارض بينهما ، وبعد تقديم خطاب «أزل

__________________

(١) المصدر السابق.

٤٠٨

النجاسة» على خطاب «صلّ» كما هو المفروض ، حينئذ لا يبقى مجال للتمسك بخطاب «صلّ» ، إذن فلا يبقى أمر ترتبي لتصحيح العبادة المزاحمة.

وأمّا بناء على إمكان الترتب فلا يقع التعارض ، ونتيجة ذلك هو إمكان التمسك بكلا الخطابين لإثبات الأمر الترتبي بالفرد المزاحم ، فتصحّح حينئذ العبادة.

فتصحيح العبادة وبطلانها إذن ، هما أثران فرعيّان عن إمكان دخول الدليلين في باب التعارض ، إثباتا ونفيا.

وأمّا تطبيق الصيغة الثانية في الفرع الثاني ، وهو فيما إذا زاحم الواجب الموسع واجبا مضيقا ببعض أفراده ، فأيضا هنا تكون الصيغة الثانية في طول الصيغة الأولى ، ومتفرعة عنها ، لأنه إن قيل بإمكان الأمر العرضي ومعقولية تعلّقه بالجامع ، كما ذهب إليه المحقق الثاني «قده» ، فحينئذ لا ثمرة في المقام ، إذ من الواضح حينئذ ، أنه لا تعارض بين خطاب «صلّ» ، وخطاب «أزل النجاسة». وعليه ، فلا حاجة إلى الأمر الترتبي لتصحيح العبادة ، بل يكفي الأمر العرضي بالجامع ، إذن فلا ثمرة.

وأمّا إذا قلنا بمقالة المحقق النائيني «قده» ، من أن تعلّق الأمر بالجامع عرضيا غير معقول ، بل الأمر يتعلّق بالمقدور خاصة ، حينئذ ، يكون معنى هذا ، أنّ إطلاق الجامع وشموله للفرد المزاحم عرضيا ، غير معقول ، وحينئذ يقع الكلام بأنه : هل يعقل إطلاق الجامع وشموله للفرد المزاحم طوليا ، أو لا يعقل ذلك؟.

فإنّ قيل : بأنّ إطلاق الجامع وشموله للفرد المزاحم ، غير معقول طوليا ، إذن لزم التعارض حينئذ بين إطلاق الجامع للفرد المزاحم في «صلّ» ، وبين إطلاقه في «أزل النجاسة». وبعد تقديم خطاب «أزل» لتطبيق التعارض ، لا يبقى مجال حينئذ لتصحيح العبادة المزاحمة ، لا بالأمر العرضي ، ولا بالأمر الترتبي.

٤٠٩

وأمّا إذا فرض أن إطلاق الجامع للفرد المزاحم بالأمر الترتبي معقول ، فحينئذ لا تعارض بين إطلاق خطاب «صلّ» ، وخطاب «أزل» ، إذن فتصح عباديّة الفرد المزاحم بالأمر الترتبي.

إذن فتصحيح عباديّة الفرد المزاحم في مورد مزاحمة الموسع للمضيّق ، هو أيضا ، يكون بنكتة دخول الدليلين في باب التعارض ، وعدم دخولهما ، فإن قيل بدخولهما في باب التعارض ، فلا يمكن تصحيح عباديّة الفرد المزاحم ، وإن قيل بعدم دخولهما في باب التعارض فيمكن حينئذ تصحيح عباديّة الفرد المزاحم.

إذن فالصيغة الثانية ، هي دائما تابعة للصيغة الأولى التي طرحناها ، دون الثانية التي طرحها السيد الخوئي «قده».

هذا هو الامتياز الأول للصيغة الأولى على الصيغة الثانية.

٢ ـ الامتياز الثاني للصيغة الأولى على الثانية : هو ، إنّ صياغة الثمرة في الصيغة الثانية ، قد لا تظهر أصلا في حين أنها في الصيغة الأولى ثابتة دائما ، سواء ثبتت في الثانية ، أو لم تثبت ، وذلك كما إذا بنينا على إمكان استكشاف الملاك بالدلالة الالتزامية حتى بعد سقوط الدلالة المطابقيّة بالتعارض بين خطاب «صلّ» وخطاب «أزل النجاسة» ، فإنّه حينئذ بناء عليه ، لا تظهر الثمرة في الصياغة الثانية ، لأنه حينئذ ، لا يتوقف تصحيح عباديّة الفرد المزاحم على الخطاب الترتبي ، بل تصحّح عباديّة الفرد المزاحم على كل حال ، سواء قلنا بإمكان الترتب ، أو لم نقل ، وذلك لكفاية الملاك في عباديّة الفرد المزاحم.

