بحوث في علم الأصول - ج ٥

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٣

للمولى أن يتصدّى لإحرازه وإيقاعه خارجا ، لأن المولى يجعل الحكم على نحو القضية الحقيقية ، ولا يضمن للمكلفين تحقق هذا القيد خارجا ، إذن فهذا القيد في معرض أن يقع ، وفي معرض أن لا يقع.

وفي هذه الحالة ، لو فرض أن المولى جعل الوجوب مطلقا من هذه الناحية ، ناحية «الحياة والقدرة على الصوم عند الطلوع» ، للزم منه فعليّة الوجوب في حق من لا يكون قادرا عند «طلوع الفجر» ، ولا حيّا ، ولا حاضرا.

وهذا تكليف بغير المقدور ، وهو غير معقول.

وعليه كان لا بدّ للمولى من تقييد الوجوب بهذا الأمر الثاني ، وهو كون المكلف بالصوم حيّا قادرا على تقدير «طلوع الفجر».

لا يقال ، بأنه بناء على ذلك ، يرد محذور التحريك نحو غير المقدور ، وذلك لأن الأمر بالمقيّد ليس أمرا بالقيد ، وإنما هو أمر بالتقيّد وذات المقيّد مقدور ، والتقيّد بالقيد أيضا مقدور إذا كان تحقق القيد مضمون التحقق خارجا ، وعليه ، فلا يلزم من الأمر بالمقيّد أي محذور ، إذن فالأمر بالصوم المقيّد «بطلوع الفجر منذ الليل» بنحو الواجب المعلّق ، لا محذور فيه.

ومقامنا من هذا القبيل ، فإن «طلوع الفجر» أمر مضمون الحصول خارجا ، وما دام يوم القيامة مثلا لا يتحقق ، حينئذ سوف يطلع الفجر ، وإنما الشيء غير المضمون ، أن أبقى أنا حيّا إلى حين «طلوع الفجر».

نعم المقيّد فعلا وفي آن «الغروب» ، يكون غير اختياري ، وحيث أن المفروض أن كل أمر لا يقتضي الفورية ، وإنما الأمر يقتضي امتثال متعلقه في عمود الزمان ، وامتداده ، لا فورا ، وفي عمود الزمان يكون المقيّد اختياريا لا محالة ، وعليه ، فلا يلزم التقييد بأمر غير اختياري.

وبعبارة أخرى يقال : إنّه إذا فرض كون الأمر على نحو الفورية ، حينئذ لم يعقل الأمر «بالصوم المقيّد بطلوع الفجر» منذ «الليل» إلّا أن هذا غير لازم ،

٨١

فإن الأمر لا يدل إلّا على مطلوبية متعلقه على عمود الزمان.

نعم لو قلنا بأن الأمر بالمقيّد أمر بذات المقيّد ، وبالتقيّد ، وبالقيد ، للزم في المقام التكليف بأمر غير اختياري ، وهو القيد لأنه غير اختياري بحسب الغرض ، ومجرد أنه سوف يقع خارجا ، لا يجعله اختياريا ، فمثلا : تكليف الإنسان بأن «يطلع الفجر» تكليف بغير الاختياري حتى مع العلم بأنّ الفجر سوف يطلع».

ولكنّ الصحيح أن الأمر بالمقيّد ليس أمرا بالقيد ، بل هو أمر بذات المقيّد وبالتقيّد ، وكلاهما اختياري.

أمّا ذات المقيّد فواضح ، وأمّا التقيّد فاختياريته تكون : إمّا بضمان وقوع القيد ، أو اختيارية إيقاعه ، والمفروض في المقام ضمان وقوع القيد.

وعليه ، فلا يلزم من الإطلاق من هذه الناحية التكليف بغير الاختياري.

فوجوب «الصوم» الذي نفرضه فعليا حين الغروب ، إنما هو بلحاظ بعض القيود ، كالقدرة والحياة على تقدير «طلوع الفجر» ، إنما هو واجب مشروط بشرط متأخر ، ولكن بلحاظ «طلوع الفجر» هو واجب معلّق.

وبهذا يتضح أن هناك ثلاثة أقسام من القيود بالنسبة إلى هذا الوجوب :

الأول : قيد نفس الوجوب ، من قبيل القدرة والحياة على تقدير «طلوع الفجر» على نحو القضية الشرطية.

الثاني : قيد للواجب على نحو يترشّح عليه الإلزام ، وهو اختياري ، من قبيل قيد «الطهارة من الجنابة».

والثالث : قيد للواجب مع عدم أخذه قيدا للوجوب بنحو لا يترشح عليه الإلزام ، من قبيل «طلوع الفجر» من دون أن يلزم من ذلك محذور التكليف بأمر غير اختياري ، ولا إرجاع الواجب المعلّق إلى الواجب المشروط.

٨٢

الاعتراض الثاني :

على الواجب المعلّق ، هو أن يقال : إن القول بالواجب المعلّق ، يلزم منه انفكاك المراد التشريعي عن الإرادة التشريعية ، بمعنى فرض فعليّة الإرادة التشريعية مع عدم فعلية المراد التشريعي ، لأن المفروض أن وجوب «الصوم» فعلي من حين «الغروب» ولكن الواجب ليس فعليا مثله ، بل منفك عنه ، وانفكاك المراد التشريعي عن الإرادة التشريعية غير معقول.

ويتضح هذا البرهان بأحد تقريبين :

١ ـ التقريب الأول : وهو ما أشار إليه صاحب الكفاية (١) ، وأوضحه المحقق الأصفهاني (٢) وحاصله مركب من مقدمتين :

أ ـ المقدمة الأولى : هي أن الإرادة التكوينية لا يمكن أن يتخلّف عنها مرادها ، إذ لا يراد بهذه الدعوى أن الإنسان فعّال لما يريد ، وشأنه شأن من إذا أراد شيئا فيقول له كن فيكون ، بل المقصود في المقام هو أنه حيث لا قدرة للإنسان على شيء ، فإنه لا يوجد ذلك الشيء ، فالإرادة التكوينية متى ما تعلّقت بشيء ، فقد فرغ عن القدرة ، عليه بحيث لم يبق بعد فعليّة الإرادة إلّا فعلية المراد ، إذ لا يمكن أن يتخلّف المراد عن الإرادة.

