الشفاعة في السنة :
وردت أخبار متواترة بين المسلمين في الشفاعة وأنّها المقام المحمود الذي وعد الله به نبينا الأعظم (صلىاللهعليهوآله) يوم القيامة ففي صحيح مسلم عن أنس عن رسول الله (صلىاللهعليهوآله) أنّه قال : «أنا أول شفيع في الجنة لم يصدق نبي من الأنبياء ما صدقت وإنّ من الأنبياء نبيا ما يصدقه من أمته إلا رجل واحد»
ذكره جمع غفير من العلماء.
وأخرج البيهقي في الاعتقاد عن جابر بن عبد الله عن رسول الله (صلىاللهعليهوآله) أنّه قال : «أنا قائد المرسلين ولا فخر ، وأنا خاتم النبيين ولا فخر ، وأنا أول شافع ومشفّع ولا فخر» رواه الدارمي في سننه أيضا عن صالح ابن عطاء.
وأخرج البخاري عن أنس عن رسول الله (صلىاللهعليهوآله) أنّه قال : «إنّ لكلّ نبي دعوة قد دعا بها في أمته وإنّي اختبأت دعوتي شفاعة لامتي».
وروى أبو داود عن أبي بن كعب أنّ النبي (صلىاللهعليهوآله) قال : «إذا كان يوم القيامة كنت إمام الأنبياء وخطيبهم وصاحب شفاعتهم من غير فخر».
وروى أبو داود أيضا والحاكم عن عمر عن النبي (صلىاللهعليهوآله) : «إنّ الشمس تدنو يوم القيامة حتّى يبلغ العرق نصف الاذن فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم (عليهالسلام) فيقول : لست بصاحب ذلك ، ثم بموسى ، فيقول كذلك ثم بمحمد (صلىاللهعليهوآله) فيشفع ليقضي بين الخلق ، فيمشي حتّى يأخذ بحلقة باب الجنة ، فيومئذ يبعثه الله مقاما محمودا يحمده أهل الجمع كلّهم».
وروى البيهقي عن أبي سعيد الخدري قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) : «يخرج قوم من النار قد احترقوا فيدخلون الجنة فينطلقون إلى نهر يقال له الحياة فيغتسلون فيه فينضرون كما ينضر العود فيمكثون في الجنة حينا ، فيقال لهم تشتهون شيئا فيقولون : أن يرفع عنا هذا الاسم قال (صلىاللهعليهوآله)
فيرفع عنهم».
وعن سماعة عن أبي عبد الله (عليهالسلام) : «سألته عن شفاعة النبي (صلىاللهعليهوآله) يوم القيامة قال (عليهالسلام) : يلجم الناس يوم القيامة العرق ويرهقهم القلق. فيقولون : انطلقوا بنا إلى آدم يشفع لنا فيأتون آدم (عليهالسلام) فيقولون اشفع لنا عند ربك فيقول : إنّ لي ذنبا وخطيئة فعليكم بنوح فيأتون نوحا فيردهم إلى من يليه ، ويردهم كلّ نبيّ إلى من يلي حتّى ينتهوا إلى عيسى فيقول : عليكم بمحمد (صلىاللهعليهوآله وعلى جميع الأنبياء) فيعرضون أنفسهم عليه ، ويسألونه فيقول : انطلقوا فينطلق بهم إلى باب الجنة ويستقبل باب الرحمة ، ويخر ساجدا فيمكث ما شاء الله ، فيقول الله عزوجل : ارفع رأسك واشفع تشفّع وسل تعط وذلك قوله تعالى : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً).
وروى البرقي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : «قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) : أعطيت خمسا لم يعطها أحد قبلي : جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ، ونصرت بالرعب ، وأحل لي المغنم ، وأعطيت جوامع الكلم ، وأعطيت الشفاعة».
وعن داود بن سليمان عن الرضا (عليهالسلام) عن آبائه عن أمير المؤمنين (عليهالسلام) قال : «قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) : إذا كان يوم القيامة ولينا حساب شيعتنا فمن كانت مظلمته فيما بينه وبين الله عزوجل حكمنا فيها فأجابنا ، ومن كانت مظلمته فيما بينه وبين الناس استوهبناها فوهبت لنا ، ومن كان مظلمته فيما بينه وبيننا كنا أحق من عفا وصفح».
وعن أبي الحسن الرضا (عليهالسلام) عن آبائه عن عليّ (عليهمالسلام) قال : «من كذب بشفاعة رسول الله (صلىاللهعليهوآله) لم تنله» إلى غير ذلك من الروايات المتواترة بين المسلمين كما يأتي التعرض لقسم آخر منها.
الشفاعة والإجماع :
وهو من المسلمين بأجمعهم بل تعد من ضروريات الدّين إلا ممن لا يعتنى بمخالفته وتعرّضوا للإجماع في كتبهم الكلامية والحديثية والتفسيرية بل يمكن ادعاء إجماع الملّيين على ذلك فإنّ الشفاعة مسلّمة في الكتب المقدسة وصرّح علماؤهم بتحققها.
الشفاعة والعقل :
ويمكن تقريره بوجوه :
منها : أنّ الله تعالى غني بالذات عن طاعة عباده لا ينتفع منها بشيء أبدا ولا يضرّه عصيان جميعهم ولا ينقص بسبب ذلك منه شيء أبدا ولا ريب في تسلّط الشيطان والنفس الأمارة على الإنسان وإحاطتهما به كما هو محسوس بالوجدان ، وحينئذ فالشفاعة كالعفو والإغماض عن الخطإ والزلل مع تحقق الشرائط حسن عقلا لا سيّما في عالم تنحصر الأسباب في ذات واحدة وفيه من الأهوال والشدائد ما لا يحصى ، فانحصر رفعها في واحد فقط ، فترك العفو والإغماض عمن يقدر عليهما بمجرد قول : (كُنْ فَيَكُونُ) مع عدم مانع في البين قبيح وهو مستحيل بالنسبة إليه عزوجل ، فتجب الشفاعة عليه عقلا في النظام الأحسن الربوبي كالرزق الواجب عليه تعالى في عالم الدنيا كلّ بالأسباب المعدة له ، والشفاعة رزق معنوي يكون الناس أحوج إليها بمراتب كثيرة.
