بحوث في علم الأصول - ج ٥

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٣

الوضوء ، وكنّا نقول بوجوب إطاعته. حينئذ يصبح ترك الوضوء واجبا وفعله محرما ، وفي مثل ذلك يستحيل محركيّة الأمر النفسي الاستحبابي المتعلق بالوضوء.

وحيث أنّ وجوب الصلاة أهمّ من رعاية أوامر الوالد ونواهيه ، حينئذ يقدم وجوب الصلاة ويتوضأ بمحركية الأمر النفسي المتعلّق بذي المقدمة.

في مثل ذلك كيف نفسّر القربية في الطهارات ، مع أنه لا أمر نفسي بها ، إذن عباديّة الوضوء لا ينحصر أمرها بقصد الأمر النفسي الاستحبابي كما ذهب إليه المحقق (١) الخراساني.

وأمّا ما هو غير وارد على المحقق الخراساني ، وقد أورد عليه :

أولا : هو دعوى أنّ الاستحباب النفسي الذي يريد تصحيح العباديّة به ، يزول بعد اتصاف الوضوء بالوجوب الغيري ، لأنّ الاستحباب والوجوب لا يمكن فعليّتهما معا على الوضوء ، إذن فالوضوء بعد الزوال يتصف بالوجوب ولا يبقى الاستحباب على حاله ، ومع زواله كيف يكون مصحّحا للعبادية؟.

وهذا الإشكال في غير محله ، إذ قد يجاب عليه : بإن الاستحباب لا يزول بذاته ، وإنما يزول بحدّه ، إذ إنّه يندرج ويندمج مع الوجوب ، وينتج عنهما معا إرادة واحدة تكون ممثلة للاستحباب والوجوب الغيري معا ، وما دام الاستحباب محفوظا ، وإن كان بحدّه زائلا ، فيمكن التقرب بقصده.

ولكن يمكن للمحقق الخراساني التخلص من هذا الجواب ، وذلك بأن يقال :

إنّه حتى مع افتراض صحة هذا الجواب يقع محذور ، ذلك باعتبار أن هذه الإرادة الممثّلة للاستحباب والوجوب ، قد أخذ في موضوعها العباديّة ، والمفروض أن العباديّة إنما تصحّ ببعض مراتب هذه الإرادة ، إذن فيلزم محذور

__________________

(١) كفاية الأصول : مشكيني ج ١.

٢٢١

أخذ قصد القربة في متعلّق شخص ذلك الأمر ، إذن فلا يكفي لتصحيح المطلب أن يندكّ الأمر الاستحبابي بحدّه ، بل يبقى المحذور لازما ، باعتبار أن هذه الإرادة الواحدة قد أخذ في متعلقها العباديّة التي لا بدّ من تصحيحها من النشوء عن شخص هذه الإرادة ، فيلزم الدور لا محالة.

ولهذا لا يكفي لتصحيح مقالة المحقق الخراساني أن يقال : بأن ذات الاستحباب محفوظة بحدّه.

بل لا بدّ هنا أن يقال : بأن الاستحباب والوجوب معا موجودان بحدّهما ، وذلك باعتبار اختلاف متعلقهما ، باعتبار أن الاستحباب النفسي متعلّق بذات الوضوء ، بينما الوجوب الغيري متعلّق بالإتيان بالوضوء بقصد امتثال الأمر النفسي الاستحبابي ، فالأول متعلّق بالمطلق ، والثاني متعلق بالمقيّد ، وما دام أن أحدهما متعلّق بغير ما تعلّق به الآخر ، فلا بأس ببقاء كل منهما على حدّه.

في مثل ذلك يتم جواب المحقق الخراساني «قده» وهو : إنّه يمكن للمكلّف أن يتقرّب بلحاظ الأمر النفسي.

إذن فتمامية دعوى المحقق الخراساني «قده» ملاكها هو : انحفاظ كل من الأمر النفسي والاستحبابي بحدّه ، وملاك هذه الدعوى هو : تغاير المتعلق فيهما لا طوليّتهما ، وكون الأمر الغيري في طول الأمر النفسي ، كما ذكر المحقق النائيني «قده» (١).

حيث ذكر أن الأمر الغيري ، حيث أنه متعلّق بالوضوء ، بقصد امتثال الأمر النفسي ، فهو في طوله ، ومع الطولية يبقى كل منهما على حاله.

وهذا الكلام غير صحيح ، لأنهما إذا كانا متحدين في المتعلق ، فيستحيل اجتماعهما بناء على تضادهما ، ومجرد فرض الطوليّة بين الضدين ، لا يصحّح

__________________

(١) فرائد الأصول : الكاظمي ص ١٢٦ ـ ١٢٧ ـ ١١١.

فرائد الأصول : الكاظمي ج ١ ص ١٤٨ ـ ١٥٣ ـ ١٦٩.

٢٢٢

اجتماع الضدين ، وإنما المهم في تصحيح اجتماعهما إنما هو تغاير متعلّقيهما ، فالنافع في كون كل منهما موجودا بحدّه ، هو إبراز تغاير المتعلّقين ، حتى لا يصير هناك اجتماع في البين ، لا إبراز الطولية بين الإرادتين ، لأن الإرادتين إذا كانتا على موضوع واحد ، وكانتا متضادتين ، فمجرد فرض الطولية بينهما ، لا يرفع التنافي بينهما.