نعم هناك أمور كثيرة لا يمكن للإنسان إيجادها ، إلّا أنّ معنى ذلك ، أنه لا يريدها أيضا ، لا إنّه يريدها وتتخلّف عن إرادته.

ب ـ المقدمة الثانية : هي أن الإرادة التشريعية على وزان الإرادة التكوينية ، فكما يستحيل ، بمعنى من المعاني ، تخلّف المراد التكويني عن الإرادة التكوينية ، كذلك يستحيل الانفكاك بين المراد التشريعي والإرادة

__________________

(١) كفاية الأصول : مشكيني ج ١ ص ١٦١ ـ ١٦٢.

(٢) نهاية الدراية : ج ١ ص ٣٠٥ ـ ٣٠٦ ـ ٣٠٧ ـ ٣٠٨.

٨٣

التشريعية ، بحيث تكون الإرادة التشريعية فعليّة ، ولا يكون المراد التشريعي فعليا.

وإذا ثبتت هاتان المقدمتان ببرهان من البراهين ، حينئذ يثبت استحالة الواجب المعلّق ، حيث وجدت فيه الإرادة التشريعية فعلا ، ولم يوجد المراد التشريعي.

وقبل بيان عدم تمامية كلا الاعتراضين ، لا بدّ من بيان المدّعى في المقدمة الأولى والثانية ، ومن ثمّ ندخل في مناقشة كلتا المقدمتين وبيان بطلانهما :

أمّا بيان المدّعى في المقدمة الأولى هو أن يقال :

إنّ الجسم تارة يتحرك كما يتحرك الحجر والماء بدفع من شخص مثلا ، وهذه الحركة ناشئة من أسباب خارجية ، ولا ربط لها بالنفس الإنسانية المدبّرة لذلك الجسم المتحرك ، ولا كلام في هذه الحركة. لأنها حركة بمؤثر غير اختياري ، وإنما الكلام في الحركات الاختيارية.

وتارة أخرى ، يفرض أن جسم الإنسان يتحرك بتحريك يتميز به عن الجمادات ، كتحريك القوة العضلية المنبثّة في جسمه ، فإنّ القوى التي أودعها الله في الجسم ، تثيره وتدفعه وتحركه ، وهذا التحريك بحسب الحقيقة من شئون النفس الإنسانية ، ولكن في مرتبة القوى العضلية لها. باعتبار أن النفس لها مراتب ودرجات ، وواحدة منها هي مرتبة القوى العضلية ، وهذا تحريك نفساني لكنه بهذه المرتبة ، ومثل هذا التحريك النفساني في مرتبة القوى العضلية ، ممّا لا إشكال في أنه لا يكفي في حصوله مطلق الشوق ، إذ إنّه كثيرا ما يحدث الشوق بمرتبة من المراتب الضعيفة المبتلاة بالمانع ، فلا يتحرك.

وهذا معناه أن مطلق الشوق ليس هو المقتضي لهذا التحريك النفساني في نفس عالم النفس ، لأن هذا التحريك باعتباره من شئون مرتبة نازلة من

٨٤

النفس ، فإنه لا ينشأ من أسباب خارجية ، لأنه خلف كونه تحريكا نفسانيا ، بل ينشأ من مؤثر نفساني.

إذن لا بدّ أن يلتزم من أن المؤثر والمقتضي لهذا التحريك ، ليس هو مطلق الشوق ، بل يمكننا أن نصطلح عليه بالشوق الكامل ، ونشير به إلى مرتبة معيّنة من الشوق تكون هي المؤثر في التحريك ، وبالتالي تكون من باب تأثير أمر نفساني في أمر نفساني.

والمدّعى في المقام هو : إنّ كل فعل يكون له حالة منتظرة ، فهي لا تنفك عنه ، إذ شأنه شأن الإرادة التكوينية في ذلك.

ومن الواضح بطلان هذا المدّعى ، لأننا نمنع مقولة كون الإرادة التكوينية لا تنفك عن مرادها التكويني عند عدم وجود شوق كامل نحوه ، ولا نمنع مقولة استحالة الانفكاك بين الإرادة التكوينية والمراد التكويني فيما إذا وجد الشوق الكامل نحوه.

وبعبارة أخرى ، فإننا نمنع أن الإرادة التكوينية يستحيل انفكاكها عن المراد التكويني ، إذا لم تكن تلك المرتبة المؤكدة من الشوق الكامل المستتبع في الإرادة لتحريك العضلات نحو الفعل ، والمقتضي لتحققه خارجا إذا كانت بقية الشرائط متوفرة كقابلية القابل ، وهذه المرتبة هي الإرادة التكوينية ، إذن فالتخلف والانفكاك إنما هو من جهة عدم اكتمال الإرادة ، وبلوغها المرتبة العالية بفقدان قابلية القابل ، وتوقفه على طلوع الفجر ، إذ بطلوع الفجر يكتمل الشوق بقابلية القابل ، لا من أجل كون الأمر الخارجي علة في تحريك العضلات الذي هو أمر نفساني ، بل لأن الإرادة متعلقة بالحصة الخاصة من التحريك ، وهو التحريك عند طلوع الفجر ، إذ قابلية العضلات للتحرك لا تتوفر إلّا عند طلوع الفجر الذي هو أمر خارجي عن النفس ، لأن الإرادة ليست متعلقة بمطلق تحرك العضلات ، وإلّا لو فرض وجود الشوق الكامل ، ولم

٨٥

يوجد متعلقه (١) ، فهذا أمر غير معقول ، ولا يخلو من أحد احتمالات ، كلها غير معقولة :

أ ـ الاحتمال الأول : هو كون العضلات لم تتحرك ، رغم وجود الشوق الكامل ، من باب انفكاك المعلول عن العلة ، وهذا مستحيل.

ب ـ الاحتمال الثاني : هو أن التحريك لم يتحقق ، لأن مقتضيه لم يتحقق ، كما لو فرض ، بأن المقتضي للتحريك شيء آخر وراء عالم الشوق وعالم النفس ، كنزول المطر مثلا ، وهذا مستحيل أيضا ، لأن نزول المطر إن حرّك الجسم ، فإنه يحركه كما تتحرك الحجارة ، وهذا بخلاف تحريك العضلات وتهيّجها ، فإنه لا يخضع إلّا لمؤثرات عالم النفس ، لأنه لا يأتمر بغير النفس.

