مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة أهل البيت (ع)
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥١٦

سورة البقرة

الآية ٢٣١ ـ ٢٣٢

(وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٣١) وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٢٣٢))

الآيات المباركة تبيّن أحكاما أخرى في الطلاق فذكر سبحانه وتعالى أنّه يجب معاملة النساء المطلّقات معاملة متعارفة وحسن المعاشرة معهنّ وأرشد الإنسان إلى أنّ مصلحته الايتمار بأوامر الله والانتهاء عن نواهيه والا كان ظالما لنفسه. ونهاه عن الإضرار والاعتداء. وتوعّد على من يتخذ آيات الله هزوا وأمره بالتقوى.

ثم نهى الأولياء وغيرهم عن منع المرأة المطلقة عدوانا وسخطا أن تنكح زوجا ثانيا بعد انتهاء العدة إن هي رغبت وتراضى الزوجان بالمعروف. وحذرهم عن مخالفة أحكامه وأرشدهم إلى أنّهم لا يعلمون إلا أن يعلّمهم الله تعالى.

٤١

التفسير

٢٣١ ـ قوله تعالى : (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ).

المراد ببلوغ الأجل : الإشراف على تمامية العدّة ، لأنّه لو كان المراد انقضاؤها وتمامها فلا موضوع للإمساك والتسريح حينئذ.

والبلوغ كما يستعمل في الغاية يستعمل أيضا في الإشراف عليها والاقتراب منها.

والمعروف : من العرف وهو ما استحسنه العقل ولم يردع عنه الشرع فيشمل الفطريات والمحسنات العقلية وبناء العقلاء فإنّ جميعها حسن ومعروف وإن كان الفرق بينها بالاعتبار ، والشرع حاكم ومسلّط عليها جميعا فإنّه يتمّمها.

وقد اهتم الشارع بالمعروف والعرف كما يستفاد ذلك من مجموع هذه الآيات المباركة وغيرها. وقد أسس الفقهاء قاعدة «أنّ كلّ ما لم يرد من الشرع في موضوع من الموضوعات تحديد خاص يرجع إلى العرف في تعيينه» ومصاديق هذه القاعدة كثيرة على ما هي مفصّلة في الفقه.

والمعنى : وإذا طلّقتم النّساء وأشرفن على الوصول إلى آخر عدّتهنّ فإما

٤٢

إمساك المرأة بالرجوع إليها أو تركهنّ على حالهنّ حتى تنقضي عدتهنّ كلّ ذلك بمعروف في معاملتها من النفقة والمهر من دون إضرار بهنّ في شيء من ذلك.

قوله تعالى : (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا).

تأكيد لما سبق ، ونهي عن الرجوع بقصد الإضرار أي : ولا تراجعوهن تريدون بذلك إضرارهنّ وإيذائهنّ لتعتدوا عليهنّ بالاستيلاء على أموالهنّ وغيره كما كان يفعل في الجاهلية.

والضّرار : مصدر إما نائب عن المفعول المطلق أي : لا تمسكوهنّ إمساكا أو مفعول لأجله وهو الأصح.

قوله تعالى : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ).

بيان لوجه حكمة النّهي أي : ومن يمسك بقصد الإضرار فقد أوقع نفسه في الهلاك والتعب والغضب الإلهي بمعصية الله وخرج عن جادة الصواب وانحرف عن الفطرة الإنسانية ، بل حرّم على نفسه سعادة الحياة. والرجوع بالمعروف رجوع إلى تلك السعادة فإنّه وصل واجتماع بعد الفصل والانقطاع.

قوله تعالى : (وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً).

مادة (الهزء) تأتي بمعنى الخفة والاستخفاف والاستهزاء ، وهي كثيرة الاستعمال في القرآن وغالبها من المخلوق بالنسبة إلى الله عزوجل وبالنسبة إلى أنبيائه ورسله قال تعالى : (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) [الحجر ـ ١١] ، وقال تعالى : (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) [الزخرف ـ ٧] ، وقال تعالى : (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) [الأنعام ـ ١٠] ، وكذا بالنسبة إلى آيات الله تعالى وأحكامه المقدّسة قال تعالى : (وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً) [الكهف ـ ٥٦] ، وقال جلّ شأنه في شأن أهل النار : (ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ

٤٣

يُسْتَعْتَبُونَ) [الجاثية ـ ٣٥] ، وقال تعالى : (لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً) [المائدة ـ ٥٧] ، وقد كرر ذلك في القرآن بأساليب مختلفة تسلية لأهل الحق وإرشادا لهم بأن لا يتأثروا من استهزاء أهل الباطل ، وهذا من شعب الصراع بين الحق والباطل الذي هو قديم جدّا بل يستفاد من أدلة كثيرة أنّ الدنيا لا تقوم إلا بهذا الصراع ، ولا يختص بالإنسان بل المضادة والمعاندة موجودة في جميع الموجودات بجواهرها وأعراضها لكنّها خفية لا يمكن دركها إلا لبعض النفوس المستعدة وقد كشف العلم الحديث عن بعض جوانبها في موارد مخصوصة.

وأما المجردات فلا يتحقق التضاد والصراع بينها لأنّه لا معنى للتجرد عن المادة إلا ذلك والا لزم الخلف.

والمعنى : لا تتهاونوا بحدود الله وأحكامه فتتركوا العمل بها فإنّ فيها صلاحكم ورشدكم ، فالله تعالى لم يشرع حدوده وأحكامه ومعارفه إلا على مصالح عامة وحكم نوعية والأخذ بها يصلح النوع والاجتماع ويوصل الإنسان إلى الكمال المعدّ له وتتم له سعادة الحياة ، ويستقيم بها نظام الاجتماع والخليقة.

والاستهزاء بحدود الله تعالى وآياته يتحقق بعدم العمل بها أو التعدّي عليها أو الاقتصار على ظواهرها ونبذ غيرها ، فإنّ جميع ذلك من مظاهر الاستهزاء والتهاون.

وفي الآية المباركة تهديد أكيد ووعيد شديد لمن يتعدّى حدود الله تعالى وفيها ردع عن العادات التي كانت متبعة عند نزول الآية الشريفة بشأن طلاق النساء والتزويج بهنّ.

ثم إنّ حذف الهمزة في كلمة (هُزُواً) أولى ، لثقلها وقد ورد في الحديث عن الأئمة الهداة (عليهم‌السلام) «لو لا أنزل جبرئيل القرآن بالهمزة ما همزنا أهل البيت» أي ما نطقنا أهل البيت بالهمزة وقد وضع الأدباء بابا مستقلا لتخفيف الهمزة وجعلوا ذلك من المحسّنات وهو حسن ما لم يكن دليل على الخلاف.

٤٤

قوله تعالى : (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ).

المراد بالنعمة : نعمة الرحمة والألفة والمودة التي بين الزوجين وما شرع بالنسبة إلى الحياة الزوجية ، أو نعمة الدّين ، أو المعارف والأحكام ، أو مطلق النعم الإلهية التكوينية والتشريعية التي أعدت في سبيل كمال الإنسان وسعادته.

وفي الآية الشريفة حث على العمل بالأحكام وتذكير لهم بالنعم التي لا بد لهم أن يؤدوا شكرها بالإيمان والعمل الصالح والايتمار بأوامره جلت عظمته والانتهاء عن نواهيه.

قوله تعالى : (وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ).

مادة (حكم) تأتي بمعنى الإتقان والمنع عن التعدّي وهي ملازمة في الجملة للعقل النظري والعملي.

وقد اختلف العلماء في معناها :

فقيل : إنّها عبارة عن العلم بحقائق الموجودات بقدر الطاقة الإنسانية وهي بهذا المعنى ترادف الفلسفة.

وقيل : إنّها عبارة عن صيرورة الإنسان عالما عقليا مضاهيا للعالم العيني.

وقيل : إنّها الأسفار الأربعة النفسانية التي جعلها بعض الأكابر مفتتح كتابه القيم.

وقيل : إنّها العالم الأكبر ، كما نسب إلى عليّ (عليه‌السلام) :

أتزعم أنّك جرم صغير

وفيك انطوى العالم الأكبر

إلى غير ذلك مما ورد في معناها ، ويمكن إرجاع الجميع إلى معنى واحد.

ولكن المستفاد من الآيات الشريفة التي ذكر فيها هذا اللفظ أنّها معرفة

٤٥

ظاهر الشريعة وباطنها والمعارف العالية من التوحيد والنبوة والأخلاق الفاضلة ، ومعرفة المصالح والحكم المبتنى عليها دين الله عزوجل فإنّ بها تصفو النفوس وتصل إلى الكمال المطلوب وتتصف بالأخلاق الفاضلة.