ومنها : أنّ تنظيم العوالم بالأحسن يجب عقلا على مديرها ومدبرها المنحصر في الحيّ القيوم ، ومن أهم جهات التنظيم والترتيب العفو والإغماض عن العاصي الأثيم بعد وجود الشرائط وترك ذلك وإهماله موجب لإخلال النظم وهو محال على الحكيم العليم.
ومنها : أنّ الشفاعة معلولة لأصل تشريع الأحكام تدور معه أينما دار وحيث إنّ أصل التشريع منحصر بالله تعالى ، فالشفاعة والثواب والعقاب لا بد أن تنحصر فيه مباشرة أو تسبيبا.
فالكل من نظامه الكياني |
|
ينشأ من نظامه الرباني |
منها : أنّ ترك الشفاعة مع وجود المقتضي لها وفقد المانع عنها نقص في رحمته التي هي عين ذاته تعالى فيرجع إلى نقص الذات وهو من المحالات الأولية بالنسبة إليه جلّت عظمته.
ثم إنّه يمكن إدخال الشفاعة في مفهوم قوله تعالى : (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) [الفتح ـ ١٤] ، وقوله تعالى : (يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ) [العنكبوت ـ ٢١] ، وقوله تعالى : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) [الرعد ـ ٣٩] ، وثبوت الاختيار له تعالى في البقاء كثبوته له عزوجل في أصل الحدوث وهو مقتضى تمام ملكه ومالكيته وقهاريته.
ويمكن الاستدلال على تحقق الشفاعة بالقاعدة المسلّمة بين الفلاسفة من أنّ الخير المحض بل الخير بالإضافة مقدّم على الشر وقد قرّرها الله جل جلاله بقوله : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) [هود ـ ١١٤] ، فأنبياء الله تعالى ـ سيّما أشرفهم وسيدهم ـ وأولياؤه المنقطعون إلى الله من كلّ جهة وبتمام معنى الانقطاع من الخير المحض فينعدم بوجوداتهم المقدسة الشر بإذن الله تعالى ولا معنى للشفاعة إلا هذا.
الشفاعة وشروطها :
يستفاد من مجموع الأدلة : أنّ للشفاعة أهمية كبرى ومنزلة عظمى فهي الأولى من مراتب الكمالات الإنسانية وأوسع باب من أبواب الجنة الإلهية يرغب كلّ فرد إليها ، ويرجوها في الدنيا والآخرة ، ولكن لا يمكن أن ينالها كلّ أحد الا إذا توفرت فيه شروط خاصة ، لأنّ الشفاعة لا تخلو عن كونها توسط الأسباب ولا يمكن أن تكون مطلقة والا لزم بطلان قانون السببية واختلال النظام ، ويدل عليه
ما عن حفص المؤذن عن أبي عبد الله (عليهالسلام) : «واعلموا أنّه ليس يغني عنكم من الله أحد من خلقه لا ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل ولا من دون ذلك من سرّه أن ينفعه شفاعة الشافعين عند الله فليطلب
إلى الله أن يرضى عنه»
وشروطها هي :
الأول : يعتبر في مورد الشفاعة أن يكون الذنب باقيا إلى يوم القيامة فلو سقط بالتوبة والاستغفار أو التكفير بإتيان الحسنات لقوله تعالى : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) [هود ـ ١١٤] ، أو الحدود الشرعية فإنّه لا موضوع للشفاعة حينئذ واعتبار ذلك من الشروط مسامحة لأنّه محقق لأصل موضوعها. ويدل عليه ما روي عن الكاظم عن آبائه (عليهمالسلام) عن النبي (صلىاللهعليهوآله) قال : «إنّما شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي».
الثاني : يعتبر فيها إذن الله تعالى في مورد الشفاعة وموضوعها والمشفوع له ، والشفيع فليس لكل أحد أن يشفع في كلّ أمر ولكلّ أحد وقد تقدمت الأدلة على ذلك. وفي تفسير القمي في قوله تعالى : (وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) قال (عليهالسلام) : «لا يشفع أحد من أنبياء الله ورسله يوم القيامة حتّى يأذن الله له ـ الحديث ـ» وتقتضيه قاعدة انحصار الأمر فيه تعالى يوم القيامة.
الثالث : أن يكون المشفوع له من المؤمنين المذنبين ويدل عليه قوله تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) [المدثر ـ ٣٨ ـ ٤٨].
ويستفاد من هذه الآيات الشريفة أنّ سبب عدم كونهم أهلا للشفاعة لهم. هو عدم الإيمان والخوض في الملاهي وزخارف الدنيا والركون إليها التي تكون صارفة عن الإقبال على الله تعالى والإيمان بيوم الدّين والجزاء فإذا لم يكن هذا السبب فلا مانع من شمول الشفاعة له إذا كان مذنبا وهو من أصحاب اليمين وهم الذين ارتضى لهم دينهم وأما أعمالهم فقد تكون مرضية وهم المذنبون الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا فأولئك هم المرجون للشفاعة.