والخلاصة : إنّه لا يوجد مشكلة في قربيّة الطهارات الثلاث ، إذ لا أقل من إمكان استفادة استحبابها من مثل قوله «ع» : «التراب أحد الطهورين ، ويكفيك عشر سنين» ، منضما إلى مثل قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ)

كما أنه لا إشكال في الثواب على الطهارات الثلاث كلّما جيء بها بقصد قربي ، سواء قصد الأمر النفسي الاستحبابي ، أو أنه قصد بها التوصل ، ما دام أنّ دليل الاستحباب لم يدل على اشتراط قصد الأمر النفسي بالخصوص في ترتب الثواب.

وبهذا يظهر أن ثبوت الاستحباب النفسي يكفي في دفع إشكال ترتب الثواب في جميع الحالات.

ولو فرض عدم تمامية الدليل على الاستحباب النفسي ، حينئذ لا محالة ، يكون مدرك الثواب في الطهارات الثلاث ، الإجماع ونحوه من الأدلة اللبيّة ، وهذه الأدلة لا إطلاق فيها لأكثر من موارد الإتيان بها ، بقصد التوصل إلى غاية من الغايات الشرعية القربية.

وحينئذ أيضا يقال : بأنه لا إشكال في ترتب الثواب عليها ، ولو من جهة كثرة الثواب على الغاية بسببها.

بل وكذلك لو فرض انعقاد إطلاق في معقد الإجماع على ترتب الثواب على الطهارات بعنوانها ، ومستقلا عن غاية من غاياتها ، كان هذا بنفسه دليلا بالملازمة على استحبابها ، وكونها مطلوبة نفسيا.

٢٢٣
٢٢٤

الجهة الخامسة

المقدمة الموصلة

الجهة الخامسة :

وفي كيفيّة صياغة وجوب المقدمة الموصلة إطلاقا وتقييدا على القول به ، طرحت عدة احتمالات :

١ ـ الاحتمال الأول :

وهو المشهور بينهم ، هو القول بالإطلاق في الوجوب والواجب ، وعدم تقييدها بقيد ، أو شرط زائد على شرائط الوجوب النفسي ، السارية إلى الوجوب المقدّمي ، بحكم التبعية.

٢ ـ الاحتمال الثاني :

هو ما يظهر من صاحب المعالم «قده» (١) من تقييد وجوب المقدمة بشرط إرادة ذيها ، فلا تجب من دون ذلك.

وقد استشكل المحققون المتأخرون في معقوليّة هذا الاحتمال ، وادّعوا استحالته ، وقد بيّنت هذه الاستحالة بأحد وجهين :

١ ـ الوجه الأول :

هو ما يظهر من المحقق العراقي «قده» (٢) ، حيث ذهب إلى أنّه شبيه

__________________

(١) معالم الدين : الشيخ حسن ابن الشهيد الثاني ص ٧٣ ـ ٧٤.

(٢) مقالات الأصول : العراقي ١١٤ ـ ١١٥ ـ ١١٦.

٢٢٥

بطلب الحاصل وهو مستحيل ، إذ إرادة ذي المقدمة مستلزمة ومستبطنة لإرادة المقدمة لا محالة ، فاشتراطها معناه : أنّ الوجوب الغيري مجعول في فرض إرادة الواجب ، وهو شبيه بطلب الحاصل.

وهذا الوجه غير تام ، لأنّ اشتراط الوجوب الغيري بإرادة الواجب النفسي ، يتصور على أحد أنحاء :

أ ـ النحو الأول : أن يكون الشرط ، إرادة الواجب النفسي ، وسدّ أبواب عدمه من غير جهة هذه المقدمة.

ومن الواضح أنه بناء على هذا يرتفع المحذور موضوعا.

ب ـ النحو الثاني : هو أن يكون الشرط ، صدق القضيّة الشرطيّة القائلة : إنّه لو أوجد هذه المقدمة لسدّ أيضا أبواب العدم الأخرى.

وهذا في الروح وإن كان راجعا إلى الأول ، غير أنّه يختلف عنه صياغة ، فالشرط هنا صدق القضية الشرطية نفسها ، والذي لا يستلزم فعليّة طرفيها ، فلا يكون الاشتراط به في قوة الاشتراط بإرادة المقدمة.

ج ـ النحو الثالث : هو أنّ الشرط ، هو إرادة ذي المقدمة إرادة فعليّة من كل الجهات ، وهذا هو الذي يستلزم المحذور الذي أفاده المحقق العراقي «قده».

غير أن الصحيح عدم المحذور في هذا الفرض أيضا.

وذلك لأنّ محذوريّة تحصيل الحاصل ، إمّا أن تكون بنكتة التهافت ، باعتبار كون طلب الشيء مساوقا مع فقده ، وفرض كونه حاصلا ، تهافت ، وتناقض.

وإمّا بنكتة اللّغوية ، إذ الأمر من أجل قدح الداعي نحو المطلوب لتحصيله ، فلو فرض حصوله ، كان من اللّغو طلبه.

وكلتا النكتتين غير موجود في المقام ، أمّا التهافت : فلأن الشرط إنما هو

٢٢٦

إرادة الواجب لا حصوله ، وأمّا اللّغوية بملاك عدم الداعوية : فلأن الوجوب الغيري عند القائلين به لا يكون استقلاليا في الجعل ، وإنما هو تبعيّ قهريّ ، فلا تكون اللغوية محذورا مانعا من وجوده ، بل قد تقدّم أن الوجوب الغيري لا داعوية مستقلّة له ، وإنما الداعوية للواجب النفسي دائما ، فإشكال اللّغوية لا موضوع له في الواجبات الغيرية.

