يتوقف هذا على رفع السواد وعدم بقائه ، ولكن بقاء السواد لا يتوقّف على عدم حدوث البياض.
إذن فالضد الموجود ، لا يتوقف على عدم الضد المعدوم ، وإنّما حدوث الضد المعدوم يتوقف على ارتفاع الضد الموجود ، كما في المثال ، فإنّ خلوّ الجسم عن البياض والسواد فيه ، لا موجب لتوقف وجود أحد الضدين فيه على عدم الآخر.
نعم قد تقدّم ، أنّه لو فرض كون الجسم أسود وأريد تبييضه ، حينئذ ، يتوقف تبييض الأسود على رفع السواد عنه ، هنا يكون حدوث البياض متوقفا على ارتفاع السواد الموجود على الجسم.
وهذا التفصيل ، غير مندفع ببعض البراهين السابقة مطلقا ، كالبرهان الثالث وبرهان الدور ، حيث أنهما لا ينفيان دعوى التوقف بين الضدين ، لأنّه لا يلزم الدور من توقف الضد المعدوم على عدم الضد الموجود ، كما أنّه لا يلزم مانعيّة المتأخر رتبة عن الممنوع ، كما هو روح البرهان الثالث ، حيث لا يكون المانع ـ وهو الضد الموجود بقاء ـ متوقفا على عدم الضد المعدوم ، كي يلزم شيء من ذلك المحال والتهافت.
وبعض تلك البراهين السابقة ، كالبرهان الخامس ، يدفع وينفي هذا التفصيل مطلقا ، لأنّه كان يفترض أنّ اجتماع الضدين ممتنع بالذات ، وعليه يستحيل افتراض المانع لما هو ممتنع بالذات.
ومن الواضح أنّ هذا لا يفرّق الحال فيه بين مانعيّة الضد الموجود عن المعدوم أو مانعيّة مطلق الضد.
وتبقى بعض البراهين ، كالأول والرابع ، معلّقة في اندفاعها وعدم اندفاعها على وجود نكتة ، وهي كون الوجود البقائي بحاجة إلى العلّة كالوجود الحدوثي ، فإنّه لو قبل هذا القانون ـ كما ذكرنا ذلك في فلسفتنا ـ حينئذ يكون بقاء الضد الموجود أيضا في طول مانعيّة مقتضيه ، وحينئذ تستحيل مانعيته
بمقتضى البرهان الأول والرابع ، لأنهما يشتركان في إثبات امتناع مانعيّة الضد ، حيث أن وجوده يكون في طول مانعيّة مقتضيه.
وإنّ شئت قلت : إنّ تقريب الدور يرتفع حتما مطلقا في صيغة البرهان الثاني حيث يقال : بأنّ وجود البياض يتوقف على عدم بقاء السواد ، فيما لا يتوقف بقاء السواد على عدم حدوث البياض ، ليلزم الدور بصيغة البرهان الثاني ، أو البرهان السابع ، فإنّ وجود البياض يتوقف على عدم السواد ، باعتبار أنّ السواد مانع عن البياض ، فمثلا في إشكال الدور ، كنّا نقول : بأن السواد ـ المانع نفسه ـ متوقف على عدم ممنوعه ، لأنّ فرض وجوده هو فرض عدم ممنوعه قبله ، حينئذ ، كنّا نسأل أنه عمّا ذا يمنع؟. وهذا لا يأتي هنا ، لأنّ المانع هو السواد بقاء ، وهو غير موقوف على عدم حدوث البياض ، لأنّ المفروض أن المانع هو الضد الموجود وليس المعدوم.
إذن فهذا الضد الموجود وهو السواد ، يمنع عن البياض ، ولا يكون متوقفا على عدم البياض كي يلزم الدور.
إذن فإشكال الدور يرتفع في المقام. وكنّا نقول في البرهان الرابع : إنّ استحالة اجتماع الضدين ذاتيّة ، لأنّ الضد إنّ كان يمنع عن وجود الضد الآخر في ظرف عدمه ، فهذا غير معقول ، وإنّ كان يمنع عنه في ظرف وجوده ، فهو غير معقول أيضا ، لأن ظرف وجود أحد الضدين بما هو ظرف هذا الضد ، هو ظرف للامتناع الذاتي ، لوجود ذاك الضد ، فتستحيل فيه العليّة المساوقة للامتناع بالغير.
وهذا هو نفسه يأتي هنا فيقال : بأنّ هذا السواد بوجوده البقائي ، إن كان يمنع عن حدوث البياض ، حال ارتفاعه ، فهو غير معقول ، لأنّه يلزم منه مانعيّة حال عدمه وهو مستحيل ، وإن كان هذا السواد بوجوده البقائي ، يمنع عن حدوث البياض معه ، فهذه المانعيّة منوطة بفعليّة ووجود السواد ، والمفروض أن الظرف الذي فرغ فيه عن وجود أحد الضدين بما هو كذلك ، يمتنع أن يوجد فيه الآخر ذاتا ، إذن فلا يعقل أن يكون علة لمنعه حينئذ.
