بحوث في علم الأصول - ج ٥

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٣

الفصل الأول

الضد الخاص :

لا إشكال في أن ضد الواجب ، لا يعقل الأمر به في عرض الواجب ، لاستحالة الأمر بالضدين.

نعم هناك بحث ، وهو في أن الأمر هل يسقط مطلقا عن الآخر ، أو يعقل ثبوته بنحو الترتب ، كما سنبحثه في فصل آخر؟ بمعنى أن الأمر يؤثر في سقوط الأمر عن الضد الآخر؟

والبحث قد يقتضي أزيد من هذا المقدار.

إلّا أنّ البحث هنا : في أنّ الأمر بالشيء هل يقتضي ، مضافا إلى سقوط الأمر عن الضد ، اتّصاف الضد الآخر بالحرمة؟

وهنا لا بدّ من افتراض الفراغ عن اقتضاء الأمر بشيء للنهي عن ضده العام ، لأنّ مما اعتمد من أدلة لإثبات أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده الخاص ، إنما كان بعد تسليم الاقتضاء عن الضد العام.

والقول باقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضده الخاص ، له مسلكان :

المسلك الأول : مسلك التلازم.

المسلك الثاني : مسلك المقدميّة.

أمّا المسلك الأول وهو مسلك التلازم : فخلاصة دعواه ، هي إنّ وجود

٣٢١

الواجب ملازم مع ترك ضدّه ، والمتلازمان لا يختلفان في الحكم ، فإذا أوجبت الإزالة ، وجب ترك الصلاة أيضا ، وإذا وجب ترك الصلاة ، ثم ضممنا إلى ذلك ، أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده العام ، والمفروض أنّ الصلاة ضد عام ، فيثبت بذلك حرمة الصلاة ، فيكون الأمر بالإزالة موجبا للنهي عن الصلاة.

وكون فعل الإزالة ملازما لترك الصلاة أمر بديهي ، ولا يفرّق في ذلك ، بين الضد الذي تنحصر به الضدية ، أو لم تنحصر ، فالصلاة والإزالة سواء أكان لهما ثالث أم لم يكن ، فإنّ الإزالة ملازمة لترك الصلاة.

نعم عكسه ، وهو كون الترك ملازما للإزالة ، لا يتم إذا وجد ضد ثالث.

إذن فهذا المسلك يتضمن ثلاث دعاوى :

١ ـ الدعوى الأولى : بديهية كون كل ضد ملازما مع عدم ضده الآخر.

٢ ـ الدعوى الثانية : هي أن المتلازمين وجودا لا يختلفان في الحكم ، فهما متلازمان فيه أيضا.

٣ ـ الدعوى الثالثة : هي أن الأمر بشيء يقتضي النهي عن ضده العام ـ أي : نقيضه ـ وهذه الدعوى سوف يأتي الكلام عنها وعن مدركها في فصل لاحق ، وأنما المهم في المقام ، هو الدعوى الثانية ، وهي أنّ المتلازمين لا يختلفان في الحكم.

وهذه الدعوى لا دليل عليها ، لا وجدانا ولا برهانا ، إذ إنّ التلازم بين الشيئين خارجا ، لا يستدعي الملازمة بين الشوقين والحبّين.

وبعبارة أخرى : إنّ التلازم بحسب عالم التحقيق والوجود ، لا يستلزم التلازم بحسب عالم الحب والشوق ، بل قد يكون أحدهما واجبا في عالم الشوق دون الآخر.

نعم هناك صورة دليل ، أو ما يشبهه ، وهو الدليل الثالث على مقدمة

٣٢٢

الواجب الذي نقله المحقق الخراساني «قده» (١) في «الكفاية» عن أبي الحسن البصري ، والذي خلاصته ، بأنّ اللازم لو لم يجب لجاز تركه ، وحينئذ ، فإمّا أن يعاقب على ترك الواجب ، وإمّا أن لا يعاقب ... إلخ.

وهذا الشبيه بالدليل يمكن إجراؤه هنا بحرفه مع جوابه هناك حرفا بحرف.

إذن فهذا المسلك لإثبات حرمة الضد الخاص غير صحيح.

وأمّا المسلك الثاني : وهو المهم ، وهو مسلك المقدميّة ، فهو يتركب من ثلاث دعاوى :

١ ـ الدعوى الأولى : وهي أنّ ترك أحد الضدين مقدّمة للضد الآخر.

٢ ـ الدعوى الثانية : وهي إنّ مقدمة الواجب واجبة.

٣ ـ الدعوى الثالثة : وهي إنّه إذا وجب النقيض حرم نقيضه.

فإذا تمّت هذه الدعاوى تثبت حرمة الصلاة ، لأن ترك الصلاة مقدمة للإزالة ، ومقدمة الواجب واجبة ، إذن فيجب الترك ، فيحرم نقيض الترك ، وهو فعل الصلاة ـ الضد الخاص ـ للإزالة الواجبة.

والدعوى الثانية : قد فرغنا عنها في بحث مقدمة الواجب.

والدعوى الثالثة : سوف يأتي الكلام عنها وعن مدركها لاحقا.

وبقي تحقيق حال الدعوى الأولى ، أي : مقدميّة عدم الضدّ للضد الآخر ، أو كون ترك أحد الضدين مقدمة للضد الآخر ، والكلام فيها يقع في مقامين :

أ ـ المقام الأول : في أدلة إثبات هذه المقدميّة.

__________________

(١) كفاية الأصول : مشكيني ج ١ ص ٢٠٧.

٣٢٣

ب ـ المقام الثاني : في البراهين التي أقيمت على إبطال هذه المقدميّة.

أمّا المقام الأول : فيقرّب بعدة تقريبات :

التقريب الأول ، هو : إنّ مقتضى المعاندة الموجودة بين الضدين ، أن يتوقف أحدهما على عدم الآخر ، لأنّ هذا هو معنى المضادة والمعاندة في الوجود ، فلكي يوجد أحدهما لا بدّ من إعدام الآخر.