إذن في حين أنّ الثمرة في الصيغة الثانية لا تظهر ، لكنّها في الصيغة الأولى ثابتة وصحيحة ، لأنه بناء على عدم إمكان الترتب يقع التعارض بين الخطابين ، إذ لا بدّ في مقام تشخيص ما هو المجعول من الخطابين من تطبيق قوانين التعارض.

٤١٠

إذن فيرجع إلى قوانين التعارض حينئذ لحل التكاذب بين الطرفين ، وتشخيص ما هو المجعول.

وأمّا بناء على إمكان الترتب ، فلا تعارض في المقام ، لأنّه يمكن العمل بالخطابين معا.

فالنتيجة إذن هي ، إنّه من الأحسن طرح وعرض الثمرة بالصيغة الأولى دون الثانية.

ثمّ إنّ الصيغة الثانية التي عرضها السيد الخوئي «قده» (١) ، هذه الصيغة صرّح فيها بأن المقصود من ثمرة الترتب ، هو تصحيح عباديّة العبادة المضادة «المهم» ، للواجب «الأهم» ، مع أنه كان ينبغي أن يعبّر بأنّ المقصود هو تصحيح الواجب المضاد «المهم» للواجب «الأهم» ، من دون أخذ قيد العباديّة في الواجب «المهم» ، وذلك لأنّ الواجب المزاحم بالأهم ، لو كان غير عبادي ، فأيضا يتوقف تصحيحه على الترتب.

وتوضيح ذلك ، هو : إنّ إجزاء الواجب التوصلي يتوقف على أحد أمرين :

أ ـ الأمر الأول : ثبوت الأمر.

ب ـ الأمر الثاني : هو ثبوت الملاك.

بينما إجزاء الواجب العبادي لا بدّ فيه من كون هذا الواجب ممّا يمكن أن يتقرب به إلى الله تعالى ، ولا يكفي فيه مجرد ثبوت الملاك.

أمّا لو فرض أن كنّا ممّن يقول بإمكان إحراز الملاك في موارد المزاحمة ، كما سلك المحقق الثاني «قده» ، فإنه حينئذ ، ينبغي التفصيل بين الواجب التوصلي والواجب التعبّدي فنقول : بأنه في الواجب التوصلي ، الملاك

__________________

(١) محاضرات فياض : ج ٣ ص ٨٨.

٤١١

موجود فيه ، وهو كاف في الإجزاء بلا ترتب ، وأمّا في الواجب التعبدي ، فإنه وإن كان الملاك موجودا فيه ، لكن لا يمكن التقرب به إلى المولى.

وحينئذ لا بدّ فيه من الترتب ، لتمكين المكلّف في الإتيان به على نحو عبادي.

وأمّا إذا بنينا على عدم إمكان إحراز الملاك إلّا من طريق الأمر ، فحينئذ فكما أن الواجب العبادي لا يصح إلّا بالترتب ، فكذلك الواجب التوصلي المبتلي بالمزاحمة مع الأهم ، هو أيضا يتوقف على الأمر ، لأنه لا يمكن إحراز الملاك فيه إلّا من ناحية الأمر به ، وإنّما نحكم بالإجزاء فيه لو فرض أننا نقول بالأمر الترتبي.

وعليه ، فينبغي إدخال تعديل على الصيغة الثانية لبيان الثمرة فيقال : بأن الثمرة في الصيغة الثانية ، هل تريد أن تصحّح الواجب المبتلي بالمزاحم «الأهم» في الواجب التعبدي ، أو في الواجب التوصلي؟؟

* ٢ ـ الجهة الثانية : ممّا يبحث في الترتب ، هي أنّ الحكمين الشرعيين على أقسام.

إذ تارة يكون أحد الحكمين رافعا لموضوع الحكم الآخر بنفس الجعل.

وثانية : يكون أحد الحكمين رافعا لموضوع الحكم الآخر بفعليّة المجعول.

وثالثة : يكون أحد الحكمين رافعا لموضوع الحكم الآخر بوصول مجعوله.