ففرض أن التحريك لم يوجد لأن المقتضي لم يوجد ، خلف لأن المقتضي يجب إن يكون نفسانيا ، وفي عالم النفس لا توجد حالة منتظرة وراء الشوق الكامل.

ج ـ الاحتمال الثالث : هو أن المقتضي للتحريك موجود ، ولكن الشرط غير موجود ، لأن الشرط هو طلوع الفجر مثلا.

وهذا الاحتمال أيضا ساقط ، لأن طلوع الفجر لا يمكن أن يكون شرطا ، لأن الشرط إمّا متمم لفاعلية المقتضي ، أو متمم لقابلية القابل ، وكلاهما غير متصور في المقام.

أمّا كونه ساقطا من ناحية كونه متمما لفاعلية المقتضي ، أي : الشوق الكامل ، فذلك لأنّ المتمم لفاعلية المقتضي ، إنما هو قيد يحصّصه وينوّعه ،

__________________

(١) وهذا من دون فرق بين كون الإرادة هي نفس الشوق الذي هو من مقولة الصفة ، أو كونها من مقولة فعل النفس ، وذلك لرجوع ما بالعرض إلى ما بالذات ، ومنع التفكيك بين مقولات النفس وصفاتها. (مقرّر).

٨٦

مثل أن يقال : إنّ ملاقاة النار متمّمة لاقتضائها للإحراق ، لأنّ الملاقاة تحصّص النار ، ذلك لأن النار الملاقية غير النار غير الملاقية ، فالملاقاة من عوارض النار وشئونها ، فيمكن أن تكون متمّمة لاقتضاء النار ، وهذا بخلاف طلوع الفجر ، فإنه ليس من محصّصات الشوق الكامل الموجود في عالم النفس حتى يتمّم فاعلية المقتضي.

وأمّا كونه ساقطا إذا قيل بأن الشرط يتمم قابلية القابل : ذلك لأن القابل في المقام هي القوى العضلية ، والقوى المنبثة فيها ، وهذه القوى قابليتها للتحرك تامة بالفعل ، وليس طلوع الفجر دخيلا في قابليتها للتحرك ، حتى يلزم من تأخره وتعليقها عليه ، عدم التحرك.

وعليه ، فلا استحالة في تخلّف الشوق الكامل عن متعلّقه ، لأن مثل هذا المتعلق يخضع لقوانين طبيعية خارجة عن اختيار النفس.

وأمّا بيان المدّعى في المقدمة الثانية فهو أن يقال : إنّ الإرادة التشريعية كذلك ، لا يتخلّف فيها المراد عن الإرادة.

ومن الواضح أنه ليس المراد من هذه المقدمة ، أن كل إرادة تشريعية لا بدّ وأن يوجد مرادها ، وإلّا لو كان هذا هو المراد في هذه المقدمة ، إذن لما وجد عاص في الخارج ، وإنما المقصود في هذه المقدمة ، بيان الضعف والقصور في الإرادة التشريعية عن الإرادة التكوينية ، حيث أن الإرادة التكوينية متجهة نحو تحريك نفس المريد بلا واسطة ، بينما الإرادة التشريعية متوجهة نحو تحريك عضلات غير المريد ، ومن هنا نشأ ضعف الإرادة التشريعية عن الإرادة التكوينية.

لكن إذا فرضنا أن غير المريد منقاد للمريد انقيادا كاملا ، ولا يتخلف عن إرادات مولاه ، حينئذ تكون عضلاته كأنها عضلات مولاه ، وهذه الواسطة قد فرغنا عنها بافتراض الانقياد ، وحينئذ يصحّ القول إذن ، بأنّ الإرادة التشريعية في حق العبد المنقاد لمولاه انقيادا كاملا ، لا يتخلّف مرادها عنها.

٨٧

وبهذا يتبيّن أيضا ، إن الإرادة التشريعية لا يمكن أن تكون بنحو الواجب المعلّق ، لأن الواجب المعلّق يلزم منه انفكاك الإرادة عن المراد ، حتى في حق أشدّ الناس إطاعة لمولاه ، فلو وجب «الصوم» من عند الغروب ، لكنه مقيّد «بالطلوع» فإن أشدّ الناس انقيادا لمولاه لا يمكنه الالتزام ، إذن فقد انفكت الإرادة عن المراد في حق المنقاد للمولى ، وهذا على حدّ انفكاك الإرادة التكوينية عن المراد.

وفي مقام مناقشة كلتا المقدمتين ، نجد في المقدمة الأولى القائلة ، باستحالة انفكاك المراد التكويني عن الإرادة التكوينية ، بينما يلزم الانفكاك بينهما في الواجب المعلّق ، نجد في هذه المقدمة مغالطتين أو مناقشتين.

١ ـ المناقشة الأولى : هي أن تحريك العضلات لو فرض أنه قد تعلّق به شوق المريد ، تعلقا مطلقا ، من دون قيد ، حينذاك يتم برهان المانعين من الواجب المعلّق ، ما دام الشوق المتعلّق بتحريك العضلات غير مقيّد بوقت أو زمان مخصوص ، وهو كامل ، إذن لما ذا لم يحرّك ، وطبعا ليس لعدم المقتضي بعد أن فرضناه موجودا ، وليس لعدم الشرط ـ وهو الوقت ـ المتمّم لفاعلية الفاعل ، لأن الشوق كامل ، والوقت ليس من عوارضه وشئونه لكي يكمّله ، ولا متمما لقابلية القابل ، لأن القابل ـ وهو القوة العضلية ـ تام القابلية للتحريك ، فهذا البرهان يتم.

إذن فهذا البرهان يتم ، لكن في طول افتراض كون الشوق متعلّقا بالتحرك العضلي على الإطلاق ، لا بتحرك مقيّد بقيد غير مقدور ، وغير حاصل الآن ، ومن أجل ذلك ، لا يصح هذا برهانا على عدم التقييد.