فيكون موردها هم المؤمنون بدين الحق الذين عملوا المعاصي والكبائر
فهم يدخلون النار بسبب أعمالهم ثم يخرجون منها بالشفاعة أو أنّها تمنعهم من دخول النار لأنّهم متفاوتون في نيل الشفاعة ودرجاتها ، ويشهد لما ذكرنا ما روي عن الكاظم عن أبيه عن آبائه (عليهمالسلام) عن النبي (صلىاللهعليهوآله) قال : «إنّما شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي فأما المحسنون فما عليهم من سبيل. قيل : يا ابن رسول الله كيف تكون الشفاعة لأهل الكبائر والله تعالى يقول : ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ومن ارتكب الكبيرة لا يكون مرتضى؟!! فقال (عليهالسلام) : ما من مؤمن يرتكب ذنبا إلّا ساءه ذلك وندم عليه ، وقال النبي (صلىاللهعليهوآله) : كفى بالندم توبة وقال (صلىاللهعليهوآله) : من سرته حسنته وسائته سيئته فهو مؤمن ، فمن لم يندم على ذنب يرتكبه فليس بمؤمن ولم تجب له الشفاعة وكان ظالما والله تعالى ذكره يقول : (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) فقيل له : يا ابن رسول الله وكيف لا يكون مؤمنا من لا يندم على ذنب يرتكبه؟ فقال : ما من أحد يرتكب كبيرة من المعاصي وهو يعلم أن سيعاقب عليه إلا ندم على ما ارتكب ، ومتى ندم كان تائبا مستحقا للشفاعة ، ومن لم يندم عليها كان مصرّا ، والمصرّ لا يغفر له ، لأنّه غير مؤمن بعقوبة ما ارتكب ولو كان مؤمنا بالعقوبة لندم وقد قال النبي (صلىاللهعليهوآله) : لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار والدّين الإقرار بالجزاء على الحسنات والسيئات فمن ارتضى دينه ندم على ما ارتكبه من الذنوب لمعرفته بعاقبته في القيامة».
أقول : المراد من قوله (عليهالسلام) : «ما من مؤمن يرتكب ذنبا إلا ساءه ذلك وندم عليه» الندم الإجمالي الثابت في مرتبة الإيمان على كلّ ذنب في الجملة لا الندم التفصيلي الفعلي الالتفاتي على كلّ ذنب حتّى يكون موجبا لمحو الذنب كما قال (صلىاللهعليهوآله) : «كفى بالندم توبة» وحينئذ ينتفي موضوع الشفاعة كما ذكرنا ، ومثل هذا الندم الإجمالي من لوازم الإيمان في الجملة وهو مقتض لثبوت الشفاعة في يوم القيامة فهي تكون بمنزلة الجزء الأخير في العلّة التامة.
وقوله (صلىاللهعليهوآله) : «من سرّته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن»
يبيّن مرتبة الاقتضاء فقط كما مرّ لا الفعلية الالتفاتية التفصيلية.
وقوله (عليهالسلام) : «فمن لم يندم على ذنب يرتكبه فليس بمؤمن» يدل على نفي الندم مطلقا ولو على نحو الاقتضاء فيكون نفي الإيمان بنفي هذا الندم من باب انتفاء الملزوم بانتفاء اللازم ، فيصير مثل هذا الشخص متهاونا في التكاليف ومنهمكا في المعاصي كما يدل عليه قوله (عليهالسلام) بعد ذلك : «وهو يعلم أن سيعاقب عليه إلا ندم على ما ارتكب» حيث لا معنى للاعتقاد بالمبدإ والمعاد والتكاليف في الجملة إلا ذلك وكلّ ذلك من اللوازم والملزومات.
وقوله (عليهالسلام) : «ومتى ندم كان تائبا مستحقا للشفاعة» أي : تائبا على نحو الاقتضاء لا التوبة الفعلية من كلّ حيثية وجهة حتّى لا يبقى موضوع للشفاعة كما ذكرنا.
وبعبارة أخرى : الاعتقاد بالتوبة والندامة على المعصية غير حصول التوبة الفعلية ولذا كان مستحقا للشفاعة في الأول دون الثاني فإنّها تزيل موضوع الشفاعة.
وقوله (عليهالسلام) : «والدّين الإقرار بالجزاء على الحسنات والسيئات» يبيّن ما ذكرناه من التفصيل بين الموردين أي الاعتقاد بالتوبة وحصول الندامة الإجمالية والتوبة الفعلية الجامعة للشرائط والأولى موضوع الشفاعة وتكشف عن الإيمان أيضا بخلاف الثانية فإنّها رافعة لموضوعها.
والإقرار بالجزاء على الحسنات والسيئات من لوازم الاعتقاد بالمبدإ والمعاد كما أثبتناه سابقا.
والحاصل أنّ مثل هذا الحديث ظاهر في اعتبار هذا الشرط. وفي سياق هذا الحديث عدة أحاديث فلا بد في تحقيق الشفاعة للمشفوع له من السببية لها في الجملة ، فمن لم يؤمن بشريعة سيد المرسلين لا تناله شفاعته ولا شفاعة أحد ممن له الشفاعة ، إذ لا بد أن يكون هو بنفسه موجدا للمقتضي لها وبعد تحقق الموانع ـ وهي المعاصي والذنوب ـ التي تمنع من دخول الجنة
تصل النوبة إلى الشفاعة ويرشد إلى ذلك قوله تعالى : (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ) [التوبة ـ ٨٤] ، وهذه الآية المباركة تدل على حرمان مثل هذا الشخص الكافر بالله ورسوله عن الشفاعة لعدم حصول التسبب منه لها.
وبعبارة أخرى : موضوع الشفاعة مركب من أمرين حصول المقتضي على نحو الإجمال من المشفوع له في الدنيا. وتتميم اقتضاء هذا المقتضي من الشفيع في الآخرة كما عرفت أنّه مفهوم الشفاعة.
ما أورد على الشفاعة :
تقدم أنّ الشفاعة ثابتة بل هي حقيقة من الحقائق القرآنية لا يمكن إنكارها. وقد ذكرنا أنّها لا تثبت إلا بشروط خاصة فليست هي مطلقة مرسلة يمكن أن ينالها كلّ أحد فإنّ ذلك خلاف الحكمة المتعالية وقانون الجزاء والحساب وبطلان للسببية كما تقدم.