ورابعة : يكون أحد الحكمين رافعا لموضوع الحكم الآخر بتنجز وصوله ، بما هو منجز ومستتبع عقلا باستحقاق العقاب.

وخامسة : يكون أحد الحكمين رافعا لموضوع الحكم الآخر بالامتثال خارجا.

٤١٢

إذن فخلاصة الجهة الثانية ممّا ينبغي أن تبحث في بحث الترتب هي : إنّ كل خطابين ، سواء أكانا متعارضين أو متنافيين أو لا ، فهما :

إمّا أن يفرض أن أحدهما لا يرفع موضوع الآخر أصلا ، كما في خطاب «صلّ» ، و «صم» ، فإنّهما خطابان لا يرفع أحدهما موضوع الآخر بوجه ، وكذا خطاب «صلّ» و «لا تصلّ» ، ، فإنّهما لا يرفع أحدهما موضوع الآخر.

وإمّا أن يفرض أن أحد الخطابين يرفع موضوع الآخر ، وعلى هذا فهو ، إمّا أن يرفعه بنفس الجعل ، وإمّا أن يرفعه بفعليّة المجعول ، وإمّا أن يرفعه بوصوله ، وإمّا أن يرفعه بتنجزه ، وإمّا أن يرفعه بامتثاله.

وعليه فلا بدّ من ذكر مثال لكل واحد من هذه الأنحاء والأقسام :

١ ـ النحو الأول : وهو أن يكون أحدهما رافعا لموضوع الآخر بنفس الجعل ، ومثاله : لو تمّت أصوله الموضوعية فقهيا ، وذلك كأنصبة الزكاة ، فمثلا ، من كان عنده عشرون من الإبل ، فإنّ فعليّة الزكاة فيها تتوقف على مرور الحول ، فلو فرض أنه بعد مرور ستة أشهر على هذا النصاب ، وجد على رأسها ما جعل هذه الإبل العشرون من نصاب آخر أكبر ، كما لو أنه وجدت خمسة إبل أخرى فصارت خمسة وعشرين ، والآن لو فرض أن بدأنا بنصاب جديد وحول جديد للخمسة وعشرين من أول الشهر السابع ، ولكن كنّا قد بدأنا سابقا بحول للعشرين ، فمعنى هذا أنّ العشرين الأولى قد دخلت في تكوين نصابين سنويين.

ومن الواضح حينئذ ، أن كلا من الزكاتين ليست فعليّة ، لا الأولى ولا الثانية ، لأنّ إحداهما تحتاج إلى ستة أشهر ، والثانية بحاجة إلى سنة حتى تصبح فعليّة ، وحيث أنه لم تمض سنة زكوية عليهما ، إذن فلا يوجد واحدة منهما فعليّة.

ولكن مع هذا توجد قاعدة فقهية مفادها : إنّ العين الزكوية الواحدة لا تدخل في نصابين في عرض واحد ، وبناء عليه ، حينئذ يمتنع دخول العشرين

٤١٣

في كلا النصابين دفعا لمحذور مساهمة العين الواحدة في كلا النصابين في عرض واحد ، وهو غير صحيح.

كما أنه يوجد قاعدة ثانية ، وهي : إنّ المتقدّم من النصابين زمانا ، يحكم على المتأخر زمانا.

فلو أنه تمّت هاتان القاعدتان والأصلان الموضوعيان ، فسوف تكون النتيجة ، هي عدم إمكان احتساب العشرين الأولى جزءا من نصاب آخر في بداية الشهر السابع ، وذلك لدخولها في النصاب السابق حتى تخرج منه.

وهذا مثال لكون أحد الخطابين ، بجعله ، يكون رافعا لموضوع الخطاب الآخر ، لأن خطاب النصاب الأول ، رغم أنه لم يصبح فعليا لعدم تماميّة شروطه ، لكنه ، على تقدير وجوده ، يمنع من تحقق موضوع الخطاب الثاني ، ومعنى هذا أنه رفع موضوع الخطاب الثاني.

