بحوث في علم الأصول - ج ٥

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٣

زمن فعليّة الأول ، كما أنك عرفت أيضا فيما سبق ، أنّ موضوع البحث إنّما هو وقوع التزاحم بين واجبين مضيقين متضادين في زمن واحد ، بحيث لو فرضنا مضيّ جزء من ذلك الزمن بنحو تحقق به عصيان الأهم ، كان ذلك موجبا لمضيّ جزء من زمن امتثال المهم أيضا ، بحيث لا يمكن امتثاله بعد ذلك.

وبعبارة أخرى يقال : إنّ هذا غير معقول في نفسه ، بقطع النظر عن اجتماع الأمرين ، لأن الكلام كما عرفت في الواجبين المضيّقين المتضادين اللذين يكون زمان امتثالهما واحدا ، ومعه فزمان العصيان للأهم وزمن امتثال المهم في آن واحد ، فإن فرض أن الأمر بالمهم مشروط بما بعد آن عصيان الأهم ، فهذا معناه ، أننا استثنينا من الدقيقة الآن الأول ، والمفروض أن كلا منهما يحتاج إلى الدقيقة هذه في الآن الأول منها ، فإذا فرض أنه شرط متقدم ، فمعناه أنه احتاج إلى الآن الثاني ، في حين أنه محتاج إلى الآن الأول.

وأمّا النحو الثاني : وهو ما إذا كان عصيان الأهم مأخوذا على نحو الشرط المتأخر ، فلا يرد عليه ما سبق ، باعتبار اجتماع الأمرين حينئذ ، لأن الأمر بالأهم ثابت ، وكذلك الأمر بالمهم ثابت أيضا ، إلّا أن هذا غير معقول ، لأنه يلزم منه القول بالشرط المتأخر والواجب المعلق ، بينما صاحب الإشكال يبني إشكاله على استحالة الشرط المتأخر والواجب المعلّق ، فإنه هنا يستلزم أن يكون الأمر بالمهم متقدما زمانا على زمن عصيان الأهم ، والمفروض أنّ زمن عصيان الأهم هو زمن امتثال المهم أيضا ، وعليه ، فيكون كل من الشرط والواجب في الأمر بالمهم ، متأخرا عنه ، وهو غير معقول.

إذا فالالتزام بأن العصيان شرط متأخر ، وإن كان يحقق نكتة النزاع ، ولكن هذا في نفسه غير معقول ـ كما قلنا ـ لاستلزامه الواجب المعلّق والشرط المتأخر ، أمّا بطلان الشرط المتأخر فواضح ، وأمّا بطلان الواجب المعلّق ، فلتقدم الواجب على الوجوب ، كما عرفت.

وأمّا النحو الثالث : وهو ما إذا كان العصيان مأخوذا على نحو الشرط المقارن ، فهذا أيضا غير معقول ، وهذا مبني على أصل موضوعي ، وهو أن

٤٤١

يكون زمان فعليّة الحكم مع زمان الامتثال واحدا ، وهو غير ممكن ، بل لا بدّ من تقدم زمان الأمر والخطاب على زمان الامتثال.

فإذا قرّر هذا الأصل الموضوعي ، وفرض أن يكونا في زمانين فيقال : إنّ المهم إذا شرط بعصيان الأهم ، فإنه حينئذ يكون زمان حدوث الأمر بالمهم هو زمان عصيان الأمر بالأهم ، وزمان عصيان الأمر بالأهم هو عينه زمان امتثال المهم ، وزمان عصيان الأهم معناه عدم وجود المهم ، وامتثال المهم معناه عدم وجود الأهم ، فإذا كانا متّحدين في الزمان ، وكان زمانهما واحدا ، فإنه حينئذ ينتج ، أن زمان الأمر بالمهم هو عينه زمان امتثال نفسه ، وهذا خلف الأصل الموضوعي ، الذي سنذكر أدلته فيما بعد.

والخلاصة هي : إنّ أخذ العصيان على نحو الشرط المقارن للمهم ، يلزم منه كون الأمر بالمهم مقارنا مع زمان عصيان الأهم ، مع أنّ زمن عصيان الأهم يكون هو عين زمان امتثال المهم. وعليه ، فيكون الأمر بالمهم معاصرا زمانا مع امتثاله ، بل يكون زمان الأمر بالمهم هو نفسه عين زمان امتثاله ، وقد عرفت استحالته لأنه لا بدّ من تقدّم زمن الأمر والخطاب على زمان الامتثال والانبعاث.

والجواب هو : إنّه إذا بنينا على إمكان الشرط المتأخر ، والواجب المعلّق كما هو الصحيح ، فإنه لا يبقى موضوع لهذا الإشكال ، إذ لا أقل من البناء على اختيار النحو الثاني ، بل يمكن اختيار النحو الثالث ولا إشكال ، أمّا النحو الثاني فواضح وأمّا النحو الثالث ، فلأنّ الأصل الموضوعي فيه ـ وهو كون زمان فعليّة الحكم معاصرة بل متحدة مع زمان امتثال الحكم ـ مردود.

وإن بنينا على استحالة الشرط المتأخر ، والواجب المعلّق ، كما سلكه الميرزا «قده» ، فإننا حينئذ نختار النحو الثالث ، وهو كون العصيان مأخوذا على نحو الشرط المقارن ، ثم نتصدى لإنكار ذلك الأصل الموضوعي الذي بنيت عليه استحالة هذا النحو ، ونبيّن بطلانه نقضا وحلا :

٤٤٢

أمّا نقضا : فلأنه لو تمّ هذا الأصل الموضوعي لجرى في سائر التكاليف ، وللزم أن يكون امتثال كل تكليف متأخرا عن زمن توجه الخطاب ، ومعنى هذا هو الالتزام بالواجب المعلّق ، أي : الالتزام بالانفكاك بين زمن الباعث وزمن الانبعاث ، حيث يكون زمان الواجب متأخرا زمانا بنحو الواجب المعلّق ، والمشروط بالشرط المتأخر حيث أن القدرة على الواجب في ظرفه ، شرط للتكليف المتقدم في كل واجب معلّق ، وحينئذ يقال في الجواب إنّ التزمتم بهذا الأصل ، وما يلزم منه في ساير التكاليف ، التزمنا به في مقامنا أيضا.

وقد عرفت أنه لا ضير في استلزام الواجب المعلق للشرط المتأخر ، فلا نعيد.