والشفاعة بالمعنى الذي قلناه مما تدل عليه الأدلة الأربعة ولا يسع أحد إنكارها ومع ذلك فقد أورد بعض على الشفاعة مناقشات وإشكالات واهية وإنّما هي نشأت من قلّة التدبر في الآيات الشريفة وما ورد في الشفاعة من السنة الشريفة ونحن نذكر جملة منها وهي :
الأولى : أنّ الشفاعة ليست إلا الدعاء فقط فما هو معتبر في الدعاء يعتبر فيها وما أورد عليه يرد عليها أيضا ، فليست لها حقيقة أخرى غير الدعاء فيجوز لكلّ أحد طلب الشفاعة.
والجواب عنها : أنّ كون الشفاعة هي الدعاء مما لا ينكر بل هو اعتراف بحقيقتها لكن الشفاعة هي دعاء الشفيع لدى المشفوع عنده للصفح عن المشفوع له. وكما أنّه لا استقلالية للدعاء بوجه أبدا وإنّما هو طريق محض لقضاء الحاجة والشفاعة أيضا كذلك ، فالجميع يرجع إلى التأثير من الله تعالى ولا مشاحة في مجرد الاصطلاح. هذا مضافا إلى أنّ اختلاف مفهوم الشفاعة مع مفهوم الدعاء أوضح من أن يخفى.
مع أنّه لو قلنا بأنّ الشفاعة هي الدعاء فقد دلّ الكتاب والسنة على أنّها مختصة بالله تعالى ولغيره بالإذن والارتضاء فليست هي كمطلق الدعاء من هذه الجهة وقد تقدم ما يرتبط بالدعاء في آية (١٨٦).
الثانية : أنّ القول بالشفاعة موجب لتجرّي الناس على المعاصي وإغراء لهم على المخالفة وارتكاب محارم الله تعالى وهو ينافي الغرض من بعث الأنبياء والمرسلين وهو سوق الناس إلى العبودية والطاعة فلا بد من تأويل ما ورد في الشفاعة لئلا توجب إغراء الناس بالفساد.
وهي مردودة أما أولا ـ فبالنقض بما ورد في شمول المغفرة والتوبة والرحمة قال تعالى : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) [الأعراف ـ ١٥٦] ، وقوله تعالى : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر ـ ٥٣] ، وقال تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء ـ ٥١] ، وما ورد في الاستغفار وغير ذلك من الآيات المباركة والروايات الدالة على سعة رحمته وغفرانه فهل يتصوّر أحد في أنّها موجبة للتجري والتمرد؟!! فكلّ ما يقال فيها يقال في الشفاعة أيضا.
وأما ثانيا ـ فبأنّ الأدلة الدالة على ثبوت الشفاعة إنّما تدل عليها بالإهمال والإجمال فلم يعيّن فيها نوع الجرم الذي تجري فيه الشفاعة ولا المجرم الذي تناله الشفاعة بل كانت مبهمة من هذه الجهة بحيث تجعل الناس بين الخوف والرجاء ، فلا تكون موجبة للتجرّي والتمرد وهذا هو دأب القرآن في جعل الإنسان بين الخوف من ارتكاب المعاصي والتمرد على الأحكام والرجاء حذرا من القنوط واليأس من روح الله تعالى ، بل يمكن أن تكون الشفاعة بهذا النحو من موجبات الانقلاع عن المعصية ، ويدل على ما ذكرنا ما رواه حفص المؤذن عن أبي عبد الله (عليهالسلام) في رسالته لأحبائه : «واعلموا أنّه ليس يغني عنكم من الله أحد من خلقه لا ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل ولا من دون ذلك من سرّه أن ينفعه شفاعة الشافعين عند الله فليطلب إلى الله أن يرضى عنه» والمستفاد من هذه الرواية أنّ الإنسان لا بد أن يكون مراقبا لنفسه لئلا يقع في
سخط الله تعالى فإنّه لا تنفعه شفاعة الشافعين هذا مع أنّا اشترطنا في تحقق الشفاعة وجود أصل الإيمان في الجملة.
الثالثة : أنّ أقصى ما يستفاد من الأدلة الدالة على ثبوت الشفاعة هو إمكانها دون وقوعها بل إنّ في أصل دلالة العقل عليها منعا ، وأما النقل فإنّ ما ورد في الكتاب الكريم إما أن يدل على نفي الشفاعة مطلقا مثل قوله تعالى : (لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ) [البقرة ـ ٢٥٥] ، أو يدل على نفي الأثر عنها مثل قوله تعالى : (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) [المدثر ـ ٤٨] ، أو ما ورد فيه الاستثناء كقوله تعالى : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) [الأنبياء ـ ٢٩] ، وقوله تعالى : (إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) [يونس ـ ٣] ، وقوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) [البقرة ـ ٢٥٦] ، وجميع ذلك يرجع إلى النفي كما في أمثال ذلك مما ورد فيه الاستثناء بالمشية فإنّه يستعمل في القرآن في مقام النفي القطعي وهو كثير قال تعالى : (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) [هود ـ ١٠٧] ، هذا حال القرآن الكريم. وأما السنة الشريفة فإنّه لا يمكن التعويل عليها أيضا مع أنّها لا تزيد على الكتاب الكريم دلالة.
والجواب عنها يظهر بعد الإحاطة بما ذكرناه في مفهوم الشفاعة ودلالة الأدلة التي أقيمت على ثبوتها ، وذكرنا أنّ الآيات المباركة النافية لمطلق الشفاعة أنّها تنفيها عند عدم المقتضي أو وجود المانع ولا يقول أحد بالشفاعة حينئذ وأما الشفاعة المطلوبة إنّما هي عند وجود شروطها أو أنّها تنفيها عن غيره تعالى.
وأما الآيات النافية لأثر الشفاعة فإنّما هي تنفيه في مورد خاص وهو خصوص المجرمين المنكرين للجزاء والدّين فهي في الواقع تثبت الشفاعة في غير المورد المنفي فيه أثر شفاعة الشافعين ، فالآية الشريفة على ثبوتها أدل.