وهكذا يتضح عدم تماميّة الوجه المذكور على الاستحالة.

٢ ـ الوجه الثاني :

هو ما أفاده المحقق النائيني «قده» (١) وحاصله ، هو : إنّ الوجوب الغيري لو كان مشروطا بإرادة ذي المقدمة ، فمع عدمها ، لا يكون وجوبها ثابتا لا محالة ، وحينئذ لو كان الوجوب النفسي تابعا ، لزم من ذلك التفكيك بين الوجوبين ، النفسي والغيري ، مع أنّ قانون الملازمة على القول به ، لا يفرّق فيه بين فرض الامتثال وعدمه ، ولا بين مورد ومورد ، ولو كان الوجوب النفسي مرتفعا أيضا كان معنى ذلك ، اشتراطه بإرادة أيضا ، والاشتراط المذكور ، إن كان بالصياغة الثالثة المتقدّمة ، ففيه المحذور الثبوتي المتقدم ، من طلب الحاصل واللغوية ، حيث أنه تام في التكاليف النفسية.

وأمّا إذا كان بالصياغة الأولى أو الثانية ، فهو وإن لم يكن ذا محذور ثبوتي ، ولكنّه باطل إثباتا ، لوضوح عدم كون سدّ بعض أبواب عدم الواجب شرطا في وجوب الباقي ، بل الوجوب ثابت للواجب من أول الأمر قبل أجزائه وقيوده.

وهذا الوجه في إبطال هذا الاحتمال صحيح لا غبار عليه.

__________________

(١) محاضرات فياض : ج ٢ ص ٤٠٤ أجود التقريرات الخوئي ج ١ ص ٢٣٢.

٢٢٧

٣ ـ الاحتمال الثالث :

هو ما ينسب إلى الشيخ الأعظم «قده» (١) في تقريرات بحثه ، من أنّ الواجب الغيري إنما هو المقدمة مع قصد التوصل بها إلى ذيها ، على نحو يكون قصد التوصل من قيود الواجب.

وقد ذهب السيد الخوئي «قده» (٢) إلى أن هذا التقييد ، هو نفس التقييد السابق الذي اختاره صاحب المعالم «قده» (٣) ، إلّا أن صاحب المعالم «قده» جعله من قيود الوجوب ، بينما الشيخ «قده» جعله من قيود الواجب.

ولكن الصحيح هو الفرق بينهما من ناحية القيد أيضا ، فإن القيد عند صاحب المعالم «قده» هو إرادة ذي المقدمة ، ولكنّه مع ذلك يأتي بالمقدمة بغير قصد التوصل بها فعلا إلى ذي المقدمة ، إذن فإرادة ذي المقدمة بمعناه الحقيقي ، لا يساوق قصد التوصل بالمقدمة عند صاحب المعالم «قده».

وعلى أيّ حال فهذا الاحتمال وإن نسب إلى الشيخ «قده» إلّا أنّ عبارة التقرير مشوّشة ، ولذلك يحتمل فيها عدة تفسيرات :

أ ـ التفسير الأول : هو كون قصد التوصل قيدا ، أخذ في الواجب الغيري.

ب ـ التفسير الثاني : هو كون وقوع المقدمة امتثالا وعبادة ، موقوفا على قصد التوصل بها إلى امتثال ذي المقدمة.

وهذا لو كان مقصودا ، فهو صحيح ، لما تقدّم من أنّ الوجوب الغيري بنفسه لا يكون قربيا ، وإنما تكون قربيّة المقدمة بقصد التوصل إلى امتثال ذيها.

__________________

(١) مطارح الأنظار : ص ٧١ ـ ٧٤.

(٢) أجود التقريرات : الخوئي ج ١ ص ٢٣٢.

(٣) معالم الدين : الشيخ حسن بن الشهيد الثاني ص ٧٣ ـ ٧٤.

٢٢٨

٣ ـ التفسير الثالث : أن يكون المقصود ، أخذ قصد التوصل في الواجب نفسه ، كما في الاحتمال الأول ، غير أنه في خصوص المقدّمات المحرّمة التي يتوقف عليها الواجب الأهم ، فهي تقع محرّمة ، إلّا إذا جيء بها بقصد التوصل ، فتكون واجبة.

وأمّا المقدّمة المباحة فهي مصداق للواجب المطلق ، وهذا المعنى سوف يقع الحديث عنه حين التعرّض لثمرة البحث في وجوب المقدمة ، إذ موضوع البحث هنا هو المعنى الأول ، وهو القول باختصاص الوجوب بالمقدمة التي يقصد بها التوصل.

وهذا الاحتمال يواجه بدوا اعتراضا ، إذ لا نكتة ولا ملاك في تقييد الواجب الغيري بقصد التوصل ، لأنّ ملاك الوجوب الغيري للمقدمة ، إمّا أن يكون حيثيّة توقّف الواجب النفسي عليها ، وهو يقتضي وجوب مطلق المقدمة ، وإمّا أن يكون حيثية حصول الواجب النفسي به ، وهو يقتضي وجوب المقدمة الموصلة بالخصوص ، فاعتبار قصد التوصل لا موجب له.