وأمّا حلا : فنجيب بحل التقريبات التي قرّب بها المحقق الخراساني (١) الأصل الموضوعيّ هذا ، حيث ذكر في «الكفاية» في الواجب المعلق ، أنّ الأمر يكون بداعي جعل الداعي في نفس المكلّف نحو الامتثال وهو بحاجة بل موقوف على تصور وتصديق بالفائدة ودفع الموانع ، إذن فيحتاج إلى زمان ، ومعنى هذا ، أنّ الامتثال متأخر عن توجه الخطاب والأمر.

أو فقل : إنّ امتثال الأمر يكون موقوفا على حصول مبادئه من التصور والتصديق بالفائدة والجزم والعزم ، وهي أمور تحتاج إلى زمان ، فتحققها يستلزم سبق زمانها على زمن الأمر ، إذن فلا بدّ من تأخر الأمر عن تحقق الداعي لامتثاله.

ودفع هذه التقريبات وحلّها هو أن يقال أولا : إنّ هذه المقدمات والمبادئ ، يمكن أن تكون مطوية قبل توجّه الخطاب والأمر ، إذ يمكن أن يحصّلها ضمنيا بمجرد توجه الخطاب ، إذن فلا يحتاج نظره فيها إلى زمن

__________________

(١) كفاية الأصول : مشكيني ج ١ ص ١٦٣ ـ ١٦٤ ـ ١٦٦.

٤٤٣

فاصل ، إذ يمكن تماميّة النظر قبل توجه الخطاب ، فلا يكون الفاصل الزمني بعد توجه الخطاب.

والخلاصة هي : إنّ هذه المبادئ لا يتوقف تحققها على وجود الخطاب وفعليّته ، بل يمكن تماميتها وتحققها قبل فعليته ، وقبل توجهه.

ويقال ثانيا في تقريب هذا الأصل الموضوعي : ما أفاده المحقق النائيني «قده» (١) ، من أن الأمر والخطاب لا بدّ من تقدّمه زمانا على زمن الامتثال ، وإلّا فإذا فرض كونه في ظرف الامتثال المحقق ، فيلزم إمّا تحصيل الحاصل لكون وجود الأمر في زمن الامتثال ، أو طلب المستحيل لكون الامتثال معدوما في زمن الأمر.

وأجيب على ذلك : بأن ثبوت الأمر في زمن وجود الامتثال ، ليس تحصيلا للحاصل ، ولا للمستحيل ، بل هو تحصيل وطلب لشيء يترقّب حصوله بنفس هذا الطلب وهذا التحصيل ، إذن فهو تحصيل لشيء غير حاصل لو لا هذا الطلب وهذا التحصيل ، فهو يحصّل بنفسه ، لا ما يكون حاصلا لو لم يطلب تحصيله.

إذن فطلب الحاصل أو المستحيل ، إنّما يكون ويصدق عند ما يتعلّق هذا الطلب وهذا التحصيل ، بشيء حاصل ، أو ممتنع ، قبل أن يطلب ، بل حتى لو لم يطلب.

ولو صحّ هذا الإشكال ، إذن لصحّ في العلل التكوينيّة ، فإنّ المعلول والخطاب فيها موجودان في زمن وجود العلة ، ودون انفكاك بينهما في الزمان ، ورغم ذلك لا يقال ، بأنه يلزم من هذه المعيّة الزمانيّة بين العلة والمعلول ، أن تكون عليّة العلة لمعلول ، طلبه حاصل تكوينا فهو مستحيل.

وكذلك لو صحّ هذا الإشكال ، لجرى في الشرط المتقدم أيضا على

__________________

(١) فوائد الأصول : الكاظمي ج ١ ص ٢٠٣ ـ ٢٠٥ ـ ٢٠٩.

٤٤٤

تقدير القول به ، فيقال : بأنه إذا بقي الطلب إلى الزمن الثاني الذي هو زمن الامتثال ، إذن يكون بقاؤه تحصيلا للحاصل وطلبا له ، فإن ارتفع الطلب ، فلا يلزم الامتثال أصلا ، وإلّا فيعود الإشكال طرّا.

ويقرّب هذا الأصل الموضوعي ثالثا فيقال : إنّ الخطاب والطلب أسبق رتبة من الامتثال على حدّ سبق العلة لمعلولها ، إذن فلا بدّ من تقدّمه عليه.

وأجيب عن ذلك : بأن أسبقيّة الخطاب على الامتثال ، لو سلّمت بحسب الرتبة ، فهي أسبقية رتبية لا زمانية ، فهي لا تنافي المقارنة والمعيّة من حيث الزمان.

وقد قرّب هذا الأصل الموضوعي رابعا حيث قيل : إنّ ظرف الامتثال هو ظرف سقوط الطلب ، إذ الامتثال علة لسقوط الأمر والطلب ، والمعلول معاصر لعلته زمانا ، إذن فسقوط الطلب موجود في زمان علّته ، ومع وجوده هكذا يستحيل أن يكون بنفسه موجودا في زمان الأمر والطلب ، لاستحالة اجتماع النقيضين ، وهما ثبوت الأمر وسقوطه ، إذن فلا بدّ من فرض ثبوت الطلب في ظرف أسبق من ظرف الامتثال زمانا.

ويجاب عليه بما سنتعرض له في جواب بعض المناقشات الجانبيّة التي سنستعرضها حيث يقال هناك : بأنّ الامتثال ليس موجبا لسقوط الأمر في ظرف وزمن الامتثال ، بل يكون موجبا لسقوط الأمر في طوله.

وبهذا يتضح إنّ لا مسوّغ للإشكال الأول ، ولا للأصل الموضوعي المبني عليه هذا الإشكال.

وعليه فيعقل أن يكون أخذ عصيان الأهم شرطا في التكليف على نحو الشرط المقارن.

وهذا كلّه لو قيل بانحصار الترتب بأخذ العصيان شرطا.

وأمّا لو قيل : بأنّ الترتب يحفظ بأخذ العزم على عصيان الأهم شرطا في

٤٤٥

موضوع المهم ، والعزم على العصيان يختلف عن العصيان ، إذ إنّ اشتراط الأمر بالصلاة بالعزم على عصيان الأهم ، يختلف عن اشتراط الأمر بالصلاة بعصيان الأهم.

