مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة أهل البيت (ع)
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥١٦

الشريفة قال تعالى : (وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ) [الأعراف ـ ١٣٥] ، والظاهر من الآية الشريفة أنّهم طلبوا شفاعة موسى (عليه‌السلام) في رفع العذاب عنهم. هذا بالنسبة إلى الشفاعة التشريعية المتعلّقة بالثواب والعقاب.

وأما الشفاعة التكوينية ـ فإنّها واقعة في هذه الدنيا ولا يمكن إنكارها ، فإنّ الدنيا عالم الأسباب وقد ذكرنا أنّ الإيمان بالله تعالى والأعمال الصالحة وغيرهما من الأسباب إنّما هي شفعاء بين العبد وبين الله تعالى ويدل عليه قوله تعالى : (مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً) [النساء ـ ٨٥] ، وتقدم ما يرتبط بذلك فراجع.

ومن ذلك رجوع أهل الإيمان إلى نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وأولياء الله تعالى الذين لهم قدم راسخ في مراتب الإيمان فإنّ ذلك من الشفاعة عند الله تعالى لنيل المقاصد ونجح المطالب وليس من الشرك كما يدعيه بعض ، بل هما موضوعان مختلفان فإنّ إذن الله للواسطة ينفي الشرك ويسقطه بالمرة وهو يرجع إلى جعل من ارتضاه الله تعالى واسطة لأن يدعو في رفع العذاب كما تقدم في الآية السابقة من طلبهم من موسى أن يدعو في رفع العذاب عنهم ولا يتوهم المؤمن الذي يتوسل بالوليّ أنّ له جهة موضوعية في رفع المخاطر والأضرار أو في إتيان النفع وإلا فهو من الشرك في مرتبة توحيد الفعل الذي ينافي لا حول ولا قوة إلا بالله لا في مرتبة المعبودية حتى ينافي لا إله إلا الله ، وبينهما فرق كبير ، كما لا يخفى على الخبير ، فطلب الشفاعة ممن أذن له الله تعالى في الشفاعة ليس من العبادة له حتّى يشمله قوله تعالى : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر ـ ٣] ، وليس ذلك بعادم النظير ، فإنّ قراءة القرآن في شفاء مرض والتقرب به إلى الله تعالى والتّداوي بالأدوية التي خلقها الله تعالى لشفاء الآلام والأسقام وغير ذلك ليس من الشرك ولا يتوهمه أحد في ذلك وكذا في المقام ويأتي تتمة الكلام في الآيات

٢٤١

المناسبة إن شاء الله تعالى.

وأما عالم البرزخ الذي يتوسط بين عالم الدنيا والقيامة فإنّ الوجوه المتصوّرة فيه هي : إما أن تكون الشفاعة في عالم البرزخ من نفس الموجودين فيه ، أو من الدنيا فيه ، أو من الآخرة فيه ولا رابع في البين. والجميع لا موضوع له ، لأنّ مورد الشفاعة الكبرى إنّما هو بعد نصب الموازين يوم القيامة والحساب وثبوت استحقاق العقاب فإنّ بدعاء الشفيع يرفع العقاب بإذن الله تعالى. نعم ، بعض الأعمال الصالحة والخيرات من الأحياء في الدنيا للأموات توجب التوسعة عليهم إن كانوا في ضيق والأخبار في ذلك متواترة.

وقد ورد في بعض الروايات : أنّ الدفن في بعض الأمكنة المقدّسة كالدفن في الحرم الإلهي أو ظهر الكوفة يرفع جملة من المضايقات عن الميت ولكن ذلك ليس من الشفاعة المعهودة بل هو تصرّف وحكومة يمنحها الله تعالى لهم ، ولكن يستفاد من بعض الأدعية المأثورة أنّ التصرفات المعنوية في عالم البرزخ منحصرة بالله تعالى مثل ما ورد في الدعاء : «وتولّ أنت نجاتي من مسائلة البرزخ وادرأ عنّي منكرا ونكيرا وأرعيني مبشّرا وبشيرا» ويأتي في الموضع المناسب الكلام في عالم البرزخ.

الشفاعة في الأديان الإلهية :

لا تختص الشفاعة المعهودة بالإسلام بل هي ثابتة في سائر الأديان الإلهية وإن كان بينها تفاوت يسير في مفهومها وذلك يرجع إلى السّير التكاملي في المفاهيم الدينية وسائر الأمور كما قرّرناه في أحد مباحثنا السابقة مع أنّنا ذكرنا أنّ الشفاعة ليست وليدة دين خاص بل هي أمر اجتماعي قرّرها الإسلام والأديان الإلهية ويستفاد ذلك من أسفار التوراة والإنجيل ، ففي سفر أيوب من التوراة الإصحاح ٣٣ فقرة ٢٣ ما يدل على ذلك ، وكذلك في الإصحاح ٥ فقرة ١ وغير ذلك مما ورد فيه. وأما في الإنجيل فقد وردت هذه العبارة فيه كثيرا : «يسوع المسيح الذي بذل نفسه لأجل خطايانا لينقذنا». أو «يطهرك المسيح من الخطايا» وأنّ الشفاعة سرّ من أسرار الكنيسة.

