بحوث في علم الأصول - ج ٥

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٣

عقابا واحدا ، فمعنى ذلك ، أنه لا أثر للأمر الثاني الترتبي ، وإنّ كان يعاقب عقابين ، فلازمه كون أحد العقابين على أمر غير اختياري وغير مقدور له ، لأنّ المكلف لم يك له قدرة إلّا على امتثال أحد الفعلين والأمرين فقط ، والعقاب على ما ليس بالاختيار ، هو كالتكليف بغير المقدور ، وهو قبيح عقلا.

وقد اختار المحقق النائيني «قده» الشق الثاني من الإشكال ، وهو كون المكلّف مستحقا لعقابين ، ومع ذلك لا يلزم منه كون أحد العقابين على أمر غير اختياري ، وأجاب عنه بجوابين : نقضا وحلا.

أ ـ الجواب النقضي : هو بالواجب الكفائي (١) الذي لا يتعقل إيجاده إلّا مرة واحدة مشروطة بترك الآخرين له ، فإذا عصاه جميع المكلفين ، فإنّ كل واحد منهم يستحق عقابا ، مع أنه لا يترقّب إلّا تحرّك واحد وامتثال واحد من أحدهم.

ويدفع هذا النقض بإبراز الفرق بينه وبين محل الكلام ، إذ في محل الكلام لا يوجد إلّا قدرة واحدة فقط للمكلّف ، وهذه القدرة متعلقة بإيجاد الجامع بين المهم والأهم في ضمن أحدهما فقط ، بينما في مورد النقض ، توجد قدرات متعددة بعدد أفراد المكلّفين ، وكل واحدة منها مشروطة بعدم مزاحمة القدرة الأخرى لها ، وحينئذ يقال : بأنه إذا عصى جميع المكلفين ، فإنهم يعاقبون جميعا ، بمعنى أنه يوزع عليهم العقاب ، لأنّ عقاب أحدهم دون الباقي بلا موجب ، إذ القدرة على الفعل قائمة في الجميع ، غايته أنها مشروطة بعدم المزاحم من كل واحد ، وتخصيص كونها في واحد ترجيح بلا مرجح ما دام أن متعلقها كفائي ، وتعلّقها بالجامع بينهم يبقى بلا جدوى ، لأنه خلف المقصود من التكليف ، إذ الجامع لا وجود له بحدّه الجامعي في الخارج ، إذن لا بدّ من القول بقيامها في كل واحد من المكلفين ، وهو معنى تعددها خارجا.

__________________

(١) فوائد الأصول : الكاظمي ج ١ ص ٢١٨. أجود التقديرات ـ الخوئي ج ١ ص ٣٠٨.

٥٠١

وبعبارة أخرى يقال : إنّ عصيان الجميع للواجب الكفائي ، فيه عقاب واحد ، نسبته إلى جميع المكلفين على حد سواء ، لكون القدرة على الفعل في الجميع على حد سواء دون تخصيصها بواحد ، وعليه فالجميع يستحق العقاب.

ومثل هذا الدفع للنقض ، تفتقده في محل الكلام ، إذ الخصم يدعي وجود قدرة واحدة ومقتدر واحد على الجامع بين الضدين.

ومن هنا كان من الأفضل أن ينقض بما لو كان التكليف بالضدين المختلفين من حيث الزمان ، كما لو أمر بأحد الضدين ، وبعد عصيانه أمر بضده ، فكان أمره بالثاني مترتبا على عصيان الأول ، وهو تكليف جائز حتى عند المانع والمحيل للترتب ، لأنه تكليف لا يلزم منه طلب الجمع بين الضدين في زمان واحد ، حيث كان التكليف بأحدهما في زمان غير زمان الآخر ، وحينئذ لو فرض عصيان المكلف للفعلين معا ، فإن قيل : بأنه يستحق عقابا واحدا ، فلازم ذلك كون التكليف الثاني بلا أثر ، وإن قيل : بأنه يستحق عقابين ، فلازم ذلك ، كون أحدهما على تكليف غير اختياري ، لأنّ المتوقع من المكلّف امتثال أحدهما فقط دون سواه ، مع أنّ القائل بعدم إمكان الترتب يرى استحقاق المكلّف لعقابين ، مع أنه يجري فيه نفس الإشكال الذي يردّده المانع للترتب.

وعلى كل حال فما تجيبون به هنا في النقض المقترح ، نجيب به هناك في إشكالكم.

ب ـ الجواب الحلّي : الذي أفاده الميرزا «قده» (١) ، وحاصله هو منشأ أن الإشكال إنّما هو تخيّل كون العقاب الثاني على عدم الجمع بين الأهم والمهم ، أي : على عدم الجمع بين الضدين ، وحينئذ رتّبوا على هذا المبنى

__________________

(١) فوائد الأصول : الكاظمي ج ١ ص ٢١٨.

٥٠٢

إشكالهم فقالوا : بأنّ هذا العقاب عقاب على أمر غير مقدور ، وهو قبيح من المولى ، ولكنّ الصحيح هو أن العقاب الثاني ، إنّما هو على الجمع بين المعصيتين ، إذ الجمع بينهما مقدور للمكلف.

وبعبارة أخرى : إنّ كل واحد من العقابين ، إنّما هو على كل واحد من المعصيتين ، حيث أن كل واحدة من المعصيتين مقدورة في نفسها ، فميزان (١) العقاب كون المعصية مقدورة ، فإذا ارتكبها يعاقب عليها.

ولكن الصحيح عندنا هو أنّ الميزان في استحقاق العقاب ، هو كون المكلف قادرا على التخلّص من المعصية ، ورغم كونه كذلك يرتكبها ، فإنّه حينئذ يكون مستحقا للعقاب.

وأمّا كون الفعل والامتثال مقدورا ، فلا دخل له في العقاب ، وإنّما مقدوريّة الفعل والامتثال هي شرط في معقوليّة التكليف وعدم لغويته ، وحينئذ يقال : إن المكلف في المقام إذا لم يكن قادرا على التخلص بامتثال التكليفين معا «الأهم والمهم» ، فهو في المقام قادر على التخلص من المعصيتين ، وعدم مخالفة التكليفين ، وذلك بالإتيان بالأهم ، فيكون ممتثلا لخطابه بذلك ولا يكون عاصيا لخطاب المهم ، وذلك الانتفاء موضوعه الذي هو عصيان الأهم.