٢ ـ النحو الثاني لرفع أحد الخطابين موضوع الآخر : هو أن يكون أحدهما رافعا بفعليّة مجعوله لموضوع الخطاب الثاني ، وذلك ، كما في مورد خطاب وجوب الوفاء بالشرط ، فإنه يرتفع موضوعه إذا فرض وجود خطاب آخر يقتضي حرمة الشرط مع فعليّة الشرط الآخر ، فمثلا : إذا وجد في المقام خطاب الوفاء بالشرط ، وأخذ في موضوعه عدم مخالفته للكتاب أو السنّة يقتضي حرمة الشرط ، فحينئذ بمجرد أن يصبح مجعول خطاب الكتاب أو السنة فعليّا ، فمعناه أنه رفع موضوع خطاب الوفاء بالشرط ، لأن اشتراط أحد المتعاملين أدّى إلى مخالفة الكتاب أو السنة ، وكذلك لو اشترط عليه أن يمشي في أرض معيّنة مباحة ، فإن شرطه ينفذ ، لكن إذا أصبحت الأرض ملكا لشخص آخر لا يسمح له أن يمشي فيها ، فحينئذ إنّ خطاب «يحرم التصرّف في مال الغير إلّا بإذنه» ، مثل هذا الخطاب ، يرفع موضوع خطاب وجوب الوفاء بالشرط ، وهكذا مسألة وجوب الوفاء بالنذر بشرط رجحان العمل المنذور ، فإن أيّ خطاب يجعل موضوع خطاب وجوب الوفاء بالنذر مرجوحا ، يكون رافعا لموضوع خطاب «وجوب الوفاء بالنذر».

٤١٤

٣ ـ النحو الثالث : من أنحاء كون أحد الخطابين رافعا لموضوع الآخر ، هو بالعلم والوصول ، وذلك من قبيل الخطابات الواقعية مع الخطابات الظاهرية ، بناء على أنّ «العلم» الذي أخذ قيدا أو غاية في خطاب «رفع ما لا يعلمون». بناء على أن يكون المراد منه «العلم» بما هو كاشف لا بما هو منجّز ، وإلّا دخل في النحو الرابع ، فإذا كان مأخوذ بما هو كاشف لا بما هو منجز ، حينئذ يكون مثالا لمحل الكلام ، فإنّ الخطاب الواقعي لا يرفع موضوع الخطاب الآخر ، لا يجعله ولا بفعليّة مجعولة ، ولكنّه يرفع موضوع الخطاب الآخر بوصوله ، كما في الخطاب الواقعي في حرمة الإفتاء بلا علم ، فإنّه لا يرتفع موضوع حرمة الفتوى بنفس الخطاب الواقعي وبالجعل ، بل بوصوله ، فلو أفتى بوجوب صلاة الجمعة ، فهذا الإفتاء حرام ، ولكن ترتفع الحرمة هذه ، بوصول الخطاب والعلم.

٤ ـ النحو الرابع : من أنحاء رفع أحد الخطابين لموضوع الآخر هو ، أن يكون أحد الخطابين منجزا ، ومثاله : الخطابات الواقعية مع أدلة الأصول العمليّة ، بناء على كون العلم المأخوذ في موضوعها هو العلم بما هو منجز ، لا بما هو كاشف ، حينئذ يكون يكون الخطاب الواقعي المنجز ، ولو بغير العلم الوجداني ، رافعا لموضوع أدلة الأصول العملية ، وواردا عليها ، ومن أمثلته ، ما يقال في الزكاة ، من اشتراط التمكّن من التصرف خلال العام عقلا وشرعا ، فلو لم يكن متمكنا عقلا من التصرف خلال العام ، وكذلك لم يكن متمكنا شرعا خلال العام ، فإنه لا ينعقد وجوب الزكاة حينئذ بسبب العجز عن التمكن عقلا من تنجز خطاب الزكاة ، كما لو نذر أو وقف هذه العين الزكوية فيتنجز خطاب حرمة التصرف بها ولو بلا علم ، وبهذا يرتفع موضوع دليل وجوب الزكاة ، وهكذا الأحكام المشروطة بالقدرة الشرعيّة ، ـ «وهي وإن كان لها معان» ، ـ لكن نأخذ منها واحدا الآن ، وهو أن يكون المقصود منها وجود معجّز مولوي ، إذ من الواضح أن المعجّز المولوي قوامه تنجز تكليف آخر ، فيقال حينئذ : إنهم اشترطوا في وجوب الوضوء بالماء ، القدرة الشرعية على