وهذا البيان بهذه الصيغة الساذجة يمكن رده ببرهان نقضي عليه ، كما في «الكفاية» (١) حيث يقال : لو كان مجرد المعاندة الثابتة بين الضدين ، تستلزم مقدميّة أحد الضدين للآخر ، لجرى الأمر نفسه في النقيضين أيضا ، حيث يقال : بأن رفع أحد النقيضين يكون مقدمة للآخر ، مع أنّ هذا مستحيل ، لأنّ رفع النقيض الآخر هو عين النقيض الآخر ، فيدور ، ويتوقف الشيء على نفسه.

ويمكن التخلّص من هذا النقض ، وذلك بأن نضيف إلى قوله في أساس الدعوى : بأنّ المضادة والمعاندة بين أمرين تستدعي كون عدم أحدهما مقدّمة

__________________

(١) في النفس ـ من عدم مانعيّة هذا الضد بعد وجود مقتضيه ـ شيء ، بعد أن عرفت سابقا كما نقل في الحكمة ، أنه بمجرد وجود المقتضي. وطبعا ، المساوي فضلا عن الغالب ، يصير لوجود المقتضى ، تقدم بالطبع. وهنا في المقام. يفرض للسواد وجود متقدم بالطبع بمجرد فرض وجود مقتضيه. والكلام نفسه يقال حينئذ في مانعيّته أن لها تقدما ووجودا بعد أن صار وجود السواد المتقدم بالطبع مقتضيا لها. إذ ليس السواد إلّا ترجمة لمقتضيه كما كانت المانعية ترجمة لمقتضيها وعليه يقال : إنّه لا يعقل فرض وجود الوساد في عرض المانعية التي ليس لها تحقق في الخارج ، إلّا في السواد المتقدم بالطبع ، والذي يرافق وجوده وجود مقتضيه. ومن هنا يظهر أن صحة هذا البرهان موقوفة على افتراض وجود مقتضيين متساويين خارجا ، وهو خلف ممانعتهما. فإذا كان ارتفاعهما محالا أيضا ، إذن فلا بدّ من وجود أحدهما ولو تخييرا أو لأقوائية أحد المقتضيين ، أو لوجود ضد ثالث لو قيل بارتفاعهما ، وبهذا يثبت البرهان ويصح ببيانه الأول.

٣٢٤

للآخر ـ نضيف قولا هو : إذا لم يكن المنعدم عين الآخر ـ ولكن حتى مع هذه الإضافة ، وارتفاع النقض ، تبقى هذه الدعوى بلا برهان ، فكيف إذا لم يساعد عليها الوجدان.

التقريب الثاني : وهو تصعيد للتقريب الأول ، حيث يقال : إنه لو لم يكن عدم أحد الضدين مقدمة لضده الآخر ، لتحقّقت العلة التامة للإزالة مع فرض وجود الصلاة ـ الضد ـ وذلك يلزم منه المحال ، لأنّه لو صارت العلة تامة هكذا ، حينئذ نسأل : إنّه هل يوجد الضد الآخر أو إنّه لا يوجد؟ فإن وجد ، إذن ، فقد اجتمع الضدان ، وإلّا لزم انفكاك المعلول عن علته التامة ، وكلاهما مستحيل ، إذن ، فلا بدّ من فرض أنّ عدم أحد الضدين جزء علة ومقدمة للضد الآخر.

وهذا البيان : يمكن رفضه ، وذلك أن يقال : بأنّ غاية ما يقتضيه هذا البيان ، هو أنه يجب أن نصوّر علة هذا الضد بنحو لا يمكن فرض وجودها مع وجود الضد الآخر ، وهذا صحيح ، وهو لا يستدعي أن يكون عدم الضد الآخر جزءا من هذه العلّة ، بل يكفي أن يكون أمر آخر ملازما لعدم الضد ، هو مقدمة للضد الآخر كما سيأتي.

وإن شئت قلت : إنّ الذي يثبت بهذا التقريب ، هو أنّ العلة التامة للضد لا تجتمع مع الضد الآخر ، وهذا غير توقّف الضد على عدم الضد الآخر كما هو المدّعي ، إذ لعلّه متوقّف على عدم علة الضد الآخر.

التقريب الثالث : لدعوى مقدميّة عدم أحد الضدين لوجود الضد الآخر ، ودعوى مقدميّة عدم أحد الضدين لوجود الضد الآخر بالطبع ، إذ إنّ أحد أقسام التّقدم ، هو التقدم «بالطبع» ، وهو غير رتبة التقدم بالوجود ، والتقدم بالزمان ، لأنّ هناك تقدّما بالزمان ، وتقدّما بالوجود ، وتقدّما بالطبع ، فالتقدم بالزمان ، كتقدم سلفنا الصالح علينا زمانا ، والتقدم بالوجود ، كتقدم العلة التامة على معلولها ، والتقدّم بالطبع ، ميزانه ، هو أنه كلّما فرض للمتقدم من وجود ، فلا

٣٢٥

يلزم أن يكون للمتأخر وجود ، ولكن كلّما فرض للمتأخر وجود ، كان للمتقدم وجود بالطبع.

وأقسام المتقدم بالطبع ثلاثة :

أ ـ القسم الأول : تقدم جزء الماهية بالنسبة إلى الماهية ، كما في الحيوانية ، فإنها متقدمة بالطبع على الإنسان ، فكلما فرض الإنسان كان الحيوان موجودا بالطبع دون العكس.

ب ـ القسم الثاني : تقدّم المقتضي على المقتضى ، دون العكس. فكلما فرض وجود المقتضى ، كان المقتضي موجودا متقدما بالطبع ، كما في فرض الاحتراق ، إذ كلّما وجد احتراق كان للنار وجود قبله بالطبع دون العكس.