وأمّا لو فرضنا بأن الشوق قد تعلّق بتحريك العضلات المقيّد «بطلوع الفجر» ، حينئذ نقول إنّه لا يمكن تحريك العضلات ، وليس ذلك لانفكاك المعلول عن العلة ، بل لأن العلة لم تتم ، وليس ذلك لفقد المقتضي ، بل لفقد الشرط ، وهو الوقت ، ذلك لأنّ الوقت دخيل في قابلية القابل ، فإن القوة

٨٨

العضلية قابليتها لمطلق التحرك ، وإن كانت تامة ، لكن قابليتها للتحرّك «الفجري» ، هذه الحصة الخاصة من التحرك غير تامة فعلا.

وعليه يمكن أن يقال : إنّ هذا الوقت يكون متمّما لقابلية القابل ، ولا يلزم من ذلك محذور.

إذن فهذا البرهان لو تمّ ، فهو في طول أن يكون الشوق والإرادة متعلقين بالتحريك العضلي على الإطلاق ، ولا يعقل أن يكون هذا البرهان بنفسه ، برهانا على استحالة تقيّد هذا التحريك العضلي.

والخلاصة : إنّ هذا البرهان ، يبرهن على أنه متى ما تعلّق الشوق بتحريك عضلي على الإطلاق ، استحال انفكاك التحريك عن الإرادة.

ولكن هذا البرهان لا يمنع من أن يتعلّق شوق بالتحريك المقيّد ، وحينئذ ، ينفك المراد عن الإرادة.

وبعبارة أخرى : إن المستحيل ، إنما هو تخلّف الشوق الكامل النفساني عن متعلّق له ، يكون أيضا فعلا نفسانيا محضا. أمّا إذا كان متعلقه فعلا خارجيا مسبّبا عن حركة العضلات ، أو كان مزيجا من فعل نفساني ، وآخر خارجي ، وذلك بأن تقيّد تحريك العضلات «بطلوع الفجر» ، حينئذ لا استحالة في تخلّف الشوق الكامل عن متعلقه ، لأن مثل هذا المتعلق يخضع لقوانين طبيعية خارجة عن اختيار النفس وأشواقها.

٢ ـ المناقشة الثانية : هي إنّ المانعين للواجب المعلّق بحجّة التفكيك بين الإرادة التكوينية ومتعلقها ، كانوا قد تمسّكوا بعنوان تحريك العضلات ، أي الفعل المباشري للقوة العضليّة ، أي : التحريك.

وبطبيعة الحال ، إن هناك أمورا أخرى توليدية تترتب على تحريك العضلات ، فمثلا : إلقاء الورقة في النار ، هذا تحريك عضلي ، وفعل مباشري للعضلات ، ولكن احتراق الورقة أمر مسبّب عن تحريك العضلات.

٨٩

وحينئذ نسأل إنّكم حينما قلتم في الإرادة التكوينية ، إنّ الشوق الكامل لا يتخلّف عن متعلّقه ، كأنكم اصطلحتم واتفقتم على جعل لفظ الإرادة اسما لخصوص الشوق الكامل المتعلّق بالفعل المباشري الحقيقي للعضلات ، بينما الأشواق الأخرى المتعلقة بالمسببات التوليدية ، أو بالعنايات الأخرى التي منها التقيّد بالوقت ، لا تسمّونها إرادة ، ورغم هذا تقولون : إنّ الشوق الكامل لا ينفك عن متعلقه ببرهانكم المتقدم ، حينئذ ، بقي أن نعرف موقفكم من تلك الأشواق الأخرى المتعلقة بالمسبّبات التوليدية ، أو بالعنايات الأخرى التي منها التقيّد ، فهل أيضا تقولون : إنّه لا ينفك فيها متعلقها ، أو إنّكم لا تقولون ذلك؟. فإن قلتم أيضا : إنّه لا ينفك فيها متعلّقها عنها ، حينئذ ، يكون برهانكم غير ذي جدوى ، إذ من الواضح أن تلك المسببات التوليدية ليست فعلا نفسانيا كالتحريك العضلي حتى تدّعوا كما سلف منكم ، بأنه يحتاج إلى مقتض نفساني أيضا ، بل المسبّب التوليدي ، هو فعل طبيعي في عالم الكون ، يخضع إلى عوامل طبيعية ، منها مرور الزمان إلى أن تحترق الورقة ، وحينئذ ، لا يأتي فيه برهانكم المتقدم ، وإن كنتم تسلّمون وتقولون : إنّ هذه الأشواق الأخرى ينفك عنها متعلقها ، ولذا لا نسميها إرادة. حينئذ نقول : إنّه في باب الإرادة التشريعية ، الأمر أيضا كذلك ، فإنه قد يتعلّق الشوق التشريعي بمسبّبات من هذا القبيل.

إذن فكما أن الشوق التكويني المتعلّق باحتراق الورقة ، تسلّمون بأنه ينفك المتعلّق عنه ، كذلك يجب أن تسلموا بأن الأشواق التشريعية المتعلقة بالمسبّبات والعناوين التوليدية ، ينفك بعضها عن بعض ، وبهذا لا يتحصل من هذا البرهان شيء.

٢ ـ التقريب الثاني : من البرهان الثاني على استحالة الواجب المعلّق (١) ، وحاصل هذا التقريب هو : إنّ الإرادة التشريعية هي عبارة عن شوق المولى إلى

__________________

(١) نهاية الدراية : ج ١ ص ٣٠٤ ـ ٣٠٥ ـ ٣٠٦.

٩٠

فعل الغير ، وصدور الفعل من الغير باختياره ، وليس كل شوق إلى فعل الغير باختياره يسمّى إرادة تشريعية ، كما أنه ليس كل شوق من الإنسان إلى فعل نفسه يسمّى إرادة. وكما أن الشوق المتعلّق بنفس فعل الإنسان ، لا يسمّى إرادة تكوينية ، إلّا إذا وصل إلى درجة تكون كافية لتحريك عضلات الإنسان ، فكذلك الإرادة التشريعية ، أو الشوق التشريعي المتعلّق بفعل الغير ، لا يسمّى إرادة ، ولا يبلغ درجة الإرادة التشريعية ، إلّا إذا وصل إلى مرتبة بحيث يحرك عضلات المولى المشتاق.