٢٤٢

غاية الشفاعة :

للشفاعة غايات وفوائد متعدّدة نذكر المهمّ منها :

فمنها : توجيه النفوس المستعدة إلى مقام النبوة خصوصا سيد الأنبياء الذي هو الأصل والأساس للشفاعة.

ومنها : أنّها توجه الناس إلى الصّالحين من عباد الله الذين أذن الله تعالى لهم بالشفاعة.

ومنها : ترغيب الناس إلى السّعي في صالح الأعمال والإخلاص فيها لعلّ الله تعالى يرضى عنهم ويجعلهم بأنفسهم من أهل الشفاعة.

ومنها : عدم يأس الناس من رحمة الله تعالى بعد رجائهم في الشفاعة.

ومنها : بقاء الناس في مقام الرجاء والخوف الذي حث عليه القرآن الكريم والأنبياء والمرسلون.

هذه هي أهم غايات الشفاعة وهناك فوائد أخرى تظهر للمتتبع في أدلة الشفاعة.

٢٤٣

بحث فلسفي

لا ريب في ثبوت السعادة والشقاوة للإنسان والأولى عبارة عن الخير للإنسان. والثانية تقابل ذلك. وللعلماء والفلاسفة فيهما أقوال ومذاهب. ومحصّل تلك هي : أنّه إذا لوحظ الإنسان بالنسبة إليهما يتصوّر على وجوه :

الأول : أن تكون السعادة ذاتية للسعيد ، والشقاوة ذاتية للشقي بالذاتي الحقيقي المعبّر في محلّه بالذاتي الايساغوجي.

الثاني : أن يكون كلّ واحد منهما ذاتيا له بمعنى كونهما من لوازم الذات ، كذاتية الزوجية للأربعة والفردية للثلاثة المعبّر عنه في محلّه بذاتي باب البرهان.

وهذان الوجهان باطلان في نظام التشريع لأنّ القول بهما ينافي الاختيار الذي يتقوّم به التشريع مطلقا كما دلّت عليه الأدلة العقلية والنقلية.

ولكن استند بعض إلى قول نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «الناس معادن كمعادن الذهب والفضة خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام ، وشرارهم في الجاهلية شرارهم في الإسلام».

ويرد عليه ما عرفت آنفا من أنّ القول به ينافي القواعد العقلية المتقنة الدالة على ثبوت الاختيار وأنّ التشبيه في الحديث الشريف إنّما هو من بعض

٢٤٤

الجهات دون جميعها.

الثالث : أن يكون من مجرد الاقتضاء لا الذاتي ، وهذا هو الصحيح الذي يستفاد من مجموع الأدلة الواردة في الطينة والميثاق ، والشقاوة والسعادة وهو الموافق للقواعد العقلية الدالة على ثبوت الاختيار في استحقاق الثواب والعقاب.

وحينئذ فالشفاعة الكبرى التي ذكرنا أنّها ثابتة لنبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) الذي هو واسطة الفيض ، وسائر الأنبياء والأوصياء إنّما هي في هذا القسم من السعادة والشقاوة ولا موضوع لها في الوجهين الأولين لعدم قابلية المحلّ لها ، وقد ذكرنا أنّها شرط في ثبوت الشفاعة ، ويدل على ذلك ما ورد في الشفاعة مثل قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «ادخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي» فإنّ المستفاد منه أنّ موردها الأفعال فلا تكون في مرتبة الذات والذاتيات فيكون مورد الشفاعة السعادة والشقاوة على الوجه الثالث فإنّه القابل للتغيير والتبديل بعروض الموانع.

وقد ذكرنا أنّ السعادة والشقاوة على درجات :

منها : ما يكون الإنسان فيهما بالغا إلى أقصى درجات الكمال.

ومنها : ما يكون الإنسان سعيدا ذاتا وشقيا فعلا ، وبالعكس.

ومنها : ما لا تتم له فعلية السعادة والشقاوة ولكن لا بد من زوال الهيئات الرديئة وبروز الحقيقة فإما أن ترزق التطهير فتزول الشقاوة العرضية ، أو تسلب السعادة العرضية وتظهر شقاوة النفس ، أو تكون مرجوة لأمر الله تعالى إن لم تكتمل في السعادة والشقاوة وفارقت الحياة ناقصة مستضعفة فالشفاعة في هذه المراتب والأقسام إنّما تزيل الهيئات الرديئة الشقية التي لزمت النفوس.

