بحوث في علم الأصول - ج ٥

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٣

وعليه فلا يلزم محذور من إطلاق الوجوب من ناحيته.

بقي بعد هذا ، الإشارة إلى نكتة وهي : إن ما تعقلناه في المرحلة الثالثة من الوجوب المشروط ، لا يعني مقايسة باب الأحكام الشرعية بباب القضايا الحقيقية كما هو ظاهر المحقق النائيني (١) (قده) ، فإنه بعد أن تعقّل الواجب المشروط ، ذهب إلى أنّ حال الواجب المشروط هو حال القضايا الحقيقية. فكما يوجد في القضايا الحقيقية مرحلتان ، مرحلة القضية الشرطية الصادقة حتى مع كذب طرفيها ، ومرحلة القضية الفعلية ، الحملية في طرف الجزاء ، والتي تكون فعلية عند فعلية الشرط ، فكذلك الحال في الواجب المشروط فإنه تكون للحكم الشرعي مرحلتان :

مرحلة جعل الوجوب على المستطيع التي ترجع إلى قضية حقيقية شرطية.

ومرحلة المجعول التي ترجع إلى قضية فعلية للوجوب عند فعلية وتحقق الشرط في الخارج ، فإذا قال المولى : إذا استطعت فحج ، فهذه قضية شرطية لا تختلف في روحها عن القضية الحقيقية ، فكما أن القضية الحقيقية ترجع في روحها إلى قضية شرطية كما في قوله «النار حارة» فإنها ترجع إلى قضية شرطية مفادها أنه إذا كان شيء «ما» نارا فهي حارة ، وكذلك هنا في القضايا الشرطية فقضية «إذا استطعت فحج» مفادها قضية حقيقية ، تعني أنه إذا كان إنسان «ما» مستطيعا ، فهو يجب عليه الحج ، وبهذا يكون (المحقق النائيني) قد قاس القضية الحكمية الشرعية بقضية حقيقية تكوينية كما في «النار حارة» بلحاظ المرحلة الأولى والثانية ، وهو بهذا تصوّر للحكم عالمين : عالم الجعل ، وعالم المجعول ، فعالم الجعل هو عالم المرحلة الأولى ، أي : عالم القضية الشرطية ، بينما عالم المجعول هو عالم المرحلة الثانية ، أي : عالم القضية الفعلية ، يعني عالم فعلية الجزاء بفعلية شرطه.

__________________

(١) أجود التقريرات : الخوئي ج ١ ص ٢٢٤.

٦١

وهذه المقايسة ، بلحاظ المرحلة الأولى وهي مرحلة القضية الشرطية ، هي صحيحة ، ولكنها بلحاظ المرحلة الثانية ، مرحلة القضية الفعلية ، هي غير صحيحة ، فإن قضية «النار حارة» لها مرحلة فعلية ، وهي مرحلة فعلية الجزاء بفعلية الشرط ، ولكن قضية المستطيع يجب عليه الحج ، هذه القضية ليس لها وراء عالمها وجود فعلي ، ومرحلة فعلية لكي تقاس هذه بتلك كما تقدمت الإشارة إلى ذلك في الشرط المتأخر. فإن القضية الحقيقية يكون لجزائها مرحلة فعلية حقيقية ، وهذا بخلاف القضية المجعولة ، فإنها لا يكون لجزائها مرحلة فعلية حقيقية بالدقة بل وهمية تصورية.

والخلاصة هي : إنّ الوجوب المشروط في مرحلة الجعل والاعتبار ـ المرحلة الثالثة ـ وإن كان ينشأ على نهج القضايا الحقيقية ، بمعنى أنه يقدّر وجود الشرط تقديرا ، ثمّ ينشأ الوجوب على أساس هذا التقدير ، كما يقدر وجوب النار ، وينشأ الحكم بالحرارة على أساسه.

ولكن الفرق بين الاعتبار الذي يتمثل فيه الحكم في المرحلة الثالثة ، وبين القضايا الحقيقية في الأمور الخارجية ، هو : إنّ القضايا الحقيقية لها وراء عالم القضية الشرطية فعلية لجزائها في ظرف فعلية موضوعها ، ولكن الاعتبار الذي تتمثل فيه قضايا الأحكام في المرحلة الثالثة ، فهو ليس له وراء عالم القضية الشرطية المجعولة بذلك الاعتبار ، ليس له فعلية للجزاء بفعلية الشرط ، كما أشرنا إلى ذلك في بحث الشرط المتأخر.

وحاصل الكلام في ذلك هو : إنّ المولى حينما يعتبر وجوب الحج على المستطيع ، فإنه يحدث بهذا الاعتبار شيئا لم يكن قبله ـ سواء أكان مستطيعا في الخارج أو لم يكن ، وهذا الشيء الذي يحدث هو عبارة عن نفس الجعل والاعتبار ، إذ إنّ الجعل والاعتبار حادثان بعد العدم ، فالحادث قضية شرطية مجعولة ومفترضة ، وهي قضية أنه لو كان مستطيعا لوجب عليه الحج ، وهذه القضية الشرطية تكون ثابتة بالجعل والاعتبار ، بعد أن لم يكن لها ثبوت قبل ذلك ، ثم بعد ذلك ، يفرض أن الشرطية ـ الاستطاعة ـ توجد خارجا ، حيث

٦٢

يصح السؤال هنا ، بأنه : هل حدث شيء جديد عند وجود الشرط حيث يقال : إنّ ذلك الجزاء في القضية الشرطية كان موجودا بوجود تقديري ، والآن أصبح موجودا بوجود فعلي تبعا لفعلية وجود الشرط ، فهل هذا التساؤل وهذا القول ، له واقع أو لا؟

قد سبق وناقشنا هذا الوجود الثاني حيث قلنا هنا : إنه في ظرف وجود الاستطاعة خارجا ، لا يحدث شيء آخر وراء عالم الجعل والاعتبار غير الذي كان ثابتا من أول الأمر.