وهنا عند ما كان المولى يشتاق إلى صدور الفعل من الغير باختياره ، كان لا بدّ من معرفة موقف عضلات المولى من هذه الناحية ، والشيء الوحيد المعقول من المولى هو : أن تتحرك عضلاته نحو التحريك إلى المشتاق إليه ، إذن فالشوق نحو صدور الفعل من الغير باختياره ، هو شوق لا يكون إرادة إلّا إذا ترشّح من شوق تكويني متعلق بتحرك عضلات نفس المولى نحو أن يبعث إلى المشتاق إليه المكلّف ، فمتى ما بلغ شوق المولى إلى صدور الصلاة من المكلّف إلى درجة بحيث يترشح منه شوق تكويني إلى أن يطلب الصلاة من المكلّف ، حينئذ يطلق على الشوق نحو الصلاة بأنه إرادة تكوينية. وأمّا إذا كان شوقه إلى الصلاة موجودا ، لكن لم يكن بدرجة بحيث يترشح منه شوق تكويني محركا لعضلات المولى ، نحو أن يبعث العبد ، ويحركه نحو المقصود ، فلا يكون هذا الشوق إرادة تشريعية.

وهذا معناه ، أن قوام صيرورة الشيء إرادة تشريعية ، وهو بأن يترشح منه شوق تكويني ، نحو تحريك عضلات المولى إلى أن يحرك ويبعث العبد ، فإيجاد الباعث في نفس المكلف نحو الفعل من قبل المولى ، شرط أساسي في تحقق الإرادة التشريعية من قبل المولى.

ومن الواضح ، أن المقصود من إيجاد الباعث من المولى للمكلّف نحو الفعل ، ليس هو الباعث الفعلي ، لوضوح «المضايفة» بين الباعثية والانبعاث ، فلو فرض أن الباعث كان فعليا ، للزم منه كون الانبعاث فعليا أيضا ، فلو كان

٩١

من لوازم الإرادة التشريعية ، إيجاد الباعث الفعلي ، للزم أن يكون هناك انبعاث فعلي أيضا ، مع أنه من الواضح ، أنه ليس من لوازم الإرادة التشريعية الانبعاث الفعلي ، كما هو الحال في حق العصاة الذين لا ينبعثون بالفعل ، رغم بعث المولى لهم نحو الفعل بإرادته التشريعية.

إذن فالمقصود بإيجاد الباعث من المولى ، هو ما يمكن أن يكون باعثا للمكلّف ، وهذا ما يمكن أن يكون لازما للإرادة التشريعية ، وهذا ما يكون مساوقا للانبعاث بالإمكان ، أي : إمكان أن ينبعث العبد.

فالنتيجة : إنّ الإرادة التشريعية ، حتى تكون إرادة تشريعية ، لا بدّ وأن تستتبع إيجاد الباعث بالإمكان من قبل المولى.

وحينئذ هذه النتيجة نطبّقها على الواجب المعلّق فنقول : إنّ المولى إذا جعل الوجوب من أول الغروب ، وكان متعلّق الوجوب هو «الصوم» المقيّد «بطلوع الفجر» ، فحينئذ نقول : إنّ الوجوب لا يعقل أن يكون فعليا ، كما أن الإرادة التشريعية لا يعقل (١) وجودها من حين الغروب ، وذلك لأن الإرادة التشريعية متقومة بإيجاد الباعث بالإمكان ، بينما خطاب المولى عند الغروب لا يمكن أن يكون باعثا ، إذ لا يمكن الانبعاث حينذاك ، فلو فرض أن المكلّف كان منقادا ، وأراد أن ينبعث فعلا ، فلا يمكنه أن ينبعث ، وما دام الانبعاث مستحيلا فالباعث مستحيل مثله ، إذ قد ذكرنا أنه من خصائص الإرادة التشريعية ، هو إيجاد الباعث بالإمكان ، وما دام أنه لا يوجد الباعث بالإمكان ، فلا توجد الإرادة التشريعية (٢) ، وهذا البرهان من التقريب الثاني ، غير تام حلا ونقضا.

__________________

(١) الظاهر أن وجود الإرادة التشريعية وعدمه على هذا المبنى من حين الغروب على حد سواء ، ما دام إن الوجوب لا يعقل أن يكون فعليا ، ولا باعثا بالفعل ، وإنما بوجود الباعث بالإمكان ، ومع عدم الانبعاث ينعدم الباعث (المقرر).

(٢) نهاية الدراية : ج ١ ص ٣٠٤ ـ ٣٠٥ ـ ٣٠٦.

٩٢

أمّا حلا : فإن قوله إنّ الشوق إلى فعل الغير لا يكون إرادة تشريعية إلّا إذا ترشح منه شوق تكويني يحرك عضلات المولى نحو تحريك العبد ، وبعثه إلى ما يشتاق إليه ، هذا الكلام صحيح ، بمعنى أننا في المقام لا نبحث في أن الإرادة التشريعية ، بحسب مفهومها اللغوي ، أو العرفي ، أو الفلسفي ، هل هي متقومة بهذه النكتة ، أو غير متقومة بها ، لأن البحث ليس في مداليل الألفاظ ، ولا في حقائق الأشياء ، وإنما نبحث في أنه ما الذي يقع موضوعا لحكم العقل بلزوم الامتثال من أشواق المولى.

ومن الواضح ، أن موضوع حكم العقل بلزوم الطاعة والامتثال ، إنما هو كل شوق مؤكّد ، يحرّك المولى نحو أن يطلب من العبد أن يتحرك عنه.

أمّا الشوق الذي لا يحرّك المولى نحو أن يطلب ، فهو شوق لا يجب على العبد أن يتحرك عنه.