وهكذا يأتي البرهان الأول ، ويلحق به الثالث المعتمد على الأمر الثاني من البرهان الأول ، لكن بعد ضمّ عناية زائدة ، وهذه العناية ، هي أنّ الممكن هل يحتاج في بقائه إلى المقتضي ، كما يحتاج في حدوثه إليه؟ وذلك أنّ البرهان الأول كنّا نثبت به أولا ، أنّ مقتضي أحد الضدين مانع ، وكنّا نثبت فيه أنّ الضد في طول مانعيّة مقتضيه ، إذن فلا يكون الضد مانعا.
وحينئذ كنّا نقول : بأنه إذا فرضنا أن بقاء السواد كان يحتاج إلى بقاء المقتضي أيضا ، فالكلام هو الكلام حيث يقال : إنّ هذا المقتضي لبقاء السواد هو بنفسه يمنع عن البياض ، وبقاء السواد في طول مانعيّة هذا المقتضي ، وعليه ، فلا يكون السواد مانعا ، وأمّا إذا قلنا : بأنّ السواد لا يحتاج في بقائه إلى مقتض ، إذن فبقاء هذا السواد ليس في طول مقتضيه كي يقال : بأنّ ذاك المقتضي في المرتبة السابقة يمنع عن البياض ، ويكون السواد في طول مانعية مقتضيه ، إذ لا مقتضي له بقاء.
وحينئذ تصبح قاعدة أن الممكن كما يحتاج إلى المقتضي حدوثا يحتاج بقاء ، هذه القاعدة ، تصبح عناية لا بدّ من ضمّها ، ليتم انطباقه على محل الكلام.
وبهذا يتضح ما قلناه سابقا : من أنّ هذا التفصيل يندفع عن بعض البراهين بقول مطلق ، ولا يندفع عن بعض البراهين بقول مطلق ، ويعلّق البعض على هذه النكتة التي تقدّم ذكرها.
وحصيلة كل ما سبق : هي أحقيّة البراهين الأربعة الأولى ، على عدم تماميّة المقدميّة ، ويضاف إلى هذه البراهين الأربعة برهان الدور ، وكذلك يضاف إليها البرهان الثامن الذي جرى على بعض الأضداد ، كما في الضدين اللذين لا ثالث لهما.
وهنا ننبه على نكتة ، وهي : إنّ مقدميّة أحد الضدين لوجود الآخر ، قد
يكون باعتبار مانعيّة هذا الوجود عن ذاك الوجود ، وقد يكون باعتبار أنّ العدم مؤثر في الوجود استقلالا.
وهذه البراهين كانت تبطل كلا شقي المقدميّة ، وهما : مانعيّة الوجود عن الوجود ، أو مانعيّة وتأثير العدم في الوجود.
والشق الأول : وهو المقدميّة بملاك المانعيّة ، وهذا له نحوان قد تكفّلت هذه البراهين بإبطال كلا النحوين :
والنحو الأول ، كان يقال فيه : إنّ السواد يكون مانعا عن وجود البياض في ظرف وجود السواد.
والنحو الثاني ، كان يقال فيه : إنّ السواد مانع عن وجود البياض في ظرف وجود البياض.
وكلا هذين النحوين من المانعيّة ، تكفّل برهان الدور بإبطالهما ، كما تكفل البرهان الرابع بإبطالهما أيضا ، وذلك لأنّا كنّا نقول فيه : إنّ مانعية السواد عن البياض كانت مقيّدة بظرف وجود السواد ، وكنّا نتساءل هناك ، أنها كانت تؤثر في عدم البياض في ظرف عدم السواد؟ أو أنها كانت تؤثر في عدم البياض في ظرف وجود السواد؟ وكنّا نقول : بأنّ الأول غير معقول ، لأنّ فعليّة مانعيّة السواد فرع وجوده ، ولا يعقل تأثير السواد في حال عدمه.
وأمّا مانعيّة السواد في حال عدمه ، فقد كنّا نبطله في البرهان الرابع ونقول : بأنّ ظرف وجود السواد بما هو ظرف وجود ، فهو ظرف الامتناع الذاتي للبياض ، فيستحيل كونه ممنوعا بمانع ، لأنّ معنى ذلك ، أنّه ممتنع بالغير ، وكذلك نبطله ببرهان الدور.
وأمّا البرهان الأول ، والثالث يرجع إليه كذلك ، لأنهما يعتمدان على نكتة وحدة ، وهي : إنّ مانعيّة الضد في طول مانعيّة المقتضي ، وحينئذ يستحيل أن تنشئ مانعيّة وتساهم فيها ، لأنّه في طول مانعيّة مقتضيه ، غاية الأمر أننا في البرهان الأول سلكنا مسلكا في إثبات مانعيّة المقتضي ، وفي البرهان الثالث
سلكنا مسلكا آخر ، وحينئذ ، البرهان الأول تكفّل بإبطال أحد شكلي هذه المانعيّة ، لأنّ إبطال مانعيّة الضد كان بنكتة أنه في طول مانعيّة مقتضيه ، وعليه لا يمكن مساهمته في المانعيّة.
وهنا لا بدّ من الانتقال إلى مانعيّة المقتضي ، لنرى أيّ مانعيّة هي ، بحيث يكون الضد الواقع في طولها ، عاجز عن المساهمة في التأثير ، وأنه هل هي المانعيّة بالشكل الأول ، أو المانعيّة بالشكل الثاني.