وقد حاول المحقق الأصفهاني (١) في توجيه ذلك ، بتقريب مؤلّف من مقدمتين :

أ ـ المقدمة الأولى : هي أنّ الحيثيات التعليليّة في الأحكام العقلية العملية أو النظرية ، كلها ترجع إلى كونها تقييدية ، بحيث تكون هي موضوع ذلك الحكم العقلي ، فالحكم بجواز «ضرب اليتيم للتأديب» ، موضوعه ، «الضرب» التأديبي ، والحكم باستحالة الدور للتناقض ، موضوعه استحالة التناقض ، لا الدور بما هو دور.

وعليه يكون وجوب المقدمة الثابت بحكم العقل بالملازمة ، موضوعها ، «الموصل» ، لأنه الحيثيّة التعليليّة للحكم المذكور.

__________________

(١) نهاية الدراية : الأصفهاني ج ١ ص ٣٤٧.

٢٢٩

ب ـ المقدمة الثانية : إن الأحكام التكليفية لا تتعلق إلّا بالحصة الاختيارية من المتعلّق ، إذ يستحيل البعث والتحريك نحو غير الاختياري ، فالحصة غير الاختيارية لا تقع مصداقا للواجب ، وإن كان محصلا للفرض ، والعنوان الواجب لا يقع اختياريا إلّا إذا صدر عن قصد وإرادة واختيار له ، فإذا كان التوصل بعنوانه هو الواجب الغيري ، فلا يقع مصداقا للواجب ما لم يصدر عن قصد.

وقد اعترض السيد الخوئي «قده» (١) على المقدمة الأولى ، رغم موافقته على كبراها ، من رجوع الحيثيّات التعليلية في الأحكام العقليّة إلى حيثيات تقييدية دائما حتى في أحكام العقل النظري.

اعترض على هذا بخروج المقام عن ذلك ، لأنّ وجوب المقدمة المبحوث عنه ، هو الوجوب الشرعي لا العقلي ، والعقل مجرد كاشف عنه لكنّ هذا الاعتراض يلزم منه التهافت ، إذ حتى لو سلّمنا بأن الحيثيات التعليلية في الأحكام العقلية مطلقا ، العملية منها والنظرية ، تكون تقييدية ، فإنه مع هذا لا وجه لخروج المقام عن تلك القاعدة ، إذ ليس دور العقل في الأحكام العقلية سوى الكشف والإحراز ، وخصوصا في أحكام العقل النظري ، فالتسليم بتلك المقدمة يناقض الإعراض عليها.

والتحقيق في الجواب على هذا الكلام أن يقال :

أولا : إنّ رجوع الحيثيّات التعليليّة في الأحكام العقلية إلى حيثيّات تقييدية ما هو كلام موروث ، يراد به الأحكام العقلية العمليّة لا النظرية ، والتي منها وجوب المقدمة شرعا.

وتوضيح ذلك ، هو : إنّ الأحكام العقلية العمليّة إدراكات لأمور واقعية نفس أمرية ، هي «الحسن والقبح» في الأفعال ، وكونها ممّا ينبغي أو لا ينبغي ،

__________________

(١) محاضرات فياض : ج ٢ ص ٤٠٧.

٢٣٠

وليست كالأحكام الشرعية ، جعول وإنشاءات بيد الجاعل ، فإذا كانت حيثيّة «التأديب» مقتضية «لحسن الضرب». فلا معنى لافتراض أن موضوع هذا الحكم النفس الأمري هو «الضرب دون «التأديب» وذلك ببرهان أنه : إمّا أن يكون الموضوع هو «الضرب» فقط ، أو هو «الضرب مع التأديب» ، أو «التأديب» فقط ، والأول غير معقول ، إذ «التأديب» بعد أن كان هو ملاك «الحسن» كان أولى به من فاقده ، فإن واجد الشيء يعطيه لا فاقده ، والثاني خلف المفروض ، إذ معناه ، أن هناك حكمين عقليين على موضوعين حيثيين تقييديين ، وينتفي الثالث. وهو أن تكون حيثيّة «التأديب» هي موضوع الحكم العقلي.

وهذا بخلاف الأحكام الشرعية المجعولة ، فإنها ربّما تجعل لا على حيثياتها التعليلية ، كجعل الوجوب على الصلاة لكونها ناهية عن الفحشاء والمنكر ، باعتبار عدم كون تلك الحيثيّة عرفيّة ، أو عدم كون مصداقها متعينا له ، أو غير ذلك من الموجبات التي تقدّمت في بحث الفرق بين الواجب النفسي والغيري.

وكذلك القضايا العقلية النظرية في غير التشريعيات ، فإن الحيثيّات التعليلية التي على أساسها أدرك العقل تلك القضايا ربّما تكون واسطة في الثبوت فقط ، وربّما تكون واسطة في العروض وحيثيّة تقييدية.

وهذا إنما يتعقّل هنا مع كونها أيضا كأحكام العقل العملي ، أمورا لا جعليّة ، باعتبار أنها أمور تكوينيّة وجودية ، إذ قد تكون الحيثيّة العلّة هي معروض الحكم ، وقد لا تكون معروضة للحكم ، وإنما هي مجرد علة لإيجاده في معروض الحكم.

وهذا بخلاف الأحكام العملية ، فإنها ليست وجودية خارجية ، وإنما هي من نوع الإمكان والاستحالة ، فلا معنى لافتراض كونها موجبة لعروض الحكم على وجود آخر غيرها ، إذ ليست هي مقدمات وجودية.