إذن ، فشوق المولى إنما يصبح موضوعا لحكم العقل بلزوم الامتثال ، عند ما يكون شوقا بدرجة مستتبعة لشوق من المولى ، وتحرك منه نحو المقدمات المربوطة به ، وهي طلبه وجعله وإنشاؤه ، وما لم يبلغ شوق المولى درجة تحرّكه نحو ما يشتاق إليه ، فإن العقل لا يحكم على العبد بوجوب الطاعة والانبعاث في وقت الواجب ، لأن غاية ما تقتضيه العبودية في نظر العقل ، هو أن تكون عضلات العبد وقواه كأنها عضلات المولى وقواه ، لأنها امتداد للمولى ، والمفروض أن المولى لم يتحرك ، وحينئذ لا بدّ من البحث في أنه هل يشترط في شوق المولى المحرّك لعضلاته ، والمحرّك بالتالي للعبد ، هل يشترط فيه أن يكون محركا للعضلات نحو ما يكون باعثا بالإمكان من حين وجوده ، أو أنّ ما تقتضيه هذه النكتة ، هو أن يكون الشوق محركا للمولى نحو ما يصدق عليه أنه من مقدمات وجود المطلوب خارجا؟.

ومن الواضح أن هذه النكتة غاية ما تقتضيه هو أن المولى يتحرك من ناحية هذا الشوق للإتيان ببعض مقدمات وجود المشتاق إليه.

٩٣

ومن الواضح أن الإنشاء والطلب الفعلي ، يكون من مقدمات وجود المشتاق إليه ، سواء أكان من أول لحظات فعليته يتصف بالباعثية بالإمكان ، أو على امتداد الزمان يتصف بالفاعلية بالإمكان بلحاظ مجموع الظرف الذي يمتد فيه يتصف بذلك ، فإن المسألة هنا مسألة نكات معنوية.

والنكتة المعنوية هنا هي : إنّ العقل يرى أن المولى إذا اشتاق إلى صلاة عبده ، فإن هذا الشوق يقع موضوعا لحكم العقل بوجوب الامتثال فيما إذا حرّك هذا الشوق نفس المولى إلى بعض مقدمات هذه الصلاة.

ومن الواضح أن إيجاد إنشاء في معرض الباعثية ، ولو لم يكن بالفعل باعثا ، فإن هذا مقدمة من المقدمات ، وهذا يكفي في تحقق موضوع حكم العقل على العبد بوجوب الامتثال ، والانبعاث في وقت الواجب.

وبهذا يتضح ، عدم تماميّة البرهان على أن هذه الإرادة التشريعية ، لا تصدق ، إلّا إذا كان شوق المولى شوقا تكوينيا ، يحرك عضلات المولى نحو ما هو باعث بالإمكان فعلا.

وإنما المطلب ، أن العقل يحكم بوجوب امتثال وتنفيذ أشواق المولى التي تحرك المولى نفسه ، أمّا الأشواق التي لا تحرك المولى ، فلا يحكم العقل بوجوب امتثالها ، بل يكفي في محركية شوق المولى للمولى إيجاد المقدمة المناسبة له ، سواء أكانت هذه المقدمة ممّا هو باعث بالإمكان ، أو ممّا هو في معرض أن يكون باعثا ، ما دامت تتصف بصفة المقدميّة.

وأمّا الجواب النقضي على برهان استحالة الواجب المعلّق ، وأن الوجوب ليس باعثا بالإمكان ، النقض عليه بغير موارد الوجوب المعلّق ، بل بموارد الواجب المنجّز ، فيما إذا كان الواجب المنجّز مقيدا بفعل زماني لا بدّ وأن يقع قبله زمانا ، من قبيل الأمر بالصلاة المقيّدة بوقوع الوضوء قبلها ، فإن هذا الوجوب يكون فعليا في أول آنات الزوال بلا إشكال.

وحينئذ نسأل : إنّ هذا الوجوب هل هو باعث بالإمكان فعلا ، أو ليس

٩٤

باعثا بالإمكان فعلا في أول آنات الزوال؟.

وهنا لا إشكال في أنه ليس باعثا بالإمكان فعلا ، باعتبار مقدمته وهي الوضوء ، غير موجودة ، فالانبعاث فعلا نحو الصلاة المقيّدة بالوضوء ، غير معقول ، وإنما الذي يعقل الانبعاث نحو الوضوء ، ومن ثمّ الانبعاث نحو الصلاة.

إذن فكما أنه لا يعقل في أول الغروب الانبعاث إلى الصوم المقيّد بطلوع الفجر فعلا ، كذلك لا يمكن الانبعاث في أول الزوال نحو الصلاة المقيّدة بالوضوء قبلها ، وإذا لم يمكن الانبعاث ، فلا يمكن صرف عنوان الباعث بالإمكان على هذا الطلب ، وقد التفت المحقق الأصفهاني (١) إلى هذا النقض ، وحاول دفعه في «حاشيته على الكفاية» ، ثم التفت إلى أن هذا الدفع غير تام ، فحاول دفعه في حاشيته على حاشيته ، دون أن يجدي ذلك نفعا في دفع ما ذكرناه من نقض.

وتوضيح ذلك هو إنّه إذا اشترطنا في حقيقة الحكم الباعثية بالإمكان ، إذن فحيث لا باعث بالإمكان ، فلا حكم ، وهذا معناه ، اشتراط إمكان الانبعاث فعلا ، لأن إمكان الباعثية مساوق مع إمكان الانبعاث ، ومن هنا يقع الكلام في أنه ما المراد بهذا الإمكان للانبعاث؟.

ونحن نعرف أن الإمكان الذاتي ، مقابل للامتناع الذاتي وأن الإمكان الوقوعي مقابل للاستحالة الوقوعية ، وأن الإمكان بالغير مقابل للامتناع بالغير ، كما عرفنا أيضا الإمكان الاستعدادي.

والآن نسأل : أنه ما هو المراد من الباعثية بالإمكان هنا؟.

وقد أوضح المحقق الأصفهاني (٢) في حاشيته ، إنّ المراد من الإمكان ،

__________________

(١) نهاية الدراية : ج ١ ص ٣٠٤ ـ ٣٠٥ ـ ٣٠٦.

(٢) المصدر السابق.

٩٥

هو الإمكان الوقوعي ، مقابل الاستحالة الوقوعية ، ومعنى الإمكان الوقوعي ، هو أنه لا يلزم من وجوده محال ، وما يلزم من وجوده محال ، فهو ممتنع بالامتناع الوقوعي ، فمثلا : وجود «ولد لزيد» غير المتزوج ، ممكن بالإمكان الوقوعي ، حيث لا يلزم من وجوده محال ، وإن كان ممتنعا بالغير ، باعتبار أن علّته غير موجودة ، والامتناع بالغير لا ينافي الإمكان الوقوعي.