ومن الواضح أنّه لا يوجد في المقام تخلّصان من المعصية ، وكلاهما مقدور بحيث أنه لو تركهما يكون مستحقا لعقابين ، نعم يشترط في تحقق المعصية ، أن تؤدي مخالفة المكلف للتكليف المولوي إلى تفويت الملاك.

وبناء عليه ، فلو أنّ كلا من الخطابين كان فعليا من حيث ملاكه ، بحيث أن الإتيان بأحدهما لا يكون رافعا لملاك الآخر ، ومع هذا عصى كلا الخطابين ، فإن المكلّف حينئذ لا يستحق أكثر من عقاب واحد ، ذلك لأنّ هذا المكلف لم يفوّت باختياره إلّا ملاكا واحدا ، وأمّا الملاك الآخر فهو فائت عليه

__________________

(١) فوائد الأصول : الكاظمي ج ١ ص ٢١٩.

٥٠٣

لا محالة ، إذن فلا بدّ من التفصيل بين الحالتين.

وفرق ما ذكرناه من الميزان ، عمّا ذكره الميرزا «قده» ، يظهر فيما لو أمر المولى بالضدين مطلقا ، اشتباها وغفلة منه عن المزاحمة والتضاد بينهما ، وفرض أنّ المكلّف عصى كلا الضدين ولم يأت بواحد منهما :

فهنا على رأي الميرزا «قده» يكون المكلف مستحقا لعقابين ، لأن كلا من المعصيتين كان مقدورا له ، والجمع بينهما هو أيضا مقدور له ، وقد جمع بينهما.

بينما على مسلكنا لا يستحق إلّا عقابا واحدا ، لأنّه ليس بإمكانه التخلّص إلّا من معصية واحدة كما لو امتثل أحدهما مثلا (١).

٢ ـ الإشكال الثاني : وهو إشكال إثباتي ، وحاصله : إنّ ما تقدّم ، إن كان يشكّل دليلا على إمكان الترتب ثبوتا ، لكنه لا يصلح دليلا على وقوعه إثباتا ، ولا دليل آخر على وقوع الأمر بالمهم المشروط بترك الأهم ، بل غاية ما دلّ الدليل هو أنه دلّ على وجوب الضد المهم مطلقا ، وهذا ممّا يستحيل الأخذ به للزوم الأمر بالضدين في عرض واحد.

إذن فما قام الدليل عليه إثباتا غير ممكن ثبوتا ، وما هو ممكن ثبوتا ، وهو الأمر بالمهم ، المشروط بترك الأهم ، لم يقم الدليل عليه إثباتا.

وقد أجاب الميرزا «قده» (٢) عن هذا لإشكال بجوابين :

أ ـ الجواب الأول : هو أنّا نثبت وجوب المهم «الصلاة» المشروط بترك الأهم «الإزالة» بدليل وجوب المهم نفسه.

__________________

(١) ولا يقال هنا بأنه لو امتثل الأهم ، لارتفع موضوع المهم ، فلا معصية أصلا ، ذلك لأن هذا خلف كون الخطابين مطلقين فعليين. مقرر.

(٢) فوائد الأصول : الكاظمي ج ١ ص ٢١٩ ـ ٢٢٠ أجود التقديرات ـ الخوئي ج ١ ص ٣٠٩.

٥٠٤

وذلك لأنه بعد عدم إمكان الأخذ بإطلاق وجوب المهم «الصلاة» ، يدور الأمر بين رفع اليد عن إطلاقه في جميع حالاته. أو رفع اليد عن إطلاقه في بعض حالاته ، ومن المعلوم أنّ الضرورة تقدر بقدرها ، فنرفع اليد عن إطلاق المهم في بعض حالاته ، وهو حال امتثال الأمر بالأهم ، وأمّا حال عصيان الأمر بالأهم ، فيبقى الأمر بالمهم موجودا ، وممكن الثبوت بنحو الترتب ، فيثبت الأمر به بالإطلاق ، وهو معنى الوجوب الترتبي المشروط.

وهذا الجواب صحيح لو تمّ ما ذكره من كبرى ، وهي كون الضرورة تقدّر بقدرها ، وكون الأمر دائرا بين الحالتين المذكورتين.

غير أن تطبيق الكبرى هذه على المقام ، فيه اشتباه ، إذ قد عرفت ممّا سبق في الجهة الأولى من بحث الترتب ، حيث قلنا هناك : إنّه بناء على إمكان الترتب لا يدخل خطابا الأمر بالمهم ، والأهم في باب التعارض ، حيث لا يلزم فيه أخذ قيود زائدة على قيد القدرة المأخوذة لبا في كل خطابات وأدلة الأحكام ، كقيد عدم الامتثال بضد آخر مساو أو أهم ، فإنّ مثل هذا القيد العقلي المأخوذ في جميع أدلة الأحكام ، يمكن أن يؤخذ في باب التزاحم دون محل الكلام.

وعليه ، فبناء على إمكان الترتب ، لا يكون هناك تقييد زائد في دليل وجوب المهم ـ «صلّ» ـ ليكون الأمر دائرا بين التقييد الأقل والأكثر ليقول المانع للترتب ، إذن لا بدّ من رفع اليد عن إطلاق دليل المهم في جميع حالاته لوقوع التعارض بين الأهم والمهم ، ومعه يكون هناك تقييد زائد.

ليس هكذا ، وإنّما بناء على الترتب ، يكون الأمر دائرا بين التقييد واللّاتقييد وإسقاط الإطلاق وعدم إسقاط شيء منه أصلا وحينئذ يقال : إنّ المتعيّن هو عدم الإسقاط ، فيثبت وجوب المهم المنوط بترك الأهم بواسطة هذا الإطلاق.

٥٠٥

ولعلّ نظر الميرزا «قده» لما ذكرناه ، وإن تسامح في التعبير ، ولعلّه أراد إبراز القيد العام المأخوذ في كل أدلة الأحكام.