وأما الآيات المشتملة على الاستثناء فهي واضحة في أنّها تدل على ثبوت الشفاعة لمن أذن له الرحمن والقول بأنّها تدل على مجرد الاستثناء الدال على النفي القطعي اجتهاد في مقابل النص الصريح وشبهة واهية لا يمكن
الإصغاء إليها ، وأما السنة فهي متواترة صريحة في المطلوب وقد تقدم شطر منها.
الرابعة : أنّ الآيات المباركة الدالة على ثبوت الشفاعة إنّما هي آيات متشابهات وليس للعقل فيها سبيل فلا بد من إرجاع علمها إلى الله تعالى كما أمرنا بذلك.
والجواب عنها : أنّ الآيات الدالة على تحقق الشفاعة ليست من المتشابهات بل هي من المحكمات بعد رد بعضها إلى بعض والعقل يدل عليها بوضوح كما عرفت سابقا.
الخامسة : أنّ الشفاعة في رفع العقاب بعد الاستحقاق إما أن تكون عدلا أو ظلما وعلى الأول يستلزم كون تشريع أصل الحكم ظلما وهو قبيح بالنسبة إليه تعالى وعلى الثاني كانت الشفاعة ظلما وهو لا يليق بالنسبة إلى المشفوع عنده والأنبياء الشافعين.
وهو باطل : لأنّ تشريع الأحكام حق وعدل وليس غاية تشريع الأحكام أو الغرض منه خصوص الامتثال فقط بل لها حكم ومصالح كثيرة أخرى مثل تكميل العباد وامتحانهم ومنها إظهار سعة رحمته بعد المخالفة إلى غير ذلك من الحكم مضافا إلى ما تقدم في مفهوم الشفاعة من أنّها لا تغيّر الحكم بل توجب العفو عن المجرم بعد شمول العقاب له فيكون الحكم والشفاعة ورفع العقاب كلّها عدلا.
ومن ذلك يظهر الجواب عما يقال : من أنّ الشفاعة في رفع العقاب عن المجرمين موجبة للاختلاف في الفعل واستلزام نقض الغرض المنافي للحكمة فإنّ بطلانه واضح لأنّه تحديد للأغراض الواقعية بنظر الإنسان وقدر إدراكه مع أنّ الواقع أعم من ذلك كما ثبت بالبراهين العقلية في الفلسفة. والشفاعة من الأسباب التي جعلها الله تعالى لينال عباده الرحمة والغفران كما عرفت.
الشفعاء :
الشفاعة ثابتة بالأصالة لله تعالى ولغيره عزوجل بإذنه ورضاه ويستفاد من
الكتاب والسنة أنّ الشافعين في العباد متعددون وكثيرون ونتعرض لجملة منهم.
والشافع الحقيقي بالذات : هو الله تبارك وتعالى ، فهو في التكوين بمعنى جعل الأسباب على مقتضى الحكمة وفي التشريع العفو وإسقاط العقاب ، أو رفع الدرجات كما في جميع أسمائه المباركة الحسنى فإنّه تعالى هو الرزّاق والرّحيم والغفور والودود إلى غير ذلك ، وهي لا تنافي وجود الوساطة بل الوسائط في ظهورها للخلق ومظهرية الكلّ لها وهكذا بالنسبة إلى الشفاعة بمعنى الشافعية والشفيع في حقه عزوجل وعلى ذلك جرت مشيته المقدسة على انتظام النظام الأحسن بأسبابها قلّت أو كثرت ، فإنّ مبدأ الكلّ عنه ، ومرجع الكلّ إليه ، وحقيقة كلّ موجود تنطق بلسان الحال (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) [البقرة ـ ١٥٦] ، ولكن لا نفقه هذا النطق وإن برز ذلك لمن علم الأسرار وارتفعت عنده الحجب والأستار ، ويدل على ذلك جملة من الأخبار ، ففي جملة من الدعوات المعتبرة «وأستشفع بك إلى نفسك» و «اللهم إنّي أستشفع بك إليك».
ومن أسمائه الحسنى : الشافع والشفيع وقال تعالى : (قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً) [الزمر ـ ٤٤] ، فهو الشفيع المحض في الحقيقة وفي الحديث عن الرضا عن آبائه (عليهمالسلام) عن رسول الله (صلىاللهعليهوآله) : «إذا كان يوم القيامة تجلّى الله عزوجل لعبده المؤمن فيوقفه على ذنوبه ذنبا ذنبا ثم يغفر الله له لا يطلع الله له ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا ويستر عليه ولا يطلع عليه أحد ثم يقول لسيئاته كوني حسنات».
وإذا تأملنا في حقيقة الشفاعة فيه جلّ جلاله فإنّها ترجع إلى رازقيته تعالى ، لأنّ الرازقية لا تختص بعالم دون عالم ولا بنوع خاص من الممكنات دون نوع بل هي تعم جميع ما سواه من مخلوقاته سواء المجردات والنفوس والماديات كلّ بحسبه وحياته كما يصف به نفسه قال تعالى : (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) [الفاطر ـ ٤١] ، فإنّ هذا الإمساك ليس إمساكا خاصا ومن جهة
مخصوصة ، بل هو من جميع الجهات بكلّ ما يتصور من معنى الإمكان والحاجة.
فمعيته القيومية لجميع ما سواه حدوثا وبقاء ، وإفناء وتبديلا للصور إلى الأخرى هذا بالنسبة إلى المعية العامة لجميع ما سواه.
وله جلّت عظمته معية أخرى لأكرم خليقته وهو الإنسان الذي قال فيه : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً) [الإسراء ـ ٧٠] ، وهذه المعية هي التي تراد من قوله تعالى : (هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) [الحديد ـ ٤] ، فإنّها معية خاصة تشمل عالم انحصار الأسباب إلا فيه والانقطاع إلا إليه ، وهل يعقل للرزق حينئذ معنى أجل وأدق وأفضل من نجاة نفوس محتاجة غاية الاحتياج إليه في شدائد الأهوال وتبدلات الأحوال!!