ج ـ القسم الثالث : تقدم الشرائط ، فإنه كلما فرض احتراق فرض عدم رطوبة متقدمة بالطبع دون العكس. وهذا الميزان يأتي في ترك أحد الضدين مع هذه. فكلما فرض إزالة فرض عدم الصلاة ولا عكس إذ إنّ عدم الصلاة متقدم بالطبع بالنسبة إلى الإزالة ، ومن الواضح أن عدم الصلاة ليس جزء الماهيّة بداهة ، كما أنه ليس مقتضي ، إذن لا بدّ أن يكون من الشرائط الدخيلة في الإزالة ، فتثبت مقدّميّته. وهذا البيان غير تام ، لأنه مبني على الخلط بين اصطلاح المقدميّة في باب الحكمة ، وبينها في باب الأصول ، فالمقدميّة المراد إثباتها في الأصول هي كون ترك أحد الضدين جزء العلة لترك الضد الآخر ، وميزان التقدّم بالطبع كما يصدق على المقتضي وحده وجزء الماهيّة والشرط ، فكذلك يصدق على ما يلازم الشرط ، أو جزء الماهيّة أو المقتضي فهو متقدم بالطبع ، فكون ترك أحد الضدين متقدما بالطبع باصطلاح الحكمة مسلّم ، ولكن ليس معنى ذلك ، أنّ تقدّمه بمعنى أنه واقع في طريق الآخر وجزء من علته.

هذا مضافا ، إلى أنّه من قال بأنّ ترك الصلاة هو الشرط؟ بل لعلّه أمر ملازم مع الشرط.

٣٢٦

وهذه الوجوه الثلاثة ، هي غاية ما يمكن أن يقال في تقريب المقدميّة دون أن يتم شيء منها.

وبهذا ، نكون قد استعرضنا مسلكين لمقولة : «إنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده الخاص» ، وهما : مسلك المقدميّة ، ومسلك التلازم ، وقد عرفت أن كلا منهما تتوقف صدق دعواه على ضمّ قاعدة ، أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه العام.

نعم لو ادّعي ابتداء قانون ، أن التضاد بين الشيئين ، بحسب عالم الخارج ، يفرض تضادا مناسبا بحسب عامل الحكم أيضا ، بحيث يكون التضاد الخارجي مناسبا لتضاد مناسب بحسب عالم الجعل والحكم ، لو ادّعي هكذا ، حينئذ يكون هذا المدّعي في عرض مسلك «إنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه العام» ، دون أن يحتاج إلى افتراضه في المرتبة السابقة.

ثم إنّنا كنّا قد أبرزنا علاقة بين المسلكين ، وهي تمحور كلا المسلكين حول الضد الخاص ، ترك الصلاة ، والإزالة ، فكان يقال : إنّ الإزالة الواجبة تستلزم ترك الصلاة تطبيقا لمسلك التلازم ، أو كان يقال : بأن الإزالة تتوقف على ترك الصلاة تطبيقا لمسلك المقدميّة.

ولكن يمكن إبراز العلاقة نفسها بين كلا المسلكين ، ويكون محور تطبيقهما هو الضد العام ، فيكون التضاد بين ترك الإزالة الواجبة «الضد العام للإزالة» ، وبين فعل الصلاة ، مع بعض الفوارق ، فمثلا بالنسبة إلى المسلك الأول ، يدّعى أن الإزالة إذا وجبت حرم تركها أي : ضدها العام لاقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده العام ، وهذا الضد العام ملازم لفعل الصلاة ، أي : ضدها الخاص ، وحيث أن الملازم يكسب حكمه من الملازم ، فيكون فعل الصلاة ـ الضد الخاص ـ حراما أيضا كحرمة ترك الإزالة.

وقد نوقش في تطبيق المسلكين على الضد العام ، حيث قيل : بأنّ هذا التطبيق تعتوره نقطة ضعف لم تك موجودة في البيان السابق ، وذلك أنّه في

٣٢٧

البيان السابق لم يك يفرّق فيه بين كون الصلاة أنها الضد الوحيد للإزالة ، أو كونها غير وحيدة بل هناك أضداد ، الصلاة أحدها. ولذا قلنا : إنّه لا فرق بين وحدة الضد وتعدّده فالاستلزام هو هو ، سواء أكانت الصلاة وحدها ضدا أو معها أضداد أخرى ، لأن المناط هو استلزام الواجب لشيء. بينما في المقام ، فالبيان إنما يصدق إذا كانت الصلاة هي الضد الوجودي الوحيد للإزالة ، أمّا إذا كان هناك ضد آخر ، فلا يستلزم فعل الصلاة ترك الإزالة ، بل قد يفعل شيئا آخر.

ونقطة الضعف هذه ، يمكن التغلّب والإجابة عليها بأحد وجوه ثلاثة حتى لو فرض ضد ثالث :

١ ـ الوجه الأول : هو إنّه إذا وجبت الإزالة ، حرم تركها ، بمقتضى كون الأمر بشيء نهي عن ضده العام ، وهذه الحرمة انحلالية ، فيحرم كل حصص الترك ، وترك الإزالة بعض حصص الترك المقارن مع الصلاة ، وبعضها الآخر هو الترك الملازم لذاك الضد الثالث المفروض ، وكل هذه الحصص حرام.

وبكلمة أخرى : إنّ ترك الإزالة له حصتان : إحداهما ملازمة مع الصلاة ، والأخرى ملازمة مع الضد الثالث ، فإذا حرم عدم الإزالة سرت الحرمة إلى كلتا الحصتين باعتبار انحلالية الحرمة ، فتحرم الحصة الملازمة مع الصلاة ، فتحرم الصلاة.

وحينئذ إذا لاحظنا ترك الإزالة على إطلاقه ، فهو لا يستلزم الصلاة ، ولكن إذا لاحظنا حصة واحدة من حصص ترك الإزالة ، فهي تستلزم الصلاة ، وحيث أن كل حصة حرام ، فهذه الحصة وهي الترك المقارن للصلاة حرام ، فتحرم الصلاة.

