بحوث في علم الأصول - ج ٥

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٣

تعارض بينهما بلحاظ عالم المبادئ ، لأنّ الأمر بالصلاة يقتضي حرمة الإزالة ، وكذا العكس ، وهذا خطابه من قبيل «صلّ ولا تصلّ».

لكن إذا لم نقل باقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده ، فإنه حينئذ لا يقع تعارض بينهما.

وأمّا بلحاظ المركز الثاني ، أي : عالم الامتثال ، فإنه أيضا لا يقع تعارض بين الخطابين ، بناء على أن يكون خطاب «صلّ» مشروطا بعدم وصول وتنجز خطاب «أزل» ، وذلك لأنه كلما كان خطاب «أزل» واصلا فخطاب «صلّ» لا موضوع له ، لأنّه مقيّد بعدم وصول خطاب «أزل» بناء على عدم الترتب ، والمفروض أن خطاب «أزل» واصل ، إذن فخطاب «صلّ» لا موضوع له ، وكلما كان خطاب «أزل» ، غير واصل ، إذن يكون خطاب «صلّ» واصلا ، إذن فخطاب «أزل» لا يستحق الامتثال ، ومعنى كونهما هكذا أنهما ليسا عرضيّين كي تحصل المشاحنة بينهما بلحاظ عالم الامتثال والاستحقاق.

وأمّا بلحاظ المركز الثالث ، أي : عالم مدلول الخطاب ومفاده ، وهو الجعل والحكم ، فهنا نقول : إنه إذا قلنا إنّ مدلول الخطاب الشرعي يتمحض في كونه أمرا اعتباريا على المكلف ، كما ذهب إليه السيد الخوئي «قده» ، فإنه حينئذ بناء على هذا ، لا تعارض بينهما ، إذ لا بأس بالجمع بين الخيالين والاعتبارين ، ومن هنا قيل : إنّ القدرة ليست شرطا أصلا في المبادئ ، إذن فلا تعارض بين المطلبين ، فيتقيّد أحدهما بوصول الآخر ، وبه يتم المطلب بأنه لا تعارض أصلا.

وبناء على مسلك الاعتبار ، يكون الفرق بين موارد التزاحم والتعارض المصطلح ، هو أنه كان كله تعارضا ، غايته أنّه هناك ، كان تعارضا بلحاظ مادة الاجتماع بوجودهما الواقعي ، وهنا كان التعارض بلحاظ عالم الاستحقاق والامتثال ، فيرتفع التعارض هذا بين الخطابين بعدم تنجز الخطاب الآخر ، هذا فيما إذا كان مدلول الخطاب متمحضا في كونه أمرا اعتباريا.

٤٢١

وأمّا إذا لم يكن مدلول الخطاب أمرا اعتباريا ، بل كان له مدلول عرفي ، وهو كون هذا الاعتبار بداعي الجد ، وهو داعي الباعثيّة والمحركيّة ، ومن هنا قلنا بعدم شمول الخطاب الشرعي للعاجز ، لأن الاعتبار إنما كان بداعي الجد والمحركيّة ومحركيّة الاعتبار للعاجز غير معقولة ، وهذا قرينة على كون الاعتبار كذلك كما سلكه المحقق النائيني «قده».

وحينئذ بناء على اشتراط القدرة في التكليف ، وكون الاعتبار بداعي المحركيّة ، نرى أنّ هذين الخطابين المتزاحمين ، بعد أن قيّد أحدهما بعدم وصول الآخر ، فإنه بناء على القول بعدم الترتب ، حينئذ ، قد يقال ببقاء التعارض والتنافي بين مدلولي الخطابين ، لأن المولى حينما يجعل الحكم بداعي التحريك ، فمعنى هذا أنه متى ما اجتمع الحكمان يعني : أنه اجتمعت محركيّتان وتصدّيان ، وهنا خطاب «صلّ» مقيّد بعد وصول خطاب «أزل» ، والمفروض أنه لم يصل ، إذن فيثبت كلا الخطابين ، وتصدي المولى لموضوع كلا الخطابين غير معقول.

والآن نبسط الكلام في معنى الداعي وأنحائه ، لنرى أيّ نحو من أنحاء الدواعي يستفاد من الخطاب.

١ ـ النحو الأول من معنى الداعي هو : أن يدل الخطاب على أن الحكم مجعول بداعي أن يكون محركا إلى الفعل.

وهذا المعنى للداعي واضح البطلان هنا ، لأنّ المولى لا يفترض وجود عاص.

٢ ـ النحو الثاني من معنى الداعي ، هو أن يقال : إنّ داعي الباعثية هو عبارة عن داعي إيجاد ما يكون محركا وباعثا للمنقاد خاصة على إطلاقه.

وهذا أيضا غير صحيح ، إذ ليس كل منقاد سوف يتحرك ، لأن المنقاد الذي يخطئ في وصول الحكم إليه لم يتحرك ، إذن فيستحيل أن يكون الفرض من جعل الحكم ، هو داعي المحركيّة للمنقاد على الإطلاق ، إذ لو كان هذا هو

٤٢٢

الداعي المفهوم عرفا من الخطاب ، للزم عدم شمول الخطاب للعالم بالعدم ، لأنّ الخطاب يكون محركا فعلا للمنقاد ، وهذا لا يتصوّر في العالم بالعدم.

٣ ـ النحو الثالث من معنى الداعي هو : إنّ الداعي المستكشف ، عبارة عن داعي أن يكون الخطاب محركا فعليّا على تقدير الوصول والعلم والانقياد ، فيكون محركا فعليا ، وحينئذ بهذا الداعي نثبت اشتراط القدرة ، لأنّ الخطاب لا يحرّك نحو غير المقدور حتى بعد الوصول ، فيصير هذا قرينة على عدم شمول الخطاب للعاجز ، وفي نفس الوقت هذا الفرض يحل الإشكال في موارد التزاحم ، لأنه تقييد لأحد الخطابين بعدم وصول الآخر ، كما لو فرض عدم تنجز خطاب «أزل».

وهنا نقول : إن كلا من الخطابين يكشف عن داع مولوي لكل من وصل وكان قادرا ، فإن وصل ذاك فلا وصول لهذا ، وكذا العكس.

إذن فلا يصلان معا في عرض واحد ، إذ الداعيان معا لا يحركان معا ، إذن فلا تعارض بلحاظ عالم الحكم.