ويمكن إرجاع ذلك إلى الرحمة الواسعة التي شملت ما سواه.
أو إلى الرأفة فإنّ جميع ذلك من أسمائه الحسنى وصفاته العليا وفي ذلك يشير ما ورد عن الصادق (عليهالسلام) : «إذا كان يوم القيامة نشر الله تبارك وتعالى رحمته حتى يطمع إبليس في رحمته».
والشفيع الثاني هو سيد الأنبياء والمرسلين محمد بن عبد الله الذي هو مبدأ للنبوات السماوية في علم الله تعالى والعلّة الغائية ولا بد من تقدمها في العلم ، فإنّه الشفيع المطلق بعد الباري عزوجل ولذا صار شهيدا على الجميع قال تعالى : (يَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ) [النحل ـ ٨٩] ، فالشفاعة تنزل على نبينا الأعظم (صلىاللهعليهوآله) ومنه إلى غيره لأنّ له المقام المحمود ـ قال تعالى : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) [الإسراء ـ ٧٦] المفسّر بمقام الشفاعة في عدة من الأخبار وكذلك قوله تعالى : (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) [الضحى ـ ٥] ، وقد وردت روايات متواترة من الجمهور وغيرهم في ثبوتها له (صلىاللهعليهوآله) بل يمكن أن يعد من ضروريات الدّين ففي الحديث المعروف :
«ادخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي» وفي تفسير العياشي عن أحدهما (عليهماالسلام) في قوله تعالى : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) قال (عليهالسلام) : «الشفاعة».
ومن الشافعين في العباد : الوسائط التكوينية والأسباب الطبيعية فإنّها شفعاء عند الله تعالى ووسائط بينه عزوجل وبين خلقه قال تعالى : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) [البقرة ـ ٢٥٥] ، فإنّ جعل الشفاعة بإذنه بعد مالكيته لما في السّموات والأرض يدل على أنّها إنّما تكون في التكوينيات ، بل يمكن أن يكون شيء بوجوده التكويني شافعا في هذا العالم قبل قيام الساعة وانسداد باب التوبة ورفع الحجة عن الأرض وذلك قبل القيامة بأربعين يوما ، ويدل على ذلك قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الأنفال ـ ٣٣] ، وما ورد عن نبينا الأعظم (صلىاللهعليهوآله) : «لو لا شيوخ ركع ، وبهائم رتع ، وأطفال رضع ، لصب العذاب عليكم ـ الحديث ـ» وما ورد في الكعبة والقرآن من أنّهما أمانان لأهل الأرض وغير ذلك ويأتي في الموضع المناسب شرح ذلك إن شاء الله تعالى.
ومنهم : الوسائط التي توجب المغفرة من الله عزوجل أو القرب إليه كالتوبة قال تعالى : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) [الزمر ـ ٥٤] ، وقد تقدم البحث في التوبة في أحد مباحثنا بالتفصيل ، وعن عليّ (عليهالسلام) : «لا شفيع أنجح من التوبة».
ومنهم الإيمان قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ) [الحديد ـ ٢٨] ، والآيات في ذلك كثيرة وفي الحديث عن نبينا الأعظم (صلىاللهعليهوآله) في أخبار متواترة «كلمة لا إله إلا الله حصني فمن دخل حصني أمن من عذابي».
ومنهم الأعمال الصالحة سواء كانت من نفس المشفوع له أو من غيره :
أما الأول ـ فيدل عليه آيات من الذكر الحكيم قال تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) [المائدة ـ ٩].
وأما الثاني ـ فقد ورد في الحديث المتواتر عن نبينا الأعظم (صلىاللهعليهوآله) : «يلحق بالميت كلّ عمل خير يؤتى له بعد موته من الصّلاة والصّيام والحج والصدقة حتّى إنّه ربما كان في ضيق فيوسع له بذلك» وعنه (صلىاللهعليهوآله) أيضا : «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أو ولد صالح يدعو له بعد موته ، أو مصحف يقرأ فيه» ونظير ذلك أخبار كثيرة.
ويمكن القول بأنّ هذه الأخبار بإطلاقها تشمل الشفاعة في عالم البرزخ أيضا سواء في تخفيف العذاب أو رفع الدّرجات في ذلك العالم ولا محذور فيه من عقل أو نقل ، وعليه شواهد كثيرة من الأخبار يأتي ذكرها في الموضع المناسب.
ومنهم القرآن الكريم قال تعالى : (يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [المائدة ـ ١٦] ، وفي الحديث أنّه يقال لقارئ القرآن : «اقرأ وارق» أي ارق في الدّرجات.
ومنهم الملائكة قال تعالى : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) [المؤمن ـ ٧] ، وقال تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الشورى ـ ٥] ، وقال تعالى : (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى) [النجم ـ ٢٦] ، وغير ذلك من الآيات الشريفة الدالة على ثبوت الشفاعة للملائكة منطوقا ومفهوما.
ومنهم سائر الأنبياء والمرسلين فإنّ لهم الشفاعة أيضا وما ورد في بعض الروايات من أنّ الأنبياء إنّما يرجعون إلى نبينا الأعظم (صلىاللهعليهوآله)
في ذلك فيصح أن يقال : إنّ لهم الشفاعة بعد الإذن من سيد الأنبياء وليس لهم تلك قبل الاستيذان منه كما تقدم في بعض الروايات فإنّ لهم القابلية والاستعداد لهذه المنزلة الكريمة والمقام العظيم فقد ذكرنا أنّه ليس كلّ أحد ينال هذه الموهبة الإلهية بل لا بد من الاستعداد الذاتي الذي لا يعلمه إلا الله تعالى.