وهذا الوجه غير صحيح ، وذلك لأنّ حرمة الترك ، وإن كانت انحلاليّة ، ولكن الانحلالية ليس معناها أخذ القيود وجمعها ، وكون الحرمة متعلقة بالحصة المقيّدة المقرونة بالصلاة ، بما هي مقيدة ومقرونة كي تسري الحرمة

٣٢٨

إلى الصلاة بالملازمة ، بل الحرمة متعلقة بذات المقيّد. وتوضيحه : هو إنّا إذا لاحظنا ترك الإزالة ، وحصّصناها إلى حصتين : إحداهما ترك الإزالة المقيّدة بالمقارن ، والملازم للصلاة ، والثانية ترك الإزالة المقيدة بالمقارن ، والملازم مع الضد الثالث. فمن الواضح ، أنه إذا أخذنا المقيّد بما هو مقيّد ، فإنه يستلزم القيد ، لأنه لا يوجد إلّا مع وجود القيد ، ولكن الحرمة الانحلالية لا تتعلق بالمقيّد ، بما هو مقيّد ، بل بذات المقيد. ومن هنا قلنا مرارا : إنّ الإطلاق هو إلغاء القيود لا جمع القيود.

٢ ـ الوجه الثاني : هو إنّ ترك الإزالة ، وإن كان لا يستلزم فعل الصلاة ، فيما إذا كان في البين ضد ثالث ، ولكن الصلاة تستلزم ترك الإزالة.

وحينئذ يقال : إذا كانت الصلاة تستلزم ترك الإزالة الحرام فما هو حكم الصلاة؟ فإمّا أن تخلو من الحكم ، وإمّا أن يكون لها حكم غير الحرمة ، وإمّا أن يكون حكمها الحرمة.

أمّا الأول : فهو خلاف قانون أنّ الواقعة لا تخلو من حكم. وأمّا الثاني : فهو خلاف قاعدة عدم الاختلاف في الحكم بين المتلازمين ، بل لو فرض كونها محكومة بغير الحرمة ، لسرى حكمها إلى ترك الإزالة المحرّم ، بحسب قانون الملازمة ، فيجتمع حكمان متضادان. إذن فيتعيّن أن تكون محكومة بالحرمة ، وفقا لقانون عدم اختلاف المتلازمين في الحكم ، وهذا هو المطلوب.

وهذا البيان ، إنما يتم فيما لو بنينا على أن الواقعة لا تخلو من حكم ، وأمّا إذا قيل : بأنه يمكن خلو الواقعة من حكم ، كما فيما إذا كانت نتيجة الموقف العملي محددة ، كما في المقام ، إذ إنّ المفروض وجوب الإزالة ، وهو لا يتحقق خارجا إلّا مع ترك الصلاة ، فحينئذ سواء أكانت الصلاة محكومة بالحرمة ، أم غير محكومة ، فإنّ حكمها لا يؤثر في وظيفة المكلف ، بل على أساس هذا يمكن اختيار الشق الأول.

٣٢٩

٣ ـ الوجه الثالث : هو أن ترك الإزالة الحرام ، يستلزم الجامع بين ضديه ، الصلاة ، والضد الثالث ، وهذا الجامع سواء أكان عنوانا حقيقيا ، أو أمرا انتزاعيا ، فإنه على كل حال هو عنوان ملازم ، دون أن يختص هذا الاستلزام بعنوان حقيقي ، أو عنوان ماهوي ، فهو جامع مقولي انتزاعي قائم بين الصلاة والإزالة ، فيكون حراما ، ومنه تسري الحرمة إلى أفراده ، ومن أفراده الصلاة ، فتكون الصلاة حراما ، وهذا أحسن الوجوه الثلاثة.

وأمّا عند ما نريد أن نطبق المسلك الثاني ـ مسلك المقدميّة ـ على هذه العلاقة المعكوسة ، فإنّه يمكن أن يقال :

بأن ترك الإزالة حرام ، وفعل الصلاة علة للحرام ، وعلة الحرام حرام. فإنّ مقدمة الحرام ، وإن لم تكن حراما على الإطلاق ، ولكن لا شك في حرمة علة الحرام التامة ومقدمته.

وإن شئت قلت : إنّ وجوب الإزالة يستدعي حرمة ترك الإزالة ـ الضد العام ـ.

وفعل الصلاة ـ الضد الخاص ـ علة لهذا الترك ، باعتبار أنّ عدم هذا الضد الخاص إذا كان مقدمة ، فيكون وجوده إعداما لأحد أجزاء العلة ، وانتفاء أحد أجزاء العلة يشكّل علة تامة لانتفاء المعلول الذي هو الإزالة ، فيحرم هذا الضد الخاص ـ الصلاة ـ لا محالة ، ليبقى وجوب الإزالة. وفرق هذه المقدميّة عند تطبيقها على العلاقة الأولى ، هو : إنّه لو تمّت المقدميّة في التطبيق السابق ، فهو تقدم بالطبع ، بمعنى أن ترك الصلاة متقدم بالطبع على فعل الإزالة ، لأن ميزان التقدم بالطبع موجود هناك. وأمّا التقدم هنا في العلاقة العكسيّة ، فهو تقدم بالوجود ، لوضوح أنّ انتفاء أي جزء من أجزاء العلة التامة للوجود ، فهو علة للعدم. وبهذا يتبين بطلان مسلك التلازم وبقاء مسلك المقدمية.

ب ـ المقام الثاني : في البراهين التي أقيمت على إبطال هذه المقدميّة ،

٣٣٠

وعلى إبطال توقف أحد الضدين على عدم الآخر :

١ ـ البرهان الأول : وهو البرهان الصحيح في إثبات هذا المدّعى ، ويقرّب ببيان أمرين :

أ ـ الأمر الأول : هو أن يفرض وجود مقتضي لكل من الضدين ، كما لو فرض وجود مقتض للسواد ، ومقتض للبياض ، ، وليس هذا بالفرض المحال ، لكون كل من المقتضيين ممكنا في نفسه ، وليس مضادا للآخر ، ولا محذور عقلي في اجتماعهما وتساويهما ، بل كانا بدرجة الاقتضاء والفاعليّة متساويين ، وحينئذ ، فإمّا أن يوجدا معا ، أو يوجد أحدهما دون الآخر ، أو يفقدا معا.