أما النفوس الكاملة في الشقاوة التي أثرت المعاصي والذنوب في ذاتها وانقلب المقتضي إلى الذاتي فلا موضوع للشفاعة فيها ، وهذا من إحدى الأصول التي بنى بعض أكابر الفلاسفة (رحمة الله عليه) المعاد الجسماني عليها وقال بعضهم :

٢٤٥

قد خمرت طينتنا بالملكة

وتلك فينا حصلت بالحركة

هذا موجز القول وسيأتي في الموضع المناسب تفصيله إن شاء الله تعالى.

٢٤٦

سورة البقرة

الآية ٢٥٥

(اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٢٥٥))

الآية الشريفة تقرر أعظم المعارف الإلهية وأهم أصل من أصول الدين الذي إليه يدعو جميع الأنبياء والمرسلين. وأنّ الاعتقاد به يجعل العبد في الصراط المستقيم ويحثه على العمل القويم ، يطلبه الإنسان بالفطرة ويترنم باسمه في كلّ حالة ألا وهو الله المعبود بالحق الواحد الأحد الذي اجتمع فيه جميع صفات الكمال.

وما في الآية الشريفة هو الحدّ الفاصل بين الاعتقاد الصحيح وغيره فقد قررت توحيد الله تعالى في الذات والمعبودية والصفات.

وقد وصفته بأصول صفات الكمال وهي الحياة ، والقيوميّة ، والمالكية ، والربوبية العظمى ، والعلم فلا تخفى عليه خافية في السموات والأرض ولا يحيط بعلمه أحد. وهذه هي أمهات الأسماء الحسنى وإليها يرجع سائرها وقد نزهت عنه جميع ما لا يليق بساحة كبريائه.

فهي تثبت المبدأ والمعاد للتلازم بينهما ، فتضمنت الآية الشريفة توحيد

٢٤٧

الله تعالى والصفات العليا والأسماء الحسنى وتنزيهه عما لا يليق به واتصافه بصفات الجمال والجلال على نحو يستشعر العبد بعظمته وكبريائه وحكمته وعلو قدره وعظم شأنه ، فيقف بين يديه خاضعا ذليلا مذعنا بوجوب طاعته والوقوف عند حدوده وأحكامه ، ونبذ ما لا يليق بساحة كبريائه والإعراض عمّا يسخطه ولا يرضى به ، فالمعتقد بها يؤمن بما ورد في القرآن الكريم وما جاء به سيد المرسلين.

فالآية المباركة بحق أعظم آية في كتاب الله المجيد ، وإنّها من كنوز العرش ، وإنّها تعدل ثلث القرآن.

ومن ذلك يعلم وجه الارتباط بما سبق وما يأتي من الآيات الشريفة.

٢٤٨

التفسير

٢٥٥ ـ قوله تعالى : (اللهُ).

الله : علم لواجب الوجود المعبود بالحق إله العالمين جلّ جلاله ، وهو أجل لفظ لأعظم معنى فوق ما نتعقله من معنى العظمة والجلال.

وتقدم في سورة الحمد ما يتعلق به ، وقلنا إنّه سواء كان اللفظ من وله بمعنى التحيّر ، لتحيّر جميع ما سواه فيه جلّ وعلا ، وأنّ غاية ما في وسع الجميع إنّما هي الإشارة إليه تعالى بهذا اللفظ العظيم وأمثاله من أسمائه المباركة ، وأما الحقيقة فدونها حجب كثيرة.

أو كان من أله بمعنى العبودية ، لكونه المعبود بالحق.

أو علم مختص به جلّ جلاله ، فإنّ جميع ذلك يستلزم أنّه متصف بجميع صفات الكمال ومنزّه عن النقائص والأوهام وقد نسب إلى نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «أنّ هذا هو الاسم الأعظم الذي يتأثر منه العالم».

قوله تعالى : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ).

نفي للمعبود مطلقا وحصر فيه جلّ وعلا ، بل نفي للحقيقة الحقة وإثبات لها فيه تعالى ، لأنّ غيره في معرض الزوال والفناء.

والإله هو الذات المتصفة بصفات الألوهية ، من وجوب الوجود والحياة

٢٤٩

والقدرة وغيرها.

أي : لا ذات تستحق الصفات الإلهيّة إلّا الله تعالى ، والضمير يرجع إلى اسم الجلالة الدال على الذات المقدّسة المتصفة بجميع صفات الجمال والجلال وقد تقدّم بعض الكلام في قوله تعالى : (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) [البقرة ـ ١٦٤].