فميزان الإمكان الوقوعي ، هو ما كانت علّته ممكنة فهو ممكن وقوعا ، وليس بممتنع وقوعا ، سواء أكانت علته موجودة خارجا ، أو لم تكن موجودة خارجا.

وأمّا ميزان الإمكان بالغير والامتناع بالغير : فهو وجود العلة وعدمها ، فإذا كانت العلة موجودة ، فهو ممكن بل واجب بالغير ، وإن كانت العلة غير موجودة ، فهو ممتنع بالغير.

فالفرق بين الامتناع بالغير والاستحالة الوقوعية ، هو : إنّ المستحيل الوقوعي علّته مستحيلة ، والمستحيل بالغير علته غير موجودة ، ولكنها غير مستحيلة ، فوجود «ولد لزيد» ، هذا ممتنع بالغير ، ولكنه ممكن وقوعا ، وأمّا وجود «ولد للباري سبحانه وتعالى» هذا مستحيل بالاستحالة الوقوعية ، لأن علّته مستحيلة ، فإنّ العلة هي تجسّم الباري بنحو من الأنحاء ، وهو مستحيل عليه تعالى.

وحينئذ بناء على هذا ، قال المحقق الأصفهاني (١) في مقام دفع النقض :

إنّه فرق بين الصوم المقيّد بالنهار ، وبين الصلاة المقيّدة بالوضوء ، فإنه إذا فرض فعلية الوجوب عند غروب الشمس ، وكان متعلّق هذا الوجوب هو «الصوم» المقيّد بشرط متأخر هو «النهار» ، فهنا الباعثية بالإمكان غير موجودة ، لأن الانبعاث بالإمكان غير موجود ، ومعنى هذا ، إنّ وقوع «الصوم» المقيّد

__________________

(١) المصدر السابق.

٩٦

«بالنهار» فعلا ، هو مستحيل بالاستحالة الوقوعية ، ، لأن وقوعه فعلا يساوق أن يجتمع الزمانان «النهار والليل معا» وهو خلف ، لأن المقيّد بالزمان التأخر إذا فرض وقوعه الآن ، فإذا كان يقع بلا قيده ، فهو خلف كونه مقيدا بالزمان المتأخر ، وإن كان يقع مع قيده ، فيلزم التناقض في المقام. وأمّا الصلاة المقيّدة بالوضوء ، فلا تمكن ، بل يمتنع أن توجد عند الزوال ، لأن علتها لم توجد ، وإن كانت علتها ممكنة ، فهي إذن ممتنعة بالغير ، فهي إذن غير مستحيلة استحالة وقوعية كالممتنع بالغير.

و (المحقق الأصفهاني) بعد أن ذكر هذا الكلام ، نقض (١) عليه في حاشية حاشيته ، حيث ذكر أن هذا الكلام هو مجرد كلام ، وذلك لأن الوضوء ، وإن كان ممكنا على خط الزمان ، ولكنه ليس ممكنا في الآن ، بينما كلامنا في الآن لا على خط الزمان ، والوضوء باعتباره فعلا تدريجيا ، تترتب أجزاؤه بعضها على بعض ، فيستحيل أن يقع في آن ، لأنّ هذا خلف (٢) كونه فعلا تدريجيا. إذن فوقوعه في آن مستحيل استحالة وقوعية ، بمعنى أنه لا يوجد علّة توجد الفعل التدريجي في آن واحد ، لأنه تناقض ، فاستحالة وقوع الوضوء في آن واحد يستحيل استحالة وقوعية ، إذن فوجود الصلاة كذلك يكون مستحيلا استحالة وقوعية ، إذن فالانبعاث في الآن الأول مستحيل استحالة وقوعية ، فالباعثية أيضا مستحيلة استحالة وقوعية ، وبهذا يعود الإشكال طردا.

فخلاصة مقصود الأصفهاني من كون المحرّك محركا بالإمكان ، هو : الإمكان الوقوعي ، في مقابل الاستحالة الوقوعية.

وقد عرفت ، أنّ مناط الإمكان الوقوعي ، هو كون علة الشيء ممكنة ، سواء أكانت علته موجودة خارجا ، أو معدومة.

__________________

(١) نهاية الدراية : الأصفهاني ج ١ ص ٣٠٦ ـ ٣٠٧ ـ ٣١١ ـ ٣١٢ ـ ٣١٣.

(٢) كونه خلف تصرّم الزمان ، لا ينافي وقوع الوضوء في آن ، إذ الآن هو من أجزاء الزمان ، وإلّا لزم منه وقوع الوضوء خارج الزمان ، وهو كما ترى من البطلان ، بينما التصرم هو انقضاء آنات الزمان (المقرّر).

٩٧

ومناط الاستحالة الوقوعية ، هو : كون علة الشيء مستحيلة ، وحينئذ يقال : إنّ اكتساب الإرادة حقيقتها التشريعية ، موقوف على حصول إنشاء باعث بالإمكان ، وهذا موقوف على أن يكون الانبعاث ممكنا ، لأن إمكان الباعث مساوق مع إمكان الانبعاث.

وكان حاصل نقضنا هو : إنّ الإتيان «بالصوم المقيّد بالنهار» إتيانه في أول الليل غير معقول ، ومستحيل بالاستحالة الوقوعية ، وكذلك الإتيان «بالصلاة المقيّدة بالوضوء قبلها» في أول آنات الزوال ، هو أيضا مستحيل بالاستحالة الوقوعية.

وكأنّ المحقق الأصفهاني التفت إلى هذا ، فعاد ليعلّق عليه في تعليقته (١) على تعليقته على الكفاية ، حيث قال : إن مقصودنا بإمكان الانبعاث ، هو الإمكان الاستعدادي لا الوقوعي ، ومعنى الإمكان الاستعدادي هو : قابلية العضلات للتحرك نحو الشيء ، وذلك في مقابل أن تكون القوة العضلية مشلولة ونحوه.