وكان برهاننا على ذلك هو أن ثبوت شيء وحدوثه عند وجود الاستطاعة خارجا ، إمّا أن يكون نسبته إلى الجعل نسبة المجعول إلى الجعل ، وإمّا أن يكون نسبته إلى الجعل نسبة المقتضى إلى المقتضي ، والمسبّب إلى السبب ، فإن فرض أن هذا الشيء نسبته نسبة المجعول إلى الجعل ، بمعنى أن الجعل جعل وإيجاد له ، فقد سبق وقلنا : إنّ هذا غير معقول ، لأن المجعول مع الجعل كالوجود مع الإيجاد ، فكما أن الوجود عين الإيجاد ، فكذلك المجعول والمعتبر عين الجعل والاعتبار ، ولا تعقل المغايرة بينهما.

ولكن في المقام يوجد مغايرة بينهما ، لأن الاعتبار كان موجودا ، ولم يكن هذا المجعول موجودا ثم وجد ، ومع فرض وجود هذه المغايرة بينهما ، يستحيل أن تكون نسبة أحدهما إلى الآخر نسبة المجعول إلى الجعل ، والمعتبر إلى الاعتبار ، لما برهن عليه من العينية والاتحاد بينهما.

وفي مقام توضيح هذا المطلب وتعميقه يقال : إن الاعتبار صفة من الصفات النفسانية ذات الإضافة ، إذ إنّه يوجد في عالم النفس صفات ذات إضافة ، وصفات ليست بذات إضافة ، ومن جملة الصفات القائمة في عالم النفس ، وهي ذات إضافة ، الاعتبار ، والحب ، والبغض ، والقدرة ، والعلم ، فإن الاعتبار يحتاج إلى معتبر ، والحب إلى محبوب ، والقدرة إلى مقدور وهكذا. وأمّا الصفات النفسانية التي ليست بذات إضافة فهي من قبيل الجبن ،

٦٣

والكرم ، والبخل ، فإن كل واحدة من هذه الصفات لا يحتاج إلى طرف بحسب الخارج.

وحينئذ يقال : إنّ الصفات النفسانية ذات الإضافة ، ليست الإضافة فيها إلى المحبوب والمقدور وغيره ، إضافة زائدة على ذاتها ، بل هي إضافة مستبطنة في حاق ذاتها وجوهرها ، إذ لو كانت إضافة العلم إلى المعلوم ، وهكذا الحب إلى المحبوب ، زائدة على ذات الحب ، وطارئة عليه ، إذن كان حالها حال زيادة البياض على الجسم ، ولازم ذلك أنه كما يمكن أن نتعقّل الجسم كما هو هو في مرتبة ذاته ، في المرتبة السابقة على طرو البياض عليه ، فكذلك هنا يمكن أن نتعقل الحب في مرتبة ذاته من دون إضافته إلى محبوب ، لأن هذه الإضافة طارئة ومتأخرة عن مرتبة ذات الحب ، بينما هذا غير معقول بالوجدان ، فإن الحب في أي مرتبة تصوّرناه ، لا بدّ له من محبوب ، ولا العلم ، ولا الاعتبار أيضا في أي مرتبة دون إضافة معلوم له ، فإن هذا بخلاف الجسم والبياض فإنه يمكن تصوره بحد نفسه من دون إضافة إلى البياض أو السواد ، وهذا يبرهن أن إضافة العلم إلى المعلوم ، والاعتبار إلى المعتبر ، ليست إضافة زائدة على الذات وإلّا لزم ما تقدّم ، إذن فهذه الإضافة مقومة لذات الحب ، ولذات العلم والاعتبار في مرتبة ذوات هذه الأشياء.

وحينئذ إذا كانت هذه الإضافة ثابتة في مرتبة ذات الحكم ، فهي لا تخلو من إحدى حالتين : فإمّا أن تكون هذه الإضافة ثابتة بلا طرفها المضاف إليه ، وهو أمر غير معقول ، لأن الإضافة نسبة تتقدم بالطرفين ، إذن فلا بدّ أن تكون ثابتة مع طرفها المضاف إليه ، وهو الحالة الثانية ، إذن فتكون الإضافة إلى المحبوب ثابتة في مرتبة ذات الحب ، وكذلك المحبوب ، فإنه ثابت في نفس المرتبة وهذا معناه ، إنّ متعلق الحب والمحبوب بالذات ، كما متعلق العلم والمعلوم بالذات ، هو نفس الصورة والمفهوم الثابت في أفق نفس العلم ، وأفق نفس الحب ، وهذا هو المسمّى بالمعلوم بالذات والمحبوب بالذات ، لأنه هو طرف الإضافة حقيقة ، وهو متعلق الحب في الحب ، ومتعلق العلم في

٦٤

العلم ومتعلق الاعتبار في الاعتبار ، وأمّا ما يحاكيه في الخارج ويماثله فيسمّى بالمعلوم بالعرض ، والمحبوب بالعرض ، والمعتبر بالعرض ، بمعنى أن هذا المعلوم بالعرض ليس هو متعلق الحب حقيقة ، ولا للاعتبار حقيقة ، وإنما هو أمر يماثل ما تعلّق به الحب والاعتبار.