فمثلا مقتضي السواد : هل يمنع عن وجود البياض في ظرف وجود السواد؟ أو أنه يمنع عن وجود البياض الذي ليس معه سواد؟.
ومن الواضح ، أنّ مقتضي السواد لا يمنع عن البياض الذي معه سواد ، لأنّ مقتضي السواد لا يهمّه إلّا وجود السواد ، وأن لا يستبدل السواد بالبياض ، وحينئذ فلو فرض في الخارج ، إمكان اجتماع الضدين ، إذن لما كان اقتضاء في مقتضي السواد يقتضي عدم وجود البياض ، وإنّما كان اقتضاء السواد يمنع عن استبدال السواد بالبياض ، إذن فمقتضى السواد مانعيّته مانعيّة عن وجود السواد مقيّدا بعدم البياض ، لا عن وجود السواد مقيدا بالبياض.
وحينئذ إذا أتينا إلى الضد الذي هو في طول هذه المانعيّة ، فتارة نريد أن ننسب له نفس تلك المانعيّة ونقول : بأنّ الضد ، وهو السواد ، يمنع عن وجود البياض في ظرف عدم السواد ، وتارة أخرى ننسب إليه المانعية عن الوجود الانضمامي لا الانفرادي ، فنقول : إنّ السواد يمنع عن انضمام البياض إليه ، إذا ادّعي بأنّ السواد مانعيّته مانعيّة عن الوجود الانضمامي للبياض ، فمثل هذه المانعيّة لا يمكن إبطالها بالبرهان الأول ، لأنّ وجود الضد ليس في طول مانعيّة المقتضي عن الوجود الانضمامي للبياض ، لما قلناه ، من أنّ مقتضي السواد ليس له أصلا ، مانعيّة عن الوجود الانضمامي.
إذن فالبرهان على عدم ثبوت المانعيّة هو برهان آخر.
والبرهان على طوليتها ، يكون إمّا «الدور» وإمّا «الاستحالة» ، فإذا ثبت
بقرينة أنّ استحالة وجود الضدين استحالة ذاتيّة ، يكون برهانا على إبطال هذا ، ولا يكفي البرهان الأول ، وإنّما يكفي لنفي الشكل الأول.
وقد يبرهن عليه بالبرهان الأول ، لأنّ المانعيّة عن وجود البياض بدلا عن السواد ثابتة للمقتضي ، إذ المقتضي يمنع عن البياض حيث لا سواد ، ووجود السواد في طول هذه المانعيّة ، وحينئذ يستحيل أن يساهم في هذه المانعيّة.
وبذلك يتضح ، أن بعض البراهين كبرهان الدور ، والبرهان الرابع ، تبطل المانعيّة بكلا شكليها ، بينما البرهان الأول ، يبطل المانعيّة بالنحو المنسوب إلى المقتضي.
الفصل الثاني
الضد العام
وهو أن الأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن ضده العام ، أو لا يقتضي؟.
والمقصود بالضد العام هنا ، النقيض.
وقد تراوحت البراهين على المراد من الاقتضاء ، بين ثلاثة مذاهب :
أ ـ المذهب الأول : هو أنّ المراد من الاقتضاء هو ، العينيّة.
ب ـ المذهب الثاني : هو أنّ المراد من الاقتضاء هو ، التضمنيّة.
ج ـ المذهب الثالث : هو أنّ المراد من الاقتضاء هو ، الالتزام والملازمة.
ثم إنّ الاقتضاء المذكور ، تارة يبحث بلحاظ مرحلة الإثبات والدلالة ، وأخرى بلحاظ مرحلة الثبوت.
والاقتضاء المذكور بنحو العينيّة ، بلحاظ مرحلة الإثبات والدلالة ، ليس المقصود منه مجرّد بحث لغوي ، في أنّ أدوات التعبير عن الأمر بشيء ، والنهي عن تركه ، يستعمل أحدهما مكان الآخر ، فقد تكون أدوات التعبير عن أحدهما هي نفسها ، أدوات تعبير عن الآخر ، فالمولى حينما يشرّع وجوب الصلاة ، ويريد أن يعبّر عن ذلك ، فقد يقول : «صلّ» أو يقول : «لا تترك الصلاة» ، فليس المقصود من العينيّة ذلك ، لأنّ اللغة تستسيغ كلا التعبيرين عرفا ، وإن اختلفا في مدلولهما التصوري على مستوى المفردات ، إلّا أنّ أحدهما عين الآخر في هذه المرحلة.
وإنّما دعوى العينيّة بلحاظ مرحلة الثبوت ، يجب أن تدّعى في أحد عالمين :
١ ـ عالم الجعل والحكم.
٢ ـ عالم الحب والبغض.
أمّا دعوى العينيّة بلحاظ مرحلة الثبوت في العالم الأول ، فإذا فرضنا أن النهي كان عبارة عن طلب النقيض بأن قلنا : بأنّ النهي عن شيء هو عبارة أخرى عن الطلب حقيقة ، غايته أنّ الأمر هو طلب نفس المتعلق ، والنهي هو طلب نقيض المتعلّق ، وقلنا : بأن نقيض الوجود هو العدم ، ونقيض العدم هو الوجود ، فينتج أنّ الأمر بالشيء هو عين النهي عن الترك ، لأنّ النهي عن الترك ، معناه طلب نقيض الترك ، ونقيض الترك هو الفعل ، فيكون المنهي عنه هو الفعل ، فيكون النهي عن الترك معناه طلب الفعل ، فيصح أن يقال : بأن الأمر بشيء هو عين النهي عن ضده العام ، إذ ليس النهي عن ترك الشيء هو غير طلب فعل ذلك الشيء عينه.