ونزيد هنا : أنّ الوجه في إتيان الضّمير مفردا دون الجمع لما ذكرنا في أحد مباحثنا السابقة أنّه تعالى إذا كان في مقام بيان الصفات المقدسة العليا أو في مقام الرحمة والامتنان على العباد يأتي بالمفرد وإذا كان في مقام بيان القدرة والقهارية والكبرياء يأتي بضمير الجمع.

وقد كرّرت هذه الجملة المباركة المبتدأة باسم الجلالة والمنتهية بلفظ «هو» في ستة مواضع من القرآن الكريم أحدها المقام ، والثاني قوله تعالى : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) [آل عمران ـ ٣] ، والثالث قوله تعالى : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) [النساء ـ ٨٧] ، والرابع قوله تعالى : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) [طه ـ ٨] ، والخامس قوله تعالى : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) [النمل ـ ٢٦] ، والسادس قوله تعالى : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) [التغابن ـ ١٣]. وعن بعض المتتبعين أنّ لهذه الجملة المباركة آثارا عجيبة حصلت بالتجربة ، ويشهد لما ذكره (قدس‌سره) أنّ هذه الجملة في جميع الموارد التي ذكرت اقترنت بمهام الصّفات الجمالية والجلالية. ووحدته الحقة الحقيقية سرت إلى الألفاظ التي تطلق عليه عزوجل.

قوله تعالى : (الْحَيُ).

حصر للحياة فيه تعالى فهي فيه عزوجل حقيقية ذاتية لا أن تكون إضافية ، كما ستعرف.

أي : هو الحي فقط وغيره في معرض الزوال ومستمد منه عزوجل ، قال تعالى : (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) [طه ـ ١١١].

والحي من الصفات المشبّهة التي تدل على الثبوت والدوام كالرحيم

٢٥٠

والعليم أي : أنّه الحياة الثابتة ، ومفهوم الحياة معلوم وظاهر ، وهي التي تبتني عليها جميع الإحساسات والإدراكات ويلازمها العلم والقدرة وبانتفائها تتعطل جميع قوى الحي ومشاعره وأفعاله وهي على مراتب وأصولها الحياة الإنسانية والحيوانية والنباتية ، وحياة المجردات وقد ذكرها الله تعالى في كتابه الكريم في مواضع متعددة قال تعالى : (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) [الحديد ـ ١٧] ، وقال تعالى : (وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى) [الشورى ـ ٩].

وأقسامها ثلاثة : الحياة الدنيا ، والحياة البرزخية ، والحياة الآخرة ، وقد وردت في القرآن الكريم قال تعالى : (رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) [غافر ـ ٩] ، وسيأتي أنّ المراد من الحياتين الحياة البرزخية والحياة الآخرة.

وأما الحياة الدنيا ـ فقد وصفها الله تعالى بأوصاف مختلفة كلّها تدل على ذم هذه الحياة ورداءتها وزوالها بخلاف حياة الآخرة التي وصفها الله تعالى بأنّها الحياة الكاملة قال تعالى : (هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) [العنكبوت ـ ٦٤] ، كما وصفها بالأمن والخلود والهناء وعدم النقص في كلّ ما يرتبط بها قال تعالى : (آمِنِينَ لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) [الدخان ـ ٥٦] ، وهي أبدية لا غاية لها بحسب الآخر والمنتهى قال تعالى : (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) [هود ـ ١٠٨] ، ولكنّها محدثة مسبوقة بالعدم فهي الحياة الكاملة على الإطلاق ، ولكن مع ذلك هي مسخرة تحت إرادة الله تعالى مملوكة له عزوجل قال تعالى : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل ـ ٩٧].

فتكون حياته جلّت عظمته حياة حقيقية كاملة واجبة فيه عزوجل بريئة من النقص يستحيل عليها الموت والفناء قال تعالى : (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ) [الفرقان ـ ٥٨] ، وهي متقوّمة بالعلم والقدرة ولها مراتب غير متناهية لانتهائها إلى ما يكون عين ذات الله جلّت عظمته ولا مبدأ لأولها ولا منتهى لآخرها ، لأنّه أزليّ أبديّ بذاته ، وكذلك يكون ما هو عين ذاته أي الحياة

٢٥١

والعلم والقدرة.