وبهذا يتبرهن على أن المعتبر بالذات دائما موجود في أفق نفس الاعتبار ، ويستحيل أن يكون موجودا خارج أفق نفس الاعتبار لما تقدّم من أن الاعتبار من صفات ذات الإضافة ، والإضافة صفة ثابتة في مرتبة ذاتها ، وثبوتها هكذا مساوق لثبوت المضاف إليه.

وعليه فيستحيل أن يكون المعتبر بالذات ثابتا وراء أفق الاعتبار.

وهذا بخلاف المعتبر بالعرض ، فإنه ليس معتبر حقيقة ، وإنما يسمّى معتبر بالعرض ، بمعنى أنه هو المحكي عنه ، والمرئي ، والمشابه للصورة الذهنية ، لوضوح أن الصور الذهنية المقوّمة للحب في أفقه ، وللاعتبار في أفقه ، هذه الصور ، إنما يلحظها المحب ، والعالم ، والمعتبر ، باعتبار حكايتها للخارج ، ومرآتيتها للخارج ، حيث لا يرى بها إلّا الخارج ، وإن كان في الواقع لا يرى الخارج ، وإنما يراها هي ، ولكن بالنظر الإفنائي يرى بها الخارج ، فذاك الخارج بالنظرة الإفنائية المسامحية كأنه هو المحبوب ، والمعلوم ، والمعتبر ، وإن كان بالنظرة التدقيقيّة هو مطابق للمحبوب ، لا نفسه هو المحبوب ، وكذلك للمعلوم والمعتبر ، لا إنّه هو المعلوم والمعتبر.

وعلى ضوء هذا لا يعقل القول بأن المعتبر يكون موجودا في عالم فعلية الاستطاعة ، وتكون نسبته إلى الاعتبارية نسبة المعتبر إلى الاعتبار ، وإن كانت نسبة المجعول في وجوب الحج على المستطيع عند الاستطاعة ، نسبة المسبّب إلى السبب ، والمقتضى إلى مقتضيه ، فقد تقدمت الإشارة إلى عدم صحة ذلك أيضا ، لأن هذا المسبّب إمّا أن يدّعى أنه موجود خارجي أو موجود نفساني ، وكلاهما باطل.

٦٥

أمّا كونه باطلا فيما إذا ادّعي أنه موجود خارجي ، فلوضوح أن الأحكام الشرعية ليست موجودات خارجية ، إذ لا شيء في الخارج اسمه الوجوب.

وأمّا كونه باطلا فيما إذا ادّعي إنه موجود نفساني فكذلك هو أمر غير معقول ، لأن هذا المجعول تابع لواقع وجود الاستطاعة خارجا ، مع أنه من الواضح أنه لا يعقل أن يحدث شيء في نفس المولى الجاعل تبعا لوجود الشرط ـ الاستطاعة ـ خارجا ، سواء علم بتحققها ، أو لم يعلم ، لوضوح أن فعلية المجعول تابعة لوجود الاستطاعة خارجا ، سواء علم بتحققها ، أو لم يعلم.

وبهذا يتبيّن أن الشقوق كلها باطلة ، وبه يتضح أنه لا يوجد في الأحكام والقضايا المجعولة والمعتبرة ، شيء حقيقي له وجود خارجا ، أو في نفس المولى نسميه بالمجعول الفعلي ، إلّا نفس وجوده الثابت في نفس الجعل والاعتبار على نهج القضية الشرطية والتقديرية.

نعم هذه القضية الشرطية والتقديرية ، لا تكون محركة وفاعلة قبل تحقق الشرط ووجوده ، وإنما تصبح محركة وفاعلة بعد وجود الشرط وتحققه ، لوضوح أنه لا مستطيع حتى تحركه ، فلم يبق إلّا الفقراء ، إذن فهي لا تكتسب المحركية في شخص خارج إلّا إذا انطبقت عليه لا محالة. إذن فظرف الاستطاعة هو ظرف المحركية والفاعلية لهذه القضية الخارجية ، لا أنه يحدث شيء حقيقة في ظرف وجود الموضوع.

لكن لا بأس بأن يقال : بأنه يحدث شيء مسامحة عند تحقق الشرط خارجا ، فنعبّر عنه مسامحة بفعلية المجعول ، وتحقق الوجوب ، يعني بالنظر الإفنائي ، حيث أن المولى والمعتبر كأنه يرى الصورة الذهنية فانية في الخارج ومرآة له ، فهو كأنه يرى شيئا يحدث في الخارج ، لكنها رؤية تصورية إفنائية ، وليست نظرا حقيقيا ، فحينما يقال : بأن وجوب الحج قد ثبت على زيد ، فهذا القائل يجري حسب هذه النظرة ، وهذه النظرة وإن كانت كاذبة بحسب

٦٦

البرهان ، لكنها نظرة عرفية ارتكازية قد جرى عليها العقلاء ، وجرى عليها ، (المحقق النائيني) نفسه ، في تصويره لعالم الجعل والمجعول.

إذن فتصوير عالم المجعول تصوير عرفي عقلائي ، وإن كان بحسب الواقع ليس موجودا ، ولكن قد تطابق الفهم العرفي على أن المجعول والمعتبر حينما يرى بالنظرة الإفنائية ، فإنه يرى كأنه الخارج ، فكأنه جعل الخارج.

ونحن وإن كنّا لا ننكر عالم المجعول بحسب النظر العرفي والعقلائي ، لكننا ننكر واقعه بحسب النظر البرهاني.