وأمّا لو قلنا : بأنّ النهي ، بحسب عالم الجعل والحكم ، ليس مرجعه إلى طلب نقيض مادة النهي ، وإنّما مرجعه إلى الزجر ، كما أنّ الأمر عبارة عن إنشاء نسبة تحريكية ، وكل منهما متعلّق بالمادة ، غاية الأمر ، أنّ أحدهما يقع طرفا للنسبة الإرساليّة ، والآخر يقع طرفا لنسبة زجريّة.
حينئذ لا محالة تكون المغايرة بين الأمرين واضحة ، وأنّ أحدهما غير الآخر ، إذ إنّ النسبة الإرساليّة غير النسبة الزجرية ، إذن فهنا لا معنى لدعوى العينيّة.
وبهذا يتضح أنّ الاقتضاء بنحو العينيّة ، بحسب عالم الجعل والحكم ، هذه العينيّة ، تصح على تقدير دون تقدير.
وأمّا الاقتضاء بنحو التضمّن في مرحلة الثبوت ، بحسب عالم الجعل
والحكم ، بمعنى أن يكون الأمر مركبا من طلب الفعل والنهي عن الترك ، فقد يقرّب بأن مجرد الوجوب لا يمتثل ولا يقتضي الإلزام في عالم الجعل ، إذا كان مركبا من طلب الفعل فقط ، لأنّ طلب الفعل هنا يلائم مع الاستحباب أيضا ، وإنّما يتعيّن أن يقتضي الإلزام والوجوب إذا اقترن بالنهي عن الترك.
إذن فالوجوب والإلزام مركب من جزء يشترك فيه معه الاستحباب ، وهو طلب الفعل ، وجزء يختص به ، وهو النهي عن الترك.
وهذا هو معنى متضمّن الأمر بشيء للنهي عن نقيضه.
وهذا تقريب معقول ، ولا ينبغي أن يورد عليه ما أورده السيد الخوئي ، «قده» (١) من أن الحكم في عالم الجعل أمر اعتباري ، والأمور الاعتبارية من البسائط ، وليست من المركبات ، وعليه فلا يتصوّر لها جنس ، ولا فصل.
فإنّ هذا أجنبي عن المقام ، إذ التركّب المبحوث عنه أصوليا ، لا يراد منه التركب الماهوي المبحوث عنه في الحكمة ، كي يكون الاعتبار أمرا بسيطا ، لا تتصوّر فيه الأجزاء الماهويّة ، وإنّما المراد من كون الاعتبار بسيطا ، يعني أنه بما هو هو ليس مركبا ، بينما القائل بالتركّب للوجوب ، يدّعي أنّه مركب من ناحيتين : اعتبار الفعل في ذمّة المكلّف أولا ، واعتبار المنع عن الترك ثانيا ، وهذا التركيب غير ذلك التركيب المقصود للحكماء.
نعم يمكن أن يقال : بأنّ الوجوب ليس مركبا من طلب الفعل والمنع عن الترك ، وذلك لأنّ الوجوب لو كان يتميّز عن الاستحباب بالمنع عن الترك ، ـ لو كان هكذا ـ لنقلنا الكلام إلى النهي عن الترك ، فنقول : بأنّ النهي عن الترك ، تارة يكون نهيا كراهيّا ، وأخرى يكون نهيا تحريميا ، إذن فهذا المنع المدّعى أنّه جزء من الوجوب ، أيّ منع هو؟. فإن كان الأول ، فلا يجعل الطلب وجوبيا ، وإن كان الثاني ، نسأل حينئذ ، أنه كيف صار المنع
__________________
(١) محاضرات فياض : ج ٣ ص ٤٧ ـ ٤٨.
لزوميا مع أنه اعتبار واحد ومنع واحد ، وعليه يقال : إذا صحّ هذا في النهي ، فليصح في الطلب من أول الأمر وليقل : بأنّ الأمر لزومي بذاته من أول الأمر ، وإذا كان لا بدّ من كون الوجوب مركبا ، فليكن مركبا من طلب الفعل مع عدم الترخيص بالترك ، لا المنع من الترك الذي هو عدم الاعتبار ، إذ لا اعتبار للعدم.
والخلاصة ، هي : إنّ إضافة المنع من الترك ، يعمّق الإشكال ولا يحلّه ، لأنّ المنع بنفسه كالطلب ينطبق على اللزومي ، وغير اللزومي ، كما في الكراهة.
وعليه ، فلا بدّ من تعديله ، فيقال بدلا عن «المنع من الترك» ، «عدم الترخيص في الترك» ، لا المنع والحرمة ، وهكذا ، تكون صياغة كون المسألة اعتبارية ، وصياغة الاعتبار.