وهذه الحياة منحصرة في الله تعالى وليست حياته حياة فردية شخصية بل هي حياة كلية حقيقية هي مبدأ حياة كلّ حيّ من حياة النبات والحيوان والإنسان والروحانيين ، والأرواح الشامخة والعقول المجردة بل وجميع ما سواه حتّى الجمادات فإنّ لها حياة خاصة لا ندركها كما يظهر من قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) [الإسراء ـ ٤٤] ، وقوله تعالى : (أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) [فصلت ـ ٢١] ، فإنّ جميعها مستمدة من تلك الحقيقة الواحدة البسيطة ، فتكون حياته عزوجل منشأ الأرواح وأصلها وبدوامها تدوم بلا فرق بين الأرواح العلوية والأرواح السفلية والجواهر المقدّسة الروحانية ، فهي منشأ الخيرات ومنبع البركات ، وهي الغيث المستغيث والغياث المستغاث في عالمي الأمر والخلق اللذين يجمعان جميع الممكنات.

والحيّ أم الأسماء الحقيقية المحضة كالقدرة ونحوها كما يأتي.

قوله تعالى : (الْقَيُّومُ).

حصر للقيّومية فيه عزوجل فقط قلبت الواو ياء بعد أن كان الأصل قيووما وادغمتا فصار قيوما للقياس المطرد على ما هو المعروف عند الأدباء ، كما أنّ أصل القيام القوام فعل به ما فعل بنظيره.

والقيوم من أسمائه الحسنى ومعناه : القائم بالأمر المتعهد بالحفظ والتدبير والمراقبة ، وقد أطلق عليه تعالى قبل الإسلام أيضا قال أمية ابن أبي الصلت :

لم تخلق السّماء والنجوم

والشمس معها قمر يقوم

قدّره مهيمن قيّوم

والحشر والجنة والنعيم

إلا لأمر شأنه عظيم

وهو تعالى قائم بأمر خلقه وتدبير شؤونهم عن علم تام وحكمة كاملة ، وهو دائم بدوام ذاته لا يعتريه ضعف ولا فتور.

وتستلزم القيمومة على خلقه جملة من الصفات العليا الحقيقية ذات

٢٥٢

الإضافة كالخلق والرزق ، والإحياء ، والإماتة ، والرحمة ، والغفران ونحو ذلك مما يتطلبه شؤون خلقه.

فهو من أمهات الأسماء ذات الإضافة ، والفرق بين الأسماء الحقيقية ذات الإضافة والإضافية المحضة يأتي في البحث الفلسفي إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى : (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ).

السّنة ـ بكسر السين ـ النعاس ، وهو الفتور الذي يعتري الإنسان قبل النوم وأصل السنة وسنة حذفت الواو.

والنوم معروف وهما ـ أي السّنة والنوم ـ متلازمان غالبا ولكن قد يطرأ النوم من دون أن تغلب السنة.

وقد نفى سبحانه وتعالى عن ذاته الأقدس كلا الأمرين لأنّ القيومية على خلقه تتطلب أن يكون قائما على تدبير خلقه في جميع الحالات والا كان من الخلف الباطل ، فلا مقتضي للنوم فيه جلّ جلاله بوجه من الوجوه ، فيكون ترتب هذه الجملة على الحيّ القيوم من ترتب المعلول على العلّة فيستفاد منها أنّ ما لا يكون كذلك تأخذه السنة والنوم.

ومن ذلك يعلم : أنّ تقديم السنة على النوم إنّما هو من باب إثبات عدم النوم بالأولوية ، ولو قدم النوم لما أفاد هذا المعنى أي : من لا تأخذه مقدمات النوم كيف يعقل أن يأخذه النوم.

وما قيل : من أنّ هذه الجملة على خلاف الترتيب الذي تقتضيه البلاغة في أمثال المقام فإنّه لا بد أن يكون من الأقوى إلى الأضعف بخلاف مقام الإثبات فإنّ الترتيب فيه يكون من الأضعف إلى الأقوى فإنه يرد عليه مضافا إلى ما تقدم : أنّ الترتيب في كلا المقامين ـ مقام الإثبات ومقام النفي ـ إنّما يدور مدار صحة الكلام.

والتعبير ب (الأخذ) لنفي جميع ما يتصور في عروض السنة ، والنوم على ذاته الأقدس عزوجل.

٢٥٣

قوله تعالى : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ).

معلول آخر للواحد للحيّ القيوم فإنّه إذا انحصر الحيّ القيوم في الفرد الواحد يكون كلّ ما سواه له لا بمعنى المالكيّة والملكية فقط بل إنّ كلّ ما يتصوّر في السّموات والأرض من جهات الاحتياج والاستكمال له تعالى وليس ذلك من المشترك اللفظي في شيء ، لأنّ اللفظ مستعمل في المالكية الحقيقية للذات بجميع لوازمها وملزوماتها ، فالسّموات والأرض وما فيهما خاضعة لإرادته وحاضرة لديه وهي قائمة به عزوجل ، فالقيومية العظمى تستدعي سعة إحاطته وقدرته وملكه لجميع السّموات والأرض وهي تدل على تفرّده بالألوهية ، وأنّ السلطان المطلق لله تعالى.