وبإنكار المجعول بحسب النظر البرهاني ، حلّ إشكال الشرط المتأخر كما تقدم معنا ، كما أنه بناء على قبول المجعول بالنظر التصوري ، صحّ استصحاب بقاء المجعول في الشبهات الحكمية ، كما سيأتي. وقد تبيّن بعد كل هذا إمكان الواجب المشروط في مقام الثبوت في تمام المراحل الثلاث للحكم ، كما اتضح بما ذكرناه أخيرا ، الجواب على إشكال (المحقق (١) الخراساني) في الواجب المشروط من استلزامه التفكيك المحال بين الاعتبار والمعتبر ، والإنشاء والمنشأ ، إذ قد تبيّن عدم لزوم التفكيك بين الاعتبار والمعتبر بالذات ، والإنشاء والمنشأ بالذات ، لما عرفت من العينية ، وعدم الوجود الحقيقي لهما خارج أفق نفس الاعتبار والإنشاء.

وأمّا المعتبر والمنشأ بالعرض ، فليس بالمنشإ والمعتبر حقيقة ، وإن كان يماثل ما تعلق به الحب والاعتبار والإنشاء.

هذا هو تمام الكلام في تعقل الوجوب المشروط في المرحلة الأولى ، مرحلة مقام الثبوت.

المرحلة الثانية :

في تعقل الوجوب المشروط في مرحلة مقام الإثبات ، وما يرد

__________________

(١) كفاية الأصول : مشكيني ج ١ ص ١٥٤.

٦٧

إشكالات في هذا المقام ، حيث أشكل على رجوع الشرط إلى الوجوب في مرحلة الإثبات والدلالة ، فيما إذا استفيد الوجوب من صيغة الأمر ، كما إذا قال : ـ حج وأكرمه ـ دون أن يكون لعلماء الأصول إشكال على ذلك فيما إذا استفيد الوجوب من مفهوم اسمي ، كما إذا قال. وجوب الحج مشروط بالاستطاعة ـ ومنشأ الإشكال هو أن صيغة الأمر وهيئته تدل على مفهوم حرفي نسبي.

وقد تقدّم في بحث المعاني الحرفية ، إنّ الهيئات ملحقة بالحروف ، وعليه ، يكون مدلول الهيئة هو النسبة ببعض المعاني كالنسبة الطلبية والإرسالية القائمة بن المكلف والمادة ، فإذا كان الوجوب مستفادا بنحو المعنى الحرفي النسبي ، والنسب لا تقبل التقييد باعتبار أنها سنخ مدلول حرفي ، إذن فالشرط ، أي المجيء في قوله : «إذا جاء زيد فأكرمه» لا يعقل رجوعه إلى مفاد هيئة «أكرمه» ، والأصوليون وإن بحثوا هذا الإشكال في مقام الثبوت ، واعترفوا بإمكانية رجوع الشرط إلى مدلول الهيئة ، بحسب الفهم العرفي والقواعد اللغوية ، لكن بعد فرض عدم إمكان ذلك باعتبار كون مدلول الهيئة سنخ مدلول حرفي نسبي ، وكون المداليل الحرفية والنسبية لا تقبل التقييد ، من هنا ذهبوا في إرجاع الشرط إلى مدلول المادة ، وصار القيد قيدا للواجب باعتبار هذا الإشكال ، وقد قرّر الإشكال بأحد تقريبين :

التقريب الأول : هو إنّ الإطلاق والتقييد إنما يعرضان على المفاهيم الكلية القابلة للانطباق على كثيرين في أنفسها ، كالمفاهيم التي تتّسع بالإطلاق تارة ، وتضيق بالتقيد أخرى ، دون المفاهيم التي لا تقبل الانطباق على كثيرين ، وإنما هي أفراد متعيّنة متشخصة لا يعقل فيها ، إطلاق ولا تقييد.

وقد تقدّم في بحث الوضع ، أن المعاني الحرفية موضوعة بالوضع العام ، والموضوع له الخاص ، وأنها أمور خاصة جزئية ، وعليه ، فهي لا تقبل الإطلاق والتقييد.

وتحقيق الجواب على هذا التقريب ، هو : إنّ منشأ هذا التقريب إنما هو

٦٨

الخلط بين مدلولين للجزئية ، إذ إنّ هناك جزئية حقيقية لا تقبل الصدق على كثيرين ، وبالتالي فهي لا تقبل الإطلاق وكذلك التقييد ، وهناك جزئية فرغنا عنها في بحث الوضع في باب المعنى الحرفي ، فهي لا تنافي الكلية القابلة للصدقة على كثيرين.

وتوضيح ذلك ، هو : أنّنا قلنا في باب الحروف إنّ هناك استعمالين لحرف «من» أحدهما كما في قولك : «سرت من البصرة إلى النجف» ، والاستعمال الآخر كما في قولك ، «سرت من النجف إلى كربلاء» فهناك نسبة ابتدائية قائمة بين البصرة والنجف ، وهناك نسبة ابتدائية قائمة بين النجف وكربلاء ، وكل من هاتين النسبتين تغاير الأخرى في طرفيها ، فطرفا الأولى هما عبارة عن «السير من البصرة إلى النجف» فالبصرة مبتدأ منه ، والسير مبتدأ به ، والنجف هي المنتهى إليه السير ، وطرفا النسبة الأخرى هي عبارة عن «السير من النجف إلى كربلاء» ، فالسير مبتدأ به ، والنجف مبتدأ منه ، وكربلاء منتهى إليه السير ، فهاتان نسبتان متغايرتان من حيث الطرفين.