وبعبارة أخرى : هي معرفة الصراط المستقيم من جهة التكوين والتشريع كما جعله الله تعالى والعمل بما عرف.

ولها أهمية عظمى في كمال النفس بل هي الكمال بعينها ، وقد اعتنى بها عزوجل اعتناء بليغا في القرآن الكريم وجعلها من الخير الكثير فقال تعالى : (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) [البقرة ـ ٢٦٩] ، وذكرها في مقابل الكتاب في جملة كثيرة من الآيات منها المقام ويأتي في الموضع المناسب شرحها شرحا وافيا إن شاء الله تعالى.

ومادة (وعظ) من المواد الكثيرة الاستعمال في الكتاب الكريم والسنة المقدّسة ، ونسب إلى الخليل أنّه التذكير بالخير ونحوه مما يرق له القلب. والعظة والموعظة اسمان.

وعن آخر أنّه زجر مقترن بتخويف ، وتستعمل بالنسبة إلى الله تعالى والأنبياء وغيرهم

وفي الدعاء : «اللهم إنّي أعوذ بك أن تجعلني عظة لغيري» أي موعظة لغيري بأن يتعظ بي.

والمعنى : اذكروا نعم الله عليكم وما أنزل من الأحكام وحدودها الظاهرية والباطنية والمعارف الحقة التي لم ينزلها إلا للصلاح والسعادة وبيّنها بلسان الوعظ والإرشاد بما هو خير لكم فلا تتوانوا في العمل بها ولا تعرضوا عنها ، فإنّ الإعراض عنها إعراض عن الكمال الذي أعدّه الله لكم والسعادة التي أرادها منكم.

قوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ).

في شرعه بامتثال أوامره والانتهاء عن نواهيه لا سيما تلك الأحكام التي شرعها في النساء وما يوجب التآلف والسكون بين الزوجين وما بينه في أمر الطلاق.

٤٦

قوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).

بيان لعلة الحكم السابق أي : وليكن عملكم وتقواكم عن توجه بأنّ الله عليم بكلّ شيء لا تخفى عليه أعمالكم ويجازيكم على ذلك فإنّ من علم بأنّ الله كذلك وجب عليه بحكم العقل أن يتقيه ويعمل بما أنزله ، فيوافق بين ظاهره وباطنه ولا يخالف بينهما.

وهذه الآية الشريفة من الآيات التي تدل على لزوم مراقبة الله تعالى في العمل وحسن النية والإخلاص له ، وتطابق الظاهر مع الباطن.

وهذه الآية تفيد معنى زائدا على نفس العلم وهو أنّه تعالى حاضر مراقب وكذا جميع الآيات المباركة التي وقعت هذه الجملة فيها بعد الأمر بالتقوى ، مع أنّ الرقيب من أسمائه الحسنى وهو يرجع إلى ما هو عين الذات لأنّه من شؤون علمه عزوجل بل لنا أن نقول إنّ مبدأ الخلق ومبدأ التشريع الذي هو المحاسب والمجازي لا بد أن يكون رقيبا بكلّ معنى الكلمة بعد فرض حضوره لدى الأشياء وحضورها عنده تعالى والا لزم الخلف وهو باطل.

فالأسماء الحسنى المتفرعة عن علمه الأتمّ الأكمل واللازمة للذات باللزوم العقلي كثيرة تجمعها لفظ «الله» الذي هو اسم للذات الجامع لجميع الكمالات الواقعية والإدراكية المنفي عنه جميع النقائص الواقعية والإدراكية.

فتكون جميع الأسماء المباركة منطوية في هذا اللفظ الجليل المبارك انطواء الفرد في الكلّ. فالوحدة حاصلة في هذا المقام وفي الواقع بالعين والحقيقة ولا أقول بوحدة الصنف والنوع ، ولا بوحدة الشعاع والشمس ، ولا بوحدة القطرة والبحر ، لجلالة ذلك المقام الأقدس عن كلّ ذلك. وإن كان التشبيه يقرب من جهة ويبعد من جهات بل الوحدة الحقة الحقيقية التي هي إسقاط جميع الإضافات وانقهارها في القهارية المطلقة التي لا حد لها من كل جهة ، ويشير إلى ذلك ما نسب إلى عليّ بن الحسين (عليهما‌السلام) في دعائه : «إلهي كيف تخفى وأنت الظاهر أم كيف تغيب وأنت الرقيب الحاضر» وسيأتي شرح ذلك في المستقبل إن شاء الله تعالى.