٢ ـ الجواب الثاني : الذي ذكره الميرزا «قده» (١) ، وحاصله ، هو : إنّه يمكن أن نثبت وجود المهم ، «الصلاة» ، المنوط بترك الأهم ، نثبته عن طريق علمنا بالملاك ، وذلك أنّ المهم بمقتضى إطلاق دليله ، لا يفقد ملاكه حال المزاحمة ، غايته أنّ الخطاب الفعلي به يسقط ، ويبقى ملاكه محفوظا ، إذ لا مانع من إحراز الملاكين في المتزاحمين.

وحينئذ فبناء على إمكان الخطاب الترتبي يستكشف لميّا ـ من باب الانتقال من العلة إلى المعلول ـ ، وجود خطاب بالمهم على تقدير ترك الأهم.

وهذا الجواب يرد عليه إيرادان :

١ ـ الإيراد الأول : مبنائي ، وهو أنه لا يمكن إثبات الملاك مستقلا عن الدلالة الالتزامية ، للخطاب وهي تسقط بسقوط الدلالة المطابقية له.

وإن شئت قلت : إنّ إثبات الملاك فرع إثبات الحكم بالدليل ، كما تقدم تحقيقه مفصلا.

٢ ـ الإيراد الثاني : هو : إنّه لو أغمضنا النظر عن الإيراد الأول ، وقلنا بإمكان استكشاف الملاك عن غير ناحية إثبات الحكم بالدليل ، لكان لازم ذلك ، هو استكشاف الأمر بالمهم في حال ترك الأهم. ولكن هذا ليس من ثمرات الترتب المتنازع فيه ، وإنّما هو من نتائج القول بثبوت الملاك عند سقوط الخطاب ، وهو ممّا يستفيد منه القائل بإمكان التّرتب ، والقائل باستحالة الترتب ، أمّا استفادة القائل بإمكان الترتب فواضحة ، وأمّا استفادة القائل باستحالته. فإنه بهذا اللازم سينتقل لإثبات خطاب ثان لحفظ ملاك المهم ، غايته بكون الفرق بين القائلين بإمكان الترتب وبين القائلين بامتناعه ، يكون

__________________

(١) المصدر نفسه.

٥٠٦

الفرق بينهما في صياغة هذا الخطاب لحفظ ملاك المهم ، فالقائل بإمكان الترتب يستكشف خطابين : أحدهما بالأهم مطلقا ، والثاني بالمهم على تقدير ترك الأهم وعصيانه ، لكون الملاك في المهم تعيينا مشروطا بترك الأهم ، فلا بدّ من كون خطابه على وزانه تعيينا أيضا.

وأمّا القائل بامتناع الترتب : فأيضا سوف يستكشف خطابين : أحدهما بالأهم مطلقا ، والثاني بالجامع بين الأهم والمهم ، أو بتحريم تركهما معا.

وبهذا تنعدم الثمرة بين القولين ، حيث لا فرق حينئذ إلّا بصياغة الخطاب.

وعليه فالصحيح في الجواب عن هذا الإشكال هو ما ذكرناه في الجواب الأول ، وبه ظهر إمكان الترتب من أحد الجانبين ، بمعنى إمكان أن يأمر المولى بأحد الضدين المشروط بترك الآخر.

وبقي أن نبحث في إمكان الأمر بكل من الضدين منوطا بترك الآخر ، وهذا ما سوف نبحثه في الجهة الثامنة.

* ٨ ـ الجهة الثامنة : من الجهات التي تبحث في الترتب ، هي إمكان الترتب من لا الجانبين ، كما لو أراد أن يأمر بكل من الضدين مشروطا كل منهما بترك الآخر.

وقد ذهب بعضهم إلى استحالته لوجود محذور زائد فيه عمّا ادّعي سابقا.

وقد تقرّب هذه الاستحالة بتقريبين :

١ ـ التقريب الأول : هو ما أفاده المحقق العراقي «قده» (١) ، وحاصله :

إنّ لازم ذلك هو الدور ، وذلك لأنه إذا كان الأمر «بالصلاة» مشروطا بترك

__________________

(١) مقالات الأصول : العراقي ج ١ ص ٣٤٠ ـ ٣٤١.

منهاج الأصول : الكرباسي ج ٢ ص ٨٦ ـ ٨٧.

٥٠٧

«الإزالة» لكان لازم ذلك ، هو تأخر الأمر «بالصلاة» عن الأمر «بالإزالة» ، لأنّ ترك الإزالة أخذ في موضوع الأمر بالصلاة ، فيكون متقدما عليه ، وترك الأمر بالإزالة فرع وجود أمر الإزالة ، فيكون متأخرا عن الأمر بالإزالة ، فينتج أن الأمر بالصلاة متأخر عن الأمر بالإزالة ، بسبب أخذ ترك الأمر بالإزالة في موضوعه ، وكذلك يقال في جانب الأمر بالإزالة : بأنه يلزم تأخره عن الأمر بالصلاة ، فيكون كل من الأمر بالصلاة والأمر بالإزالة ، متقدما ومتأخرا عن الآخر ، وهذا دور باطل.

وبذلك يثبت استحالة الترتب من الجانبين.

إلّا أن هذا التقريب غير تام لأمرين :

أ ـ الأمر الأول : هو أنّ هذا التقريب إنّما يتم لو أخذ عصيان كل من الأمرين في موضوع الآخر ، كما عرفت.

إلّا أنّ الترتب غير منحصر بذلك الشكل ، بل له شكل آخر ، وهو أن يؤخذ ترك ذات كل من الفعلين في موضوع الأمر الآخر ، وحينئذ لا إشكال في ذلك ، لأنّ الأمر بالصلاة حينئذ ، يكون متأخرا رتبة عن ترك «الإزالة» ، إلّا أنّ ترك الإزالة ليس متأخرا رتبة عن الأمر بالإزالة ، وكذا يقال من جانب الأمر بالإزالة ، وحينئذ ينتفي المحذور.

٢ ـ الأمر الثاني : هو أنه لو سلّمنا أن المأخوذ في موضوع الصلاة هو ترك الإزالة وكذا العكس ، إلّا أن أخذ الترك يكون على نحوين ، فتارة يؤخذ الترك بوجوده الفعلي المنجّز ، وحينئذ يلزم الدور بالنحو الذي ذكر ، وأخرى يؤخذ الترك بوجوده التقديري ، أي : على نحو القضية الشرطية التي مفادها : لو كان هناك أمر بالصلاة يكون عمل المكلف خارجا عصيانا له ، وكذلك العكس.