وقد وقع الكلام حول إمكانية جعل مدلول «من» موضوعا لجامع النسبتين بعد إلغاء خصوصية الطرفين فيهما ، فيقال : إنّ «من» موضوع لجامع النسبة الابتدائية في كلتا القضيتين ، سواء أكان الابتداء من البصرة أو من النجف ، كما نصنع في أسماء الأجناس حينما نلفي فيها سواد زيد وبياض عمر ، ونضع نقطة «إنسان» لجامع الإنسان ، سواء أكان أسود أو أبيض ، ومثل هذا نصنع في باب الحروف.

وقد أجاب المستشكلون في رجوع القيد إلى الهيئة بالمنع من ذلك ، بل باستحالة ذلك في باب الحروف ومنها الهيئات ، وذلك لأن كلتا النسبتين متقومة ذاتا بطرفيها ، فإن النسبة باعتبارها أمرا اندكاكيا ، ومتقومة ذاتا واندكاكا بطرفيها ، وكذلك النسبة الأخرى باعتبارها أمرا اندكاكيا ، ومتقومة ذاتا واندكاكا بطرفيها ، وحينئذ يستحيل تكوين الجامع بين النسبتين ، لأننا إن ألغينا خصوصية الطرفين هنا ، وخصوصية الطرفين هناك ، إذن فقد ألغينا أصل ماهية

٦٩

النسبة في كلتا النسبتين ، وإن لم نلغ الطرفين في كلتا النسبتين ، إذن فتبقى كلتا النسبتين متغايرتين.

وبهذا لا يمكن تحصيل الجامع مع التحفظ على خصوصيات طرفي النسبة ، إذن يستحيل تكوين جامع بين النسبتين بإلغاء طرفي النسبة.

وبهذا يتعيّن أن يكون حرف «من» موضوعا بالوضع العام ، والموضوع له خاصا أي : إنّ «الموضوع له» إنما هو النسبة المتقومة «بالبصرة والنجف» بخصوصها في القضية الأولى ، و «الموضوع له» في القضية الثانية ، إنما هو النسبة المتقومة «بالنجف وكربلاء» بخصوصها ، إذن فمعنى أن الموضوع له خاص وجزئي ، يعني جزئيا وخاصا بلحاظ طرفي النسبة ، بمعنى أن الموضوع له هو النسبة المحفوظ لها شخص طرفيها ، لا النسبة المأخوذة لا بشرط من حيث طرفيها ، حيث أننا يمكن ن نسمي النسبة الأولى ، بالنسبة الجزئية الطرفية ، في مقابل من يتوهم أن «الموضوع له» هو النسبة التي لم يؤخذ فيها طرف أصلا ، كما برهنا على هذه المدّعيات في بحث الوضع. حيث قلنا : إنّ النسبة الجزئية الطرفية بالمعنى المتقدم ، لا تتنافى مع كون النسبة أمرا كليا قابلا للصدق على كثيرين ، بلحاظ صدقها على الخارج.

فالمعنى الحرفي هو جزئي ، بمعنى الجزئية الطرفية ، وهو كلي ، بمعنى أنه قابل للصدق على كثيرين.

وبناء على هذا ، فإنه يعقل فيه الإطلاق والتقييد إذ إنّهما من شئون الكلي ، بمعنى القابل للصدق على كثيرين.

التقريب الثاني : للإشكال هو أن يقال : إن الإطلاق والتقييد لشيء هو حكم من قبل المتكلم على ذلك الشيء ، إذن هو فرع لحاظ ذلك الشيء الذي هو موضوع الإطلاق والتقييد ، والتوجه إليه توجه تفصيلي استقلالي ، والمفروض أن المعاني الحرفية معان آليّة لا يمكن التوجه إليها توجها استقلاليا ، وما دامت هكذا ، فلا يمكن الحكم عليها بالإطلاق ، ولا بالتقييد.

٧٠

وجواب هذا التقريب ، هو : إنّه إن أريد بالآليّة معنى المرآتية على حدّ مرآتية المرآة ، كما في مثل نظر الإنسان إلى وجه في المرآة ، فهو ينظر إلى المرآة نظرا إعفائيا ، ولكن تمام نظره نحو الصورة الموجودة في المرآة حتى مع يقينه أنه إنما ينظر إلى زجاج ، فهو حينئذ إن أراد أن يحكم على ما في المرآة ، فسوف ينصبّ حكمه على المرئي ، لأنه غافل عن نفس المرآة ، فإن أريد أن المعاني الحرفية تكون هكذا ، فهذا في غير محلّه ، لأنه كثيرا ما يكون التوجه إلى المعنى الحرفي مستقلا ، وذلك كمن يسأل عن شخص فيقول : في المسجد ، فيكون التوجه هنا إلى الحالة الكائنة ، أي إلى الكون في المسجد ، والنظر إلى النسبة القائمة ما بين «زيد» وما بين كونه في «المسجد» بناء على تقدير «كائن» فهنا السؤال ليس عن «زيد» ولكن عن ربط كونه في «المسجد» ، فهذا هو محطّ نظر السائل.

وعليه ، فلم يقم برهان إذن على أن المعاني الحرفية يكون مغفولا عنها.

وإن أريد بالآليّة الوجود التبعي الاندكاكي ، وهو كون المعنى الحرفي باعتباره أمرا نسبيا ، والنسبة مندكة ذاتا ووجودا في طرفيها ، فلا يعقل أن توجد بوجود استقلالي أصلا ، لا في عالم الخارج ، ولا حتى في عالم الذهن ، حيث تخرج عن كونها نسبة ، وتصير أمرا منسوبا لا نسبة ، فالنسبة الحقيقية بالحمل الشائع ، لا يعقل أن توجد لا في الخارج ، ولا في الذهن بوجود استقلالي ، وأنما توجد مندكة دائما في غيرها ، وتبعا له ، كما برهن على هذا في بحث المعاني الحرفية.