وبعد أن فسّر الإمكان بهذا المعنى ، ذكر أنه في محل النقض أي : في «الصلاة المقيّدة بالوضوء» ، الإمكان الاستعدادي ثابت فعلا ، وفي الآن الأول نحو القيد والمقيّد ، فهنا إمكانان استعداديان : إمكان نحو «الوضوء» ، وإمكان استعدادي آخر نحو «الصلاة». غاية الأمر ، هو أن خروج هذين الإمكانين إلى عالم الفعليّة يكون بنحو الترتب ، بمعنى أن الإمكان الأول يخرج إلى عالم الفعلية ، ثم الإمكان الثاني. وأمّا ذات الإمكان ، بمعنى تهيؤ القوى العضلية وكونها لا قصور فيها ، فإنّ هذا ثابت بالنسبة إلى «الوضوء» وإلى «الصلاة» معا في الآن الأول ، بمعنى أن القوة العضلية في الآن الأول متهيئة وقابلة لأن تتوضأ ، وقابلة لأن تصلي ، غاية الأمر أن إخراج هذين الإمكانين إلى عالم الفعليّة ، يكون بنحو الترتب.

__________________

(١) نهاية الدراية : ج ١ ص ٣٠٨ ـ ٣٠٩ ـ ٣١٠ ـ ٣١١ ـ ٣١٢.

٩٨

وأمّا في موارد الواجب المعلّق «كالصوم المقيّد بطلوع الفجر» ، فلا يوجد هناك إمكان استعدادي ، وقابلية للقوى العضلية ، نحو القيد والمقيّد معا ، لوضوح أن القيد وهو «طلوع الفجر» هو ليس ممّا يمكن للقوى العضلية أن تصنعه ، فلا يوجد ، إذ لا يوجد استعداد في القرى العضلية أن تحرك الفلك ، وتطلع الفجر ، إذن فلا يوجد استعداد وتهيؤ للفعل المنوط «بطلوع الفجر ، وهو الصوم» ، إذن فلا إمكان استعدادي في مورد الواجب المعلّق ، وبذلك اختلف عن مورد النقض.

وبعبارة أخرى : إن الشرط هو إمكان الانبعاث نحو متعلق الأمر إمكانا وقوعيا ، أي : لا يلزم من وقوعه المحال ، لذلك كان وقوع الواجب المعلّق بالفعل غير ممكن وقوعا ، للزوم التهافت في الزمان.

وهذا بخلاف وقوع الصلاة في كل آن من آنات الوقت ، لإمكان إيقاعها فيه بوضوء قبله.

ثم إن (الأصفهاني) عدل عن تفسير الشرط هذا ، فقال : إنّ الشرط هو الإمكان الاستعدادي ، بمعنى وجود الاستعداد في الفاعل للقيام بالفعل ، وتهيؤ عضلاته فعلا لذلك ، وإن كان صدوره خارجا بحاجة إلى التّدرج في عمود الزمان.

وهذا الذي ذكره أيضا لا يرجع إلى محصّل ، وذلك لوضوح أن الإمكان الاستعدادي ليس دخيلا في تحقق الحكم أصلا ، ولا موجب لجعله شرطا في تحقّق حقيقة الحكم ، إذ إنّه لا إشكال في تعلّق التكليف في موارد لا يوجد فيها هذا الإمكان الاستعدادي.

وتوضيحه هو : إنّنا لو فرضنا أن إنسانا ، رجله مشلولة ، بحيث لا يوجد فيها قوة عضلية مستعدة للتحرك أصلا ، ولكنه قادر على أن يحرك رجله ، وذلك بوصله سلكا كهربائيا فيها يبثّ فيها الحرارة ، وحينئذ تتهيّأ القوة العضلية للانطلاق والتحرك ، وهنا يعقل للمولى أن يكلّف هذا الإنسان بالمشي ، لأن

٩٩

ذلك أصبح تحت سلطنة المكلّف ، فلا يكون تكليفه بالمشي تكليفا تعجيزيا ، أو قبيحا ، مع أن متعلّق التكليف وهو المشي ، لا يوجد إمكان استعدادي له في القوة العضلية ، وإنما يكتسب هذا الإمكان الاستعدادي ببركة مقدمة ، هي وصل السلك برجله ، وحينئذ يوجد الإمكان الاستعدادي. فلو قلنا : إنّ الإمكان الاستعدادي دخيل في أصل التكليف ، وفي أصل تعقّله ، للزم أن يكون التكليف بالمشي مشروطا بالإمكان الاستعدادي ، أي : بإيصال السّلك ، فيقول المولى حينئذ : «إذا أوصلت السلك امش» فيكون إيصال السلك مقدمة وجوبية لا وجودية ، مع أننا نرى بالوجدان أنه بالإمكان جعلها مقدمة وجودية ، وذلك بأن يقول المولى للعبد : «أمش» بنحو يكون المكلّف مسئولا عن إيجاد هذه المقدمة ، وهي إيصال السلك ، ولا يكون حينئذ هذا الخطاب غير معقول من قبل المولى ، لأن هذا ليس حكما ، لأن الإمكان الاستعدادي غير موجود في قوى المكلّف العضلية.

وبعبارة أخرى : إن الواجب المقيّد بقيد زماني ، وإن كان ممكنا في عمود الزمان وقوعا ، ولكن وقوعه الآن دفعة واحدة لكونه تدريجيا ، مستحيل استحالة وقوعية ، إذ يوجب الخلف أو التناقض ، إذ لا يعقل وجود التدريجي دفعة واحدة كاستحالة وقوع «الفجر» منتصف الليل. وأمّا الإمكان الاستعدادي فإن أراد به اشتراط استعداد وقابلية الفاعل ، أي : كون عضلاته غير مشلولة ، فمن الواضح أن هذا ليس شرطا في فعلّية الوجوب ، ولهذا يصح تكليف المشلول الذي يمكنه علاج نفسه ، دون أن يصبح علاج نفسه مقدمة وجوبية ، ولو فرض شرطيته فهو محفوظ في الواجب المعلّق أيضا ، إذ ليس القصور في استعداد الفاعل ، وإن أراد به اشتراط استعداد وقابلية في القابل ، بمعنى إمكان وقوعه ، إذن فقد رجع إلى المعنى السابق. وبهذا يتضح بطلان هذا الكلام بلا إشكال.

فهذا دليل على أن الإمكان الاستعدادي ليس دخيلا في حقيقة الحكم.

١٠٠