نعم ، يمكن الحصول على هذا الاستعداد بالإيمان والأعمال الصالحة والمجاهدات الحقة ، ولذلك تختلف مراتب الشفاعة حسب اختلاف الاستعدادات وتشتد مراتبها كما وكيفا باشتداد مراتب المعارف المعنوية التي يحيط بها نفس الشافع ، وأصل ذلك كلّه شروق نور أزلي على النفس فيضيء وتستضيء منه النفوس المستعدة فهو الشافع الشفيع ، وهو النور المضيء ، وبأنواره تجلّت قلوب العارفين وبها حصلت بشارة المخبتين ومنها تتلألأ سيماء المؤمنين والجميع يسرعون حسب مقاماتهم ودرجاتهم إلى جنات النعيم فلا أول لهم إلا من الله ولا آخر لهم إلا إليه فهم أظهروا حقيقة العبودية فأحاطت بهم العنايات الربوبية ، وكشفت عن بصائرهم الحجب فادهشوا بما أدركوا من أنوار رب الأرباب.
ترى المحبّين صرعى في ديارهم |
|
كفتية الكهف لا يدرون كم لبثوا |
ومن ذلك يظهر أنّ كلّ من سعى بحسب جهده إلى الوصول إلى هذا المقام ينال هذه الموهبة الإلهية والفيض الرباني سواء في ذلك الأنبياء والأوصياء والعلماء والمؤمنون كلّ حسب استعداده.
وعلى ذلك يحمل ما ورد من الاختلاف في شفاعة الأنبياء ورجوعهم إلى نبينا الأعظم (صلىاللهعليهوآله) فإنّه إمامهم وهو أكملهم وله المقام المحمود ففي الحديث في قوله تعالى : (وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) قال (عليهالسلام) : «لا يشفع أحد من أنبياء الله ورسله حتّى يأذن الله له إلا رسول الله فإنّ الله أذن له في الشفاعة قبل يوم القيامة والشفاعة له ثم من بعد ذلك للأنبياء» وتقدم ما يدل على ذلك.
ومنهم بنت خاتم الأنبياء وسيدة النساء الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء
(سلام الله عليها) ذكر السيوطي في الدر المنثور والعسكري في المواعظ والمتقي الهندي في كنز العمال عن جابر : «أنّ رسول الله (صلىاللهعليهوآله) رأى على فاطمة (سلام الله عليها) كساء من أوبار الإبل وهي تطحن ، فبكى وقال : يا فاطمة اصبري على مرارة الدنيا لنعيم الآخرة غدا ، ونزلت (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى).
وروى محب الدّين الطبري في ذخائر العقبى عن عليّ (عليهالسلام) قال : «قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) لفاطمة : يا فاطمة تدرين لم سمّيت فاطمة؟ قال عليّ : يا رسول الله لم سميت فاطمة؟ قال : قد فطمها وذريتها عن النار يوم القيامة» أخرجه الحافظ الدمشقي أيضا والروايات بهذا المعنى متواترة بين المسلمين. وأخرج النسائي عن نبينا الأعظم (صلىاللهعليهوآله) : «وإنّما سماها فاطمة لأنّ الله عزوجل فطمها ومحبيها عن النار».
بل إنّ شفاعة سيدة النساء من شفاعة سيد الأنبياء (صلىاللهعليهوآله) لما رواه الجمهور وغيرهم بأسانيد متواترة عنه (صلىاللهعليهوآله) : «فاطمة بضعة منّي» وليس المراد من لفظ «البضعة» الجزء الخاص كاليد والعين والقلب بل المراد الجزء السرياني في بدنه الأقدس من حيث تعلق الروح المقدّسة المؤيدة بروح القدس ، ويشهد لما قلناه أنّ علمها من علمه (صلىاللهعليهوآله) وقد أجمع أولادها المعصومون (عليهمالسلام) على أنّ عندهم مصحف فاطمة بل كانوا يفتخرون به وهو من إملاء رسول الله (صلىاللهعليهوآله) وخطّ عليّ (عليهالسلام) بيده وفيه علم ما كان وما يكون كما في الروايات ولا يعقل الانفكاك بين البضعة السريانية والكل.
ومنهم الأئمة الهداة (صلوات الله عليهم أجمعين) فإنّ لهم مقام الشفاعة في الآخرة والنصوص في ذلك متواترة بين المسلمين عموما وخصوصا.
ومنهم العلماء والشهداء ففي الحديث عن نبينا الأعظم (صلىاللهعليهوآله) : «ثلاثة يشفعون إلى الله عزوجل فيشفّعون : الأنبياء ثم العلماء ، ثم الشهداء» ولعلّ الترتيب محمول على ترتب مقامهم عند الله عزوجل ، وعن
الصادق (عليهالسلام) : «إذا كان يوم القيامة بعث الله العالم والعابد فإذا وقفا بين يدي الله عزوجل قيل للعابد : انطلق إلى الجنة. وقيل للعالم : قف تشفع للناس بحسن تأديبك لهم».
ومنهم المؤمن حتّى السّقط منه ففي الحديث عن النبي (صلىاللهعليهوآله) : «تناكحوا وتناسلوا فإنّي أباهي بكم الأمم ولو بالسقط يجيء محبنطئا على باب الجنة فيقال له : أدخل فيقول : لا حتّى يدخل أبواي ـ الحديث ـ».
أقول : المحبنطئ : العظيم البطن يعني امتلأ جوفه غيظا وفي الرواية بحث يأتي التعرض له في محلّه إن شاء الله تعالى.
وفي تفسير العياشي عن عبيد بن زرارة قال : «سئل أبو عبد الله عن المؤمن هل له شفاعة؟ قال (عليهالسلام) : نعم ، فقال له رجل من القوم : هل يحتاج المؤمن إلى شفاعة محمد (صلىاللهعليهوآله) يومئذ قال (عليهالسلام) : نعم ، إنّ للمؤمنين خطايا وذنوبا وما من أحد إلا ويحتاج إلى شفاعة محمد يومئذ ـ الحديث ـ».