فإن أردتم هذا المعنى من الآلية فهو صحيح ، ولكن حينئذ يصاغ الإشكال بشكل آخر فيقال :

إن المعنى الحرفي إذا كان موجودا تبعا واندكاكا ، إذن ، فلا يعقل التوجه نحوه ، لأن توجه النفس نحوه ، هو عبارة أخرى عن وجوده في النفس ، وحيث أن الإطلاق والتقييد فرع توجه النفس ، وحيث أن توجه النفس لشيء استقلالا

٧١

يساوق وجوده استقلالا ، وحيث أن المعنى الحرفي لا يعقل فيه الوجود الاستقلالي ، إذن فيمتنع فيه الإطلاق والتقييد ، لأنه يلزم منه أن يكون للمعنى الحرفي وجود استقلالي ، وهو خلف كون المعنى الحرفي اندكاكيا.

وجوابه ، هو إنّه لو سلّم في المقام أن التوجه الاستقلالي نحو هذا الوجود التبعي خلف ، وفرض أنه لا بدّ من كون التوجه توجها تبعيا ، فغاية الأمر ، أن نلتزم بأن الإطلاق والتقييد ينصبّ على المعنى الحرفي كعنوان اسمي مشيرا إلى المعنى الحرفي ، إذ إنّه تارة يتوجه إلى المعنى الحرفي مستقلا ، وتارة أخرى يتوجه إلى المعنى الحرفي بواسطة عنوان مشير ، وذلك كالواضع الذي لاحظ المعنى الحرفي ، لكن لا مباشرة ، بل بواسطة عنوان مشير.

كذلك هنا ، فيقال : إن الإطلاق والتقييد ينصبّ على المعنى الحرفي بواسطة عنوان مشير إليه.

وبهذا تبيّن ، أن الواجب المشروط ليس فيه إشكال ، لا ثبوتا ، ولا إثباتا.

وبهذا تمّ بحث مقام الثبوت ومقام الإثبات.

وهناك كلام آخر ، يقرّب تارة بحسب مقام الثبوت ، وأخرى بحسب مقام الإثبات ، ويسجّل إشكالا على الواجب المشروط.

فإذا لوحظ بحسب مقام الثبوت ، فيقال : إنّ الوجوب المشروط تفكيك بين الاعتبار والمعتبر.

وإذا قرّب بلحاظ مقام الإثبات ، فحينئذ ، بناء على أن الإنشاء إيجاد للمعنى باللفظ ، يقال : إنّ الوجوب المشروط تفكيك بين الإنشاء والمنشئ.

وهذا الإشكال ، ظهر جوابه ممّا تقدّم في مناقشة الميرزا (١) ، حيث تبيّن ،

__________________

(١) المصدر السابق.

٧٢

أن المعتبر موجود بعين وجود الاعتبار ، وأن المنشأ موجود بعين وجود الإنشاء.

وعليه ، فلا تفكيك بين الاعتبار والمعتبر ، وبين الإنشاء والمنشأ.

فإن أرادوا أن المعتبر بالذات والمنشأ بالذات ، قد انفك عن الاعتبار والإنشاء ، فقد برهنا فيما تقدّم على بطلان ذلك.

وإن أرادوا أن المعتبر بالعرض أو المنشأ بالعرض ، أي : ما هو المطابق للمعتبر وللمنشإ قد انفك ، فالجواب إنه لا بأس بذلك ، لأن المعتبر بالعرض ليس معتبرا حقيقة ، والمنشأ بالعرض ليس منشأ حقيقة.

وبهذا تمّ البحث في الواجب المطلق والمشروط ، ونستأنف البحث في المعلّق والمنجز.

٧٣
٧٤

الواجب ، المعلّق ، والمنجّز

ومن تقسيمات الواجب ، تقسيمه إلى : الواجب المعلّق ، والواجب المنجز.

والأصل في هذا التقسيم هو صاحب الفصول (قده) (١) ، حيث ذكر أن القيود التي تؤخذ في الواجب على نحوين :

أ ـ النحو الأول : أن تكون هذه القيود مأخوذة في الواجب بنحو يترشح عليها الإلزام والتحريك من قبل المولى.

ب ـ النحو الثاني : أن تكون هذه القيود مأخوذة بنحو لا يترشح عليها الإلزام والتحريك ، ولذلك جعل القسمة ثلاثية ، وذلك بأن يقال :

إنّ القيد إمّا أن يكون مأخوذا قيدا للوجوب ، فيكون الواجب مشروطا ، وإمّا أن يكون مأخوذا قيدا للواجب ، وعلى الثاني ، فإمّا أن يكون هذا القيد مأخوذا في الواجب بنحو يترشح عليه الإلزام والتحريك من قبل المولى ، حيث يجب تحصيله ، فهو المنجّز ، وأخرى يكون مأخوذا قيدا في الواجب بنحو لا يترشح عليه الإلزام والتحريك ، حيث لا يجب تحصيله ، فهو المعلّق ، وذلك بأن يؤخذ بوجوده الاتفاقي الصدفتي.

__________________

(١) الفصول في الأصول : محمد حسين بن محمد رحيم ص ٨٠ ـ ٨١.

٧٥

ومن المعلوم أنّ الوجود المقيّد بالصدفة والاتفاق ، لا يعقل التحريك نحوه ، لأنّ وقوعه بسبب التحريك نحوه خلف ، كونه صدفة واتفاقا ، وقد سمّي هذا القسم الثالث بالمعلّق.