وأمّا الاقتضاء بنحو الملازمة والاستلزام ، فيرد عليه ما أوردناه على القائل بالملازمة ، بلحاظ عالم الجعل والاعتبار ، في بحث مقدمة الواجب ، حيث قلنا هناك ، بأنه : إن أريد من هذا الاستلزام في عالم الجعل ، التسبيب التوليدي في جعل الحكم ، فهذا غير معقول ، لأنّ الأحكام أفعال اختيارية للمولى ، فتكون منوطة بمبادئها الاختيارية ، وحينئذ لو أريد دعوى حصول الاعتبار الثاني الغيري بالاعتبار الأول ، بنحو التوليد ، ومن دون حصول مبادئه ، فهو إذن خلف كونه من الأفعال الاختيارية.
وإن أريد أن جعل الوجوب يحدث الداعي في نفس المولى ، لجعل النهي الغيري وهو حرمة الترك ، فهو أيضا غير صحيح ، إذ لا فائدة عمليّة من الاعتبار الثاني الغيري بعد فرض الاعتبار الأول ، إذ لا وجود لمثل هذا الداعي في النفس حينئذ ، بل هو لغو صرف ، لأنّ التحريم الغيري كالوجوب الغيري ، لا تحريك له ولا زجر ، لأنّه ليس موضوعا مستقلا للطاعة والداعوية.
وإن شئت قلت ، بأنّه : إن أريد أن الاعتبار الأول بنفسه يحدث الداعي
في نفس المولى لجعل الحكم ، بحيث أنّه هو بنفسه يصبح داعيا لجعل النهي الغيري ، وهو «حرمة الترك» ، فهو غير صحيح ، لأنّه لا فائدة عمليّة من الاعتبار الثاني الغيري بعد فرض الاعتبار الأول ، بل هو لغو صرف ، لأنّه تحريم غيري ، وهو كالوجوب الغيري ، ليس موضوعا مستقلا للطاعة والداعوية ، فلا تحريك ولا زجر له.
هذا كله بلحاظ عالم الجعل والحكم والاعتبار.
وأمّا الاقتضاء ، بحسب عالم الحب والبغض ، ومبادئ الحكم من الإرادة والكراهة وغيرها ، فإنّ اقتضاء حبّ فعل لبغض ضدّه العام ، يبتني على فروض متصوّرة في تفسير الحب والبغض في النفس ، نستعرضها تباعا :
١ ـ الفرض الأول : هو أنّ حبّ فعل ، معناه مبغوضيّة تركه ، ومعنى هذا ، أننا لا نتصور حبا في العالم ، بل العالم كلّه عامل بغض ، غاية الأمر ، أن الإنسان تارة يبغض الفعل كما في شرب الخمر ، وأخرى يبغض الترك ، كما في ترك الصلاة.
وهذا الفرض معناه ، أنّ الأمر بشيء دائما هو عين بغض ضدّه العام ، بلحاظ عالم الملاك والإرادة ، أي : عالم الحب والبغض ، فهو فرض نافع لمن يقول بالعينيّة.
إلّا أن هذا الفرض بديهي البطلان ، لأنّ الوجدان قاض بوجود عاطفة الحب في الإنسان.
٢ ـ الفرض الثاني : هو أن يفرض وجود عاطفة واحدة في النفس ـ كما يفرض علماء النفس ـ وهذه العاطفة الواحدة ، إذا نسبت إلى الفعل الملائم لها ، تكون «حبا للفعل» ، وإذا نسبت إلى نقيض الفعل ، تكون بغضا ، فيزدوج الحب والبغض في عاطفة واحدة.
وهذا الفرض أيضا ، يفيد القائل بالعينيّة ، إذ سوف يكون الأمر بشيء عين النهي عن ضدّه العام.
وهذا الفرض باطل أيضا بالوجدان ، وذلك لأنّ عاطفة الحب والبغض متقدّمة بمتعلقها ، فهي كالعلم والقدرة ، من الصفات الحقيقيّة ذات الإضافة ، قوامها في متعلقها ، إذن فلا بدّ من تعيين المتعلّق ، وهذا المتعلّق ، إمّا أن يتعيّن في طرف الفعل ، فيكون حبا ، وإمّا أن يتعيّن في طرف الترك ، فيكون بغضا.
فالعاطفة تتبدّل بتبدل المتعلّق ، كالعلم عند ما يتبدل متعلّقه.
٣ ـ الفرض الثالث : هو أنّه يوجد عاطفتان : عاطفة حب ، وعاطفة بغض ، وكلتا العاطفتين منشؤهما واحد ، هو الملاك والمصلحة ، وهذا الملاك يولّد كلتا العاطفتين في عرض واحد ، فحينما يرى الإنسان العطشان المصلحة إذا شرب الماء ، حينئذ يتولد عنده عاطفتان هما : حبّ شرب الماء ، وبغض ترك الشّرب ، فيكون غض الترك جزءا للملاك النفسي للمولى ، وكلاهما منشؤهما واحد.
وهذا الفرض يفيد القائل بأن الأمر بالشيء يتضمّن النهي عن ضده العام ، إذ معناه أنّه وراء الأمر دائما عاطفة مزدوجة ، تشتمل على حب الفعل ، وبغض تركه.
وهذا الفرض أكثر معقوليّة من الفرض الأول ، لعدم مخالفته الوجدان ، وأكثر معقوليّة من الفرض الثاني ، لعدم وجود محذور عقلي فيه كما في الثاني.