٤٧

٢٣٢ ـ قوله تعالى : (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ).

مادة (عضل) تأتي بمعنى الشدة والضيق والحبس والمنع ، فهي بمنزلة الجنس لهذه الأنواع وتستعمل في الجميع ، فتكون من متحد المعنى لوجود الجنس القريب بين جميع الأنواع ولا يعتبر في الجامع القريب أن يكون معلوما من جميع الجهات بل يكفي صحة الانطباق على الأنواع المستعمل فيها اللفظ عرفا ، وربما يكون هذا سببا في تعدد الموضوع له في جملة كثيرة مما حكم أهل اللغة بالتعدد فيها.

وكيف كان ، فإنّ هذه المادة لم تستعمل في القرآن الكريم إلا في موردين كلاهما بالنسبة إلى النساء أحدهما المقام. والثاني قوله تعالى : (وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَ) [النساء ـ ١٤] ، والمعروف كما تقدم هو ما تعارف بين الناس ولم ينه عنه الشرع ، وهو مما يختلف باختلاف الأعصار والأمصار والعادات.

والمراد بالبلوغ : الانتهاء من العدة والخروج منها ، فإنّها ما دامت في العدة لم يكن لأحد عليها ولاية وسلطة إلا لبعولتهنّ فإنّهم أحق بردهنّ.

والخطاب عام لكلّ من كان له علقة بزواج المرأة ويرجع فيه إليه سواء كان وليّا شرعيّا أم غيره فيشمل كلّ عاضل.

كما أنّ المراد من أزواجهنّ مطلق الأزواج الأعم من الزوج الأول قبل الطلاق وغيره باعتبار أنّ في المستقبل يكون زوجا إذا تحقق التراضي بين الزوجين بالمعروف.

ويمكن تعميم المعروف بما هو المتعارف شرعا ، فيشمل جميع الشرائط الشرعية بالدلالة المطابقيّة.

والآية تدل على نهي من بيده أمر الزوجة ويرجع في الزواج بها إليه عن منع المرأة من الزواج بأيّ رجل شاءت عدوانا وعنادا.

٤٨

كما أنّها تردع عن عادة سيئة كانت في الجاهلية حيث يتحكم الرجال في تزويج النساء بمحض إرادتهم فقط وربما يمنعن من التزويج بعد الطلاق لجاجا وعنادا وقد نهى سبحانه وتعالى عن هذه العادة.

قوله تعالى : (ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ).

التفات من خطاب الجمع إلى خطاب المفرد لأنّ الخطاب المشتمل على الأحكام موجه إلى الجميع ثم وجّه الخطاب إلى شخص الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لأنّه واسطة الفيض والمخاطب من غير واسطة ولكن غيره مخاطب بواسطته.

والمعنى : ذلك الذي تقدم من الأحكام والمواعظ يوعظ بها من كان مؤمنا بالله واليوم الآخر فإنّهم يتقبلون تلك الأحكام ويعملون بها طاعة لله تعالى ورجاء لمثوبته ، وهم الذين تنفعهم المواعظ ويقفون عند حدود الله ولا يتجاوزونها.

والتقييد بالإيمان بالله واليوم الآخر لأجل أنّهما يدعوان إلى نبذ كل اختلاف وافتراق فإنّ دين الله هو دين التوحيد ، وتشريف للمؤمنين وقد مرّ في قوله تعالى : (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) [البقرة ـ ٢٢٨] ، ما يتعلق بالمقام فإنّ الموردين واحد.

قوله تعالى : (ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ).

التفات من خطاب المفرد إلى خطاب الجمع لبيان كثرة الاهتمام بالمراد وتصريحا بالتعميم وإعلاما بالفضل العظيم.

وأصل الزكاة النمو الحاصل عن بركة الله تعالى وهذا اللفظ أعم من التنمية المعنوية والجسمانية لأنّ العمل بالأحكام الإلهيّة كما ينمّي المعنويات كذلك يفعل بالجسمانيات.