٤١٥

التصرف فيه أي : اشترطوا عدم المعجّز المولوي ، وحينئذ ، فلو أنه تنجّز على المكلّف تكليف آخر ينافي مع الوضوء بالماء ، كوجوب بذله لحفظ نفس محترمة ، سواء امتثل أو لم يمتثل ، حينئذ يرتفع موضوع وجوب الوضوء بالماء بسبب تنجّز تكليف وخطاب آخر ، وهكذا يقال في وجوب الحج ، فإنّه مشروط بالقدرة الشرعيّة ، فأيّ تكليف آخر يتنجز عليه ، سيرفع موضوع وجوب الحج ، كما لو تنجّز عليه خطاب إخراج خمس أرباحه التي سيحج بها ، فإن تنجز الخطاب الثاني يرفع موضوع وجوب الحج ، والأمثلة كثيرة على ذلك في الفقه.

٥ ـ النحو الخامس : من أنحاء رفع أحد الخطابين موضوع الخطاب الآخر هو ، أن يكون أحد الخطابين رافعا لموضوع الخطاب الآخر بامتثاله ، وذلك كما في خطاب ، «صم شهر رمضان» ، مع خطاب «وجوب الكفارة على من أفطر» ، فإنه من الواضح أنّ موضوع الكفارة على من أفطر إنّما هو المفطر ، ولكن بامتثال خطاب «صم» وعدم الإفطار ، يرتفع موضوع خطاب الكفارة ووجوب الكفارة. هذا ولا يكفي ما تقدّم من أنحاء للرفع بل بالامتثال خاصة.

والآن في بحث الترتب ما بين المتزاحمين ، يقع الكلام ، في أنه ما هو شأن أحد الخطابين المتزاحمين مع الآخر ، فلو فرض أن وقع بينهما التزاحم باعتبار التضاد بينهما ، ولنفرض أن خطاب «أزل النجاسة» ، أهم من خطاب «صلّ» ، فهل أن خطاب أزل يرفع موضوع خطاب «صلّ» بامتثاله ، أو بوصوله ، أو بتنجزه؟ وحينئذ ، من يقول بإمكان الترتب ، يقول بأن خطاب «أزل» إنّما رفع موضوع خطاب «صلّ» من باب النحو الخامس ، أي : بالامتثال له خارجا ، وذلك لأن خطاب «صلّ» مقيّد بعدم الإتيان «بالإزالة» ترتيبا ، إذ إنّ كلا من الخطابين وإن كان فعليا في حق المكلف ، ولكن بالامتثال يرفع أحدهما موضوع الآخر ، لأن فعليّة خطاب «صلّ» مقيّدة بعدم «الإزالة» والمفروض أن المكلف قد «أزال النجاسة» ، إذن فقد امتثل ، إذن فقد ارتفع بامتثاله فعليّة موضوع خطاب «صلّ» وهذا هو نتيجة القول بإمكان الترتب ، ولهذا يقول

٤١٦

القائلون بإمكان الترتب ، يقولون باجتماع الحكمين الفعليّين المنجّزين معا كما هنا ، فإنه كما أن خطاب «صلّ» فعلي ، فأيضا خطاب «أزل» فعلي ، فإذا لم يمتثل ولم يزل ، فلا يرفع أحدهما الآخر.

وأمّا إذا قلنا باستحالة الترتب ، وقلنا بأنه : لا يمكن اجتماع الأمرين بالضدين ولو ترتبا ، فإنه حينئذ لا بدّ من القول والالتزام بأن أحدهما يرفع موضوع الآخر في مرتبة سابقة على الامتثال ، لئلّا يجتمع الخطابان معا ، وهذه المرتبة هي الرابعة ، أي : كون أحد الخطابين متنجزا ، باعتبار أن المحذور عند القائل بامتناع الترتب هو لزوم تكليف العاجز الذي هو قبيح ، وتكليف بما لا يطاق بحكم العقل ، إذ حينئذ لو كلّف به المولى للزم الأمر بالضدين ، وهو تكليف بما لا يطاق.

ولكن هذا المحذور يرتفع لا محالة ، إذا فرض أنّ أحد الخطابين لم يكن منجّزا على المكلّف ، إذ حينئذ لا يلزم إحراج المكلّف ، وحينئذ لا بأس بالأمر بالضدين ، لأنه إنّما كان يستحيل الأمر بهما إذا كانا متنجزين ، وأمّا إذا كان المتنجز أحدهما دون الآخر ، فلا يلزم إحراج المكلف بذلك.