وبهذا يتبيّن ، أن المعلّق الذي ذكره صاحب الفصول هنا ، هو عين الواجب المشروط عند الشيخ الأنصاري «قدس‌سره» (١) على ما نسب إليه في تقريراته ، كما تقدّم في المسألة السابقة ، حيث أرجع الواجب المشروط إلى هذا المطلب ، عند ما ادّعى أن القيود تؤخذ في الواجب ، لا في الوجوب ، إلّا أنها مأخوذة في الواجب بنحو لا يترشح عليها الإلزام والتحريك.

وقد استعمل الشيخ «قدس‌سره» هذه الصياغة بلحاظ قيود الاتصاف ، حيث ادّعى أن القيود الدخيلة في اتصاف الفعل بكونه ذا مصلحة ، من قبيل تحقق الشتاء بالنسبة إلى النار في كونه ذا مصلحة ، أو تحقق الاستطاعة الدخيلة في اتصاف الحج بكونه ذا مصلحة ، فقد ادّعى أن هذه القيود هي التي تؤخذ قيدا في الواجب ، ولا تؤخذ قيودا في الوجوب.

بينما صاحب الفصول «قدس‌سره» لا يدّعي هذه الدعوى ، إذ إنّه يعترف بأن قيود الاتصاف مأخوذة قيودا في الوجوب لا في الواجب ، وإنما كلامه في القيود الدخيلة في ترتب المصلحة خارجا بعد فرض فعلية اتصاف الفعل بكونه ذا مصلحة. وهذه المسمّاة بالمقدمات الوجودية الدخيلة في ترتب المصلحة خارجا هي التي قسّمها إلى قسمين :

أ ـ قسم يمكن تحصيله ، فيؤخذ قيدا في الواجب بنحو يمكن تحصيله.

ب ـ وقسم غير ممكن التحصيل ، فيكون قيدا في الواجب ، لكن بنحو لا يترشح عليه الإلزام من المولى ، إمّا لكونه بحسب طبعه غير اختياري كالزمان

__________________

(١) مطارح الأنظار ص ٤٥ ـ ٤٦.

٧٦

مثلا ، وإمّا لاعتبار عناية أخذه على نحو الصدفة والاتفاق ، فيكون غير اختياري أيضا.

وعليه ، فالصياغة التي ذكرها صاحب الفصول «للمعلّق» ناظرة إلى قيود الترتب ، لا إلى قيود الاتصاف. ومن هنا كان هذا التقسيم الثلاثي صحيحا ، ولا إشكال في تعقّله ثبوتا بالنسبة إلى العالم الأول والعالم الثاني من العوالم الثلاثة ، أي : بالنسبة إلى عالم الملاك ، وعالم الشوق والمحبوبية والمبغوضية ، أمّا بالنسبة إلى عالم الملاك ، فإنّ القسمة الثلاثية صحيحة ، لأن الملاك ، إذا نسب إلى قيد ، فتارة يكون القيد قيدا في أصل اتصاف الفعل بكونه ذا مصلحة ، وأخرى يكون قيدا في ترتب المصلحة خارجا ، وحينئذ ، إن فرض أن هذا القيد قيد اختياري يمكن التحريك نحوه ، «كالوضوء بالنسبة إلى الصلاة» فهذا هو المنجز ، وإن كان هذا القيد غير اختياري مع كونه من قيود الترتب ، فهذا هو المعلّق.

وكذلك تكون هذه القسمة معقولة بحسب عالم الحب والبغض ، فإن اشتياق المولى وحبّه لفعل إذا لوحظ بالنسبة إلى قيد من القيود :

تارة يكون هذا القيد دخيلا في أصل اشتياق المولى ، فهذا هو الإرادة المشروطة التي تقدّم تفسيرها ، وأرجعناها لبا إلى إرادتين : إحداهما مشروطة ، والأخرى مطلقة.

وتارة يكون هذا القيد قيدا في المحبوب لا في الحب ، وحينئذ تارة يكون اختياريا ، وأخرى يكون غير اختياري ، والأخير هو المعلّق.

وهذه قسمة ثلاثية معقولة لا إشكال فيها.

وعليه لا يرد على هذا المعلّق ما أوردناه على الشيخ الأعظم «قدس‌سره» هناك في الواجب المشروط ، حيث أوردنا عليه ، بأن لازم جعل القيد قيدا في المتعلق وفي المحبوب ، لا في الحب ، لازمه ترشّح الحب الغيري على هذا القيد.

٧٧

وهذا الإشكال ، إنما أوردناه ، لأنّ الشيخ «قدس‌سره» يقول : إن قيود الاتصاف مأخوذة قيدا في المحبوب ، ومن الواضح أن قيود الاتصاف لا يعقل انقداح الشوق نحوها ، بل قد تكون مبغوضة.

ومن هنا كان هذا الإشكال على مبنى الشيخ الأعظم «قدس‌سره».

بينما صاحب الفصول «قدس‌سره» يقول بأن قيود ترتب الملاك على الفعل ، هي التي تؤخذ تارة بنحو يترشح إليها التحريك ، وأخرى بنحو لا يترشح ، لعدم اختياريتها في الواجب ، أو لأخذ وجودها الاتفاقي قيدا ، فلا يرد عليه إشكال لزوم ترشح الشوق الغيري نحو هذا القيد إذا كان قيدا للمراد ، وكان أمرا غير اختياري ، إذ لا مانع من الاشتياق إلى أمر غير اختياري.