ومما ذكرنا يعرف : أنّ هذه الجملة في موضع التعليل لنفي السّنة والنوم عنه تعالى أيضا يعني : من كان مالكا للسّموات والأرض وما فيهما وقيّوما عليها لا يمكن أن تأخذه السّنة والنّوم ، والا استلزم المحال وهو تعطيل شؤون الملك ، كما أنّه لو نام ربان السفينة مثلا وغفل عن شؤونها لغرقت السفينة.

قوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ).

استفهام إنكاري أي ليس لأحد الشفاعة والتأثير في ملكه وسلطانه إلا بإذنه. لأنّه إذا كان المعبود بالحق منحصرا فيه عزوجل وهو الحيّ القيوم لجميع خلقه وله جميع ما سواه ملكا وتدبيرا وإيجادا وإفناء لا يعقل أن يشفع عنده بدون إذنه لأنّه محال بالضرورة.

والآية الشريفة بعد إثبات السلطان المطلق له تعالى والملكية الحقيقية فيه عزوجل تثبت قانون الأسباب والمسببات أي الشفاعة التكوينية بإذن الله تعالى ، وقد ذكرنا سابقا أنّ الشفاعة المنفية ما إذا كانت منافية للسلطان الإلهيّ ومستقلّة عن مشية الله تعالى ، وأما إذا كانت بإذنه عزوجل فلا مانع منها فإنّه ما من سبب إلا ويكون تأثيره من الله تعالى فهو القيوم المطلق فتصرّفه إنّما يكون منه جلّت عظمته بل إنّ الأسباب في عالم التكوين حاكية عن جماله وصفاته العليا ونظير الآية المباركة قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ

٢٥٤

السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) [يونس ـ ٣].

وأما الشفاعة التشريعية فتكون بإذنه عزوجل بالأولى ، لأنّها من شؤون تشريعاته المقدسة التي يكون التكوين من مقدّمات حصولها وقد تقدم الكلام في الشفاعة فراجع.

قوله تعالى : (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ).

كناية عن كمال إحاطته بالموجودات وسعة علمه بالمخلوقات. والمراد بما بين أيديهم الحاضر المشهود وبما خلفهم الغائب المستور فيشمل جميع سلسلة الزمان الحاضر والماضي والمستقبل وهي بمنزلة التعليل لنفي الشفاعة إلا بإذنه.

يعني : أنّ مناط الشفاعة هو العلم الإحاطي بالعباد بما فعلوه ويفعلونه وسائر جهاتهم وخصوصياتهم في سلسلة الزمان من الحاضر والماضي والمستقبل ومثل هذا العلم منحصر في الله جلّت عظمته فلا بد أن تكون أصل الشفاعة وجميع ما يتعلق بها وسائر إضافاتها من حيث الشافع والشفيع ومتعلق الشفاعة بإذنه واختياره عزوجل حدوثا وبقاء في الدنيا والآخرة فلا كمال ولا استكمال إلا منه تعالى ، ولا يقدر أحد على التصرف في ملكه ولا رادّ لقضائه جلت عظمته إلا منه وبه تعالى ولهذه الآية الشريفة نظائر في القرآن الكريم قال تعالى : (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) [الأنبياء ـ ٢٨].

قوله تعالى : (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ).

تأكيد لسعة علمه وكمال إحاطته ونفي علم ما سواه به تعالى. أي : أنّ أحدا من خلقه لا يقدر أن يحيط بما يعلمه إلا إذا شاء.

ومن هذه الآية الشريفة يستفاد عجز ما سواه عن الإحاطة به تعالى ، لأنّ صفاته العليا وأسماءه الحسنى غير متناهية كذاته المقدّسة وما سواه متناه وعدم

٢٥٥

إمكان إحاطة المتناهي بغير المتناهي من البديهيات الأولية.

فالعلم لله تعالى وحده وهو يختص به عزوجل وما يوجد عند غيره إنّما هو من علمه ومشيئته وإرادته وهو تعالى محيط بما سواه وقائم على خلقه ولا تتم قيّوميته على خلقه إلا بإفاضة ما يحتاجون إليه من العلوم والمعارف لتكتمل بذلك سعادتهم الدنيوية والاخروية ، ولا يختص ذلك بذوي العقول بل لطفه وعنايته شاملتان لجميع مخلوقاته فهي مستفيضة من فيضه العليّ ، ويدل على ذلك جملة من الآيات المباركة قال تعالى : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً) [النحل ـ ٦٨] ، وهي تحت إرادته وتربيبه العظمى ومن مظاهر فيضه وإحسانه وآثار رحمته وامتنانه ذاتا وصفة حدوثا وبقاء فجميع نظامه التكويني والتشريعي ينبعث عن نظامه الرّبوبي ، وما سواه محتاج إليه في البقاء كاحتياجه إليه عزوجل في أصل الحدوث لا يقدر أن يقدم على خلاف إرادته عزوجل وهو قائم بإرادته وتدبيره الأتم وحكمته البالغة ، وفي كلّ آن له تعالى ربوبية خاصة وشأن غير ما في الآن السابق قال تعالى : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) [الرّحمن ـ ٢٩] ، ومن كان كذلك يكون جميع ما سواه كرسيّا له ، لأنّ أظهر صفات الكرسي كونه مظهرا من مظاهر القدرة والاقتدار والتدبير والارادة.