فإنك قد عرفت أن أخذ عصيان الأهم شرطا في موضوع المهم على نحو الشرط المتقدم ، يستوجب خروج الفرض عن محل الكلام ، إذ لو تقدّم لسقط الأمر بالأهم.

وأمّا أخذ العزم على العصيان شرطا في موضوع المهم ، فإنّه لا يلزم منه ذلك.

وكذلك عرفت أن أخذ نفس العصيان على نحو الشرط المقارن ، كان يلزم منه كون الامتثال والخطاب في زمان واحد ، وأمّا أخذ العزم على العصيان على نحو الشرط المقارن ، لا يلزم فيه وحدة الزمن بينهما.

وهكذا فإنّ جملة من الإشكالات الواردة على أخذ عصيان الأهم شرطا في موضوع المهم لا ترد على أخذ العزم على عصيان الأهم شرطا في موضوع المهم.

٢ ـ الإشكال الثاني : من الإشكالات الجانبية ، هو : أنّ القاعدة التي بنى عليها الميرزا «قده» التلازم بين استحالة الإطلاق لاستحالة التقييد هي : إنّ التقابل بينهما من تقابل العدم والملكة ، وهذه القاعدة تقتضي امتناع الترتب ، وقد يقرّب هذا الامتناع بأحد بيانين :

١ ـ البيان الأول : هو إنّنا إذا بنينا على مسلك الميرزا «قده» من أنّ التقابل بين التقييد والإطلاق تقابل العدم والملكة ، وباستحالة أحدهما يستحيل الآخر ، فكما أنّ إطلاق الأمر بالمهم وشموله لحالتي عصيان الأمر بالأهم وامتثاله مستحيل لأنه يلزم منه طلب الضدين في عرض واحد ، فكذلك تقييده بعصيان الأهم أيضا مستحيل ، للتقابل بينهما تقابل العدم والملكة.

وحينئذ على أساس هذا المسلك يقال : إنّ ما يحتاجه القائل بالترتب في

٤٤٦

المقام من التقييد ، إنّما هو تقييد الأمر بالمهم بعصيان الأمر بالأهم ، ويقابله الإطلاق ، بمعنى رفض أخذ العصيان قيدا في موضوع الأمر بالمهم ، وكون العصيان غير دخيل في موضوع الأمر بالمهم ، أي : غير دخيل في موضوع الحكم ، وأحد هذين المتقابلين ، وهو الإطلاق ، مستحيل في المقام ، لأنّ عدم أخذه قيدا في موضوع الحكم ، ورفض كونه قيدا له ، معناه : إسراء الأمر بالمهم إلى حالة عدم عصيان الأمر بالأهم ، لأنّ العصيان إذا لم يكن قيدا ، فلا بدّ من أن يثبت الحكم في حال عدمه ، لأنه ليس قيدا ، إذن فيكون الأمر بالمهم ثابتا في حال عدم العصيان ، وهذا غير معقول ، إذ إنّه إذا استحال الإطلاق ، استحال التقييد بالعصيان الذي يحتاجه القائل بالترتب.

وهذا البيان غير صحيح ، ونجيب عليه نقضا وحلا :

أمّا الجواب نقضا : فباعتبار أن هذا البيان يمكن إسراؤه في كل حكم وأمر ، إذ إنّ كلّ أمر يقال فيه : بأنّه إمّا أن يكون مقيّدا بالقدرة أو مطلقا ، يعني : إنّ المولى إمّا أن يأخذ القدرة قيدا في التكليف ، وهو معنى التقييد ، أو لا يأخذ القدرة قيدا في موضوع أمره وحكمه ، وهو معنى الإطلاق ، والمفروض أن الإطلاق غير معقول ، لأن معناه شمول الحكم لغير القادر أيضا ، وهو غير معقول ، وإذا امتنع الإطلاق الذي هو أحد المتقابلين امتنع مقابله ، وهو التقييد أي : تقييد التكاليف بالقادر ، وعلى هذا الأساس ، إذن ينسد باب التشريع نهائيا ، لأنه لا يعود بالإمكان توجيه أيّ خطاب للمكلف مشروط بالقدرة ، لامتناع التقييد بسبب امتناع الإطلاق.

وأمّا الجواب حلا ، هو إنّه لو سلمنا بمسلك الميرزا «قده» بأنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد ، هو تقابل العدم والملكة ، لكن ما يستدعيه هذا التسليم هو أنه إذا امتنع التقييد امتنع الإطلاق ، لا إذا امتنع الإطلاق امتنع التقييد ، إذن فالملازمة في الامتناع تكون من طرف التقييد ، لا الإطلاق.

والنكتة في ذلك هي : إنّ الإطلاق والتقييد إذا كان تقابلهما تقابل العدم والملكة ، فالعدم هو الإطلاق ، والتقييد هو الوجود ، لأنّ الوجه في هذا التقابل

٤٤٧

هو كون المورد قابلا للملكة التي هي الوجود ، كي يكون عدمها مقابلا لذلك الوجود ، أو فقل : إنّ العدم في موارد تقابل العدم والملكة يكون بمعنى عدم التقييد في الموضع القابل للتقييد ، فيكون الإطلاق معناه ، عدم التقييد حيث يكون هناك قابلية التقييد ، فإذا امتنع التقييد امتنع الإطلاق ، وليس إذا امتنع الإطلاق امتنع التقييد ، لأنّ التقييد لم يؤخذ فيه قابليّة مقابلة ، فإنّ قابليّة المقابل إنّما تؤخذ في طرف العدم ، لا في طرف الوجود ، فمثلا : «العمى والبصر» متقابلان تقابل العدم والملكة ، فالأمر الوجودي هو «البصر» ، والأمر العدمي هو «العمى» ، لكن العمى هو عدم البصر في الموضع القابل للبصر ، فلا يقال للحجر : أعمى ، لأنه ليس قابلا للبصر ، إذ إنّه إذا امتنع البصر امتنع العمى كما في «الحجر» ، لا إنّه إذا امتنع العمى امتنع البصر ، كما هو الحال في «الباري عزوجل» إذ شأن كماله المطلق أن يمتنع فيه «العمى» ، إلّا أنّ امتناع العمى لا يلزم منه امتناع البصر في حقه تعالى ، كيف؟ وهو البصير بعباده.