٤ ـ النحو الرابع من معنى الداعي هو : أن يكون كل من الخطابين يكشف عن داعي أن يكون الحكم باعثا شأنيا ، بمعنى أن يكون صالحا لأن يكون باعثا لو لا المزاحم من قبل المولى ، فيكون معنى الداعي هو : إيجاد ما يقتضي الانبعاث.

وهذا يترتب عليه اشتراط القدرة التكوينيّة ، لأنّ الخطاب لا يكون مقتضيا لتحريك المشلول ، بل يقتضي كل من الخطابين عدم المنافاة بينهما حتى لو كانا مطلقين.

هذا بلحاظ مدلول الخطاب ، لأن كلا من الخطابين يريد داعيا وباعثا شأنيا ، وهما يعقل اجتماعهما ، وإنّما غير المعقول هو تحريكهما الفعلي ، إذ لا مقتض لتقييد وصول أحدهما بعدم وصول الآخر.

وحيث أنّ هذا المطلب يرجع إلى الاستظهار العرفي من الخطاب ،

٤٢٣

ونحن لا نستظهر إلّا ما يلائم اندفاع الإشكال.

وعليه ، حينئذ يصح ما يقوله القائلون بامتناع الترتب ، من أنّ خطاب «صلّ» ، يبقى محفوظا ، وحينئذ تصح الصلاة ، «الفرد المزاحم المهم» ، لو صلّى وكان هناك نجاسة في المسجد لا يعلم بها ، فتصح الصلاة هنا من الجاهل بالنجاسة ، بينما في موارد التعارض ، لو صلّى غصبا لا تصح الصلاة.

* ٣ ـ الجهة الثالثة مما يبحث في الترتّب هي : في استدلال القائلين بإمكان الترتب :

وقد استدل القائلون بإمكان الترتب بما يشبه النقض ، وذلك بضرورة وقوعه في فروع فقهية كثيرة ، نقضوا بها على القائلين بامتناعه ، لأن الحكم في هذه الفروع لا يمكن تخريجه إلّا بالالتزام بالترتب وعلى أساسه.

وها نحن نذكر ثلاثة من هذه الفروع على سبيل المثال :

١ ـ الفرع الأول : هو إنّه إذا وجب السفر على إنسان لنكتة من النكات ، وهنا نفرض أنه يوجد خطاب يلزم بالسفر ، كما لو كان قد نذر ذلك فسافر ، حينئذ سيكون تكليف هذا المسلم بالصلاة قصرا ، وأمّا لو فرض أن هذا المكلف خالف خطاب «سافر» ، حينئذ ، لا شك بتوجه خطاب «التمام بالصلاة» ، وهذا عبارة أخرى عن الترتب ، لأن الأمر لا يخلو ثبوتا من أحد ثلاث احتمالات :

أ ـ الاحتمال الأول : هو أنّه لا تجب عليه الصلاة أصلا.

ب ـ الاحتمال الثاني : هو أنّه تجب عليه صلاة القصر.

ج ـ الاحتمال الثالث : هو أنّه تجب عليه صلاة التمام على تقدير عدم السفر.

والأولان من هذه الاحتمالات باطلان ، لأنهما خلاف الضرورة الفقهية.

فيتعين الاحتمال الثالث ، وهو الترتب ، إذ نسبة الخطاب الثالث إلى

٤٢٤

خطاب «وجوب السفر» هو نسبة وجوب «المهم» الترتّبي بالنسبة إلى وجوب «الأهم». فكما يدّعي القائل بإمكان الترتب بمزاحمة «الصلاة» مع واجب أهم كالإزالة ، كذلك في المقام ، يوجد خطاب «سافر» ويوجد خطاب ، «إذا لم تسافر فصلّ تماما» ونسبة الخطاب الثاني إلى الأول ، كنسبة خطاب «صلّ» إلى خطاب «أزل» ، فكما أن خطاب «الإزالة» يهدم موضوع «وجوب الصلاة الترتبي» ، فكذلك خطاب «سافر» يستدعي هدم موضوع خطاب «صلّ تماما» ، لأنّ موضوعه «من لم يسافر» ، فإذا تعقّلت هذا تتعقّل ذاك.

وبعبارة أخرى : إنّ معنى تعيّن الثالث ، أنه مكلّف بالسفر ، وهو على حد تكليفه «بالإزالة الأهم» ، وكذلك فهو مكلف «بالصلاة التمام» على تقدير «عدم السفر» ، على حدّ التكليف «بالصلاة» على تقدير «عدم الإزالة» ، وبتعقّل هذا يتعقّل ذاك.

٢ ـ الفرع الثاني : وهو يحمل روح الفرع الأول لكن بعكسه ، كما لو فرض أنه وجبت عليه «الإقامة وقصدها» بنذر ، ولكنّ المكلّف لم يمتثل ذلك ، بل عصى وسافر ، فإنه هنا ، لا إشكال فقهيا في وجوب الصلاة القصر عليه في السفر ، وهو من الترتب ، لأنّ أمر هذا المكلف أيضا يدور بين احتمالات ثلاث :

أ ـ الاحتمال الأول : هو أنّه لا تجب عليه الصلاة أصلا ، وهو احتمال ساقط.

ب ـ الاحتمال الثاني : هو أنه تجب عليه صلاة التمام فقط.

ج ـ الاحتمال الثالث : هو أنّه تجب عليه صلاة القصر فقط.

والمتعيّن هو الثالث ، فينتج وجود خطابين : الخطاب الأول ، هو خطاب «أتم» ، والخطاب الثاني ، هو خطاب «إذا لم تتم فصلّ قصرا» ، وليس هذا إلّا الترتب.

٣ ـ الفرع الثالث : وهو روح الفرعين السابقين ، لكنه هنا بلحاظ

٤٢٥

الصوم ، كما لو أنه وجب عليه السفر في شهر رمضان المبارك بنذر ، ولكنه عصى ولم يسافر ، فهنا هل يجب عليه الصوم؟

وهنا إن قلنا بوجوب الصوم عليه ، فإنّ معنى هذا ، الالتزام بخطابين ترتبيّين : الخطاب الأول ، هو خطاب «صم» إذا لم تسافر ، والخطاب الثاني ، هو خطاب «سافر» ، وهذا خطاب بالأهم ، وهو هادم لموضوع المهم ، وهذا ليس إلّا الترتب ، إذ لا إشكال فقهيا عندهم في عدم سقوط الصوم عنه إذا لم يسافر ، وهذا من الترتب.