ولكن يبقى الكلام في تعقّل الواجب المعلّق بالنسبة إلى مرحلة ما بعد عالم الملاك والإرادة من مراتب الحكم ، أي : مرتبة الوجوب والتحريك.

وبعبارة أخرى ، بعد أن تعقّلنا الواجب المعلّق في عالم الملاك وعالم الحب ، فهل نتعقله بنحو يسري في تمام عوالم الحب ، فيكون الحب بما هو حب ، منطبقا على صيغة صاحب الفصول في الواجب المعلّق ، أو لا؟.

إذن فالإشكال يقع في الواجب المعلّق بلحاظ ما بعد عالم الملاك والحب ، من مراحل حقيقة الحب ، أي : مرحلة الوجوب والتحريك.

والإشكال في الواجب المعلّق يرجع إلى أحد اعتراضين :

الاعتراض الأول :

وهو المهم ، وحاصله : إنّ القيد غير الاختياري ، أو الاتفاقي ، كالزمان الاستقبالي المأخوذ في الواجب المعلّق ، كطلوع الفجر مثلا ، فهنا نسأل ، بأن طلوع الفجر هل يؤخذ أيضا قيدا في الواجب ، إمّا بنحو الشرط المقارن ، أو بنحو الشرط ، المتأخر بحيث يكون الوجوب حادثا وفعليا من أول الليل ، لكن

٧٨

مشروط بنحو الشرط المتأخر بطلوع الفجر بعد ذلك ، وإمّا أنّه لا يكون طلوع الفجر مأخوذا قيدا في الوجوب بنحو الشرط المتأخر ، بل يكون متمحضا في القيدية للواجب ، ويكون الوجوب فعليا قبل وجود القيد من دون ارتباط به؟.

فإن فرض الشق الأول ، وهو أن طلوع الفجر أخذ قيدا في الواجب بنحو الشرط المقارن ، وأخذ أيضا شرطا في الوجوب بنحو الشرط المتأخر ، بحيث يكون الوجوب فعليا من حين غروب الشمس لكن منوطا بطلوع الفجر بعد ذلك.

إذا فرض هذا ، فمعناه أن الوجوب مشروط بنحو الشرط المتأخر ، وحينئذ من يقول باستحالة الشرط المتأخر مثل الميرزا (١) ، يقول بأنّ هذا مستحيل ، إذ يستحيل أن يكون الوجوب حادثا من الغروب ، ومنوطا بأمر متأخر وهو طلوع الفجر بعد ذلك ، بل لا بدّ من أن يكون طلوع الفجر شرطا مقارنا حيث يحدث الوجوب عند الطلوع ، وعليه يكون الواجب والوجوب في وقت واحد.

ومن يقول بإمكان الشرط المتأخر ، يقول بأن هذا معقول ، لأنه قسم من الواجب المشروط ، وليس قسما آخر في مقابل الواجب المشروط ، إذن فالأولى حينئذ أن يقال :

إنّ الواجب المشروط ، تارة ، يكون الوجوب فيه مشروطا بشرط مقارن ، وأخرى مشروطا بشرط متأخر ، دون أن يكون هذا قسما آخر في مقابل الواجب المشروط.

وإن قيل بالشق الثاني ، وهو : إنّ قيد «طلوع الفجر» لم يؤخذ في الوجوب أصلا ، حتى بنحو الشرط المتأخر ، وعليه يكون الوجوب فعليا من

__________________

(١) فوائد الأصول : الكاظمي ج ١ ص ١٥٧ ـ ١٥٨ ـ ١٥٩.

٧٩

حين «الغروب» ، ومطلقا من ناحية «طلوع الفجر» وإذا كان الوجوب فعليا من حين «الغروب» فتكون فاعليته أيضا فعلية لا محالة ، لما قلناه سابقا من أن فاعليته مساوقة لفعليته ، فيكون فاعلا ومحركا بالفعل حين «الغروب» نحو «صوم شهر رمضان».

ومن الواضح أن هذا المقيّد غير اختياري فعلا ، فيكون تحريكا نحو أمر غير اختياري ، وهو غير معقول.

وحاصل الإشكال هو : إنّ الواجب المعلّق ، إمّا أن نرجعه إلى الواجب المشروط ، وإمّا أن يكون غير معقول.

فإن قلنا بأن «طلوع الفجر» شرط متأخر للوجوب ، فهذا إرجاع للمعلّق إلى المشروط.

وإن قلنا بأن «طلوع الفجر» ليس شرطا للوجوب ، بل الوجوب مطلق من ناحيته ، وعليه ، فالتحريك نحو المقيّد من حين «الغروب» غير اختياري لعدم اختيارية قيده.

والجواب على هذا الإشكال ، هو أن يقال ، بأنه يوجد في المقام قيدان :

أ ـ قيد «طلوع الفجر».

ب ـ وقيد أن يكون المكلّف على تقدير «طلوع الفجر» ، قادرا على «الصوم» بأن يكون حيّا لا ميتا ، صحيحا لا مريضا. ولا إشكال في أن الوجوب الذي نفترض فعليّته من حين «الغروب» هو مشروط بنحو الشرط المتأخر لكن بالقيد الثاني ، ولكننا ننكر أن يكون مشروطا بالشرط الأول وهو «الطلوع».

والفرق بين هذين القيدين من حيث لزوم أخذ القيد الثاني شرطا في الوجوب بنحو الشرط المتأخر ، وعدم لزوم أخذ القيد الأول قيدا بنحو الشرط المتأخر في الوجوب ، الفرق بينهما إنما هو ، أنّ القيد الثاني قيد ، لا يمكن

٨٠