ولا ينبغي الإشكال ، في أنّ ترك المحبوب مبغوض ، ولكنّ الكلام في أنّ هذه المبغوضية عرضيّة كما يدّعي هذا القول ، أو طوليّة ، كما في الفرض الآتي ، وتلك دعوى عهدتها على مدّعيها.
٤ ـ الفرض الرابع : وهو الأقرب ، وإن كان هو الفرض الثالث نفسه ، غايته أنّه يفترض الطوليّة بين العاطفتين.
وهذا الفرض يفيد القائل بالاستلزام وذلك بأن يقال : بأنّ الملاك الموجود في الفعل يولّد حبا ، ثم وفي طوله ، وبقدر ما يصبح هذا الفعل محبوبا وملائما لقوى ، الإنسان يصبح تركه مبغوضا له ، إذ إنّ الإنسان كما يتألم من وجود ما ينافر قواه ، ، كذلك يتألم من فوات ما يلائم قواه فيبغض ذلك الفوات.
وهذا الفرض كما ترى ، فإنّه نافع للقائل بأن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده العام بالاستلزام بحسب عالم الحب والبغض ، وهو أكثر وجدانيّة وأقرب للقبول ، وحينئذ لا يرد عليه ما استشكله السيد الخوئي «قده» (١) على القول بالاستلزام للحرمة الغيرية ، حيث استشكل «قده» بأنّ الحرمة الغيرية ملاكها المقدميّة ، ولا مقدميّة بين الشيء وضده العام ، إذ إنّ عدم العدم ليس مقدمة للوجود بل هو عينه ، فإنّ إشكال السيد الخوئي «قده» حينئذ يكون مصادرة على مدّعى القائل بالاستلزام. بل لعلّه من باب النقيضيّة ، إذ القائل بالاقتضاء من باب الاستلزام يقول : بأنّ هناك ملاكا آخر للحرمة الغيرية ، وهو كون الشيء نقيض المحبوب ، إذ كما أنّ المقدميّة للمحبوب ملاك للوجوب الغيري ، فكذلك كون الشيء نقيضا له ملاك للحرمة الغيرية.
__________________
(١) محاضرات فياض : ج ٣ ص ٤٩.
الفصل الثالث
ثمرة بحث الضد
لقد قيل بأنّ ثمرة بحث الضد ـ «اقتضاء الأمر بشيء للنهي عن ضده» ـ تظهر في فرعين :
١ ـ الفرع الأول : هو فيما إذا تزاحم واجب مضيّق مع واجب آخر موسّع كما إذا أوقعت الصلاة ـ الواجبة الموسّعة ـ في وقت مضيّق مزاحمة لواجب من الواجبات كالإزالة الفورية في جزء من الوقت ، فإنه حينئذ لا إشكال في أن الموسّع إذا زاحمه المضيّق ، أو زوحم به ، قدّم المضيّق لكون وجوبه فعليا.
وحينئذ بناء على اقتضاء الأمر بالإزالة للنهي عن ضده الخاص ، لو فرض أن المكلّف لم يأت بالمضيّق ، بل أتى بالموسّع ، فهل يجزي إتيانه بالموسّع؟
لا إشكال في أنه بناء على كون الأمر بشيء يقتضي النهي عن ضده الخاص ، فإنّ الصلاة الموسعة تكون فاسدة ، لأنّها عبادة وقعت حال كونها منهيا عنها ، والنهي ولو كان غيريا يقتضي الفساد.
وأمّا لو قلنا بعدم اقتضاء الأمر بشيء النهي عن ضده ، فإنّ هذه الصلاة تقع صحيحة حينئذ.
٢ ـ الفرع الثاني : وهو فيما إذا تزاحم واجبان مضيّقان : أحدهما أهمّ من الآخر ، حينئذ لو قدّم الأهم على المهم بقانون تقديم الأهم على المهم في باب التزاحم ، فلا إشكال.
لكن لو فرض أنّه قدّم المهم العبادي ، فصلّى وترك إنقاذ الغريق ، في مثل ذلك ، هل تقع صلاته صحيحة؟.
وهنا أيضا يقال : إنه بناء على أن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده ، فإنّ صلاته تقع باطلة.
وأمّا بناء على القول بعدم الاقتضاء ، فإنّ صلاته تقع صحيحة.
وهذا التقريب قد اعترض عليه بعدة اعتراضات :
١ ـ الاعتراض الأول : هو أنّ هذه الثمرة غير صحيحة ، بل المتعيّن هو القول بالبطلان على كلا التقديرين ، سواء قلنا بالاقتضاء ، أو قلنا بعدمه.
أمّا بطلانها على القول بالاقتضاء : فلما تقدّم من أن النهي عن العبادة يفيد الفساد.