ولنا في المقام ، ثلاث كلمات حول هذا النقض والاستدلال ، لإثبات الترتب :

١ ـ الكلمة الأولى : هي إنّ هذه الفروع ، وإن كان لا محيص عن الالتزام بما ذكر فيها ، لو سلّمنا بوجود خطابين ترتبيين ، ولكنّ هذا أجنبي عن الترتّب ، ولا يصح أن يجعل وقوع الترتب في هذه الفروع ، دليلا على إمكان الترتب.

وتوضيحه ، هو إنّ خطاب «أزل» ، وخطاب «صلّ» الذي هو الأمر بالأهم ، بينهما علاقتان في موارد الترتب :

١ ـ العلاقة الأولى : هي أنّ الأمر «بالإزالة» يستدعي هدم موضوع الأمر «بالصلاة» ، لأن الأمر «بالصلاة» أخذ في موضوعه عصيان الأمر «بالإزالة» ، إذن فالأمر «بالإزالة» يستدعي لا محالة هدم موضوع الأمر «بالصلاة».

٢ ـ العلاقة الثانية : هي إنّه في فرض فعليّة كلا الأمرين ، يتوجه الأمر بالأهم نحو المكلف لإطلاقه ، فيكون الأمر بالأهم مستدعيا لتقريب المكلّف نحو «الإزالة» المساوق لتبعيده عن «الصلاة» ، فيتهافت التأثيران من حيث أن الأمر بالإزالة يجر المكلف إليها ، والأمر بالصلاة يجر المكلف إليها ، فيقع التهافت في مقام التأثير ، لأنهما حينئذ متطاردان وكل منهما يجر النار إلى قرصه.

وحينئذ يقال : بأن العلاقة الأولى هي : نكتة ملاك القول بإمكان الترتب ،

٤٢٦

لأنها توهم عدم التعارض والتنافر بين الخطابين ، والعلاقة الثانية هي : نكتة ملاك شبهة القائلين بامتناع الترتب ، لأنهم يقولون بفعليّة الأمرين معا ، وكل منهما يجر نحو متعلقه ، والجر إلى متعلقه هو في الوقت نفسه جر عن ضده لا محالة إذ الأمر بالإزالة هو جر نحو الإزالة ، وبمقدار ما يكون جرا نحو الإزالة ، يكون جرا عن الصلاة ، وكذلك الأمر بالصلاة يقوم بنفس الفعل فيتنافى الأمران.

إذا توضّح هذا فنقول : إنّ العلاقة الموجودة بين الخطابين الترتبيين في جميع هذه الفروع الثلاثة ، إنّما هي العلاقة الأولى ، لأن خطاب «سافر» يستدعي رفع موضوع الخطاب «بالصلاة تاما» ، لكن هذه العلاقة كانت منشأ لشبهة القائلين بإمكان الترتب ، حيث يكون الأمر بالصلاة تاما مرتبا على عدم السفر ، فيكون الأمر بالسفر حينئذ مستدعيا بامتثاله رفع الأمر بالصلاة تاما ، بينما منشأ شبهة القائلين بالامتناع هي العلاقة الثانية ، وهذه العلاقة في المقام غير موجودة ، لأنها إنّما تصدق فيما إذا كان هناك تضاد بين متعلق الأمر بالأهم ، ومتعلق الأمر بالمهمّ ، «كالصلاة والإزالة» فهما فعلان متضادان.

وأمّا في المقام فلا تضاد بين ما يحرّك نحوه خطاب «سافر» ، وبين ما يحرك نحوه خطاب «إذا لم تسافر فصلّ رباعيّة» ، إذ إنّ «سافر» يحرك نحو السفر ، وخطاب «إذا لم تسافر فصلّ تاما» هنا عدم السفر قيّد الوجوب ، والأمر لا يحرك نحو مقدمات الوجوب ، بل نحو صلاة رباعيّة ، وعلى هذا فيمكن اجتماعهما مع السفر ، غاية الأمر أنه لا أمر حينئذ بالصلاة الرباعية ، إذن فهي ليست تحت الطلب كي يكون الأمر بها مضادا مع الأمر بالسفر ، ومقتضيا لتحرك المكلّف باتجاه معاكس ، لما يقتضيه الأمر بالسفر ، كما كان في موارد الترتب.

وما كان سوق هذه النقوض إلّا نتيجة لملاحظة العلاقة الأولى التي يترتب فيها أحد الأمرين على ترك الآخر وعصيانه ، وقد عرفت أن العلاقة الأولى هي منشأ القول بإمكان الترتب ، لا الامتناع.

٤٢٧

وبهذا يتبين أن هذه الفروع لا تشكّل نقضا على القول بالامتناع.

وإنّ شئت قلت : إن الفروع الثلاثة لا تحتوي إلّا على العلاقة الأولى ، حيث يكون الأمر بالصلاة الرباعيّة مثلا ، مترتبا على عدم السفر ، فيكون الأمر بالسفر مستدعيا بامتثاله رفع الأمر بالرباعيّة ، ولكنه لا تضاد هنا بين المتعلقين ، كما لو كانت بينهما العلاقة الثانية ، وذلك لأنّ الصلاة الرباعيّة ، وإنّ كانت مقيّدة بعدم السفر ، إلّا أن عدم السفر من شرائط الوجوب ، وحينئذ لا يكون تحت الطلب والأمر ، لأن الأمر لا يحرّك نحو شرائط ومقدمات الوجوب ، بل هو يحرك نحو الواجب وهو الصلاة الرباعيّة ، وعليه لا يكون الأمر بالصلاة الرباعيّة مضادا مع الأمر بالسفر ، ومقتضيا لتحرك المكلف باتجاه معاكس ، لما يقتضيه الأمر بالسفر كما كان الحال في مورد الترتب.

وعليه ، لا يكون واحدا من هذه الفروض نقضا على القول بالامتناع.

٢ ـ الكلمة الثانية : هي إنّه لو فرض أنّ المقام من قبيل الترتّب ، وفرض قيام الضرورة الفقهية ، فهنا يوجد مخلّص للقائلين بالامتناع ، لأنّ الضرورة الفقهيّة تدل على أن هذا المكلّف إنّ لم يسافر فالصلاة لم تسقط عنه ، وإنّه إذا صلّى قصرا سوف يعاقب ، ولا نجاة له إلّا بأن يصلي تماما.