٢٣١

ومن الواضح أن وجوب المقدمة شرعا ، على القول به ، هو من مدركات العقل النظري دون العملي ، فلا تشمل القاعدة الموروثة في حيثيّات أحكام العقل.

والخلاصة هي : إنّ هذه القاعدة ، كلام موروث ، يقصد منه الأحكام العقلية العملية لا النظرية ، فعند ما يقال : «الضرب للتأديب حسن» ، يكون «التأديب» «هو الحسن» لا أنّ «التأديب» يجعل «الضرب» بعنوانه «حسنا».

وذلك لأن هذه الأحكام العملية أمور واقعية نفس أمرية ، يدرك العقل موضوعاتها مباشرة وبالذات.

وهذا بخلاف المجعولات الشرعية ، فإنها ربّما تؤخذ في لسان جعلها حيثيّات هي وسائط لثبوت الحكم على موضوع ، وكذلك مدركات العقل النظري حيث قد تكون حيثيّة «ما» سببا لإدراك العقل حكما على موضوع ليست تلك الحيثيّة مأخوذة فيه.

وثانيا : لو سلّمنا بذلك ، فإنّ ما أفيد من لابدّية تعلّق الوجوب بالحصة الاختيارية بالخصوص من المقدمة ، غير صحيح ، إذ تقدّم في أبحاث التعبّدي والتوصلي ، أنه لا يشترط تعلّق الوجوب بالحصة الاختيارية من الفعل خاصة ، بل يمكن تعلّقه بالجامع بينها وبين غير الاختيارية.

ثمّ إنّه لو سلّم لزوم الاختصاص ، وأنّ الباعثية لا تكون إلّا إلى الحصة الاختيارية من الفعل ، فذلك إنّما يتم في الواجبات النفسية التي تجعل بملاك الداعوية ، لا الواجبات الغيرية ، التي لا تجعل ـ على القول بها ـ من أجل الداعوية ، وإنّما هي واجبات قهرية تبعيّة.

وثالثا : لو أنه سلّم بذلك ، وافترضنا أن الواجب الغيري كالنفسي ، مع ذلك نقول :

إنه يكفي في اختيارية الفعل ، ـ بنحو يكون هو الشرط في التكليف

٢٣٢

والبعث إليه ـ يكفي أن يكون صادرا عن قدرة العبد والتفاته ، بمعنى عدم غفلته وجهله المركّب ، فلو أنّ المكلّف ضرب شخصا بقصد إظهار قوته أمام الناس ، وهو ملتفت إلى أنه سيؤدي إلى قتله ، كان القتل الصادر اختياريا ، ولو لم يكن من قصده القتل ، بل كان قصده عنوانا آخر ، إذن لا يشترط قصد العنوان في الاختيارية.

وعليه ، فلو جاء المكلّف بالمقدّمة ، بقصد آخر غير التوصل ، وهو ملتفت إلى أنّه سوف ينقدح جزما ، أو احتمالا في نفسه ، بعد ذلك ، أنه إنّما أراد فعل ذيها ، كانت المقدّمة الموصلة اختيارية ، ولو لم يكن لفاعلها قصد التوصل حينها.

ورابعا : لو سلّم باشتراط قصد العنوان وإرادته في وقوعه اختياريا ، مع ذلك نقول : بأنه يكفي في انطباق هذا التكليف ، أن يكون المعنون صادرا عن اختيار المكلّف وقصده ، طالما يكون انطباق العنوان الواجب عليه قهريا ، كما لو لم يكن من العناوين القصدية ، كالاحترام والتعظيم ، فلو صدرت المقدّمة من المكلّف ، لا بقصد الإيصال ، ولكنها كانت موصلة واقعا ، كانت مصداقا للواجب ، لكونها مصداقا للموصل لا محالة ، ولو لم يكن انطباق عنوان الموصل ، باختياره وقصده ، إذ إنّه ليس بلازم ، ما دام أن المعنون بقصده واختياره ولو بعنوان آخر ، وكان بإمكانه أن يقصده بذلك العنوان الواجب.

ولذلك لا يستشكل أحد في وقوع الواجب التوصلي ، ولو جيء به بغير العنوان الذي به وجب إذا لم يكن من العناوين القصدية ، كما إذا أزال النجاسة عن المسجد بعنوان التجمل لا بعنوان التطهير.

وخامسا ، لو أننا سلّمنا بجميع ما يتوقف عليه التقريب المذكور ، فإنه مع ذلك لا تثبت مقالة الشيخ الأعظم «قده» ، وإنما تثبت مقالة أخرى ، هي القول باختصاص الوجوب الغيري بالمقدمة الموصلة مع قصد التوصل بها ، وهو ، كما ترى ، جمع بين قيدي قصد التوصل والموصليّة ، وهذا جمع بين مقالتي الشيخ الأعظم «قده» ، وصاحب الفصول «قده» وليس هو مدّعى الشيخ

٢٣٣

الأعظم «قده» ، من وجوب المقدمة التي يقصد بها التوصل لو لم تكن بموصلة ، وهذا ظاهر فيما لو أراد المحقق الأصفهاني «قده» من حيثية التوصل أو الموصليّة ، الموصلية الفعلية.

وأمّا إذا أراد الموصليّة الشأنيّة الثابتة لكل مقدمة ، فإنّ قصدها لا يتوقف على قصد التوصل ، وبالتالي هي غير قصد التوصل الذي يدّعي اشتراط قصده في هذا الاحتمال.