ومن هنا فالقائل بعدم الترتب لا يأخذ عدم تنجز أحد الحكمين أو تنجزه قيدا ، بل يأخذ عدم وصوله أو فعليته ، بينما الصحيح هو أن يأخذ عدم تنجز الخطاب الأهم قيدا ، وحينئذ بهذا المقدار من أخذ عدم تنجز الأهم قيدا ، يرتفع محذور استحالة الترتب ، كما أنه بذلك يرتفع موضوع الخطاب الآخر ، لأن جعل الأمر بالمهم مقيّدا بعدم تنجز الأهم ، غير ممتنع عقلا.

وعليه يكون إطلاق خطاب المهم الشامل لحالة عدم تنجز الأهم ، يكون غير ساقط ، ولهذا قلنا : بأنّ الخطابين المتزاحمين يكونان من النحو الرابع.

وصفوة القول هي : إنّه في التزاحم لا بدّ من فرض كون أحد الخطابين مقيّدا بقيد ، وهذا القيد يرتفع بالخطاب الآخر.

من هنا فإن القائل بإمكان الترتب ، يقول : بأن الخطاب «بالمهم» مقيّد

٤١٧

بترك الخطاب «بالأهم» ، أي : «الإزالة» ، ويرتفع بالامتثال. والقائلون بامتناع الترتب ، يقولون أنّ الخطاب لا يرفع موضوعه إلّا بتنجز الخطاب الآخر.

فالقيد المعقول بأحد الخطابين هو عدم الامتثال ، بينما المعقول عند القائل بامتناع الترتب ، هو عدم التنجز ، فيكون مورد التزاحم من النحو الخامس ، وبناء على عدم الترتب يكون من النحو الرابع.

وبهذا يتضح ممّا حقّقناه في الجهة الثانية ، أن كلا من القائلين بإمكان الترتب ، وبامتناعه ، كلاهما يلتزم بأن أحد الخطابين المتزاحمين مقيّد.

ولكن القيد المقترح من قبل القائلين بإمكان الترتب ، هو عدم امتثال الخطاب الآخر بعد فرض تنجّزه. أمّا القائلون بامتناع الترتب فإنهم يرون عدم الاكتفاء بذلك ، لأنه يلزم منه الجمع بين الضدين لو لم يمتثل أحدهما ، وإنّما لا بدّ معه أن يكون مقيدا بعدم وصول وتنجز خطاب «أزل» ، لأنه بمجرد وصوله وتنجّزه يرفع خطاب «صلّ» ، فإذا لم يكن خطاب «أزل» واصلا ومنجزا ، حينئذ يكون خطاب «صلّ» فعليا إذن.

وهنا قد يقال : بأننا قد ذكرنا في الجهة الأولى ، أنه بناء على امتناع الترتب يدخل الدليلان في باب التعارض الذي جعلناه ثمرة إمكان الترتب أو امتناعه ، إذن فخطاب «صلّ» و «أزل» متعارضان ، فلا بدّ من معاملتهما معاملة المتعارضين. والمتعارضان ليس البناء فيهما أن يكون الوصول وعدمه كافيا ، بل هما متعارضان بوجودهما الواقعي ، سواء وصلا أو لم يصلا ، ومثاله : خطاب «صلّ» ولا «تغصب» فإنه بناء على اجتماع الأمر والنهي ، ووقوع التعارض بينهما ، يقال : بأن هذين الخطابين متعارضان وصلا أم لا ، تنجزا أم لا ، فمثلا : لو فرض أن إنسانا صلّى في المغصوب صلاة غصبيّة ، ولكنه لا يعلم بأنها غصبيّة ، مثل ذلك لا يقال فيه بأن خطاب «صلّ» فعلي في حقّه وقد صلّى ، بل هنا خطاب «صلّ» ، وخطاب «لا تغصب» متعارضان في تمام مادة الاجتماع بينهما ، وصلا معا ، أو وصل أحدهما ، وكذلك الصلاة في الحمّام ، إن كانت الصلاة محرمة فيه ، فإنه يقع التعارض بينهما ، فإذا قدّمنا خطاب «لا

٤١٨

تصل في الحمّام» على خطاب «صلّ في الحمّام» فليس معنى ذلك أنه لم يعلم بحرمتها ، إذن فلم تصل إليه فيشمله خطاب «صلّ» ، بل لأننا نقول : بأن خطاب «صلّ» مرتفع في تمام الصلاة الحمّاميّة ، سواء أكانت منجزة الحرمة أو لا ، وهكذا الحال في تمام موارد التعارض ، ولا يكفي في فعليّة أحدهما في مادة الاجتماع عدم وصول أحدهما.