أو فقل : بأن يكون شرط الأمر بالصلاة هو عصيان الأمر بالإزالة لو وجد أمر بالإزالة ، وكذا العكس.

٥٠٨

وحينئذ نقول : إنّ مثل هذا العصيان لا يتوقف على وجود الأمر المعصي خارجا ، ليلزم ما ذكر ، لأنّ صدق القضية الشرطية لا يستلزم صدق طرفيها ، وعليه ، فلا يكون عصيان الأمر بالإزالة التقديري ، متوقفا على وجود الأمر فعلا بالإزالة ، وكذا العكس ، فلا يلزم محذور الدور.

٢ ـ التقريب الثاني : لبيان وجه استحالة الترتب من الجانبين : وهو مبني على تسليم أنّ المأخوذ في موضوع كل من الأمرين هو ترك ذات الفعل الآخر لا عصيان أمره ، حينئذ يكون الترتب من الجانبين مستحيلا ، وذلك لأنّ الشخص الذي لا يكون له داع نفساني نحو الصلاة ، أو الإزالة ، إلّا أمر المولى ، فمثل هذا الشخص يكون صدور الصلاة منه موقوفا على وجود داع لها ، ووجود هذا الداعي موقوف على وجود أمر فعلي بها ، ووجود أمر فعلي بها موقوف على ترك الإزالة حسب الفرض ، وترك الإزالة ، موقوف على عدم وجود داع نحو الإزالة ، فينتج أنّ فعل الصلاة والداعي إليها ، موقوف على أن لا يكون هناك داع نحو الإزالة.

وكذا يقال من جانب الإزالة ، فينتج أن كلا من الداعيين موقوف على عدم وجود الداعي الآخر ، وهو مستحيل ، لأنه إمّا أن يوجدا معا ، أو يعدما معا ، أو يوجد أحدهما دون الآخر ، وكله مستحيل.

أمّا الأول فلأنّ لازمه أن يعدما معا ، لأنّ وجود كل منهما سبب لعدم الآخر ، والثاني مستحيل ، لأنّ لازمه أن يوجدا معا ، لأن عدم كل منهما سبب لوجود الآخر ، والثالث مستحيل ، حيث أنه لا وجه لوجود أحدهما دون الآخر إلّا تعلق الأمر الشرعي به.

ومن المعلوم أن نسبة الأمر الشرعي إليهما على حد سواء.

وهذا الوجه غير تام ، حيث أنه لا يوجد عندنا داعيان مشروطان من هذا القبيل ، ليتم ما ذكر ، ، وإنّما عندنا داع واحد فعلي مطلق ، متعلق بالجامع بين الصلاة والإزالة ، وبذلك يمكن للمكلّف التخلص من معصية مولاه وإطاعة

٥٠٩

أمره ، وذلك بالإتيان بأحد فردي الجامع ، فيكون قد امتثل أحد الفردين ، ونفى موضوع الآخر.

وأمّا تطبيق الجامع على أحد الفردين ، فقد يكون بمرجح شرعي ، وقد يكون لمرجح شخصي ، وقد لا يكون لأي مرجح ، فيكون من قبيل رغيفي الجائع وطريق الهارب ، وبذلك ينتفي الإشكال.

والخلاصة ، هي : إنّ هذا الإشكال لا أساس له ، ذلك لأن المكلف المأمور بكل من الضدين مشروط كل منهما بترك الآخر ، هذا المكلف ، يحدث في نفسه داع نحو الجامع بين الضدين من أول الأمر ، يطبّقه على أحد فردي الجامع ، كما ذكرنا آنفا ، وبذلك فيرفع موضوع الضد الآخر ، ومعنى هذا ، أنه ليس هناك داعيان مشروطان ليلزم الإشكال.

ثم إنّه قد يقرّب هذا الإشكال الثاني على إمكان الترتب من الجانبين بتقريب آخر ، فيقال :

بأنّ فعل الصلاة موقوف على تماميّة الداعي نحوها ، وهذا موقوف على الأمر بالصلاة ، وهذا متوقف على ترك الإزالة ، ، وهذا يتوقف على عدم الداعي للإزالة ، وهذا يتوقف على عدم الأمر بالإزالة ، وهذا يتوقف على عدم موضوعه ، أي : على عدم ترك الصلاة ، وهو فعل الصلاة ، فينتج أن فعل الصلاة موقوف على فعل الصلاة ، وهو دور.

وهذا التقريب وإنّ كان يرد عليه ما أجبنا عليه آنفا ، لكن لا بدّ من دفعه بجواب آخر ، لأنه يمكن إيراد هذا الدور بصياغته الآنفة في مورد لا يدفع بما دفعناه به في الوجه الثاني.

وبيان ذلك ، هو إنّه لو فرض أنّ شخصين وقفا أمام فعل ، وكان لكل منهما داع لهذا الفعل ، ولكن بشرط عدم إقدام الشخص الآخر على ذلك الفعل ، كما قد يحدث مثله كثيرا في الحياة الاجتماعية ، ففي مثل هذا الفرض يلزم الدور المذكور ، وذلك لأنّ إقدام زيد فرع وجود الداعي له نحو هذا

٥١٠

الفعل ، وهذا فرع عدم إقدام عمرو ، وهذا فرع عدم الداعي عند عمرو ، وهذا فرع إقدام زيد ، فيصير إقدام زيد موقوفا على إقدام زيد ، وهو دور.

وحيث أنه فرض في الوجه الثاني لتقريب إشكال الدور شخص واحد أمامه فعلان ، وفي مثله يعقل وجود الداعي عنده نحو الجامع ، بالنحو الذي تقدم ، ولكن هذا الجواب لا يتمّ هنا ، حيث أنه في هذا التقريب فرض شخصان أمامهما فعل واحد ، ولذلك ذكرنا في مستهل هذا التقريب بهذا الفرض ، أننا بحاجة إلى جواب آخر.

وحاصل الجواب هنا بحيث يرتفع هذا الإشكال ، هو أن يقال : إنّ ما ذكر من الدور في هذا الفرض ، ليس دورا حقيقة ، وإن كان يرجع إلى محذور يشبه الدور إذ فعل الصلاة هنا ، لا يتوقف على فعل الصلاة.