وهكذا يتضح عدم صحة هذا الاحتمال في صياغة الواجب الغيري أيضا ، إذ لا ملاك لتخصيص الوجوب بالمقدمة التي قصد معها التوصل.

٤ ـ الاحتمال الرابع :

هو ما اختاره صاحب الفصول (١) ، من اختصاص الوجوب ، بالمقدمة الموصلة إلى ذيها ، فهي المصداق للواجب الغيري دون سواها. والبحث في هذا الاحتمال يقع في مقامين :

١ ـ المقام الأول : يبحث فيه عن الإشكالات والبراهين التي أقيمت من قبل المحققين على إبطال مقالة صاحب الفصول.

المقام الثاني : يبحث فيه عن براهين ملاكات هذا التقييد في هذه المقالة. ومن خلال البحث في هذين المقامين تتوضح الصيغة الصحيحة لهذا الاحتمال.

أما المقام الأول : فما برهن به على بطلان المقدمة الموصلة في هذا الاحتمال ، يرجع بعضها إلى إبراز محذور ، واستحالة التقييد بالموصلة ثبوتا ، ويرجع الآخر إلى بيان عدم المقتضي للتقييد بالموصلة ، وأهم تلك الإيرادات هي :

__________________

(١) الفصول في الأصول : محمد حسين بن محمد رحيم ص ٨٧.

٢٣٤

* الإيراد الأول : وهو دعوى استحالة التقييد بالموصلة ، لاستلزامه التسلسل في الواجبات الغيرية ، كما ذهب إليه المحقق النائيني (١) في دفع هذا الاحتمال.

وهذا التسلسل يمكن بيانه بأحد تقريبين :

التقريب الأول : هو أن الواجب الغيري لو كان هو المقدمة الموصلة بالخصوص ، فالموصلة بما هي موصلة متقوّمة بذات الموصلة ، تقوّم المقيّد بذات المقيّد وتقيّده بالقيد. فتكون ذات المقدّمة مقدمة للمقدمة ، وحينئذ لا بدّ وأن تكون واجبة بوجوب غيري ، فإن كان هذا الوجوب الغيري ثابتا لها بما هي موصلة أيضا إلى الموصلة ، إذن واجهنا أيضا مقيّدا مركبا من ذات وتقيّد ، فلا بدّ إذن من وجوب غيري آخر لتلك الذات المتقومة بها الذات الموصلة ، وهكذا يتسلسل.

وإن كان الوجوب الغيري على الذات ، بما هي ، دون أخذ قيد الإيصال معها ، فلتكن مقدمة الواجب الأولى كذلك من أول الأمر ، إذ لا فرق في ملاك هذا الوجوب بين مقدمة ومقدمة.

وبتعبير آخر يقال : إنّ ذات المقدّمة التي صارت مقدمة ثانوية ، إن كانت مقيّدة بالإيصال إلى المقدمة الأوليّة ، فهي أيضا أصبحت مركبة من ذات المقدمة الثانوية ، وإيصالها إلى المقدمة الأوليّة ، فلا بدّ من وجوب غيري ثالث ، وهكذا يتسلسل ، وإن كانت غير مقيّدة بالإيصال ، فلنقل بذلك من أول الأول بلحاظ المقدمة الأوّلية.

وهذا البرهان بهذه الصياغة يكفي في إبطاله أن يقال : إن الأجزاء المعبّر عنها بالمقدمة الداخلية ، لا تتصف بالوجوب الغيري ، لأنّ ملاك ذلك هو

__________________

(١) أجود التقريرات : الخوئي ج ١ ص ٢٣٧ ـ ٢٣٨.

فوائد الأصول : الكاظمي ج ١ ص ١٦٥.

٢٣٥

التوقف في الوجود ، وهو مخصوص بالمقدمة الخارجية ، وأمّا الأجزاء الخارجية أو التحليليّة ، فلا ملاك فيها للوجوب الغيري أصلا.

وبتعبير آخر يقال : إن ذات المقدّمة تكون جزءا ومقدّمة داخلية للمقدّمة الموصلة ، والوجوب الغيري على القول به ، يترشح على المقدمة الخارجية ، لأن نكتته التوقف في الوجود ، وهذا مفقود بالنسبة إلى الأجزاء الداخلية.

التقريب الثاني لبيان التسلسل هو : أن الواجب الغيري لو كان هو المقدمة الموصلة بما هي موصلة ، إذن فسوف تكون متقوّمة بذي المقدمة ، إذ من دون ذلك ، لا يتحقق الموصل بما هو موصل ، وهذا معناه أخذ ذي المقدمة قيدا في الواجب الغيري ، فيصير مقدمة المقدمة ، وبالتالي واجبا بالوجوب الغيري ، وباعتباره ذا المقدمة الموقوف تحقّقه على تحقق المقدمة فسوف يترشح بسببه وجوب غيري آخر على مقدمته ، وباعتبار اختصاص الوجوب بالموصلة المتقوّمة بالموصل له ، أي بذي المقدمة أيضا تتسلسل الوجوبات الغيرية لا محالة.

وبتعبير آخر ، يقال : إن الواجب إذا كان هو الحصة الموصلة إلى ذي المقدمة ، إذن أصبح ذو المقدمة قيدا في الواجب الغيري ، وعليه فلا بدّ وأن يكون واجبا غيريا أيضا. وحيث أنه متوقف على المقدمة ، فلا بدّ وأن يترشح وجوب غيري آخر من إيجاب ذي المقدمة على المقدمة ، وهي أيضا مقيّدة بالإيصال إليه ، وهكذا تتسلسل الوجوبات الغيرية.