أمّا الأول : فمستحيل ، للزومه اجتماع الضدين.

وأمّا الثاني : فهو مستحيل أيضا ، لأنه ترجيح لأحد المتساويين على الآخر من دون مرجح. إذ لو جاز ذلك ، لجاز ابتداء وجود السواد بلا مقتض ، إذن فيتعيّن الثالث وهو عدم وجودهما معا.

وحينئذ يقال : بأنّ عدم وجود أحدهما ليس لعدم مقتض لوجوده ، لأنه خلاف الفرض ، كما أنه ليس مانعيّة الضد الآخر ، إذ هذا خلاف الفرض أيضا ، إذ فرض عدم وجوده ، ومانعيته للضد الآخر ، متوقفة على وجوده ، وهو لم يوجد بعد.

إذن هناك مانع آخر من وجوده ، وليس هو إلّا مقتضي الضد الآخر المزاحم لمقتضيه.

أو يقال : بأنّ الذي منع وجود السواد ، مثلا ، إنّما هو مزاحمة مقتضيه مع مقتضي البياض ، الضد الآخر ، الذي لا يقل عنه اقتضاء وتأثيرا ، والعكس أيضا صحيح.

وبهذا يتبرهن ، أنّ المقتضي لأحد الضدين ، إذا تساوى مع مقتضي الضد الآخر ، يصلح للمانعية عنه. وعليه ، نثبت بالبداهة ، أنّه يكون مانعا كذلك

٣٣١

بطريق أولى ، فيما إذا كان أحدهما أشدّ اقتضاء ، وبذلك يثبت أنّ المقتضي الأشد يكون مانعا من تأثير المقتضي الأضعف.

ب ـ الأمر الثاني : هو أنّ مانعيّة أحد الضدين عن الآخر كما السواد للبياض إن ادّعيت في فرض عدم وجود السواد ، فهو أمر غير معقول ، لأنّ المانعيّة فرع الوجود ، إذن فلا بدّ أن ندعي مانعيّة السواد في فرض وجوده ، ووجوده لم يكن عند ما لم يكن له مقتض ، أو كان له مقتض مساو أو مغلوب ، إذن هو لا يوجد إلّا إذا كان له مقتض غالب ، وقد يثبت في الأمر الأول ، أنّ المقتضي الغالب هو بنفسه المانع ، وهذا معناه ، إنّ السواد يكون في طول المانع (١) ، فيستحيل أن تصل التوبة إلى مانعيّته الفعلية عن البياض ، إذن فيستحيل استناد عدم الضد إلى هذا الضد. وهذا برهان صحيح في إثبات المدّعى. وإن كان في النفس من البيان الثاني شيء.

٢ ـ البرهان الثاني : لإبطال مقدميّة أحد الضدين للآخر ، وهو ما ذكره المحقق الخوئي (٢) تفسيرا لكلام صاحب «الكفاية» «قده» ، واختلف في ذلك مع المحقق الأصفهاني «قده» (٣).

وحاصله هو : إنّ عدم أحد الضدين لو كان مقدمة لضده ، إذن لما كان في مرتبته ، بل لكان أسبق رتبة منه ، لأنه أحد مقدمات وجوده ، مع أننا يمكن أن نبرهن على أنه في رتبته ، فينتج أنه ليس عدم أحد الضدين مقدمة لوجود الآخر.

والبرهان على ذلك هو أن يقال : إن البياض والسواد ضدان ، ويستحيل اجتماعهما زمانا كما يستحيل اجتماعهما رتبة.

وحينئذ يقال : إن قيل بأنّ ثبوت أحد الضدين في رتبة ثبوت الضد

__________________

(١) محاضرات فياض : ج ٢٠ ـ ٢١ ـ ٢٢.

(٢) نهاية الدراية : الأصفهاني ج ٢ من المجلد الأول ص ٢.

(٣)؟؟؟

٣٣٢

الآخر ، لزم ثبوت الضدين واجتماعهما في مرتبة واحدة ، وهو مستحيل كاجتماعهما في زمان واحد.

وإن قيل : إنّه غير موجود وغير ثابت في مرتبة ثبوت الضد الآخر ، إذن كان عدمه ثابتا في مرتبة الضد الآخر لا محالة ، وإلّا ، لو قيل بعدم ثبوت عدمه في مرتبة وجود الضد الآخر ، للزم من ذلك ارتفاع النقيضين.

إذن فيتعيّن أن يكون كل ضد متحدا في المرتبة مع عدم ضده الآخر ، وعليه فلا يكون مقدمة له ، أو متوقفا عليه.

ثم إن السيد الخوئي أشكل على هذا البرهان حيث قال : إنّ هذا البرهان مبني على أن تكون استحالة اجتماع الضدين من أحكام الرتبة ، لا من أحكام الزمان ، فلو تخيّل متخيل ، اشتراط وحدة الرتبة مضافا إلى وحدة الزمان وغيرها ، لتم هذا البرهان.

ولكنّ الصحيح ، هو أنّ المضادة ما بين الضدين والنقيضين ، إنما هي من شئون عالم الخارج ، ووعاء الزمان ، ولو فرض تغايرهما في الرتبة ، ولذلك لا ترتفع غائلة استحالة اجتماعهما خارجا في زمان واحد ، فلو فرض أن السواد علة للبياض ، فيستحيل اجتماعهما ، وإن لم يكونا في رتبة واحدة ، إذن فالصحيح هو أن المنافاة بين الضدين ، إنما هي في عالم الخارج ، لا في عالم الرتب ، وعليه فلا معنى للقول باستحالة اجتماع الضدين في الرتبة.

ثم ذكر السيد الخوئي ، بأن كلا من البرهان والإشكال ، يعتوره إبهام ينبغي توضيحه :

أمّا الإشكال : فقد وقع فيه خلط بين مسألتين ومعنيين للقول ، «باستحالة اجتماع الضدين في رتبة واحدة كاستحالة اجتماعهما في زمان واحد» ، ينبغي التمييز بينهما.