فالآية الشريفة تدل على تمام تدبيره وكمال إحاطته بمخلوقاته وهي عاجزة عن الإحاطة بخالقها وصفاته العليا إلا بقدر ما يفيضه عليها ويرشدها إلى الكمال المطلوب.

قوله تعالى : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ).

مادة (ك ر س) تأتي بمعنى الجمع والمجتمع ومنه الكرّاسة ، والكرسي ـ في العرف ـ : اسم لما يقعد عليه ، ولوحظ فيه المعنى اللغوي أيضا لاجتماع الحال والمحل أو اجتماع الأجزاء فيه ، ولم يرد هذا اللفظ في القرآن الكريم إلا في موردين أحدهما المقام ، والثاني قوله تعالى : (وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً) [ص ـ ٣٤] ، ويكنّى به عن الملك.

والمراد به في المقام : اقتداره التام وسعة سلطانه ، وهو تشبيه بليغ بين

٢٥٦

ما هو المعقول ـ بل فوق المعقول ـ بما هو المحسوس ، وله نظائر كثيرة في الكتاب الكريم.

وتعقيب تلك الصفات العليا والأسماء الحسنى بهذه الآية يدل على أنّ المراد هو ثبوت الملك الحقيقي له تعالى وكمال إحاطته واقتداره وتمام تدبيره به وقيام جميع الممكنات به عزوجل فإنّ كرسيه بمعنى انتساب جميع المخلوقات إليه انتسابا اشراقيا. وهو من مظاهر فيضه المطلق غير المحدود فيعم جميع الممكنات.

فكما أنّ في أسماء الله المقدسة اسم جامع لجميعها ، ويصح انتزاع سائر الأسماء الحسنى منه وهو اسم الجلالة (الله) حيث ينتزع منه الرّب ، والرحمن ، والرحيم ، والجميل ، والجليل ، والجواد وغيرها من الأسماء الحسنى ، فكذا لكرسيه جلّت عظمته لحاظ إجمالي ، وهو جميع ما سواه من الممكنات التي وجدت وستوجد إلى الأبد ، ولعل أجلّ تلك الكراسي كرسيّ العلم الذي به تقوم السّموات والأرض كما أنّ به تنتظم شؤون خلقه وتدبير ملكه على الحكمة البالغة.

وإنّما شبّه سبحانه وتعالى ـ ما في ساحته المقدسة التي تجل عن المادة وشؤونها ، فإنّه لا كرسيّ ولا جلوس هناك تقريبا إلى الأفهام ـ بما اعتاد في صفات الملوك والعظماء فشبه عظمته وكبرياءه وسلطانه التام بكرسي الملك المقتدر المدير لرعيته والمدبر لشؤونها والا فليس ما سواه إلا من مظاهر أسمائه وصفاته. وفي المقام كلام طويل على بعض مباني الفلسفة الإلهية أعرضنا عن ذكره وسيأتي في الموضع المناسب بيانه إن شاء الله تعالى.

ومن ذلك تظهر المناقشة في كثير مما ذكره المفسرون في تفسير هذه الآية المباركة ، والعجب أنّ بعضهم أقرّ بأنّ كرسيه تعالى كناية عن كمال إحاطته وتدبيره وسلطانه التام يقول بأنّ الكرسي شيء يضبط السموات والأرض لا يمكن معرفة كنهه وحقيقته. وليس ذلك إلا من التهافت في الكلام.

قوله تعالى : (وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما).

الأود : المشقة والثقل والجهد ، والضمير يرجع إليه عزوجل ، أي : لا

٢٥٧

يشق عليه حفظ السّموات والأرض ولا يجهده ويتعبه ذلك. ولا ريب فيه لأنّ الإخراج من العدم إلى الوجود أقوى وأشد من الحفظ بعد الوجود والثبوت ، وبعد أنّ الممكن بعد الحدوث يحتاج إلى العلة ، فالعلة المحدثة في كلّ آن تكون معه فلا يتصوّر موضوع للأود والمشقة بالنسبة إليه تعالى ، مضافا إلى قيوميته المطلقة التي لا حدّ لها أبدا ، فيكون عروض الأود من فرض القيومية المطلقة من الجمع بين المتنافيين فالآية الشريفة تؤكد السعة العلمية والربوبية العظمى.