وهذه نتيجة ثابتة ، أمّا تخريجها فإنّه لا ينحصر بالضرورة حيث يلتزم بالترتب ، ويفترض وجود خطابين ، «سافر» ، وصلّ تماما» ، بل مقتضى الجمع بين الضرورة الفقهيّة وبرهان امتناع الترتب لو تمّ ، هو الالتزام بتخريج النتيجة بأسلوب آخر وذلك بأحد وجهين :

أ ـ الوجه الأول : هو أن يقال : إنّه عندنا خطابان : الأول متعلّق بالسفر يقينا ، «سافر» ، والثاني متعلّق بالجامع بين «السفر وصلاة التمام» المقيّدة بعدم السفر ، ولا ترتب بينهما أصلا ، وحينئذ ، فإذا لم يسافر ، ولم يصلّ رباعيّة ، يعاقب بعقابين لا محالة.

وهذا توجيه معقول كما سبق في بحث الإجزاء ، ولا ترتب فيه.

٤٢٨

نعم هذه الصياغة لا تفي بها الأدلّة ، لكن المفروض أننا بقصد صياغة ثبوتية لأمر مفروغ عنه.

ب ـ الوجه الثاني : هو أن يفرض أنّ خطاب «سافر والخطاب الآخر» هو تخريج الجمع بين التركين ، وذلك بأن يضيّق ترك الرباعيّة إلى ترك السفر ، وهذا يفي بهذا الفرض.

٣ ـ الكلمة الثالثة : هي مربوطة بخصوص الفرعين الأوّلين وحاصلها ، هو : إنّ النقض في الفرعين الأوّلين مبني على تخيّل أنه شامل لما إذا توجه خطاب القصر تعيينا إلى المسافر ، ولما إذا توجّه خطاب التمام تعيينا إلى الحاضر ، وحينئذ قيل ، بأنّه عندنا خطابان على وجه الترتب.

ومن الواضح أنّ هذا ليس أمرا متعينا ، إذ يمكن فرض خطاب واحد متعلّق بالجامع بين «صلاة القصر والتمام» ، لكن مع أخذ السفر قيدا للثنائيّة ، بنحو قيد الواجب ، وكذا أخذ قيد الحضر قيدا للرباعيّة ، والوجوب مطلق متعلق بالجامع ، وبناء عليه ، لا ترتب أصلا ، إذ من الأول يكون هناك أمران متعلقان بالجامع وبالسفر ، وحينئذ فلا يتعيّن الالتزام بالترتب بينهما ، إذ الأمر بالصلاة ليس مترتبا على أن لا يسافر ، بل يمكن أن يجمّع السفر مع الجامع المذكور.

وإنّ شئت قلت : إنّ النقض في الفرعين الأولين مبني على كون السفر والحضر من شرائط وجوب التمام والقصر ، وأمّا لو قيل بأنهما قيدان في الواجب ، بينما الوجوب مطلق متعلق بالجامع بين التمام والقصر ، فلا ترتب أصلا ، بل هناك أمران من أول الأمر «بالسفر والجامع» ولا ترتب بينهما ، بل ولا تضاد بين متعلقيهما ، إذ يمكن اجتماع السفر مع الجامع المذكور.

ولكن هناك مسلك آخر يقول بوجود خطابين مشروطين ، حيث يكون السفر والحضر من شرائط التكليف بالرباعية أو القصر.

٤٢٩

ولكن حينئذ يشكل في المكلّف الذي كان حاضرا في أول الوقت ، ومسافرا في آخره ، حيث يقال :

إنّه إذا كان شرط التكليف بالرباعيّة هو كون المكلّف حاضرا في تمام الوقت ، إذن لزم عدم تكليفه بالرباعية لكونه مسافرا ، مع أنه من الواضح أنه لو صلّى قبل سفره ، وحال حضوره ، كانت صلاته مصداقا للواجب.

وإن كان شرط التكليف هو كونه حاضرا فعلا ، ولو في أول الوقت ، وإن سافر في آخره ، فمعناه أنه وجبت عليه الصلاة الرباعيّة قبل أن يسافر ، وإن لم يصلّ الرباعيّة وقد سافر ، إذن يكون قد عصى ، لأنّ خطاب «صلّ رباعية» فعليّ في حقه ، وقد أخرج نفسه عن موضوعه ، مع أن هذا ممّا لم يلتزم به أحد.

وهذه الشبهة يمكن حلّها ، وذلك ببذل عناية ، وهي افتراض تقييد زائد في دليل التكليف وشرطه ، وذلك بأن يقال : إن خطاب «صلّ رباعية» يتوجه من أول الأمر إلى الحاضر ، ولو في أول الوقت ، لكن بشرط أن لا يسافر بعد ذلك سفرا غير مسبوق بالصلاة الرباعيّة ، وحينئذ فلو لم يسافر أصلا ، أو إنّه سافر سفرا مسبوقا بالصلاة الرباعية ، كان التكليف بالرباعية محققا وفعليا في حقه من أول الأمر ، فإن لم يصلّ رباعية وهو لم يسافر بعد ، حينئذ يعاقب.

وإن سافر ، فإن كان بعد الصلاة الرباعيّة ، كانت صلاته مصداقا للواجب ، وأمّا لو أنه سافر سفرا غير مسبوق بالصلاة الرباعيّة فلا بأس بأن نلتزم بعصيانه.

وبهذا يمكن تخريج الخطابين ، لكن هذا المسلك غير متعيّن ، بل القائل بإمكان الترتب في فسحة من هذا.

* ٤ ـ الجهة الرابعة : [إمكان الترتب ، بالطولية والاختلاف بالمرتبة] هي أيضا فيما استدل وبرهن على إمكان الترتب ، بالطولية والاختلاف بالمرتبة حيث قالوا : بأنّ الأمر بالأهم والمهم ليسا في مرتبة واحدة ، وحينئذ فلا تنافي بين الأمرين لتعدّد المرتبة ، وهي سنخ أحد وجوه الجمع بين الأحكام الواقعيّة والظاهرية ، حيث جمع بينها بأوجه من

٤٣٠

الجمع ، أحدهما مبني على أن رتبة الحكم الظاهري متأخرة ، وفي طول رتبة الحكم الواقعي ، لأنّ الحكم الظاهري أخذ في موضوعه الشك في الواقع.

وسنخ ذلك نطبّقه هنا لرفع التنافي بين الأمر بالمهم ، والأمر بالأهم.