وتوضيح ذلك ، هو : إنّنا لو فرضنا عدم وجوب الاحتياط في الشّبهات الموضوعية ، فحينئذ لا يكون فعل الصلاة موقوفا على وجود الأمر بالصلاة ، بل يكون موقوفا على إحراز الأمر بالصلاة ، بحيث أن هذا المكلف إذا لم يحرز ذلك الأمر ، يمكنه أن يجري البراءة في المقام ، حتى لو كان هذا الأمر موجودا في الواقع.

وبناء عليه ، يكون فعل الصلاة موقوفا على إحراز الأمر بها ، ويكون إحراز الأمر بها موقوفا على إحراز موضوعه ، وهو إحراز ترك الإزالة ، وإحراز ترك الإزالة يكفي فيه عدم إحراز ترك الصلاة ، فينتج أنّ فعل الصلاة يتوقف بهذه الوسائط على عدم إحراز تركها ، أي على عدم العلم بفعل الصلاة ، بحسب الفرض ، لا على فعل الصلاة نفسه.

وهذا بالدقة ، وإن لم يكن دورا ، ولكنه محذور ، لأنه إذا فرض كون فعل الصلاة منوطا بعدم العلم بتركها ، فمعنى هذا ، أنّ هذا المكلف قبل أن يصلي ، لا بدّ وأن يحدث عنده عدم العلم بتركها ، فيكون وقوعها فرع عدم إحراز عدمها ، مع أنّ عدم إحراز عدمها فرع وقوعها.

٥١١

وهذا يدفع بما ذكرناه سابقا في الجواب.

وإن شئت قلت : إنّ العلم وعدم العلم بالشيء ، يكون دائما في نظر صاحبه بنحو كأنّه يرى المعلوم شيئا مفروغا عنه في مرتبة سابقة ، يعرض عليه العلم وعدم العلم ، ومن هنا كان يستحيل أن يعلم شيئا ، فضلا عن احتماله متقوما بذلك العلم أو الاحتمال ، ومن هنا كنّا نقول باستحالة أخذ العلم بالحكم في موضوع شخصه ، لا على أساس الدور ، ولكنه مستحيل بنكتة استحالة الدور.

وهذا المحذور غير موجود في التقريب الآخر للدور المنقوض به ، فهو ليس بدور حقيقة أيضا ، وذلك لأنّ إقدام زيد فرع إحرازه لعدم إقدام عمرو ، وعدم إقدام عمرو فرع عدم إحرازه لإقدام زيد ، فيرجع إلى أنّ إقدام زيد فرع عدم علم عمرو بعدم إقدام زيد.

وهذا لا محذور فيه ، لأنّ الفاعل هنا غير العالم هناك ، إذن فلا محذور في هذا التقريب الآخر.

والخلاصة ، هي : إنّه مع فرض كون الفاعل لا يحتاط ، حينئذ يكون إقدامه على الفعل موقوفا على علمه بعدم علم الآخر بإقدامه ، وليس في هذا محذور ، إذا الموقوف غير الموقوف عليه.

وكذلك لو طرح الدور بصيغة أنّ فعل الصلاة عند من لا يحتاط ، موقوف هذا الفعل على الداعي ، وهو موقوف على العلم بالأمر ، وهو موقوف على العلم بترك الإزالة المتولد إمّا من نفس ترك الإزالة ، أو من العلم بعدم الداعي إلى الإزالة ، فأمّا على الأول : فيكون كلا من الفعلين متوقفا على عدم الآخر كما عرفت ، وأمّا على الثاني : فيكون كلا من من الداعيين متوقفا على عدم الآخر ، وكلما كان توقّف شيئين أحدهما على عدم الآخر ، لزم الدور.

قلنا : لو طرح بهذه الصيغة ، فأيضا يكون جوابه ما تقدم ، من أن الداعي إنّما ينقدح نحو الجامع ، بينما في التقريب الجديد ، لا يأتي مثل هذا ، ، لأن

٥١٢

غاية ما هنالك ، هي أن يصبح إقدام أحدهما موقوفا على علمه بعدم علم الآخر بإقدامه ، وليس موقوفا على عدم إقدام الآخر.

وعلى أيّ حال ، فقد ثبت أنه لا محذور في الترتب من الجانبين ، بل قد يقال : بأنّ الترتب من الجانبين أوضح إمكانا من الترتب من جانب واحد ، وذلك لأنّه ، في مقام بيان إمكان الترتب من جانب واحد ، احتجنا إلى بيان عدم مزاحمة الأمر بالمهم للأمر بالأهم ، بلحاظ لزوم الدور ، واحتجنا لبيان عدم مزاحمة الأمر بالأهم للأمر بالمهم ، بلحاظ محذور آخر غير الدور ، فكان القول بإمكان الترتب من جانب واحد ، مبنيا على التصديق بكلا البرهانين المذكورين.

بينما في إمكان الترتب من الجانبين ، لا نحتاج فيه إلّا إلى التصديق ببرهان الدور فقط ، لأنّ كلا من الأمرين مشروط بترك الآخر ، وعليه فمانعيّة كل منهما عن تأثير الآخر يكون دوريا ، وإن كنت قد عرفت بطلانه.

وعليه ، فالقول بإمكان الترتب من الجانبين ، هو أخفّ مئونة من القول بإمكانه من جانب واحد.

* ٩ ـ الجهة التاسعة : من الجهات التي تبحث في الترتب ، وهي : ما أثير في بعض الأبحاث الأصولية ، حول تطبيق بعض الفروع الفقهية ، وتخريجها على أساس الترتب ، كالحكم بصحة الإتمام في موضع القصر مع الجهل ، وإن انكشف الخلاف ، وكالحكم بصحة الصلاة الجهرية في موضع الإخفاتية ، وكذا العكس مع الجهل ، وإن انكشف الخلاف ، إذ قد أشكل على ذلك ، فقيل : إنّ صحة الصلاة متفرعة على مطابقتها للأمر ، والمفروض أنها مأمور بها إخفاتا ، في حين أنه أتي بها جهرا ، فيكون ما أتى به لم يتعلّق به الأمر ، وما تعلّق به الأمر لم يأت به.