وفي تفسير العياشي أيضا عن أبان بن تغلب قال : «سمعت أبا عبد الله (عليهالسلام) يقول : إنّ المؤمن ليشفع يوم القيامة لأهل بيته فيشفّع فيهم حتّى يبقى خادمه فيرفع سبابتيه فيقول : يا رب خويدمي كان يقيني الحرّ والبرد فيشفع عنه».
الشفاعة ومتعلّقها :
قد عرفت أنّ الشفاعة إما أن تكون تكوينية فهي تتعلّق بكلّ شيء في عالم التكوين وإما أن تكون تشريعية تتعلّق بالثواب والعقاب وهذه على درجات :
فمنها ـ ما تتعلق بكلّ ما يوجب العقاب حتّى الشرك بالله تعالى وهي التوبة والإيمان بالله ورسوله.
ومنها ـ ما تتعلق ببعض الذنوب والتبعات كالأعمال الصالحة قال تعالى : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) [هود ـ ١١٤].
ومنها : الشفاعة المعروفة في يوم القيامة وهي شفاعة الأنبياء والمرسلين ومن تقدم ذكره وهي الشفاعة الكبرى وهي تتعلق بالكبائر مطلقا سواء كان موردها حق الله سبحانه وتعالى أو حق الناس أو هما معا ويدل على ذلك ما رواه سليمان بن داود عن الرضا عن آبائه (عليهمالسلام) قال : «قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) : إذا كان يوم القيامة ولينا حساب شيعتنا فمن كانت مظلمته فيما بينه وبين الله عزوجل حكمنا فيها فأجابنا ومن كانت مظلمته فيما بينه وبين الناس استوهبناها فوهبت لنا ، ومن كانت مظلمته فيما بينه وبيننا كنا أحق من عفا وصفح» هذا ولكن ورد في السنة الشريفة أنّ بعض الذنوب لا تتعلّق به الشفاعة فتكون هذه الأخبار تخصيصا لعمومات الشفاعة ونشير إلى بعضها.
منها : الاستخفاف بالصّلاة ففي الحديث عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليهالسلام) قال : «قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) لا ينال شفاعتي من استخف بصلاته لا يرد عليّ الحوض لا والله» وعن أبي بصير أيضا قال : «دخلت على أم حميدة أعزيها بأبي عبد الله (عليهالسلام) فبكت وبكيت لبكائها ثم قالت : يا أبا محمد لو رأيت أبا عبد الله (عليهالسلام) عند الموت لرأيت عجبا فتح عينيه ثم قال : اجمعوا كلّ من بيني وبينه قرابة : قالت : فما تركنا أحدا إلا جمعناه فنظر إليهم ثم قال : إنّ شفاعتنا لا تنال مستخفّا بالصلاة» والروايات في ذلك متواترة.
ومنها : شرب الخمر فعن نبينا الأعظم (صلىاللهعليهوآله) : «ليس منّي من استخف بصلاته لا يرد عليّ الحوض لا والله ، ليس منّي من شرب الخمر لا يرد عليّ الحوض» والروايات في ذلك كثيرة.
ومنها : سوء الخلق فعن السكوني عن أبي عبد الله (عليهالسلام) قال : «قال النبي (صلىاللهعليهوآله) : أبي الله لصاحب الخلق السيّئ بالتوبة قيل : وكيف ذاك يا رسول الله؟ قال : لأنّه إذا تاب من ذنب وقع في ذنب أعظم منه» وعنه (صلىاللهعليهوآله) أيضا : «إياكم وسوء الخلق فإنّ سوء الخلق في النار لا محالة» وغير ذلك من الروايات.
ومنها : قتل النفس المحترمة فعن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليهالسلام) : «لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما قال (عليهالسلام) : ولا يوفّق قاتل المؤمن متعمدا للتوبة» وعن ابن أبي عمير عن سعيد الأزرق عن الصادق (عليهالسلام) : «في رجل قتل رجلا مؤمنا يقال له : مت أيّ ميتة شئت إن شئت يهوديا وإن شئت نصرانيا وإن شئت مجوسيا» وقد ورد شبه هذا التعبير في التسويف بالحج أيضا.
ومنها : المبادرة إلى ارتكاب المعاصي وإتيان المحرّمات اعتمادا على شفاعة سيد الأنبياء لامته فإنّ شمول أدلة الشفاعة لهذه الصورة ممنوع ويستفاد ذلك من خبر حفص المؤذن السالف ذكره.
ولكن مع ذلك كلّه فإنّ الشفاعة أمر غيبيّ لا تنالها الحدود ، والله يغفر لمن يشاء ويعذّب من يشاء.
زمان الشفاعة :
تقدم ما يتعلّق بالشفاعة بقسميها والحق عدم اختصاصها بزمان خاص فهي تعم جميع ما يرد على الإنسان من العوالم سواء في الدنيا والحشر والنشر ومواقف القيامة حتّى يتحقق الاستقرار في دار القرار وقضاء الله الحتم بالخلود في الجنة أو النار.
ولكن يستفاد من مجموع الأدلة الواردة في الشفاعة أنّ الشفاعة الكبرى إنّما هي بعد الحشر فهي تختص بالآخرة كما تدل عليه الأدلة النقلية وهي إما أن تتعلّق بالعصاة الذين دخلوا النار فينتفعون بها ويخرجون من النار كما يدل عليه الحديث الوارد في الجهنميين ومرّ ذكره ، وإما أن تتعلّق بالعصاة وأصحاب الكبائر قبل دخول النار ، فيكون تأثيرها إسقاط العذاب وتقدم ما يدل على ذلك أيضا.
وأما الشفاعة في الدنيا ـ فإنّ بعض إطلاقات الأدلة الواردة في الشفاعة يدل على ثبوتها فيها ولا محذور فيه من عقل ، فإنّه بعد إذنه تعالى عن علم أنّه أهل للشفاعة لا تختص بعالم دون آخر ويدل على وقوعها بعض الآيات