إذن فتقابل العدم والملكة يستدعي الملازم من ذاك الطرف ، بمعنى أنه متى استحال التقييد استحال الإطلاق ، لأنّ قابليّة التقييد مأخوذة في الإطلاق ، لا إنّه متى استحال الإطلاق استحال التقييد ، إذن فالمستحيل في المقام هو الإطلاق ، لا التقييد.

وعليه ، ففي المقام ، استحالة الإطلاق لا تنفع في إثبات استحالة التقييد ، أي : إنّها لا تنفع في إثبات استحالة الأمر بالمهم مقيّدا بعصيان الأهم.

٢ ـ البيان الثاني : للاستفادة من مسلك الميرزا «قده» لإثبات امتناع الترتب هو أن يقال : إنّه عندنا في المقام تقييد وإطلاق مقابل له ، فالتقييد هو التقييد بفرض امتثال الأمر بالأهم ، لا بعصيان الأمر بالأهم ، بل بفرض امتثال الأمر بالأهم ، ويقابله الإطلاق ، بمعنى عدم التقييد بامتثال الأمر بالأهم ، أي : إنّ امتثال الأمر بالأهم ، يسقط عن القيدية ، ويرفض قيديته في موضوع

٤٤٨

الحكم ، وحينئذ فالمولى إمّا أن يأخذ امتثال الأمر بالأهم ، لا عصيانه قيدا ، وإمّا أن يرفض قيديّة الامتثال ، فيقول لا دخل له في حساب هذا الأمر ، إذن فذاك تقييد وهذا إطلاق.

ولا إشكال هنا في أن التقييد مستحيل ، والاستحالة هنا تنصب على التقييد ابتداء ، لا على الإطلاق كما هو الحال في البيان السابق ، فإن التقييد هنا تقييد للأمر بالمهم بصورة امتثال الأمر بالأهم.

وهذا غير معقول ، لأنه تقييد بالعجز بحسب الحقيقة ، إذ إن فرض امتثال الأمر بالأهم ، هو فرض العجز عن إتيانه ، وإذا استحال هذا التقييد استحال الإطلاق المقابل له أيضا.

فاستحالة الإطلاق هنا بمعنى عدم أخذ هذا الامتثال قيدا ، ورفض قيديّته ، فكما كان يستحيل أن نقيّد الأمر بالمهم بامتثال الأمر بالأهم ، فكذلك هنا يستحيل أن نرفض قيديّة امتثال الأمر بالأهم للأمر بالمهم ، لأنه إذا استحال التقييد استحال الإطلاق ، وهذا الإطلاق ضروري للقائل بالترتب لأن ثبوت الأمر بالمهم في فرض عصيان الأمر بالأهم ، وعدم امتثاله يتوقف على أن يكون امتثال الأمر بالأهم قيدا كما هو واضح ، إذ لو كان امتثال الأمر بالأهم ، قيدا في موضوع الأمر بالمهم ، إذن لما سرى الأمر بالمهم إلى حال عدم امتثال الأمر بالأهم.

فسريان الأمر بالمهم ، وثبوت خطابه في فرض عدم امتثال الأمر بالأهم ، يتوقف على كسر قيدية امتثال الأمر بالأهم ، ورفض قيديته ، وقد فرضنا أنّ رفض قيديّة الامتثال أمر مستحيل ، إذن فثبوت الأمر بالمهم في فرض عدم امتثال الأمر بالأهم ، يكون مستحيلا.

فخلاصة البيان الثاني هي : إنّ تقييد الأمر بالمهم بحالة امتثال الأهم ، مستحيل ، لأنه من التكليف بغير المقدور ، فيكون الإطلاق بمعنى رفض هذا القيد المستتبع لشمول الأمر بالمهم لحالة عدم امتثال الأهم ، هو أيضا

٤٤٩

مستحيل ، لأنه إذا استحال التقييد استحال الإطلاق.

وقد عرفت أن القائل بالترتب يريد إثبات الأمر بالمهم في حال عدم امتثال الأمر بالأهم ، وبهذه القاعدة يثبت استحالة ثبوته فيه.

وهذا البيان يفضل البيان السابق بهذا اللحاظ ، وهو أنّه هنا التزم بالانطلاق من التقييد ، فكان التقييد مستحيلا فرتب عليه استحالة الإطلاق.

وهذا البيان أيضا يجاب عليه نقضا وحلا :

أمّا النقض فهو أن يقال : إنّ كل أمر وتكليف يتصوّر في العالم يكون تقييده بحالة العجز عن متعلقه مستحيل ، كما هو واضح ، إذن فيكون إطلاقه بمعنى عدم أخذ العجز قيدا ، المستلزم لثبوته في حق القادر ، مستحيلا أيضا ، لأنه حينئذ يقال : بأن ثبوت هذا الأمر في حال عدم العجز يتوقف على رفض قيديّة العجز ، إذ لو لم نرفض قيديّة العجز ، إذن لعلّه لا يثبت هنا عجز ، وقد فرضنا أن رفض قيديّة العجز مستحيل ، إذن فثبوت الأمر من دون عجز مستحيل ، وبناء عليه لا يعقل تشريع في الدنيا أصلا.

وإن شئت قلت : إنّه ينقض على هذا التقريب أيضا بجميع التكاليف والأوامر ، إذ إنّ تقييدها بحالة العجز مستحيل ، إذن فيكون إطلاقها المستلزم لثبوتها في حق القادر مستحيلا أيضا ، ومعنى هذا ، أنه لا يعقل ثبوت تشريع وتكليف في الدنيا ، لا في حق العاجز ، ولا في حق القادر.

وأمّا ما يجاب به حلا هو أن يقال : إن ثبوت الحكم والأمر على حالة وحصة يكون له أحد طريقين :

أ ـ الطريق الأول : هو رفض دخل الخصوصية المقابلة ، وحينئذ يثبت الحكم لهذه الحصة ثبوتا إطلاقيا ، فمثلا إذا أريد إثبات الحكم بحرمة قتل الإنسان الفاسق أيضا لغير العادل ، حيث يحرم قتل الإنسان فاسقا أم عادلا ، فثبوت هذه الحرمة للفاسق يكون بعدم إلغاء قيديّة الخصوصية المقابلة ، وهي خصوصية العدالة فيقال : إنّ العدالة ليست دخيلة في موضوع الحكم بالحرمة ،

٤٥٠

ومقتضى ذلك هو ، أنّ الحكم بالحرمة يسري إلى حالات فقد العدالة أيضا التي هي حالات عدم العدالة ، وبذلك يثبت المطلوب.