وقد أجيب عن هذا الإشكال بعدة أجوبة ، كان من جملتها ، ما نقل عن الشيخ كاشف الغطاء «قده» (١) وخلاصته : هو الالتزام بوجود أمرين على نحو

__________________

(١) كشف الغطاء : عن خفيات مبهمات الشريعة الغراء. ص ٢٧٨.

٥١٣

الترتب فيقال : بأن أحد الأمرين متعلق بالصلاة جهرا واقعا ، والأمر الآخر متعلّق بالإخفات على تقدير ترك الجهر ، وكذا العكس ، حيث يكون الترتب من الجانبين.

وقد استشكل غير واحد من القائلين بإمكان الترتب ، بعدة إشكالات ، نذكر أهمّها :

١ ـ الإشكال الأول : وهو ما ذكره المحقق النائيني «قده» (١) ، وحاصله : أنّه يشترط في معقولية الترتب بين الأمرين بالضدين ، أن يكون الضدان من الضدين اللذين لهما ثالث ، كالصلاة ، والإزالة ، فإنّ لهما ثالث وهو الأكل مثلا ، إذ هنا يمكن للمولى أن يعمل مولويته فيأمر بالصلاة على تقدير ترك الإزالة ، لأنّ المكلّف على تقدير مستوى القراءة الجهرية والقراءة الإخفاتية ، وإنّما يتصور على مستوى الأمر بصلاة ، يقرأ فيها جهرا ، والأمر بصلاة يقرأ فيها إخفاتا.

أو فقل : إنّ الترتب إنّما يتصور بين الأمر بالصلاة الجهرية ، والأمر بالصلاة الإخفاتية ، والوجه في ذلك ، أن وصفي الجهر والإخفات ، أو القراءة الجهرية والقراءة الإخفاتية ، من الواجبات الضمنية ، لا الاستقلالية ، والترتب بينهما غير معقول ، إذ لا يعقل أن يقول المولى : يجب عليك الجهر ، وعلى تقدير تركه ، فيجب عليك الإخفات ، وكذلك لا يعقل أن يقول : يجب القراءة جهرا ، وعلى تقدير تركها ، فتجب إخفاتا.

والوجه في ذلك هو أنّ قيد ترك القراءة الجهرية ، إمّا أن يؤخذ قيدا في نفس الوجوب الضمني المتعلّق بالقراءة الإخفاتية ، أو يؤخذ في متعلقه ، وهو نفس الواجب ، فإن فرض الأول ، وهو أخذه قيدا في نفس الوجوب الضمني ، فهذا غير معقول ، لأنّ الضمني ، بحكم ضمنيته ، لا يعقل أن يكون له موضوع مستقل عن بقية الوجوبات الضمنية الأخرى ، حيث أن جميعها مجعولة بجعل

__________________

(١) فوائد الأصول : ج ١ ص ٢٢٣.

٥١٤

واحد ، إذن هو لا يعقل أخذه هكذا إلّا في ضمن أخذه قيدا في الوجوب الاستقلالي ، وأخذه قيدا في الوجوب الاستقلالي غير معقول أيضا ، لأن معناه أخذ قيد ترك القراءة الجهرية ، في الوجوب المشتمل على الإلزام بالقراءة الجهرية ، حيث أن المولى قال حسب الفرض ـ تجب القراءة ـ الجهرية وعلى تقدير تركها فالإخفاتية ، ومن الواضح أن مثل هذا التقييد غير معقول ، لأنه يلزم منه أخذ ترك الجهر في الخطاب الواحد الذي من ضمنه الأمر بالجهر ، وهو مستحيل ، وإن فرض الثاني وهو أخذه قيدا في متعلق الأمر بالإخفات ، بنحو قيدية الواجب : فإنّه يلزم منه فعليّة كلا الأمرين الضمنيين ، الأمر بالجهر مطلقا وبالإخفات المقيّد بعدم الجهر ، ولازمه التكليف بغير المقدور ، لأنه طلب للجمع بين الضدين ، وهو محال أيضا.

وبهذا يثبت استحالة الترتب بين القراءة الجهرية والقراءة الإخفاتية ، وبين نفس الجهر والإخفات.

وعليه ، فلرفع أصل الإشكال ، لا بدّ من فرض خطابين : أحدهما متعلق بالصلاة التي يقرأ فيها جهرا ، والثاني متعلق بالصلاة التي يقرأ فيها إخفاتا على تقدير ترك الأولى ، وحينئذ لا يرد إشكال الميرزا «قده» ، لأنّ هاتين الصلاتين لهما ضد ثالث ، وهو أن لا يصلّي أصلا.

٢ ـ النقطة الثانية : هي أنه يمكن تصوير الترتب بين نفس الجهر والإخفات ، بحيث لا يرد إشكال الميرزا «قده» وذلك بأن يقال : إنّ هناك أمرا متعلقا بالجهر ، وهناك أمر ثان ترتبي متعلق بالإخفات ، وموضوع هذا الأمر الثاني هو عدم الجهر الأعم من السالبة بانتفاء المحمول ، والسالبة بانتفاء الموضوع ، أي : الأعم من عدم الجهر ، لأجل أنه قرأ ولم يجهر ، أو لأنه لم يقرأ أصلا ، فإذا أخذ ترك الإزالة ، يمكنه أن يصلي ، ويمكنه أن يأتي بالضد الثالث ، وحينئذ للمولى أن يعمل مولويته فيأمره بالصلاة ، وأمّا الضدان اللذان لا ثالث لهما ، «كالحركة والسكون» ، فلا يمكن الترتب بينهما ، لأنّ المكلّف إن ترك أحدهما ، لا بدّ له أن يأتي ويتلبّس بالآخر ، وحينئذ لا معنى لأن يعمل

٥١٥

المولى مولويته ، بأن يأمر بالآخر على تقدير ترك الأول ، وذلك لأنّ المكلّف إذا ترك الأول كان ضروريا صدور الثاني عنه.

ومن هنا يظهر أنّه لا معنى للترتب في محل الكلام ، لأنّ الجهر والإخفات في القراءة من الضدين اللذين ليس لهما ثالث ، إذ إنّ الصلاة إمّا أن تكون جهرية ، وإمّا أن تكون إخفاتية ، ومعه لا يعقل الترتب.