وأمّا بطلانها على القول بعدم الاقتضاء ، فأيضا تقع هذه العبادة فاسدة ، وذلك لأنّ العبادة المغايرة مع الواجب المضيّق الأهم ، وإن لم تكن محرّمة ، لكنها ليست مأمورا بها على كل حال ، إذ لا يعقل الأمر بها مع طلب ضدها ، لعدم معقوليّة الأمر بالشيء وضده ، وعدم الأمر بها كاف في وقوعها فاسدة ، إذ يشترط في صحة العبادة الأمر بها ، فتكون هذه الصلاة كصلاة الحائض ، إذن فالثمرة في كلا الفرضين باطلة. وقد أجيب على هذا الاعتراض بوجوه :
١ ـ الوجه الأول : وهو ما نسب إلى المحقق الثاني (١) ، وجماعة ممّن تأخر عنه ، من المنع عن إطلاق مقالة البهائي «قده» من فساد الضد لو قلنا بتوقف العبادة على الأمر (٢) ، وهو يختص بخصوص الفرع الأول ، وهو كون الواجب الموسّع يزاحم الواجب المضيّق في جزء من الوقت.
__________________
(١) فوائد الأصول : الكاظمي ج ١ ص ١٨١.
(٢) زبدة الأصول : ناشر ـ برادران نجفي ص ٨٢ ـ ٨٣.
وحاصله ، هو : إنّه ليس صحيحا أن الأمر بالصلاة ساقط على كلا القولين ، بل إنّما نلتزم بسقوطه بناء على القول بالاقتضاء ، وأمّا بناء على القول بعدم الاقتضاء عن الضد الخاص ، فلا تظهر الثمرة.
وتوضيح ذلك ، هو : إنّه بناء على الاقتضاء يكون الفرد الواقع في فرض المزاحمة محرما ، وعليه فيستحيل شمول إطلاق دليل «صلّ» ، له ، إذن فلا محالة تكون الحرمة موجبة لتخصيص إطلاق دليل «صلّ» بنحو لا يشمل هذا الفرد ، لاستحالة اجتماع الأمر والنهي فيه ، وعليه فيقع هذا الفرد بلا أمر ، فيحكم ببطلانه.
وأمّا إذا قلنا : بأن الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضده الخاص ، فالأمر «بالإزالة» لا يقتضي تحريم هذا الفرد ، إذن فلا يقع هذا الفرد بلا أمر ، ولا يحكم ببطلانه ، بل يبقى الأمر متعلقا بالجامع بين هذا الفرد وغيره من الأفراد ، ـ وهنا لا ينبغي التوهم أن هذا أمر بالضدين ـ فإنّ الإزالة ضدها هذا الفرد ، لا الجامع بينه وبين الإزالة ، وما هو المأمور به هو الجامع ، ولا مضادة بين الإزالة وهذا الجامع ، لوضوح أنّ الجامع يمكن تحققه مع الإزالة.
إذن فما هو طرف المزاحمة والمضادة ، وهذا معناه ، أنه بناء على القول بعدم الاقتضاء لا يرتفع الأمر بالصلاة.
وقد أورد المحقق النائيني «قده» على تصحيح المحقق الثاني «قده» للثمرة ، حيث يتم كلام المحقق الثاني «قده» على مبنى ، ولا يتم على مبنى آخر ، حيث يقول الميرزا «قده» إنّ اشتراط القدرة في التكاليف فيه مسلكان (١) :
١ ـ المسلك الأول : هو أن اشتراط القدرة إنما هو من باب حكم العقل بقبح تكليف العاجز ، بحيث لو قطعنا النظر عن القبح العقلى ، لما كان هناك
__________________
(١) فوائد الأصول : الكاظمي ج ١ ص ١٨١.
موجب للاختصاص بالقادر ، وإنّما قلنا بالاختصاص بحكم العقل.
٢ ـ المسلك الثاني : هو أنّ القدرة إنما هي شرط ، باعتبار استدعاء طبيعة التكليف للتوجه نحو المقدور ، إذ يستحيل التوجه نحو غير المقدور ، بل حتى أن الأشعري (١) الذي يرى صحة التكليف بغير المقدور ، يقول بهذا ، وذلك لأنّ التكليف متقوّم بجعل الداعي والتحريك ، ومن الواضح أن جعل الداعي لا يعقل إلّا أن يقع تحت اختيار الآخر ، إذن فالتكليف بطبعه يستدعي التوجه نحو المقدور ، لأنّ روح التكليف هو جعل الداعي ، وهو يساوق الاختيار ، ويكمل الميرزا «قده» فيقول : وحينئذ لو بنينا على الأول يتم كلام المحقق الثاني «قده» ، ويكون التكليف حينئذ مشروطا بالقدرة ، بقرينة عقليّة وهي حكم العقل بقبح تكليف العاجز على القول بالاقتضاء وبأنّ الأمر يتعلق بالجامع بين الفرد المقدور وغير المقدور ، أي : بين المزاحم وغير المزاحم.
وهنا لا محذور في ذلك ، لأنّ المحذور هو قبح تكليف العاجز ، ولا قبح بهذا التكليف لأنه لا إحراج فيه للعبد ، إذ تكفي القدرة على بعض أفراد الواجب الموسّع حيث ، يبقى تعلّق التكليف بالجامع بين الفرد المزاحم وغيره من الواجب الموسّع ، معقولا ، إذ لا يلزم منه محذور قبح تكليف العاجز ، وبهذا يكون الفرد المزاحم فردا من المأمور به أيضا ، وعليه فيصح وقوعه عبادة.
وأمّا بناء على المسلك الثاني ، وهو : اعتبار كون القدرة شرطا في التكليف ، باعتبار أنّ طبيعة التكليف تقتضي التوجه نحو المقدور ، لأنّ التكليف هو عبارة عن جعل الداعي ، وهو لا يكون إلّا بلحاظ المقدور ، لأنه هو الذي يعقل جعل الداعي إليه.