ب ـ الطريق الثاني : لإثبات الحكم لحصة ، هو أخذ خصوصية تلك الحصة قيدا في موضوع الحكم ، فمثلا في المثل السابق لو أخذ قيد الفسق في موضوع الحكم بحرمة إكرام الفاسق ، فهنا الحرمة تثبت للفاسق ، لا من باب إلغاء قيد العدالة بل من باب أخذ قيد الفسق ، وهو ثبوت اختصاصي ، لا إطلاقي ، إذ ثبوت الحكم لحصة ، تارة يكون ثبوتا إطلاقيا ، وأخرى يكون ثبوتا اختصاصيا ، إذن فالثبوت الإطلاقي لحصة ، يكون من شئون رفض قيديّة الخصوصية المقابلة ، والثبوت الاختصاصي لحصة ، يكون من شئون أخذ خصوصية تلك الحصة في موضوع الحكم.

وحينئذ في محل الكلام نقول : إنّنا نريد إثبات الأمر بالمهم ، في صورة وفرض عدم امتثال الأمر بالأهم وعصيانه ، لكن بنحو الثبوت الاختصاصي ، لا الإطلاقي ، إذن فلا نحتاج في هذا الثبوت إلى رفض قيديّة امتثال الأمر بالأهم ليقال إنّ هذا الرفض مستحيل ، ذلك لأنه إطلاق يقابل تقييدا مستحيلا ، وكل إطلاق يقابل تقييدا مستحيلا ، يستحيل باستحالة ذلك التقييد ، بل هنا يكون ثبوت الحكم والأمر بالمهم في فرض عصيان الأمر بالأهم ، وذلك بأخذ العصيان قيدا ، لا بإلغاء قيديّة الامتثال ، وهذا كاف في التوصل إلى المطلوب ، وممكن في نفسه ، وبناء عليه يكون الترتب معقولا.

والخلاصة هي : إنّ ثبوت الحكم والأمر في مورد ، تارة يكون ثبوتا إطلاقيا بمعنى عدم التقييد بالخصوصية المقابلة المفقودة في ذلك المورد ، وأخرى يكون ثبوتا تخصيصيّا بمعنى أخذ المورد وخصوصيته قيدا في الحكم ، وحينئذ يقال : إنّ ما يكون استحالة التقييد فيه موجبا لاستحالة الإطلاق ، إنّما هو الثبوت بالنحو الأول ، أي : الثبوت الإطلاقي المقابل للتقييد تقابل العدم والملكة ، وأمّا الثبوت التخصيصي كما في النحو الثاني ، فإنّه لا يكون تقابله مع التقييد تقابل العدم والملكة ، بل يكون من باب تقابل الضدين والتقييدين ،

٤٥١

وفيه لا يلزم من استحالة أحدهما استحالة الآخر.

٣ ـ الإشكال الثالث : من الإشكالات الجانبية هو أن يقال : إنّ كون عصيان الأمر بالأهم شرطا للأمر بالمهم ، إن أخذ شرطا على نحو الشرط المتقدم ، أو المتأخر ، فقد عرفت أنه غير معقول ، لما تقدم فيهما من محاذير تقدمت في الإشكال الأول من هذه الإشكالات ، وإن أخذ العصيان شرطا على نحو الشرط المقارن ، فقد تقدم وعرفت أيضا أنه يلزم منه عدم اجتماع الأمرين الترتبيين في زمان واحد ، مع أنّ الفرضية المبحوث عن إمكانها هي تصوير اجتماع الأمرين بالمهم وبالأهم ، وقد عرفت أنهما لا يجتمعان ، لأن عصيان الأمر بالأهم علة لسقوط الأمر به ، والعلة معاصرة مع المعلول زمانا ، إذن فيكون ثبوت الأمر بالمهم فعليا في ظرف عدم وجود الأمر بالأهم بعد سقوطه بالعصيان.

وهو كما تراه ، فإنّه خارج عن فرضيّة القائل بالترتب ، إذ يقول : بإمكان اجتماع أمرين فعليين بالضدين في زمان واحد بنحو الترتب ، هذا خلاصة الإشكال الثالث.

وجواب هذا الإشكال هو : إنّه رغم منع استحالة الشرط المتأخر ، فإنّ أخذه بنحو الشرط المقارن يفي بمقصود القائل بالترتب عند اجتماع أمرين فعليين بالضدين.

وتوضيح ذلك ، هو إنّه لا ملزم عقلي لكون العصيان بعنوانه علة لسقوط الأمر ، وإنّما المسقط للأمر هو العجز عن الانبعاث واستيفاء ملاك الأمر ، إذ إنّ المكلّف يسقط عنه الأمر عند فقد قدرته لا محالة ، والعصيان هو إعمال القدرة في طرف الترك ، إذن فظرف العصيان يستحيل أن يكون هو ظرف العجز ، إذ الامتثال والعصيان شكلان ، فإنّ المكلف تارة يعمل قدرته في طرف الفعل فهذا امتثال ، وأخرى يعمل قدرته في طرف الترك فهذا عصيان ، إذن فظرف العصيان هو ظرف إعمال القدرة ، وعليه فيستحيل أن يكون ظرفه ظرف العجز ، وقد تقدم أن الطولية لا ترفع محذور اجتماع الضدين ، والقدرة والعجز

٤٥٢

متضادان ، لأن ظرف العجز هو الآن الثاني ، والأمر بالأهم يسقط في الآن الثاني ، بينما الأمر بالأهم موجود في الآن الأول ، ولا موجب لسقوطه ، إذن فيجتمع الأمران لأنهما فعليّين.

وإن شئت قلت : إنّ العصيان ليس علة لسقوط الأمر ، وإنّما العلة لسقوطه إنّما هو العجز عن ـ امتثال التكليف : إذن فظرف العصيان ليس هو ظرف العجز ، إذ العصيان هو إعمال القدرة في الترك ، وظرف إعمال القدرة هو ظرف القدرة ، إذن يستحيل أن يكون ظرف العصيان هو ظرف العجز ، لاستحالة اجتماع الضدين في زمان واحد ، ولو كانا في رتبتين.