وقد أجاب السيد الخوئي «قده» (١) عمّا ذكره الميرزا «قده ، بما حاصله : إنّه لو كان مصب الترتب هو نفس الجهر والإخفات ، لتمّ الإشكال ، ولكن مصب الترتب ليس هذين الوصفين ، وإنّما مصبّه هو القراءة الجهرية والقراءة الإخفاتية ، وهذان من الضدين اللذين لهما ثالث ، حيث أنّ لهما بديلا ، وهو أن لا يقرأ أصلا ، وعليه ، فيمكن أن يأمر المولى بالجهر ، ويأمر بالإخفات على تقدير ترك الجهر ، وكذا العكس.

وتوضيح المقام يكون بالكلام في نقطتين :

١ ـ النقطة الأولى : هو أنّ الترتب لا يتصور ، لا على مستوى الجهر والإخفات ، ولا على بنحو السالبة بانتفاء المحمول ، أي : عدم الجهر لأجل أنه قرأ ولم يجهر ، فيتم إشكال الميرزا «قده» ، وأمّا إذا أخذ في موضوعه عدم الجهر الأعم ، فلا يرد إشكال الميرزا «قده» لأنّ عدم الجهر لا يساوق مع تعيين الإخفات ، حيث أنه يتلاءم مع عدم القراءة أيضا.

وإنّ شئت قلت : إنّ القيد إنّ كان هو عدم الجهر الأعم من السالبة بانتفاء المحمول ، وذلك بأنّ يقرأ ولا يجهر ، أو السالبة بانتفاء الموضوع ، وذلك بأن لا يقرأ أصلا ، فالأمر بالقراءة الإخفاتية يكون معقولا ، ولا يرد إشكال الميرزا «قده». وأمّا إذا كان القيد هو عدم الجهر في القراءة بنحو السالبة بانتفاء

__________________

(١) محاضرات فياض : ج ٣ ص ١٦٣ ـ ١٦٥.

أجود التقديرات : ج ١ هامش ص ٣١٠ ـ ٣١١.

٥١٦

المحمول خاصة ، فالأمر بالإخفات لا يكون معقولا ، وحينئذ لا يرد إشكال الميرزا «قده».

٢ ـ الإشكال الثاني : وهو ما ذكره الميرزا «قده» (١) أيضا كشرط آخر لإمكان الترتب بين الضدين ، وحاصله هو : إنّ الترتب إنّما يعقل إذا كان التضاد بين الأمرين اتفاقيا كالصلاة والإزالة ، وأمّا إذا كان التضاد بين الأمرين دائميا ، فلا يعقل فيه الترتب كما في الجهر والإخفات.

وتحقيق هذا الإشكال وإن كان سوف يأتي في بحث التزاحم ، إلّا أن السيد الخوئي أجاب عليه بأنه لا يعتبر في الترتب والتزاحم مثل هذا الشرط ، وأمّا نحن فنقول : إنّك وإن كنت قد عرفت عمّا تقدم ، اندفاع هذا الإشكال ، لكن نجمل هنا فنقول : إنّ هذا الإشكال مندفع ، وذلك لأنه لا تضاد أصلا بين الواجبين في المقام ، لأنّ الصلاة الجهرية يمكن اجتماعها مع الإخفاتية ، وذلك بأن يصلي المكلّف صلاتين : إحداهما جهرية ، والأخرى إخفاتية ، ومنشأ إشكال الميرزا «قده» (٢) إنّما هو توهم ، كون مصب الترتب هو نفس الجهر والإخفات ، وهما متضادان دائما.

بينما مصب الترتب بحسب الحقيقة ، هو الصلاة الجهرية والصلاة الإخفاتية ، وهما ضدان لهما ثالث ، وهو أن لا يصلي أصلا ، أو يصلي صلاتين إحداهما جهرية ، والأخرى إخفاتية على تقدير ترك الجهرية ، وحينئذ لا يرد إشكال الميرزا «قده».

٣ ـ الإشكال الثالث : وهو ممّا أفاده الميرزا «قده» (٣) أيضا وحاصله هو :

إنّه لا يعقل الخطاب الترتبي بالتمام ، لأنه لا يقبل الوصول إلى المكلّف ، وكل خطاب لا يقبل الوصول ، فلا معنى لجعله ، حيث أنه مع عدم وصوله ، لا

__________________

(١) فوائد الأصول : الكاظمي : ج ١ ص ٢٢٣ ـ ٢٢٤.

(٢) فوائد الأصول : الكاظمي : ج ١ ص ٢٢١ ـ ٢٢٣.

(٣) فوائد الأصول : الكاظمي : ج ١ ص ٢٢٢.

٥١٧

يكون محرّكا ، ومع عدم محركيته لا معنى لجعله.

وتوضيح ذلك ، هو : إنّ الخطاب الترتبي بالتمام ، أخذ في موضوعه قيدان : أحدهما : الجهل بوجوب القصر ، والثاني : عصيان الأمر بالقصر ، وهذا الموضوع بكلا جزءيه لا يعقل وصوله للمكلّف ، بل إذا وصل أحدهما ، لا يعقل وصول الآخر ، لأنّ المفروض أن عصيان الأمر بالقصر فرع العلم به ، وإذا علم بوجوب القصر ، ينثلم الجزء الثاني للموضوع ، وهو الجهل بالقصر ، وإذا حصل القصر فينثلم الجزء الآخر ، وهو العصيان ، لأنّ عصيان القصر فرع العلم به.

وعليه ، فهذا الخطاب الترتبي المدّعى ، والمتعلق بالتمام ، لا يعقل وصوله ، وعليه ، فلا معنى لجعله ، فيثبت عدم إمكان الترتب في المقام.

وكذا يقال بالنسبة للجهر والإخفات ، هذا حاصل إشكال الميرزا «قده».

وقد أجاب السيد الخوئي «قده» (١) عن هذا الإشكال بما حاصله : إنّ هذا الإشكال إنّما يتمّ لو أخذ عنوان عصيان الأمر بالقصر في موضوع الخطاب الترتبي بالتمام ، ولكن إذا كان المأخوذ هو ترك صلاة القصر ، لا عنوان عصيان الأمر بالقصر ، فحينئذ لا يرد الإشكال ، إذ حتى في حالة الجهل بوجوب القصر ، فإنّ المكلّف يعلم ويحرز أنّه ترك القصر حين إتيانه بالتمام ، وعليه ، يمكن أن يصل الموضوع بكلا جزئيه ، فينتفي الإشكال.