بناء على هذا ، حينئذ ، لا محالة من كون التكليف يخصّص متعلّقة بخصوص الحصة المقدورة ، وحينئذ لا يبقى للجامع إطلاق وشمول للفرد
__________________
(١) مقالات الإسلاميين : الأشعري ج ١ ص ٣٣٠.
المزاحم من الواجب الموسّع ، لأنّ هذا الفرد حتى لو لم نقل بالنهي عنه ، فالوجوب المتعلق بالفرد الآخر ، هو بطبعه يقتضي التخصيص بالحصة المقدورة ، أي بتخصيص الأمر بغير المزاحم. إذن يخرج المزاحم عن كونه فردا من المأمور به. وبهذا يتم الاعتراض على الثمرة.
وقد أورد السيد الخوئي «قده» (١) عدة إيرادات :
١ ـ الإيراد الأول : هو أنّ ما سلّمه الميرزا «قده» من صحة تصحيح المحقق الثاني «قده» للثمرة ، من صحة تعلّق الأمر بالجامع على تقدير المسلك الأول ، وهو كون القدرة فيه شرطا بحكم العقل ، هذا التسليم غير مناسب مع مبنى الميرزا «قده» نفسه ، من استحالة الواجب المعلّق ، إذ يلزم من القبول بالجامع على هذا التقدير ، الالتزام بالواجب المعلّق الذي يرفضه الميرزا «قده».
وتوضيحه ، هو : إنّه إذا فرضنا أنه أمر بالصلاة عند الإزالة ، فالفرد الأول من الصلاة مزاحم بالإزالة ، لكون وجوب الواجب الموسّع فعليا حتى في زمان الإزالة ، «الواجب المضيق» مع أنّ متعلق الواجب الموسع غير مقدور شرعا في زمن الواجب المضيّق ، «الإزالة» ، والمفروض أن الميرزا «قده» يقول بتعلق الأمر بالصلاة بناء على أنّ القدرة شرط عقلي ، إذ حينئذ يقال ، للميرزا «قده» : بأنّ هذا من الواجب المعلّق ، وذلك لأنّ الإتيان بالفرد الطولي الأول مستحيل عند الزوال ، بعد أن فرغنا عن استحالة الإتيان بالفرد المزاحم «للإزالة» ، أو «إنقاذ الغريق» فتبقى الأفراد الطوليّة للجامع وغير المزاحمة ، الثاني ، والثالث ، والرابع ، وهكذا ، غير مقدورة عقلا وفعلا ، لأنه أقربها عند الإزالة ، وفرده المزاحم الفعلي قلنا : إنّه غير مقدور ، لا شرعا ولا عقلا ، إذن فيتعلّق الأمر بالواجب الغير مقدور ، أو بالواجب المعلّق القائل به صاحب «الفصول».
وإن شئت قلت : إنّه يلزم من هذا ، التفكيك بين زمان فعليّة الوجوب ،
__________________
(١) محاضرات فياض : ج ٣ ص ٥٩ ـ ٦٠.
وزمان القدرة على متعلقة ، كما ذهب إليه صاحب «الفصول «قده»» (١) ، وهذا ممّا أحاله الميرزا «قده».
وعلى هذا ، كان ينبغي أن يقول الميرزا «قده» للمحقق الثاني «قده» : إنّ الأمر بالجامع مستحيل التحقق ، لأنّه من الواجب المعلّق.
وهذا الإيراد من قبل السيد الخوئي «قده» غير وارد ، وتحقيقه يتوقف على بيان أمرين :
١ ـ الأمر الأول : هو أن القائلين باستحالة الواجب المعلّق ، مختلفين في نكتة الاستحالة بين نكتتين :
أ ـ النكتة الأولى : هي القائلة بأنّ الواجب المعلّق إنّما يستحيل ، لأنّ التحريك والبعث في موارده يكون فعليا ، في حين أن الانبعاث بالفعل ، غير ممكن فيه.
وهذا غير معقول ، لأنّ جعل البعث بالفعل ، هو أمر يساوق الانبعاث فعلا ، والواجب المعلّق لا يكون الانبعاث فيه فعليا قبل مجيء المعلّق عليه الواجب ، كما نقله صاحب «الكفاية» «قده» (٢) ، وهذا يستدعي التفكيك بين البعث والانبعاث وهو مستحيل ، لأن الحكم إنما يجعل بداعي جعل الداعي والمحركيّة ، إذن لا بدّ من كون التحرك معقولا حين فعلية الحكم ، بينما الواجب المعلق لا يكون الانبعاث فيه فعليا قبل مجيء الشرط المعلّق عليه الواجب.
ب ـ النكتة الثانية : هي إنّ القول بالواجب المعلّق يستدعي إناطة الحكم بالشرط المتأخر حتما ، وحينئذ ، بناء على القول باستحالة الشرط المتأخر ،
__________________
(١) الفصول في الأصول : محمد حسين بن محمد رحيم. طباعة حجرية ١٣٥٠ ه ص ٨٠ ـ ٨١.
(٢) كفاية الأصول : المشكيني ج ١ ص ١٦٢.