وبهذا يتّضح أنه في ظرف العصيان يكون الأمر باقيا على موضوعه ، وغير ساقط ، ولكنه يسقط بعد العجز الذي يكون في طول العصيان زمانا ، وأمّا الامتثال فإنّه يعني إعمال القدرة في ظرف الفعل ، فيكون في ظرفه موجودا غير ساقط.

وبهذا يجاب على الإشكال الأول عند ما ادّعي فيه أنه : يلزم تقدم الأمر على الامتثال زمانا بدعوى أن الامتثال علة لسقوط الأمر ، والعلة معاصرة زمانا للمعلول ، مع أنه لا يمكن أن يكون زمان فعلية الأمر هو زمان الامتثال ، فالإشكال مندفع أيضا.

ثم أنه قد بقيت تتمة للإشكال الأول الجانبي حيث أننا تصورنا فيه أنّ العصيان سواء أخذ على نحو الشرط المتقدم ، أو المقارن ، أو المتأخر ، فإنه في كل هذه الأنحاء يواجه مشكلة قد عرفتها فيما تقدّم. هذا كله فيما إذا كان الشرط هو العصيان ، وأمّا إذا فرض أخذ العزم على العصيان شرطا في فعلية الأمر بالمهم ، فيكون حينئذ من باب الشرط المتقدم أو المقارن ، وبذلك قد تهون المشكلة.

وقد علّق كل من المحقق الأصفهاني والنائيني «قده» على ذلك ، وكان

٤٥٣

حاصل ما علقه المحقق الأصفهاني (١) هو : إنّ أخذ العزم على عصيان الأمر بالأهم شرطا في فعلية الأمر بالمهم ، يلزم منه محذور الواجب المعلّق مضافا إلى محذور الشرط المتقدم.

وتوضيح ذلك ، هو : إنّ الأمر بالمهم إنّ كان في زمن العزم على العصيان المتقدم على زمان العصيان نفسه ، إذن نقع في محذور الواجب المعلّق ، لأن زمان الواجب المهم إنّما هو زمان العصيان المتأخر بحسب الفرض عن زمان العزم على العصيان ، فإذا كان زمان العزم على العصيان هو زمان الأمر بالمهم ، إذن فهو الواجب المعلّق ، وإن فرض أن زمانه زمان العصيان المتأخر عن زمان العزم ، إذن وقع محذور الشرط المتقدم ، لأن العزم متقدم زمانا على الوجوب «المهم» المشروط : وإن فرض أن زمان الوجوب المشروط يحدث وسطا بين زمان العزم وزمان العصيان ، إذن لزم المحذوران معا.

وجوابنا هو : إنّ الوجوب الترتبي لا يعقل تصوره من دون أن تفترضه مشروطا بالعزم الثابت على العصيان ، في آن العصيان لا مطلق العزم ، إذ لا يكفي آن ما قبل العصيان ، لأنه قد يرتفع هذا العزم «بالبداء» ومع الارتفاع يحصل التصادم بين الأمرين بالضدين ، «الأهم والمهم» ، ولا يكفي في ارتفاع التصادم بين المهم والأهم ، كون المهم مشروطا «بالعزم» قبل آن العصيان ، إذ معناه إطلاق العزم لفرض ما إذا حدث عنده «بداء» على ترك عصيان الأمر بالأهم ، ومعنى ذلك ، أنه يكون الأمر بالمهم فعليّا حتى مع «البداء» وتبدل العزم ، وحينئذ تحصل المنافاة والمطاردة بين الأمرين بالضدين ، إذن فلا بدّ معه من كون الأمر بالمهم مشروطا بالعزم الثابت على عصيان الأهم ، حال عصيان الأهم ، وآن عصيانه ، وحينئذ إن أخذ العزم شرطا مقارنا ، فلا يلزم شيء ممّا ذكر من الإشكالات.

__________________

(١) نهاية الدراية : ج ٢ من المجلد الأول ص ٢٤ ـ المطبعة العلمية بقم.

٤٥٤

ولكن التحقيق هو أنّ العزم على العصيان في حال وآن العصيان ، هو كنفس العصيان ، فإمّا أن يؤخذ بنحو الشرط المقارن للأمر بالمهم من حينه ، أو بنحو الشرط المتأخر للأمر بالمهم من قبل.

وبهذا يظهر أن لا مكسب في تبديل الشرط والانتقال من شرطية العصيان إلى شرطية العزم على العصيان ، لأن العزم على العصيان ، هو كالعصيان فما جرى فيه يجري فيه.

وأمّا ما علق به المحقق النائيني (١) على فكرة أخذ العزم على عصيان الأهم شرطا في موضوع المهم ، فمجمله هو : إنّه إذا كانت فكرة أخذ العصيان سيئة ، فإنّ فكرة أخذ العزم على العصيان تكون أسوأ ، فإنّها سوف تعمّق من محذور الاستحالة ، وترفع ببرهان إمكان الترتب إلى حد الاستحالة ، بينما كانت مسألة المنافاة والمطاردة بين الأمرين بالضدين المهم والأهم ، ممكنة الاندفاع عند أخذ العصيان شرطا ، إذن فأخذ العزم شرطا يعمّق الإشكال.

وتوضيح ما قرّب به ذلك يتوقّف على استحضار وأفكار الميرزا «قده» في إمكان إثبات الترتب ، فنذكر مجمل أفكاره هذه حيث يدّعي الميرزا «قده» أنّ الميزان في اندفاع المزاحمة والمصادمة بين الأهم والمهم ، والذي به يمكن تعقل إمكان الترتب ، هو كون الأمر بالأهم يقتضي بذاته انهدام موضوع الأمر بالمهم وطرده ، وهذا يتمّ فيما إذا فرض أنّ موضوع المهم كان هو عصيان الأهم ، إذ إنّ الأمر بالأهم يقتضي بذاته طرد وهدم عصيان نفسه ، وقد فرضنا أنّ عصيان نفسه هو موضوع الأمر بالمهم ، إذن فمقتضى الأمر بالأهم هدم موضوع المهم ، ومعه يستحيل التزاحم بينهما للطولية الحاصلة بذلك.

فالخلاصة : إنّ الميزان الذي تعقّلنا به إمكان الترتب ، يقتضي كون عصيان الأمر بالأهم ممّا يترتب عليه فعليّة الأمر بالمهم ، ولا يكفي في دفع

__________________

(١) فوائد الأصول : الكاظمي : ج ١ ص ٢١٦ ـ ٢٣٨ أجود التقريرات الخوئي : ج ١ ص ٣٠٦.