وهذا معناه ، أن التعارض بين الخطابين المتعارضين بوجودهما الواقعي ، هو تعارض مستقر.

إذن فلما ذا شذّ محل الكلام عن ذلك؟ رغم أننا قلنا في الجهة الأولى وبناء على امتناع الترتب : بأن خطاب «صلّ وأزل» متعارضان فيما إذا كانت هناك نجاسة واقعا ، ولو لم يعلم بوجودها ، وحينئذ نسأل : أنه لما ذا انحل هنا بتقييد أحد الخطابين بوصول الآخر ، بينما لم ينحل هناك في تمام موارد ثبوت الآخر ، وصل أو لم يصل ، فما الفرق إذن بين المقامين؟

وجوابه هو : إنّ التعارض في موارد أخرى غير التزاحم ، كما في خطاب «صلّ» ، «ولا تغصب» أو «صلّ ولا تصلّ في الحمام» إنّما كان تعارضا بحسب عالم المبادئ الحكم ، لأنّ مصب كلا الحكمين ، أي : «صل ولا تغصب» كان واحدا بناء على امتناع اجتماع الأمر والنهي.

وبناء على وحدة المصب هذه ، يكون التعارض بين الحكمين تعارضا بلحاظ عالم المبادئ ، أي : عالم الإرادة والكراهة ، والمصلحة والمفسدة ، بمعنى أن الفعل الواحد لا يمكن أن يكون فيه مصلحة فعليّة ، ومفسدة فعليّة.

ومن الواضح أن التعارض بين الخطابين في عالم المبادئ ، تابع لواقع المطلب ، لا لعلم المكلّف وجهله.

فكونه يعلم أو يجهل ، لا دخل له في استحكام التعارض ، إذ إنّ حرمة الغصب ، أينما فرضت ، فإنّ فرضها هو فرض وجود مبغوضية ومفسدة فعليّة ،

٤١٩

وكذلك ، فإنّ فرض وجود خطاب «صلّ» هو فرض وجود محبوبيّة ومصلحة فعليّة من ورائه.

إذن فنكتة التعارض بين الخطابين هو عالم المبادئ ، والتعارض في هذا العالم تابع لواقع المطلب ، دون أن يكون للوصول وعدمه دخل في ذلك.

ولهذا كان التعارض واقعيا دائما ، فإنّ الحرمة وإن لم تصل ، ولكنها ثابتة في الواقع ، فيقع التعارض ، لأنّ من وراء الحرمة مبادئ تتنافى مع ملاكات خطاب «صلّ» ، وحينئذ يتعيّن لرفع التعارض أن نرفع اليد عن خطاب «صلّ» بلحاظ تمام الموارد.

وأمّا في مورد التزاحم : فإن قلنا بامتناع الترتب ونشأ التعارض بين الخطابين ، حينئذ لا بدّ من معرفة مركز التعارض ، لأن التعارض بين الخطابين له أحد ثلاثة مراكز :

أ ـ المركز الأول : هو عالم المبادئ.

ب ـ المركز الثاني : هو عالم الامتثال واستحقاق الامتثال ، بحكم العقل.

ج ـ المركز الثالث : هو عالم نفس الحكم ، وما هو مفاد الخطاب مباشرة ، إذ إنّ مفاده مباشرة هو الحكم.

وحينئذ يقال : أمّا مركز التعارض بلحاظ عالم المبادئ ، فإنّه يقال : بأنه هنا لا تعارض بين الخطابين حتى بناء على امتناع الترتب ، لأن خطاب «صلّ» و «أزل» لم ينصبّا على مادة وفعل واحد من قبيل «صلّ ولا تصلّ في الحمّام» بل كل منهما له مصب غير مصب الآخر ، فلا تعارض بينهما ، إذ يمكن كون هذا ذا مصلحة ومحبوبيّة ، وذاك ذا مفسدة ، غاية الأمر أن المكلّف لا يمكنه الجمع بينهما معا.

نعم لو قلنا : بأن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده ، حينئذ يحصل

٤٢٠