وقد قرّب هذا المسلك بعدة وجوه :

* ١ ـ الوجه الأول : هو ما نقله المحقق الأصفهاني «قده» (١) عن بعض القائلين بإمكان الترتب ، وحاصله : إنّ الأمر بالمهم حيث أخذ في موضوعه ترك الأهم أو عصيانه ، إذن فهو في طول ترك الأهم ، إذن فهو متأخر رتبة عن ترك الأهم ، والحال إنّ ترك الإزالة هو نقيض الإزالة ، فهو في رتبة الإزالة ، إذن فما هو متأخر عن ترك الإزالة ، هو متأخر عن الإزالة ، وفعل الإزالة متأخر عن الأمر بالإزالة تأخر المعلول عن العلة ، وحينئذ ، فهذا معناه أن اقتضاء الأمر بالإزالة واقع في مرتبة ، واقتضاء الأمر بالصلاة واقع في مرتبة أخرى ، إذن فالاقتضاء في مرتبتين ، إذن فالأمر بالأهم له اقتضاء في مرتبة ذاته أو وصوله ، وهذا الاقتضاء لا يزاحمه أيّ شيء ، وبعد أن ننتهي إلى مرتبة وجود المعلول فعلا أو تركا ، ثم ننتهي إلى فعليّة الأمر بالصلاة ، فلا اقتضاء للأمر بالأهم ، وإنّما الاقتضاء في مرتبة سابقة على وجود معلوله.

وإن شئت قلت : إنّ الأمر بالمهم في طول ترك الأمر بالأهم ، فهو متأخر رتبة عن الأمر بالأهم ، فيكون اقتضاؤه الإتيان بالمهم في غير مرتبة اقتضاء الأمر بالأهم ، بل هو في رتبة متأخرة ، وذلك لأنّ الأمر بالمهم مترتب على ترك الأهم ، وترك الأهم في رتبة فعل الأهم ـ لأننا نقول : بأنّ النقيضين في رتبة واحدة ـ والمفروض أن فعل الأهم متأخر عن الأمر بالأهم ، وعن اقتضائه ، لأنه معلول له ـ إذن فيكون الأمر بالمهم واقتضائه لفعل المهم ، متأخرا عن الأمر الأهم واقتضائه ، وبهذا تنحل المنافاة بينهما ، ويرتفع المحذور.

__________________

(١) نهاية الدراية : الأصفهاني ـ مجلد أول ج ٢ ص ٥٣ ـ ٥٤.

٤٣١

ويرد على هذا الوجه أو يمكن أن يورد عليه بعدة إيرادات :

١ ـ الإيراد الأول : هو النقض ، بافتراض أن الأمر بالمهم مقيّد بامتثال الأهم لا بعصيانه ، فالطوليّة هنا عكسية ، حيث شرط الأمر بالمهم بامتثال الأمر بالأهم ، لا بعصيانه ، فيلزم على قولكم ، أن يأمر المولى بأحد الضدين أيضا ، لأن مثل هذين الأمرين كذلك بينهما طولية ، إذ تكون رتبة الأمر بالمهم متأخرة عن مرتبة معلول الأمر بالأهم ، وفي هذه المرتبة لا اقتضاء للأمر بالأهم ، وعليه يلزم من تصحيح الترتب ، تصحيح الترتب المشروط بامتثال الأهم بناء على الطوليّة ، بينما هذا بديهي البطلان حتى عند القائل بإمكان الترتب ، إذن لا تكفي الطوليّة في ذلك.

وهذا النقض غير وارد ، لأنّ مدّعى القائل بالطوليّة ، وتصحيح الترتب بلحاظه هو : أن الطوليّة تنفع في دفع محذور اجتماع الضدين ، حيث أن الأمر بالإزالة ، والأمر بالصلاة ، ضدان ، ولكن بالطولية بينهما جاز اجتماعهما فاندفع محذور اجتماع الضدين.

ومثل هذا الإيراد لا يرد على الوجه الأول بأنه إذا اندفع محذور اجتماع الضدين ، فليندفع في الأمرين المشروط أحدهما بامتثال الآخر إذ يمكن لصاحب هذه المقالة أن يقول إنّ محذور اجتماع الضدين مندفع ، لكن يبقى محذور التكليف بغير المقدور من دون اندفاع ، لأنّ المكلّف المقيّد بفعل الأهم ، يستحيل أن يصدر منه فعل المهم ، فيكون فعل المهم غير معقول لأنه تكليف بغير المقدور في نفسه إذ فعل الضد المقيّد بفعل الضد الآخر ، ممتنع في نفسه ، والأمر به أمر بالممتنع ، وليس أمرا بالضد المقدور في نفسه.

وبعبارة أخرى ، هو : إنّه عندنا محذوران : أحدهما ، اشتراط كون الأمر أمرا بالمقدور ، فلو أمر المشلول بالتحرك ، فهو غير معقول. والمحذور الثاني ، هو أن لا يوجد أمر مناف ومضاد مع هذا الأمر ، وحينئذ في باب الترتب المصطلح ، يقول صاحب المقالة باندفاع كلا المحذورين.

٤٣٢

أمّا الأول ، وهو تكليف المشلول ، فواضح ، لما عرفت من قدرة المكلف عليهما في نفسيهما. وأمّا المحذور الثاني ، فيقال : إنّ التحريك ليس منافيا لوجود الطوليّة بين التحريكين.

وأمّا في مورد النقض : فلو فرضنا أن المحذور الثاني مندفع ، لكن المحذور الأول غير مندفع ، لأنّ الأمر بالصلاة من المكلّف المقيّد بالإزالة غير مقدور ، إذن فالنقض غير صحيح.

٢ ـ الإيراد الثاني : وهو تطوير لصياغة الوجه حيث يقال : إنّه لو صحّ هذا البرهان ، للزم إمكان أن يأمر المولى بالصلاة غير مشروطة بالإزالة ، ولذلك نقول هنا : إنّ الأمر بالمهم مشروط باقتضاء أو وصول الأمر بالإزالة ومحركيته ، فيكون الأمر بالصلاة في مرتبة متأخرة عن الاقتضاء ، أي : بمثابة المدلول لذلك الاقتضاء ، إذ كما أنّ الموضوع لا وجود له في مرتبة حكمه ، فكذلك هنا.