أ ـ المسألة الأولى : هي أنه قد يكون المقصود في «استحالة اجتماع الضدين واشتراط اتحادهما في الرتبة» مضافا إلى اشتراط بقية الوحدات

٣٣٣

المعروفة في التناقض ، كالزمان والمكان وغيرهما ، وبهذا ترجع هذه الدعوى إلى التضييق في دائرة الاستحالة ، حيث يكون معناها ، أنّ استحالة اجتماع الضدين في زمان واحد مشروط بوحدة رتبتهما ، حيث أنه إذا كان أحدهما في طول الآخر ، جاز اجتماعهما حتى لو كان السواد علة للبياض الباطل اجتماعهما بالوجدان.

ب ـ المسألة الثانية : هي أن يكون المراد في اشتراط وحدة الرتبة بين الضدين اللذين يستحيل اجتماعهما ، المراد بوحدة الرتبة ، هو أنّ ثبوت الضدين في رتبة واحدة مستحيل كاستحالة ثبوتهما في زمان واحد.

وهذه الدعوى بعكس تلك الدعوى المتقدمة ، فإذا كانت تلك الدعوى تضيّق دائرة الاستحالة في اجتماع الضدين ، فهذه الدعوى توسع من دائرة الاستحالة في اجتماعهما ، كما إذا قيل : إذا كان يستحيل وجود السواد والبياض في زمان واحد ، كذلك يستحيل وجودهما في مرتبة واحدة ، فهي توسعة في دائرة الاستحالة تسري من عالم الزمان إلى عالم الرتبة الذي هو عالم التحليل العقلي. فكما يقال باستحالة ثبوت العلة والمعلول في رتبة واحدة ، يقال باستحالة اجتماع الضدين في رتبة واحدة أيضا ، وهذه الدعوى قد تكون هي المقصود في البرهان ، فلا ينقض عليها بأنه يلزم جواز اجتماع الضدين لو كان أحدهما علة للآخر ، لأن المراد توسعة دائرة الاستحالة ، فكما يستحيل اجتماعهما في زمان واحد ، أيضا يستحيل اجتماعهما في رتبة واحدة ، فهو يسلم باستحالة اجتماع الضدين في زمان واحد ولو كانا طوليين ، ويدّعي زيادة في دائرة الاستحالة بحيث تشمل الوحدة في الرتبة ، وحينئذ لا تصح دعوى أن التضاد والتنافي بين الأضداد ، إنما يكون في وعاء الزمان والوجود الخارجي ، لا في عالم الرتب ، إذ إنّ هذا ليس صحيحا ، لأنه من الواضح وجود تناف وتضاد بين ثبوت وثبوت في وعاء الرتب ، بمعنى أنه يستحيل ثبوت العلة والمعلول في رتبة واحدة ، وبلحاظ عالم التحليل العقلي.

فالخلاصة ، هي إنّ التضاد كما هو ممكن ومعقول في عالم الزمان

٣٣٤

والوجود الخارجي ، هو أيضا ممكن ومعقول في عالم الرتب.

وبعد أن ميّزنا بين مسألتين في الإشكال ، يجدر بنا أن نكشف وجه المغالطة في البرهان فنسأل بأنه : ما المراد من قولكم في البرهان : «إنّ اجتماع الضد مع ضده في رتبة واحدة يلزم منه اجتماع الضدين». إذ إنّ كون الضدين في رتبة واحدة ، أو كون شيء في مرتبة شيء له معنيان :

أ ـ المعنى الأول : كون أحد الضدين توأم الآخر وشقيقه في عالم التسلسل الزمني ، وتوأمه في النشوء من علة واحدة ، فهما معلولان لعلة واحدة.

ب ـ المعنى الثاني : لوحدة رتبة الضدين ، هو : عدم كون أحدهما في طول الآخر ، فلا هو متقدم عليه ، ولا هو متأخر عنه ، بل قد يكون واقعا في خط سببي آخر ، بمعنى أنّه لا عليّة بينهما ، سواء أكانا معلولين كلاهما لعلة واحدة ، أو لعلتين.

فإن كان المراد هو المعنى الأول ، فمن الواضح استحالة كونهما معلولين لعلة واحدة ، بحيث يكونان في رتبة واحدة في عالم التحليل العقلي ، ولكن لا يلزم من ذلك أن يكون عدم أحدهما في مرتبة الضد الآخر ، فلا البياض توأم السواد ولا عدم البياض هو توأم السواد أيضا ، دون أن يلزم من ذلك ارتفاع النقيضين ، إذ فرق بين رفع المقيّد ، والرفع المقيّد ، فإنّ الأول لا يستلزم الثاني ، فهناك يصدق رفع البياض الذي هو في مرتبة السواد ، لا الرفع الذي هو في مرتبة السواد ، وما يريد أن يثبته صاحب البرهان هو الرفع المقيّد بهذه المرتبة.

وإن شئتم قلتم : المرتبة ، قيد للمرفوع لا للرافع ، فإنّ نفي معلوليّة الضدين لعلة ثالثة مثلا ، لا يستلزم أن يكون كل منهما مع عدم الآخر ، معلولا لتلك العلة ، إذ نفي عليّة شيء لشيء لا يعني عليّته لنقيضه.

وإن كان المراد من اجتماع الضدين في رتبة واحدة ، هو أنّ كلا منهما لا

٣٣٥

هو متقدم ، ولا هو متأخر عن الآخر ، بمعنى أنّه لا طوليّة بينهما ، لأنه ليس أحدهما علة ولا معلولا للآخر ، إذن فهما في مرتبة واحدة بهذا المعنى. إن كان هذا هو المراد فهذا ليس من اجتماع الضدين في شيء ، لا في وعاء الزمان ، ولا في وعاء الرتبة الواحدة ، بالمعنى المتقدم المستحيل بحكم العقل.