٤٥٥

المحذور أخذ العزم على عصيان الأهم في موضوع الأمر بالمهم ، إذ إنّ تلك النكتة عينها وهي كون موضوع المهم هو عصيان الأهم ، وحينئذ فإنّ مجرد الأمر بالأهم يقتضي بذاته هدم وطرد عصيان نفسه أولا وبالذات ، ومع عدم طرد العصيان يصبح الأمر بالمهم فعليا ، وبه يرتفع محذور المنافاة والمطاردة بين الأمرين بالضدين للطولية بينهما حينئذ.

أمّا لو أخذ «العزم» على عصيان الأهم شرطا في موضوع المهم ، أو فقل بالتعبير السلبي ، لو أخذ في موضوع المهم عدم البناء ـ الذي هو «العزم» ـ على امتثال الأهم ، فإنّ هذا لا يقتضي بذاته طرد وهدم الأمر بالمهم ، لأنّ الأمر بالأهم إنّما يقتضي طرد نقيض متعلّقه الذي هو العصيان ، وإيجاد ذات متعلقه وهو ذات الفعل الأهم ، ونقيض متعلّق الأهم هو «العصيان» دون «العزم» ، إذ إنّ الأهم لا يقتضي بذاته طرد وهدم «العزم» على عصيان الأهم أي : «العزم» على تركه ، وإلّا فإنّه لو أخذ «العزم» على «العصيان» شرطا في موضوع المهم ، فإنّه حينئذ ، يفقد الترتّب نكتته المستدعية لإمكانه ، إذ لعلّ المكلّف «يعزم» على عصيان الأهم ولكنه «يبدو له» فلا يعصيه ، فإنّه حينئذ لا يكون الأمر بالمهم فعليا.

وما ذكره المحقق الميرزا «قده» غير صحيح ، وفيه مواقع للنظر :

١ ـ الموقع الأول : هو إنّ الأمر بالأهم لا يكون مقتضيا للفعل أو للترك ابتداء ، كما هو الحال في المقتضيات التكوينية ، فإنّه فيها الأمر كما ذكر ، فإننا عند ما نجر شخصا بيدنا لنجعله يمشي ، فإنّ يدنا مقتضيا تكوينيا لمشي الشخص.

لكن الأمر في محل الكلام ليس كما ذكر ، فإنّ الأمر بالأهم في المقام ، إنّما يكون محركا لإرادة المكلّف ، وباعثا وداعيا في نفسه ، إذن مقتضاه الأول هو إيجاد الداعي ، والعزم على إيقاع الفعل ، وعدم إيقاع الترك ، بمعنى أنّ مقتضاه طرد عدم العزم على إيجاد متعلقه ، أو طرد العزم على عصيان متعلقه ، أولا وبالذات.

٤٥٦

إذن فدعوى أنّ ما يقتضيه الأمر بالأهم بذاته هو ذات الفعل والمتعلق ، إنّما هو قياس للأمر على المقتضيات التكوينيّة ، بل إنّ ما هو مقتضى الأمر الأولي ، إنّما هو اختيار الإنسان.

وعليه فيمكن القول : إنّ الأمر بذاته يتطلب «بناء العزم» على الامتثال.

٢ ـ الموقع الثاني : هو أن ما أشار إليه السيد الخوئي «قده» (١) من أن هذا المطلب ، وهو أخذ العزم شرطا ، لا يتم إذا كان الأهم عباديا ، بحيث تكون الإرادة والاختيار دخيلة ومأخوذة في الواجب العبادي الأهم.

وحاصله ، هو : إنّنا لو سلّمنا ـ قطع النظر عن الأول ـ وفرضنا أنّ الأوامر التوصليّة ، لا تقتضي إلّا إتيان متعلقها ، فكل أمر لا يقتضي إلّا إيجاد متعلقه ، وطرد نقيض متعلقه ، حينئذ نقول :

إنّ العزم والإرادة جزء المتعلّق في باب العبادات ، إذن فيكون الأمر مقتضيا «للعزم».

بل يمكن أن نسلك ما سلكه الميرزا «قده» (٢) من أنّ الاختيار دائما يكون قيدا في متعلق الأمر ، لأنّ التكليف يقتضي بطبعه تخصيص متعلقه بالحصة الاختيارية.

وعليه ، فيكون الأمر مقتضيا بذاته «للعزم» والاختيار ، وطاردا ذلك حتى في الواجبات التوصليّة.

٣ ـ الموقع الثالث : وهو الأساس في الجواب ، وهو : إنّ نكتة إمكان الترتب لا تتوقف على كون الأمر بالأهم مقتضيا بذاته لطرد موضوع الأمر بالمهم ، وإنّما نكتة إمكان الترتب محفوظة بمجرد صدق اقتضاء الأمر بالأهم ، أمرا يساوق طرد موضوع الأمر بالمهم ، أو يقتضي إيجاد شيء ينافر المهم ،

__________________

(١) محاضرات فياض : ج ٣ ص ١٥٠.

(٢) فوائد الأصول : ج ١ ص ٢٢٤.

٤٥٧

سواء أكانت هذه المساوقة عينيّة بحيث أن الأهم يقتضي شيئا هو بعينه موضوع الأمر بالمهم ، حتى كما في اجتماع الضدين معا في الخارج ، أو ملازم له بحيث لا يتصور الانفكاك بينهما.

إذن فنكتة إمكان الترتب هي أن يكون الأمر بالأهم مقتضيا لإيجاد شيء ينافر موضوع الأمر بالمهم ، وهو محفوظ على كل حال.

فلو فرض أخذ العزم على عدم الإتيان الواجب العبادي الأهم في وجوب فعل المهم ، فإنّ هذا يساوق خارجا مع عدم الإتيان بالمهم ، فيكون الأمر بالأهم مقتضيا بذاته ، لعدم طرد الأهم وعصيانه ، وبالملازمة لهدم وطرد «العزم» على عصيانه ، أو عدم «العزم» على امتثاله ، لأنه لا يتصور عزم على عدم الإتيان بالأهم إلّا ملازما مع عدم الإتيان ، وهذا يكفي في تحقق نكتة الترتب.