ويمكن أن يجاب على هذا التقريب بوجوه :

الوجه الأول : هو ما سوف يأتي في محله ، من أنّ القائل بالمقدمة الموصلة لا ينحصر معنى قوله ، في أخذ التوصل قيدا ، وإنما يريد بذلك معنى ينصبّ فيه الواجب الغيري على ذات الموصل ، وهي غير متقوّمة بذي المقدمة.

أو فقل : إنّ القول بالمقدمة لا ينحصر معناه في أخذ التوصل قيدا ، بل

٢٣٦

له معنى آخر هو : إنّ الواجب الغيري عبارة عن العلّة التامة للواجب ، أو ما هو بمثابتها ، وهذا أمر واحد لا يتعدّد ، كما سوف يأتي توضيحه ، وهذا جواب آخر على التقريب الأول للتّسلسل.

الوجه الثاني : هو أنّ مقدمة المقدمة ، إنّما تكون واجبة بالوجوب الغيري بملاك توقف ذي المقدمة عليها ، لا بملاك توقف المقدمة عليها ، فلو فرض محالا عدم توقف الواجب النفسي على مقدمة ، حينئذ لا يبقى ملاك لوجوبها ، لأن الواجب النفسي يتحقّق بحسب هذا الفرض بلا حاجة إلى تلك المقدمة ، والمفروض عدم وجود ملاك نفسي فيها ، وإلّا كانت واجبا نفسيا.

وفي المقام ، وإن كانت المقدمة الموصلة بما هي موصلة ، متوقّفة على ذي المقدمة ، فيكون ذو المقدمة مقدمة للمقدمة ، إلّا ان هذه المقدمة لا تكتسب الوجوب الغيري ، لعدم كونها ممّا يتوقف عليه ذو المقدمة ، لأنها نفسه ، والشيء لا يتوقف على نفسه ، وإنما توقف عليه حيثيّة الإيصال من المقدمة ، إذن فلا ملاك لوجوبه الغيري أصلا ، فينقطع التسلسل.

وإن شئت قلت : إنه لو سلّمنا أنّ الوجوب الغيري يترشح على كل ما هو مقدمة ، فلا إشكال في أن مبدأ هذا الترشح إنما هو الإيصال إلى الواجب النفسي لا الغيري ، مهما تعدّد وتكثّر ، لأن الوجوب الغيري تبعي غيري ، ولا يمكن أن يدعو إلى نفسه ، حيث يمكن أن يقال : إذا كانت المقدمة الثانوية مغايرة مع الواجب النفسي ، أو الواجب الغيري الأول ، كإخراج الماء للوضوء ، أمكن أن يكون هناك وجوب غيري خاص به ، وأمّا إذا كانت نفس الواجب النفسي ، كما في قيدية ذي المقدمة لإيصال المقدمة ـ كما في التقريب الثاني ـ أو نفس الواجب الغيري الأول ـ كما في التقريب الأول ـ فإنّ ذات المقدمة تقيّد بإيصالها إلى ذي المقدمة ، لا إلى المقدمة الموصلة ، إذن فلا معنى لترشّح وجوب غيري جديد ليلزم التسلسل.

الوجه الثالث : هو أن هذا التسلسل المذكور ليس مستحيلا ، وذلك باعتبار أن الشوق أو الوجوب الغيري ، لا يكون شوقا أو وجوبا فعليا في نفس

٢٣٧

المولى ، كي يلزم من ذلك التسلسل المستحيل في الوجود ، وإنما هو شوق أو وجوب تبعي ، بمعنى أنه لو لاحظه لاشتاق إليه وأوجبه ، وحينئذ فلو فرض صحة الأصول المفروضة في التقريب المذكور ، فإنّ غاية ما يلزم ، هو أنّ المولى كلّما لاحظ المقدّمة الموصلة ، حصل لديه شوق أو وجوب نحوه ، فإذا التفت أيضا إلى أنها متقوّمة بذيها ، حصل لديه شوق أو وجوب غيري نحوه أيضا ، ثم إذا التفت ولاحظ أيضا توقفه على المقدمة الموصلة ، اشتاق إليها ثالثة ، وهكذا ، فكلّما استمر في لحاظه والتفاته ، حصل لديه الشوق والوجوب الغيري ، وهذا ليس بمستحيل ، لأنه ينقطع حينما ينقطع اللحاظ لا محالة.

وهذا أيضا يكون جوابا على التقريب الأول للتسلسل.

ويمكنك أن تقول : إنّ هذا التسلسل في أساسه ليس مستحيلا ، وذلك لأنه قائم على الاعتبار واللحاظ ، إذن فهو ليس تسلسلا في الوجود ، وإنما هو من التسلسل في الاعتبار ، وملاحظة حيثيّة الإيصال إلى المقدمة ، ومثل هذا التسلسل ينقطع بانقطاع الاعتبار والملاحظة.

وعليه ، فلا محذور إذن في أن تكون هناك أشواق نفسيّة غيرية متسلسلة ومستمرة ما استمرت الملاحظة والاعتبار في نفس الأمر ، ولكنها تنقطع بانقطاع الملاحظة والاعتبار.