والمشار إليه باسم الإشارة : الحكم السابق وهو النّهي عن العضل. أي : أنّ هذا الحكم كغيره من أحكام الله تعالى يوجب نمو الكمالات الإنسانية

٤٩

والعمل بها يوصل العبد إلى الكمال المطلق ويفاض عليه من المولى ما لا يمكن دركه بالحواس الظاهرة. وأنّها أطهر لنفوس المؤمنين من الرذائل وتحليتها بالفضائل والكمالات. ففي المقام إنّ الحكم السابق والارتداع عن منع الزوجة من نكاح الزوج إرجاع إلى الوصل بعد الفصل ويزيد كمالات النفس وتتربّى على الملكات الفاضلة كالحياء والعفة وتتحفظ عن الوقوع في الحرام.

فالآية المباركة تبيّن بعض الحكم والمصالح في هذه الأحكام ، وهي ترشد الإنسان إلى أنّ المهمّ هو طهارة النّفس والعمل بالأحكام الشرعية من طرق تحصيلها ، وقد اهتم الإسلام بتطهير الروح والنفس.

والمستفاد من مجموع الآيات الشريفة : أنّه الغاية المتوخاة من تشريع الأحكام الإلهية.

قوله تعالى : (وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ).

أي : أنّكم لا تعلمون الأحكام ومصالحها وحكمها إلا ما يعلّمكم الله تعالى ، وهذه قضية عقلية أثبتها محققوا الفلاسفة قديما وحديثا من أنّ العلم بالحقائق المستورة عن الحواس الظاهرية لا يحصل إلا لمن كان منزّها عن المادة والماديات ، والله تبارك وتعالى فوق ما نتعقله من التنزه عنها ، فيكون علمه بالحقائق تاما ولا بد أن يكون كذلك لأنّ علمه عين ذاته وذاته لا تدرك فعلمه أيضا كذلك.

وأما عدم علم من سواه بشيء الا ما يعلّمه الله بواسطة أنبيائه فلفرض تعلق النفس بالمادة وهو مانع عن العلم بالحقائق وبقدر تجرد النفس عنها تنكشف لها الحقائق قال تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ) [البقرة ـ ٢٨٢] ، فما هو الدائر بين الناس لا يكون إلا من كشف الظواهر بالظواهر كما هو معلوم.

٥٠

بحث دلالي

تدل الآيات الشريفة على أمور :

الأول : يستفاد من تكرار المعروف في هذه الآيات وغيرها اعتبار العرف وحجيته عند الشارع إلا إذا ورد الرّدع عنه في مورد مخصوص ، وقد ذكرنا أنّه يرجع إلى حكم العقل بحسن شيء أو قبحه ، فيشمل بناء العقلاء أيضا بل يظهر منها أنّ الأحكام الشرعية مبتنية على العرفيات ما لم يحدها الشارع بحد معيّن.

الثاني : أنّ إرجاع أولياء الأمور في النكاح والطلاق إلى المعروف فيه كمال العناية بمراعاة ما تعارف عليه أهل كلّ واحد من الزوجين وإرشاد إلى حسن الاجتماع والتآلف ، فإنّ النكاح والطلاق من الأمور الاجتماعية فلا بد أن يرجع فيما يرتبط بهما إلى الاجتماع والعرف فلا يستبد أحدهما بأمر ينكره العرف والاجتماع.

الثالث : يدل قوله تعالى : (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا) أنّ من أضرّ بالغير يستلزم رجوع الضّرر عليه فيكون هو المتضرّر الوحيد بقرينة كلمة (ضِراراً) ويؤكد ذلك قوله تعالى : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ).

الرابع : يستفاد من قوله تعالى : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) أنّ

٥١

الإعراض عما أنزله الله تعالى وعدم الايتمار بأوامره والانتهاء عن نواهيه يكون ظلما على نفس المكلّف حيث حملها على الانحراف عن السعادة والصراط المستقيم وما أعده الله تعالى له من الكمال فهو بين اثنين القلق والاضطراب والذل في الدنيا ، والتعرّض لسخط الله تعالى في العقبى ، فلا تختص هذه الحكمة بالمقام بل تشمل جميع التكاليف الشرعية ومثل ذلك كثير في القرآن الكريم.