وبهذا يكون هذا البرهان غير تام ، ولذلك لم نعتبره ثانيا بحسب الترتيب ، لأننا إنما نستعرض البراهين الصحيحة ، ونعلّق هذا البرهان الثاني المتقدم على ضوئها سلبا وإيجابا. ويكون هذا البرهان الذي سوف نذكره الآن هو الثاني لأنه يأتي ضمن البراهين الصحيحة.

٢ ـ البرهان الثاني : في إثبات إبطال مقدميّة أحد الضدين للآخر وهو صحيح.

وحاصله : هو إنّ عدم أحد الضدين الذي ادّعي أنه مقدمة للضد الآخر ، هل هو مقدمة ودخيل في علة الضد الآخر ، باعتبار مؤثّرية العدم في الوجود؟ بحيث يكون عدم الضد هذا ، جزءا من العلة؟ أو إنّه دخيل باعتبار مؤثريّة الوجود في نحو التمانع؟ بأن يكون عدم الضد من باب عدم المانع ، كما لو كان عدم السواد دخيلا في وجود البياض ، بمعنى أنه من قبيل عدم المانع لوجود البياض ، كما يفرض هكذا تارة أخرى ، ويفرض تارة ثالثة أن وجود السواد مؤثر ومانع من البياض ، ولكن في باب الموانع يكون تأثيرا عكسيا ، فيكون عدم السواد مقدمة ومؤثرا في وجود البياض ، فيكون دخل العدم من باب أنّه لو وجد معدومه لكان مانعا ومدافعا لضده.

وحينئذ يقال ، بأنّه : إن كان المدّعى هو الأول ، فهو باطل ، بداهة لاستحالة تأثير المعدوم في الموجود بمعنى اقتضائه له ، كيف! وإلّا لاستغنى الأمر الوجودي عن العلة ، إذن فلا بدّ أن يكون التأثير بالنحو الثاني ، أي : بالمانعيّة والمدافعة بين الوجودين ، ولكن هنا نسأل : بأنّ وجود السواد المانع وعدمه الذي هو مقدمة ، متى يكون وجوده هذا مانعا؟ هل يكون مانعا عند ما

٣٣٦

يوجد؟ أو أنه يكون مانعا عند ما لا يكون موجودا؟.

وبعبارة أخرى نسأل : هل إنّ تأثير الضد في وجود الضد الآخر بنحو المانعة والمدافعة ، هل يكون قبل وجوده ، أو بعده؟.

أمّا كونه مانعا عند ما لا يكون موجودا ، فلا مجال له ، إذ قد فرغنا عنه ، لاستحالة استغناء الموجود عن علة لوجوده ، واستحالة تأثير ومانعيّة المعدوم ، إذن فيبقى الفرض الأول ، وهو كون الضد مانعا ومؤثرا عند وجوده ، وعند ما نفرضه موجودا ، إذن فقد فرضنا تبعا لوجوده ، وجود تمام علته ، ومن أجزاء علته عدم وجود ضدّه ، أي : عدم وجود البياض قبل وجود السواد ، وبعد الفراغ عن عدم البياض قبل السواد ، كيف يكون السواد مانعا عن البياض (١)؟

وإن شئت قلت : إنّ مانعيّة الضد بعد وجوده ، متوقفة على أن يكون الضد الآخر معدوما ، حسب المدّعى ، بتوقف الضد على عدم الآخر من كلا الطرفين ، ممّا يعني أن الضد الأول المانع ، موقوف وجوده على عدم الضد الآخر ، الممنوع ، ومعه يستحيل أن يكون مانعا عنه ، فإن ما يتوقف وجوده على عدم شيء آخر يستحيل أن يكون مانعا عن وجوده.

وقد يبرهن على هذا فيقال : بأن المانع إنما يمنع عمّا يكون ممكنا ، لا ما يكون ممتنعا ولو بالغير ، وهنا في المقام في رتبة وجود المانع ، يكون الضد الآخر ممتنعا بالغير في رتبة سابقة ، لأنّ التوقف من الطرفين ، فلا بدّ من عدم الضد الممنوع ولو بعد علته ، حتى يتحقق الضد الموجود ، ومعه لا يعقل أن يكون مانعا عنه.

وقد يبرهن عليه باستلزام التهافت في الرتبة ، فيقال : بأنّ المانع متقدم رتبة على عدم الممنوع ، فلو كان متوقفا على عدم الممنوع ، فمعنى ذلك أنه متأخر عنه ، وهو تهافت.

__________________

(١) فكأنه من قبيل منع الممنوع ، أو منع المعدوم.

٣٣٧

والخلاصة إنّ هذا البرهان برهان مستقل ، وهو غير برهان الدور في «الكفاية».

٣ ـ البرهان الثالث : على إبطال مقدمية أحد الضدين للآخر ، وهذا البرهان كأنه تطوير للأمر الأول من البرهان الأول ، حيث أثبتنا هناك مانعية مقتضي أحد الضدين عن الضد الآخر ، فيما إذا كان المقتضي مساويا ، وبطريق أولى إذا كان غالبا ، أو الآن في هذا البرهان الثالث ، نريد أن نبرهن على أنّ المقتضي يكون مانعا عن تأثير مقتضيه ، سواء أكان غالبا أو مساويا أو مغلوبا ، فالمقتضي الذي يقتضي السواد مثلا ، سواء أكان غالبا أو مساويا أو مغلوبا ، يتصور فيه ثلاث احتمالات :

الاحتمال الأول : اقتضاؤه للسواد على وجه الإطلاق ، سواء أكان هناك جسم أبيض أو لا ، من قبيل اقتضاء السحاب لنزول المطر ، سواء أكان هناك برد أو حر ، فإن السحاب يقتضي نزول المطر مطلقا ، وإن اقتضاءه غير مشروط بتقدير دون تقدير ، وفي المقام يقال ، بأن اقتضاء مقتضي السواد للسواد أيضا مطلقا ، سواء أكان هناك بياض ، أو لم يكن.