قوله تعالى : (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ).

هذه الجملة تدل على حصر جميع الكمالات فيه عزوجل فلا علوّ ولا عظمة إلا فيه ومنه تعالى وقد وردت في عدة مواضع من القرآن الكريم وقرن اسم العلي بالكبير قال تعالى : (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) [سبأ ـ ٢٣] ، وبالحكيم قال تعالى : (إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) [الشورى ـ ٥١] ، وقال تعالى : (لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) [الزخرف ـ ٤] ، كما اطلق اسم الأعلى عليه جلّ جلاله قال تعالى : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) [الأعلى ـ ١] ، وقال تعالى : (إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى) [الليل ـ ٢٠] ، كما أورد اسم العالي في أسمائه المباركة الحسنى في جملة من الدّعوات المأثورة.

والمعنى : هو العليّ في ذاته وجميع شؤونه وصفاته فهو المتعالي عن الشرك والأنداد وعن الضعف في وجوده وصفاته ، والفتور في ملكه وأمره العظيم في شأنه وجلاله ، وأمره وسلطانه فلا يعجزه كثرة مخلوقاته وهو المنزّه عن الاحتياج إلى غيره في ملكه وسلطانه.

ويمكن أن تكون هذه الجملة حالية أي : كيف يؤوده حفظهما وهو العليّ العظيم بالنسبة إلى ما سواه مطلقا ، فلا يعقل عروض التعب والمشقة عليه.

وهذه الآية الشريفة خلاصة ما ورد في المعارف الربوبية تشتمل على الذات المقدّسة وأمهات الأسماء الحسنى وأصول الصفات العليا ، وكلّ ما قيل في ذلك مقتبس من هذا النور الإلهي ، فهو الله لا إله إلا هو المتنزه عن الأشباه

٢٥٨

والأنداد له جميع الصّفات العليا الجمالية والجلالية.

فهو الحيّ القيوم الذي لا يأخذه ضعف ولا فتور ولا يصيبه كلال ولا ملال في حفظ مخلوقاته وهي محتاجة إليه تعالى متعلّقة بأمره ومشيته وهو متعال عنها عظيم في جميع شؤونه لا يشبهه أحد من خلقه.

وقد اشتملت هذه الآية على كلّ ما يسوق العباد إليه. وهي تملأ القلب مهابة من الله جلّ جلاله وتجعل النفس خاشعة ذليلة أمام عظمته وكبريائه وجلاله ، وتزيد في معرفة العبد لله تعالى وتقوده إلى ساحة قدسه وهو يستشعر بالحياء منه وقلبه مليء من عظمته وجلاله قد أعرض عن غيره وقطع أمله عن سائر خلقه وتوكل عليه واعترف بالعجز والقصور لينال ما هو المأمول.

ولأجل اشتمال هذه الآية على تلك المعارف العليا كانت لها آثار خاصة لم تكن في غيرها من الآيات ، ذكر في السنة الشريفة بعض منها وسيأتي في البحث الروائي نقلها.

٢٥٩

بحوث المقام

بحث دلالي

تدل الآية الشريفة على أمور :

الأول : إنّما عبر باسم الجلالة (الله) في صدر الآية المباركة لدلالته على الكمال المطلق فوق ما نتعقله من معنى الكمال ، ولازم ذلك انحصاره في فرد ونفي الشريك عنه ذاتا وصفة وفعلا ، لأنّ الشرك مطلقا ينافي فرض الكمال المطلق وهو خلف ، وبهذا الدليل القويم يستدل على التوحيد في الذات والصفات والأفعال وهو يغنينا عن إطالة الكلام في ذلك ، ولأجل ذلك تكرّرت هذه الآية في القرآن الكريم قال تعالى : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) [طه ـ ٨] ، وقال تعالى : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) [النمل ـ ٢٦] ، وقال تعالى : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [التغابن ـ ١٣] ، إلى غير ذلك من الآيات المباركة لا سيّما إذا انضم إليها جملة (الحي والقيوم) لأنّها تتضمن أم الأسماء الجمالية والجلالية والأصل في نظامي التكوين والتشريع ، والرابط بين عالم الغيب بالشهادة وعالم الشهادة بعالم الغيب وفيها أهمّ أسرار عالم الملكوت وهي النور الذي يتدفق عن عالم الجبروت يستحيل على الممكنات تحمل معناها فترى العقول

٢٦٠