وبتعبير آخر ، يقال : بأن الموضوع هو ترك الصلاة القصرية ، لا عنوان عصيان الأمر بالقصر ، وحينئذ يمكن للمكلف أن يحرز أنه ترك الصلاة القصرية ، رغم جهله بوجوب القصر ، واعتقاده بوجوب التمام ، إذن فموضوع الأمر الترتبي قابل للإحراز في محل الكلام.

والتحقيق ، هو : إنّ جواب السيد الخوئي «قده» ، وإن كان معقولا لجهة

__________________

(١) محاضرات فياض : ج ٣ ص ١٦٧ ـ ١٦٨ ـ ١٦٩.

٥١٨

إحراز المكلف لموضوع الأمر الترتبي ، حيث أنه يحرز أنه مسافر ، وأنه ترك القصر ، وأنّ الواجب عليه هو التمام ، فيمكنه إحراز هذه الأجزاء واحدا واحدا ، ولكن مع هذا ، فإنّ جواب السيد الخوئي «قده» ، لا يحل الإشكال ، لأن المكلّف ، وإن أمكنه إحراز أجزاء الموضوع ، إلّا أنه لا يمكنه أن يحرز أنه مخاطب بخطاب ترتبي متعلق بالتمام ، على تقدير ترك القصر ، وإنّما هو يعلم أنه مخاطب بالتمام خطابا أوليا ، لا ترتبيا ، أو فقل ، إنّ المكلف يمكنه أن يحرز ذوات أجزاء موضوع الأمر الترتبي ، ولكن لا يعلم بكون هذه الأجزاء أنها هي موضوع الخطاب الترتبي ، بينما وصول الحكم لا بدّ فيه من إحراز موضوع الخطاب ، بما هو موضوع ، والمكلف في المقام لا يمكنه ـ عند تركه للقصر ـ أن يحرز كون هذا الترك موضوعا للأمر الترتبي ، وذلك لأنّ هذا المكلّف ، إمّا أن يفرض أنه عالم بالقصر ، أو جاهل ، والأول يخرج الفرض عن محل الكلام ، والثاني لا يمكن معه إحراز الخطاب الترتبي ، فيعود الإشكال ، وهو عدم وصول مثل هذا الخطاب الترتبي ، وحينئذ فلا معنى لجعله.

وعليه ، فالصحيح تماميّة هذا الإشكال.

٤ ـ الإشكال الرابع : ممّا قد يرد في المقام هو : إنّ الخطاب الترتبي بالتمام ، إمّا أن يكون في موضوعه ترك القصر في تمام الوقت ، أو ترك القصر ولو آنا «ما» (١) ، فإن أخذ الأول : فمعنى ذلك أن المكلف ، لو صلّى تماما ، ثم علم أثناء الوقت بوجوب القصر ، فيلزم حينئذ تنجز القصر عليه ، لأنّ وجوب التمام فرع عدم الإتيان بالقصر في تمام الوقت ، وهذا الموضوع لم يتحقق ، لأنّ المفروض بقاء الوقت ، وحينئذ يتنجز عليه القصر ، وتخرج الصلاة التامة عن كونها مطلوبة وصحيحة.

وهذا خلاف الفتوى الفقهية المفروغ فيها عن صحة الصلاة التمام ،

__________________

(١) فوائد الأصول : الكاظمي ج ١ ص ٢٢٥.

٥١٩

وعدم لزوم القصر بعدها ، وإن انكشف الخلاف.

وإن أخذ في موضوعه ترك القصر «انا ما» : فلازم ذلك ـ أنه إذا مرّ من الوقت مقدار منه ، ولم يأت بالتمام ـ لازم ذلك أن يجتمع عليه الأمران : الأمر بالقصر ، لأنه لم يفت وقته ، والأمر بالتمام لتحقق موضوعه ، وهو عدم الإتيان بالقصر «انا ما» واجتماع الأمرين مستحيل.

وإنّ شئت قلت : إنّ الخطاب الترتبي بالتمام إن كان قد أخذ في موضوعه ترك القصر ، في تمام الوقت ، إذن فالمكلف إذا علم بوجوب القصر ، عليه بعد إتيانه بالتمام ، كانت وظيفته القصر ، ولم يكن ما أتى به من التمام صحيحا ومطابقا للخطاب ، وهذا خلف المتسالم عليه فقهيا القاضي بصحة صلاته التمام ، وعدم لزوم القصر بعدها ، وإنّ انكشف الخلاف.

وإن كان المأخوذ في موضوع الخطاب الترتبي هو ترك القصر «آناً ما» ، فيلزم إيجاب الوظيفتين ، واجتماع الأمرين على المكلّف : الأمر بالقصر لأنّه لم يفت وقته ، والأمر بالتمام لتحقق موضوعه ، وهو عدم الإتيان بالقصر «آناً ما» ، واجتماع الأمرين في المقام مستحيل.

وهذا الإشكال غير وارد ، ذلك ، بأن نحدث تصرفا في كل من خطابي القصر والتمام الذي هو ترتبي ، حيث نقيّد الأمر بالتمام ، بترك القصر ، إمّا إلى حين لزوم امتثال التمام ، أو إلى حين انتهاء الوقت ، فمن ترك القصر لأقرب هذين الأجلين ، يكون مكلّفا بالتمام لتحقق موضوعه ، ولا يرد الإشكال ، لأنه لو فرض أن أقرب الأجلين هو شروعه بالتمام فشرع وصلّى تماما ، فإنّ صلاته تقع صحيحه ، لأنه مأمور بها ، فإذا صلّى بعد ذلك قصرا ، فهذا لا يوجب زوال موضوع خطاب التمام الترتبي ، لأنّ موضوعه محفوظ ، وهو عدم القصر لأقرب الأجلين.

وأمّا التصرف الثاني الذي نحدثه في خطاب القصر ، فهو : أن نقيّد الأمر بالقصر ، بعدم الإتيان بالتمام ، لكن لا نقيّده من أول الأمر على نحو الشرط

٥٢٠