إذن فلو نفعت الطوليّة لما نفعت هنا في حل محذور التكليف بغير المقدور ، وحينئذ لا يكون التكليف به من قبيل الأمر بالصلاة المقيّدة بإيقاع الأهم ، لوضوح كونه تكليفا بغير المقدور ، أمّا في المقام ، فكل منهما واجد للمعقولية ، ويرتفع المحذور ، أمّا الأول : فللطولية التي عرفت ، وأمّا الثاني : فلأنهما مقدوران.

وإن شئت قلت : إنّه يمكن نقض هذا الوجه بما إذا قيّد الأمر بالمهم ، باقتضاء الأمر بالأهم أو بوصول الأمر به ومحركيته ، فإنه حينئذ سوف تتعدد رتبة الأمرين واقتضائهما.

ومن الواضح حينئذ أنّ محذور الأمر بالضدين لا يرتفع بذلك.

٣ ـ الإيراد الثالث : هو أن يقال بعدم الطولية بين الأهم والمهم ، لأنّ المهم لو شرط بفعل الإزالة ، لكانت الطوليّة حينئذ معقولة ، لكن الأمر بالمهم مشروط بترك فعل الإزالة ، بينما فعل الإزالة ليس في مرتبة الإزالة ، لما ذكرناه

٤٣٣

في مسألة الضد ، إذ الأمر بالمهم ، وإنّ كان متأخرا عن ترك الأهم ، لكن لا يلزم من ذلك أن يكون متأخرا عن فعل الإزالة ، وإنّما ما هو متأخر عنها ، إنّما هو فعل الإزالة.

إذن فما هو متأخر عن الأمر بالإزالة ، إنّما هو فعل الإزالة ، لا ترك فعلها ، والمتقدم على الأمر بالصلاة هو ترك الإزالة ، إذن فلا طوليّة.

وبتعبير آخر يقال : إن محذور المنافاة والتضاد في اجتماع الضدين ، إنّما تكمن في اجتماعهما في زمان واحد ، لا في رتبة واحدة ، لأن الرتبيّة شأن من شئون وجود الضدين في الزمان.

ومن هنا قلنا فيما مضى من الأبحاث : بأنّ استحالة اجتماع الضدين لا ترتفع بالطولية بينهما ، كما لو كان أحدهما علة للآخر ، وهنا في المقام كذلك ، فإنّ كون الضدين في رتبتين ، لا يلغي استحالة اجتماع اقتضاء الأمرين بالضدين ، وذلك لكون اجتماعهما في زمان واحد ، إذ إنّ المعيّة في الزمان هي مكمن وملاك محذور غائلة المنافاة والتضاد والاستحالة.

نعم غاية ما يثبت بهذا التقريب ، هو عدم المعيّة في الرتبة.

٤ ـ الإيراد الرابع : هو أن التأخر والتعدّد الرتبي ، لا يحل غائلة اجتماع الضدين ، وذلك لأنه يستحيل اجتماع الضدين في الزمان الواحد ، اختلفا في الرتبة أو اتحدا ، وإلّا أمكن اجتماع البياض والسواد لو فرض عليّة أحدهما للآخر مع أنه محال ، لأجل استحالة اجتماع الضدين في الزمان الواحد ، إذن فمحذور اجتماع الضدين لا يكفي في رفعه تعدد الرتبة.

وإنّ شئت قلت : إنّ الأمر بالمهم واقتضائه لفعل المهم ، وإنّ كان في طول ترك الأهم ، ولكن ترك الأهم ليس في رتبة فعله ليكون في طول الأمر به ، إذ إنّ قانون أنّ النقيضين في رتبة واحدة ، غير صحيح كما تقدّم في بحث مقدميّة ترك أحد الضدين للآخر ، إذن فلا تتعدد مرتبة الأمرين.

وقد أجيب عن هذه حيث قيل : بأنّ الأمر بالمهم ليس مرتبا على ترك

٤٣٤

الأهم ، بل على عصيانه ، وعصيان الأهم عنوان انتزاعي متقوّم بالأمر بالأهم ، إذ من دون الأمر به لا يمكن تعقّل عصيانه ، فيكون الأمر به متقدما عليه بالطبع ، كما تقدم في تعريف التقدم الطبعي ، وهنا كذلك ، فكلّما وجد أو فرض العصيان للأهم ، كان الأمر بالأهم موجودا سابقا ، دون العكس.

٥ ـ الإيراد الخامس : هو أن يسلّم بأنّ غائلة اجتماع الضدين ترتفع بتعدد الرتبة بين نفس الأمرين بالضدين.

لكن حينئذ يقال : بأنّ التضاد بين الأمرين ليس تضادا ذاتيا ، وإنّما هو تضاد بالعرض ، والتضاد الذاتي إنّما هو بين متعلّقي الأمرين ، أي : «الصلاة والإزالة».

ومن هنا لا يفيد تعدد الرتبة في دفع أو رفع محذور الأمر بالضدين الذي هو منشأ التنافي بين الأمرين ، بل لا بدّ في رفع التنافي والتضاد بين الأمرين ، من معالجة التضاد الذاتي بين المتعلّقين ، «صلّ وأزل» ، وذلك بأن لا يكون اجتماعهما من باب اجتماع الضدين في مرتبة واحدة.

وحينئذ إذا فرض أن قبلنا أنّ النقيضين في رتبة واحدة ، حينئذ يكون العلاج المذكور ممكنا ، لأنّه حينئذ ، يكون فعل المهم متأخرا عن الأمر به ، وهذا الأمر به بدوره متأخر عن ترك الأهم الذي هو في رتبة فعل الأهم ، وبهذا يتأخر المهم عن الأهم رتبة ، وبهذا يكون العلاج المذكور ممكنا.

وأمّا لو فرض إنّنا أنكرنا ذلك ، فحينئذ تبقى المضادة والمنافاة بين المتعلقين على حالها ، وحينئذ يكون الأمر بالضدين ، ولو كانا في رتبتين ، هو أمر بالضدين المتنافيين المستحيلي الاجتماع ، لما عرفت ، من أنّ الصلاة والإزالة لا طوليّة بينهما ، بل هما في مرتبة واحدة ، إذ إنّنا فرضنا أن الأمر بالمهم في طول عصيان الأمر بالأهم ، والعصيان منتزع عن الأمر بالأهم ، إذن فلا يكون في طول فعل الأهم ، إذن لا طولية بين فعل المهم والأهم ، ومعه

٤٣٥

يستحيل اجتماع معلقيهما ، «الصلاة والإزالة» ومعه يستحيل رفع التنافي بين مقتضاهما لا محالة.