وحينئذ ، فإذا كان فعل الأهم سنخ فعل لا يوجد ويتحقق إلّا بالإرادة ، فواضح أنّ العزم على تركه يساوق الإرادة لا محالة ، كما لو كان فعل الأهم «السلام والتحيّة» فإنّه لا يتصور صدورها إلّا بالإرادة ، إذن فالعزم على عدم «التحيّة» مساوق لعدم صدورها ، فالأمر «بالسلام» ، الواجب الأهم» ، وهذا كاف لإمكان الترتب.

وإن كان فعل الأهم سنخ فعل يمكن صدوره بلا اختيار ، فقد يقال بعدم إمكان الترتب ، لأنه لو فرض أنّ هذا الإنسان عزم على ترك الأهم ، ولكن صدفة صدر منه ، وعمل بخلاف عزمه ، لأنه قد يصدر منه بلا اختيار ، ففي مثل هذه السنخيّة من الأفعال ، يلزم التكليف بغير المقدور ، لأنه بمجرد عزمه على ترك الأهم ، يصير المهم فعليّا ، والمفروض أنه تلبس بفعل الأهم ، إذن فيكون المهم فعليا أيضا مع فعليّة تلبسه بالأهم.

ولكن يجاب عليه بأن يقال : إنّه بالإمكان تقييد «العزم» بقيد زائد عليه ، وهو قيد القدرة والاختيار ، حيث يكون «العزم» على فعل الأهم أو «العزم»

٤٥٨

على تركه مقيّدا بالقدرة أو الاختيار ، فيكون موضوع المهم هو «العزم» مع القدرة على الفعل والترك معا ، فيكون المجموع المركب منهما مساوقا مع الترك لا محالة.

فالنتيجة أنه كلّما فرض عزم على الترك مقيّد بالقدرة على الفعل والترك ، كان لا بدّ من فعلية الأمر بالمهم خارجا ، مع توفر العزم والقدرة.

وبناء على ما تقدم ، يتضح أنّ اقتضاء أحد الأمرين ، «الأهم والمهم» لإيجاد شيء يساوق طرد وهدم موضوع الآخر بالعينية أو بالملازمة ، كاف في إمكان الترتب ، بل حتى لو فرض محالا اجتماع الضدين خارجا ، وقد جرى اقتضاء الأمرين فيهما ، فلا يتّصف واحد من الأمرين بالفعلية والمطلوبية خارجا.

أمّا عدم مطلوبية الضد المهم ، فلعدم تحقق شرطه باعتبار الضديّة ، وأمّا عدم مطلوبية الأهم ، فباعتبار العزم على تركه ، إذن فلا يكونان معا فعليين لو كان ممكنا الجمع بين الضدين.

نعم لو كان ملاك إمكان الترتب هو التعدّد الرتبي والطولية بين الأمرين ، فإنّه حينئذ لا يمكن الأمر بالمهم مترتبا على «العزم» على عصيان الأهم ، أو عدم العزم على امتثاله وعدم طرده ، بل قد يتعيّن حينئذ أخذ «العصيان» شرطا في موضوع الأمر بالمهم ، لأنّ الأمر بالمهم في طول موضوعه ، والعصيان في طول الأمر بالأهم ، أو فقل : لأنّ «العزم» على عصيان الأهم ، أو عدم «العزم» على امتثاله ، ليس في طول الأمر ، أمّا عدم العزم على الامتثال ، فعدم طوليته للأمر واضحة ، إذا لعلّ ذلك يكون من ناحية عدم الأمر أصلا ، وأمّا «العزم» على العصيان ، فلأن العزم على عصيان الأمر بالأهم ، موقوف على وجود الأمر في أفق العزم وحاق النفس ، وجودا علميا للأمر ، وليس وجودا واقعيا.

لو كان هذا هو ملاك الترتب ، لأمكن القول بعدم إمكانه ، لأنه فرق بين العصيان وبين «العزم» على العصيان ، فإنّ العصيان بوجوده الخارجي متوقف

٤٥٩

على الأمر ، إذ لا عصيان خارجا إذا لم يكن أمر ، وحينئذ ، إذا أخذ عصيان الأهم بوجوده الخارجي ، أمكن القول : إنّ المهم في طول العصيان الخارجي للأهم ، والعصيان الخارجي للأهم في طول الأمر بالأهم.

ولكن إذا أخذ «العزم» على عصيان الأمر بالأهم ، أو عدم «العزم» على امتثاله ، فهذا واضح ، لأنّ عدم «العزم» ملائم مع عدم وجوده ، وأمّا «العزم» على عصيانه فإنّه أيضا كذلك ، إذ إنّ عزم إنسان على عصيان أمر إنّما هو فرع ثبوت الأمر في أفق عزمه في عالم نفسه على العصيان ، لا فرع ثبوت الأمر خارجا ، إذ كلّ متجرّ هو عازم على عصيان مولاه ، فالعزم إنّما يتحقق من المتجرّين ، وهو في طول ثبوت الأمر بوجوده العنواني ، لا الحقيقي ، إذن فلا طوليّة حينئذ بينهما.

إذن فينبغي أن يقال بالتفصيل بين العزم على العصيان ونفس العصيان.

ولكن الوجدان شاهد على خلاف ذلك ، إذ إنّ كل مطلب يقتضي التفصيل فهو بنفسه كاشف وجداني عن بطلان المسلك الذي يقتضي هذا التفصيل ، لأنّ نفس الوجدان القاضي بإمكان الترتب ، هو نفسه قاض بعدم الفرق فيه بين الشرطين : بين أن يؤخذ في موضوع الأمر بالمهم ترك الأهم وعصيانه ، أو «العزم» على تركه ، إذن فهو كاشف إنّيّ عن قصور هذا المسلك ، وإنّما الفذلكة الحقيقية لإمكان الترتب هي ما ذكرناه.

* ٦ ـ الجهة السادسة : في تحقيق المقدمات الخمس التي أفادها المحقق النائيني (١) «قده» لإثبات إمكان الأمر بالضدين على نحو الترتب. وهذه المقدمات وإن كانت لا تخلو من مؤاخذات ومناقشات في بعض خصوصياتها ونكاتها ، إلّا أنّ جوهر وروح إمكان الترتب ، وإبطال شبهات المحيلين له ، إنّما كانت بفضل توضيحات وتحقيقات هذا المحقق العظيم

__________________

(١) فوائد الأصول : الكاظمي ج ١ ص ١٩٨.

٤٦٠