وهذا الاحتمال مستحيل ، للزومه المحال ، وذلك لأنّه يقتضي تسويد البياض إذ إنّه بحسب الفرض ، يقتضي التسويد مطلقا حتى مع البياض ، وتسويد الأبيض بما هو أبيض محال ذاتا بلا إشكال ، لأنّ اقتضاء مقتض للمحال محال في نفسه.

الاحتمال الثاني : هو أن يكون اقتضاء مقتضي أحد الضدين في نفسه مشروطا ومنوطا بعدم الضد الآخر ، كما لو كان اقتضاء مقتضي السواد للسواد ، منوطا بعدم البياض.

وهذا الاحتمال هو ساقط أيضا ، لأنّ هذا الاشتراط وإن اتّفق أحيانا لنكتة خاصة ، كما لو قال لآخر : إن لم تبيّض هذه الورقة فسوف أسوّدها ، فالتسويد مشروط بعدم وقوع التبييض من قبل الغير ، فإنّ مثل هذا الأمر قد يتفق خارجا

٣٣٨

لنكتة شخصية وخاصة ، لكنه خلاف الوجدان ، فإن طبع التضاد وفرضه لا يقتضي ، ذلك وإن كان يصح تقييد مقتضي أحد الضدين بعدم الآخر ، كما رأيت في المثال ، ولكنّ التضاد بما هو تضاد ، ليس ملاكا لذلك ، وليس ملاكه ذلك.

ولا يتوهّم في المقام ، أنّ هذا كأنّه استدلال على المدّعى بوجدانية بطلان مدّعى الخصم ، حيث أنّ الخصم يرى أن التضاد يوجب توقف أحدهما على عدم الآخر ، ونحن نرى أنّ التضاد لا يوجب ذلك بالوجدان ، إذن فنكون كأنّنا ادّعينا وجدانية بطلان مدّعى الخصم ، إذن فهذا ليس استدلالا منّا ، وإنما هو تكذيب بالوجدان لمدّعى الخصم ، إذ في مدّعاه ما يوهم وجدانية المنافاة بين الضدين ، وأن وجود أحدهما منوط بعدم الآخر ، في حين أنّ هذا ليس هو الوجدان المدّعى في المقام كي يكون محل النزاع ، وإنما المدّعى هو وجدانية عدم توقف مقتضي أحد الضدين في نفسه على عدم الضد الآخر ، وهو ممّا يعترف به الخصم.

وعلى كل حال فإنه يجاب عن هذا التوهم ، بأنّ عندنا مسألتين : إحداهما هي الوجدان ، والثانية يكون ما هو الوجدان فيها برهان على بطلان مدّعى الخصم في المسألة الأولى.

وتوضيح ذلك ، هو : إنّ الخصم يقول بأن أحد الضدين يتوقف على عدم الضد الآخر ، وهذا وإن كان خلاف وجداننا المعمّق ، ولكنّه ليس واضح البطلان جدا ، وذلك لوجود وجدان يوهم هذه الدعوى ، وهو وجدانيّة التنافي بين السواد والبياض ، إذن فدعوى توقف أحد الضدين على عدم الآخر ، إنما هي في حدود ما يكون بينهما من منافاة ، يدّعى أنّ الوجدان قاض بتوقف أحدهما على عدم الآخر.

وهذا الوجدان في المنافاة ، إنّما هو بين السواد والبياض ، وأمّا مقتضي السواد مع وجود البياض ، فلا منافاة بينهما ، لإمكان أن يوجد مقتضي السواد مجردا عن التأثير في البياض خارجا ، إذن فذاك الوجدان الذي حرّك ضمير

٣٣٩

الخصم ووجدانه ، لدعوى المقدميّة بين عدم الضد وضده ، حتى صارت هذه المقدميّة وجدانيّة ، غير موجود هنا بين اقتضاء المقتضي للسواد ، ووجود البياض خارجا.

وإنما موطن هذا الوجدان ، إنما هو في ظاهر المنافاة والممانعة بين نفس السواد والبياض ، وحينئذ ، إذا لم يكن بين اقتضاء مقتضي السواد ووجود البياض وجدان منافاة ، إذن فلا يساعد حتى ضمير الخصم على القول ، بأنّ اقتضاء مقتضي الضد مشروط بعدم ذلك الضد الآخر ، وإنما الاشتراط أمر يحتاج إلى نكتة زائدة على عدم التضاد.

وهنا يمكننا على ضوء هذا ، أن نجعل من مقولة عدم اشتراط اقتضاء مقتضي السواد بعدم البياض ، أن نجعل منها أمرا وجدانيا يعترف به الخصم ، وإن كان هذا قد يحدث صدفة لنكتة خاصة في بعض الموارد ، كما تقدم في المثال سابقا.

وبهذا يمكننا أن نبطل هذا الاحتمال الثاني ، ونفوّض عن هذا الوجدان ببرهان يختص بخصوص المقتضي الغالب ، دون أن يكون اقتضاؤه مشروطا بعدم وجود الضد الآخر ، وإلّا لما كان لغلبة المقتضي تأثيره في إيجاد مقتضاه ، ما دام مشروطا بعدم تأثير المقتضي الضعيف ، مع أنّ ضرورة العالم الذي نعيش فيه ، تدل على أن الغلبة في أحد المقتضيين توجب وجود مقتضاه خارجا ، وإن كان المقتضي الضعيف موجودا.

وهذا معناه أن اقتضاء المقتضي الغالب ، وتأثيره في إيجاد مقتضاه ، لا يعقل أن يكون مشروطا بعدم تأثير المقتضي الضعيف (١) ، وهذا إن صحّ في المقتضي القوي ، صحّ في المقتضي الضعيف ، لوضوح عدم الفرق بين افتراض

__________________

(١) ولكن عرفت فيما تقدم أن اشتراط تأثير المقتضي الغالب بعدم تأثير المقتضي الضعيف ، غير ضار في المقام ، إذ إنّ تأثير المقتضي الضعيف إلى جانب المقتضي القوي ، كلا تأثير في مقام المزاحمة.

٣٤٠