وكأنّ الوجه المذكور ، يفترض أنّ مركز التضاد هو نفس «الأمر بالأهم والأمر بالمهم» ، فإذا صوّرناه بما قلناه من الطولية ، حينئذ ينحل هذا التضاد.

بينما من الواضح أنّ هذا التضاد هو انعكاس ونتيجة للتضاد بين المتعلقين.

نعم إذا أمكن لأحد المقتضيين باقتضائه ، أن يهدم ويرفع موضوع اقتضاء المقتضي الآخر ، يصبح حينئذ للكلام وجه ، كما سنبحثه في إمكان الترتب ، إن شاء الله تعالى.

* ٢ ـ الوجه الثاني : من وجوه تصحيح الترتب على أساس الطوليّة ، وتعدد الرتبة هو أن يقال : إنه بعد افتراض كون الأصل الموضوعي في الوجه السابق هو استحالة اجتماع الضدين في الرتبة الواحدة ، وإلّا لم تكن استحالة في البين ، بناء على ذلك يقال : إن الأمر بالمهم مشروط بعصيان الأمر بالأهم ، إمّا على نحو الشرط المقارن ، أو على نحو الشرط المتأخر ، كما يأتي ـ وإن كان لا إشكال في جوازه وإمكانه على نحو الشرط المتقدم ـ وحينئذ على كل من التقديرين ، سيكون الأمر بالمهم في رتبة متأخرة عن عصيان الأمر بالأهم ، لأن نسبته إليه نسبة الحكم إلى موضوعه ، والمعلول إلى علته ، حتى لو كان العصيان مأخوذا بنحو الشرط المتأخر ، فإنّه متأخر زمانا ، ولكنه سابق رتبة ، والعصيان علة لأمر آخر أيضا ، وهو سقوط الأمر بالأهم ، إذ إنّ أحد أسباب سقوط الأمر بالأهم هو العصيان ، فالعصيان علة لأمرين إذن ، الأمر بالمهم ، والآخر سقوط الأمر بالأهم.

وهذان المطلبان بمثابة المعلولين لعلّة واحدة ، إذن فهما في رتبة واحدة ، إذن يتبيّن أنه في مرتبة الأمر بالمهم يكون الأمر بالأهم ساقطا ،

٤٣٦

وعليه ، فلم يجتمع الأمر بالمهم مع الأمر بالأهم في مرتبة واحدة ، ومن هنا يرتفع محذور اجتماع الضدين.

وإنّ شئت قلت : إنّ الأمر بالمهم ، وسقوط الأمر بالأهم ، كلاهما معلولان لعصيان الأمر بالأهم ، أو ما يلازمه من انتفاء الموضوع ، وعدم الامتثال ، ولو بنحو الشرط المتأخر ، لأن العصيان أو الامتثال كلاهما سبب للسقوط. إذن فالأمر بالمهم وسقوط الأمر بالأهم ، في رتبة واحدة ، لأنهما معلولان لعلة واحدة هي العصيان ، وهذا معناه أنه في رتبة الأمر بالمهم ، لا أمر بالأهم كي يزاحمه ويقتضي الامتثال ، وعليه فلا تنافي بين الأمرين.

وهذا التقريب ، يمتاز عن التقريب السابق بأمور منها : إنّه لا يتوقف على إثبات كون العصيان في طول الأمر بالأهم ، كما كان في الوجه السابق.

ومنها : إنّه في الوجه السابق كان يقال : بأنّ الأمر بالأهم في رتبة ، والأمر بالمهم في رتبة متأخرة ، إذن فلم يجتمعا في مرتبة واحدة.

هذا القول في ذلك الوجه كان يرد عليه ، فيقال : بأن المتأخر ، «الأمر بالمهم» ، وإن لم يصعد إلى مرتبة «الفوق» ، أي : الأمر بالأهم ، ولكنّ المتقدم ، أي : الأمر بالأهم ، يمكن أن ينزل إلى مرتبة ، «التحت» أي : إلى مرتبة الأمر بالمهم ، فإن العلة ، وإن كانت أقدم من المعلول رتبة ، لكن ليس معنى التقييد بالرتبة أنّ العلة متقيّدة بالرتبة المتقدمة ، بل لها إطلاق من ناحيتها ، وإنّما معنى تقييد العلة بالرتبة المتقدمة ، معناه أن العلة غير متقيدة بالرتبة المتأخرة ، فنزول المتقدم إلى مرتبة «التحت» ، أي : مرتبة الأمر بالمهم ، بمعنى الإطلاق الذاتي وانحفاظه في هذه المرتبة ، لا بمعنى تقييده بهذه المرتبة لكي يلزم الخلف ، ولذلك كما صحّ أن تقول : وجدت العلة فوجد المعلول ، فمن «الفاء» تنتزع المرتبة المتأخرة ، فهنا يصح أيضا أن نعبّر عن المرتبة المتأخرة بالانضمام فيقال : وجدت العلة فانضم المعلول إليها.

مثل هذا الكلام كان يمكن أن يرد على الوجه السابق ، ، ويبطله حيث

٤٣٧

كان يستلزم فعليّة الاقتضاء في كلا الأمرين في الرتبة المتأخرة.

ولكنه لا يرد على الوجه الثاني هنا ، لأننا برهنّا فيه أن الأمر بالمهم توأم مع سقوط الأمر بالأهم ، لأنّ علة سقوط الأمر بالأهم العصيان ، والعلة نفسها علة لسقوط الأمر بالمهم ، وحيث لا يكون هناك أمر بالأهم بعد العصيان ، إذن يكون سقوطه في رتبة الأمر بالمهم ، إذن فلا يجتمع الأمر بالأهم مع الأمر بالمهم في مرتبة واحدة.

ولكن حيث أن الأصل الموضوعي في هذا الوجه وذاك الوجه باطل ، فيبطل الوجهان معا ، إذ في كلا الوجهين يعتمد على تعدّد الرتبة لرفع محذور اجتماع الضدين ، بينما عرفت أن المحذور يكمن في المعيّة الزمانية ، واستحالة اجتماع الضدين في الزمان الواحد ، حيث لا ينفع عدم اجتماعهما في الرتبة لدفع محذور استحالة اجتماع الضدين ، بل لو كان الاختلاف في الرتبة يفيد في رفع محذور اجتماع الضدين ، لوجب تصوير الاختلاف في الرتبة أنه بين المتعلقين ، لا بين الأمرين ، وحينئذ يستحكم أكثر فأكثر محذور اجتماع الضدين كما تقدّم.