وليس مثل هذا تسلسلا في أساسه حتى يكون محذورا.

* الإيراد الثاني : على مقالة صاحب الفصول ، هو دعوى استلزام القول بالمقدمة الموصلة لاجتماع المثلين وهو مستحيل ، وذلك باعتبار أن ذا المقدمة سوف يجتمع عليه الوجوب النفسي ، باعتبار وجود الملاك النفسي فيه ، كما يجتمع عليه الوجوب الغيري ، باعتبار كونه ممّا يتوقف عليه الواجب الغيري ، وهو المقدمة الموصلة.

وإن شئت قلت : إنه يلزم من القول بالمقدمة الموصلة اجتماع المثلين ، أي : الوجوبين على ذي المقدمة ، لما عرفت من أنه بناء على القول بالمقدمة

٢٣٨

الموصلة ، يكون ذو المقدمة قيدا فيها ، فيترشح وجوب غيري عليه ، فيجتمع فيه الوجوبان النفسي والغيري.

ويجاب عليه أولا : بما تقدم من عدم دخول حيثيّة الإيصال تحت الوجوب الغيري ، كي يستلزم صيرورة ذي المقدمة مقدمة للواجب.

وثانيا : بما تقدّم أيضا من عدم ترشح الوجوب الغيري من الواجب الغيري ، وإنما الوجوب الغيري من الواجب النفسي هو غير ذي المقدمة.

وقد أجيب عن هذا الإيراد ، في كلمات السيد الخوئي «قده» (١) وغيره ، بجواب آخر ، وهو الالتزام بالتعدد ثم التأكد والاشتداد في الوجوب والشوق ، باعتبار أنّ اجتماع الملاكين النفسي والغيري يقتضي ذلك.

إلّا أنّ تطبيق هذا الجواب على المقام غير تام ، لأن تأكّد الوجوب والشوق كأصله ، لا يتحقّق بلا ملاك ، وإنما يتأكد الوجوب والشوق في الوجوبين المنتهيين إلى ملاكين ، لا إلى ملاك واحد هو الملاك النفسي ، كما في المقام ، إذ إنّ الملاك الواحد لا يعقل أن يزيد نفسه ويؤكّدها ، كما هو واضح بالوجدان.

* الإيراد الثالث : على القول بالمقدمة الموصلة : هو استلزام الدور ، وقد قرّب بأحد تقريبين :

التقريب الأول : هو بلحاظ عالم الوجود ، حيث أن الواجب النفسي يتوقف على المقدمة الموصلة ، والمفروض أنها متوقفة عليه فيدور.

والجواب على هذا التقريب ، هو : إنّ الموقوف عليه الواجب النفسي ، إنما هو ذات المقدمة ، وأمّا حيثيّة الإيصال فهي ليست مقدمة ، وإنما هي محدّدة للواجب الغيري ، وموجبة لاختصاص الوجوب بالحصة الموصلة من المقدمة فقط ، والذي يتوقف على الواجب النفسي ، إنما هو هذه الحيثية ، أي :

__________________

(١) محاضرات فياض : ج ٢ ص ٤١٤.

٢٣٩

حيثية الإيصال بما هي موصلة ، فالموقوف غير الموقوف عليه.

التقريب الثاني : استلزام الدور ، بلحاظ عالم الوجوب ، حيث يدّعى أن الوجوب الغيري يتوقف على الوجوب النفسي بحكم التبعية ، فإذا صار الوجوب النفسي مقدمة المقدمة الموصلة ، حيث توقّف وجوبه على وجوبها فقد دار.

وأجيب بأن وجوب ذي المقدمة الموقوف على وجوب المقدمة ، ليس هو الوجوب النفسي له ، الموقوف عليه وجوب المقدمة ، وإنّما هو الوجوب الغيري ، إذن فالموقوف غير الموقوف عليه (١).

ويمكنك أن تقول : بأن الوجوب الذي يتولّد منه وجوب المقدمة ، هو الوجوب النفسي لذي المقدّمة ، والوجوب الذي يتولّد من وجوب المقدمة ، هو الوجوب الغيري لذي المقدمة ، فلا دور.

لكن يمكن أن يقال : بأنّه يمكن أن يكون نظر صاحب هذا التقريب إلى مرتبة تأكّد الوجوب على ذي المقدمة ، وأن لا يكون هناك إلّا وجوب واحد ، وعليه ، فيرجع حاصل هذا البرهان في هذا التقريب إلى أنه لو لم يقل بالتأكد بين الوجوبين ، لصحّ لزوم اجتماع المثلين ، وأمّا إذا قال بالتأكد ، فلا يلزم إلّا التأكد بين الوجوب النفسي الذي هو في مرتبة العلة للوجوب الغيري ، وبين الوجوب الغيري المعلول للوجوب النفسي وهذا يلزم منه التهافت في المرتبة ، وهو مستحيل بنفس نكتة استحالة الدور.

وإن شئت قلت : بأنه يصح هذا الجواب لو كان المستشكل يفترض عدم التأكد ، وأمّا إذا كان يرى لزوم التأكد بين الوجوبين ، حينئذ يتجه المحذور حيث يقال : إن الوجوب النفسي يترشح منه وجوب غيري على المقدمة الموصلة ، ويترشح منه وجوب غيري لذي المقدمة ، كما في ترشّح الوجوب

__________________

(١) محاضرات فياض : ج ٢ ص ٤١٤.

٢٤٠