* ٣ ـ الوجه الثالث : من وجوه تصحيح الترتب على أساس الطولية هو أن يقال : إنّ الأمر بالمهم بحسب الحقيقة ، متفرّع بحسب الفرض على وجود الأمر بالأهم ، لأنه مترتب على عصيان الأمر بالأهم المترتب على فعليّة الأمر بالأهم ، فإذا كان الأمر بالمهم مترتبا على فعليّة الأمر بالأهم ، إذن فيستحيل أن يكون مانعا منه ، وذلك تطبيقا لقاعدة تقول : إنّ كل شيئين ، كان أحدهما مترتبا في وجوده على وجود الآخر ، فيستحيل أن يكون المترتب مانعا عن وجود الآخر المترتب عليه ، ورافعا له ، وذلك لأنه إن فرض أنه يمنع عنه في فرض وظرف وجوده ، فظرف وفرض وجوده هو ظرف وجود وثبوت الأول في الرتبة السابقة ، إذن فمانعيته عنه خلف كونه مترتبا عليه وجوده ، بل يلزم من ذلك أن يمنع ويرفع نفسه لو كان يمكن أن يمنع المترتب عليه وجوده ، إذ بهذا يلغي سبب وجوده وهو إلغاء وإعدام لوجوده ، وهو مستحيل إذ وجود الشيء لا

٤٣٨

يلغي وجود نفسه. وإن فرض أنه يمنع عنه في فرض وظرف عدمه ، فذلك مستحيل أيضا ، لكون مانعيّة المعدوم مستحيلة إذ فاقد الشيء لا يعطيه ، وبذلك يثبت أن الأمر بالمهم مسالم مع الأمر بالأهم ، وليس مزاحما ولا مطاردا له ، وهذا هو معنى عدم المانعيّة والتضاد بينهما ، ومعه لا يمكن فرض المطاردة من قبل الأمر بالأهم أيضا ، لأنّ ملاك المطاردة يكمن في التضاد ، وهو لو كان ، لكانت المطاردة من الطرفين ، وهو غير موجود حتى من طرف الأهم للمهم.

وهذا الوجه غير صحيح ، لأنه مبنيّ على توهم أن استحالة اجتماع الضدين من باب المقدميّة ، وكون كل منهما مانعا عن الآخر ومطاردا له ، وحينئذ قيل : بأنه يرتفع هذا المحذور بما إذا كان أحدهما مترتبا على الآخر ، ومسالما له ، وفي طوله ، فيرتفع التمانع والمطاردة بينهما ، كما فصّل في وجهه.

ولكن قلنا فيما سبق : إنّ استحالة اجتماع الضدين ، إنّما هي استحالة بالذات ، وليست استحالة بالغير ، وبملاك المانعيّة والامتناع بالغير ، إذن فبطلان المانعيّة في هذا الوجه ، لا يرفع محذور الاستحالة الذاتية لاجتماع الضدين.

وقد عرفت أنه لا يغني عن الحق شيئا ، ارتفاع محذور الامتناع بين الضدين بالغير ، وإبطال محذور الامتناع بين الضدين ، كما عرضه هذا الوجه وغيره ، وإنّما كان يفيد في إبطال المانعيّة بالغير دون سواها.

هذا مضافا إلى ما قلناه سابقا من أن امتناع اجتماع الأمر بالضدين ، إنّما كان كذلك من جهة كون التضاد بين متعلقيهما ، حيث يلزم من الأمر بالضدين طلب المتعلقين الضدين ، لا طلب التضاد بينهما بالذات.

ومن الواضح أن هذا الامتناع والتمانع بين المتعلقين ، لا رافع له ما دام أن كل متعلق للأمرين ثابت وصامد في معاندته وممانعته للمتعلق الآخر ، دون

٤٣٩

أن يتقدم أحد إلى الآن ببيان لرفع محذور الجمع بين متعلقي الأمرين بالضدين ، إذن فهذا الوجه غير تام.

* ٥ ـ الجهة الخامسة في بحث الترتّب [اشكالات بحث الترتب] : يقال فيها إنّ الإشكال الرئيس الذي عقد بحث الترتب لأجله ، هو ، أن الأمر بالضدين ولو على وجه الترتب ، يقتضي طلب الجمع بين الضدين ، وهو محال ، لكن هناك إشكالات أخرى جانبية قد تورد على الترتب حيث تكون ملاكا منفصلا في امتناع الترتب ، إذن فلا بدّ من التعرض لها لعرض الإشكال المهم الذي عقدت له هذه المسألة.

١ ـ الإشكال الأول من الإشكالات الجانبية هو : دعوى استحالة الترتب وذلك بأن يقال ، إنّ الأمر بالمهم المفروض على نحو الترتب ، والمشروط بعصيان الأهم ، إمّا أن يؤخذ مشروطا بعصيان الأهم ، أو غير مشروط بعصيانه ، فإنّ لم يؤخذ مشروطا به ، إذن فلا ترتب بين الأمرين ، بل يكون الأمر بالضدين في عرض واحد ، ومعه لا إشكال بالاستحالة.

وأمّا إذا أخذ عصيان الأمر بالأهم ، شرطا في موضوع الأمر بالمهم ، فلا يخلو الأمر ، فإمّا أن يكون عصيان الأمر بالأهم قد أخذ على نحو الشرط المتقدم ، وإمّا أن يكون مأخوذا على نحو الشرط المقارن ، وإمّا أن يكون مأخوذا على نحو الشرط المتأخر.

يعني : إمّا أن يتحقق الوجوب في الآن الثاني بعد زمن العصيان ، وترك الأهم أو المتأخر ، فيكون تحقّق الوجوب في الآن الأول ، أو في آنه ، وكلّها باطلة.

أمّا النحو الأول : فهو خارج عن محل البحث ، لأنّ معناه ، أنّ وجوب المهم يكون في آن ما بعد العصيان ، وفي ذلك الآن ، يكون الأمر بالأهم ساقطا حيث لا مزاحم للمهم حينئذ ، إذن فلا مانع من ثبوت الأمر بالمهم ، ولا نزاع.

وقد عرفت أنّ هذا خارج عن محل البحث ، إذ محل البحث هو أن يجتمع الأمران في زمان واحد ، لا أن يكون فعليّة أحدهما في زمان متأخر عن

٤٤٠