الخامس : يدل قوله تعالى : (وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً) على وجوب احترام حدود الله تعالى وأحكامه. وحرمة التهاون بها والتواني في العمل بها والإيراد عليها لأنّه يعدّ استهزاء بأحكامه المقدّسة التي شرعها لمصالح العباد.

السادس : يدل قوله تعالى : (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ) أنّ ذكر النّعم التي أنعمها الله تعالى على الإنسان يوجب معرفة المنعم والإقبال عليه والمعرفة تحدث الموعظة والعبرة وهما تبعثان على الطاعة والامتثال ، فإنّ المراد من الذكر هو اكتساب ما يرتضيه الله تعالى والاجتناب عما يسخطه بالجوارح والأركان والقلب واللسان حتى تثبت بذلك صفة نفسانية راسخة باعثة على انبعاث جميع قوى الإنسان عن هذا العزم الحسن والنية الصادقة وهي موجبة لكمال النفس ، ومن عجيب أمرها أنّ معلول النفس يؤثر في العلّة وذاتياتها ، ففي الذكر يتجلّى السّفر من الحق إلى الحق وله درجات وحظوظ معنوية وفيه متاعب ومشاكل كما هو الشأن في كلّ أمر مهم.

السابع : يستفاد من قوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ) كمال العناية بالتقوى فإنّه بعد ذكر كل ما تقدّم من التذكير والتوعيد والتهديد يكون الأمر بها زيادة في الاهتمام والاعتناء ، فكأنّ جميع ما ذكر كان توطئة لها.

وهذا هو دأب القرآن في جميع آيات الأحكام ولم يهتم بشيء من الفضائل كاهتمامه بالتّقوى ، لأنّ تقوى الله تعالى أصل الإنسانية الكاملة والسعادة الأبدية وبها يتم نظام الدنيا والآخرة فهي أصل الأصول ومحور الأخلاق الفاضلة ، وقد تقدم في البحوث السابقة نظرية الإسلام في الوسط

٥٢

الاخلاقي ، وذكرنا أنّها تعتبر التقوى هي الوسط في جميع الفضائل وهي المدينة الفاضلة التي وعد بها الأنبياء والمرسلون.

والتقوى : عبارة عن جعل النفس في وقاية مما يخاف ويحذر ، فيتحد الفاعل والقابل ذاتا ويختلفان اعتبارا. ولها درجات لا تتناهى وفي بعض الدّرجات يصل العبد إلى مرتبة تجلّي الحق تعالى في مشاعر العبد وقواه وذلك التجلّي يبقى ويدوم ولا يفنى وإن تبدلت العوالم وتغيرت.

أأمنع عن ذاك الحمى وهو موطني؟!

أابعد عن جيرانه وهم إلفي؟!

وسيأتي في الموضع المناسب من الآيات المباركة بقية الكلام فيها إن شاء الله تعالى.

الثامن : يستفاد من قوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) بعد تشريع الأحكام وبيان الحدود الإلهية الاهتمام بالباطن وحسن النية والاعتناء بتوافق الظاهر مع الباطن فإنّ حسن الظاهر إن لم يكن من حسن الباطن لا اعتبار به بل هو نفاق مذموم واجتراء على الله تعالى وهدم للباطن ، والأحكام الإلهية والمعارف الربوبية إنّما نزلت لتكميل النفوس وتحسينها فإنّ الآية الشريفة ترشد إلى مراقبة النفس.

التاسع : ربما يقال إنّ قوله تعالى : (فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَ) يدل على عدم صحة العقد إلا بإجازة الوليّ.

ولكنّه مردود فإنّ الخطاب لم يكن مختصّا بالأولياء فقط والنّهي إرشادي إلى ما يترتب من المصالح والمنافع فالآية أجنبية عمّا ذكروه بل إنّها ترشد إلى قاعدة السلطنة فقد أثبتت الولاية للمرأة في تزويج نفسها إذا تراضيا بالمعروف ونهي من له علقة بها أن يعضلها عن ذلك.

العاشر : يدل قوله تعالى : (ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ) على بعض مصالح تشريع الأحكام الإلهية فإنّها شرّعت لتطهير النفوس عن رذائل الأخلاق وتنمية الملكات الفاضلة.

الحادي عشر : يستفاد من هذه الآيات وما في سياقها علم النفس

٥٣

بالحقائق كما هي عليها في الواقع. وقد ذكر أكابر الفلاسفة أنّه من ثمرات تجرد النفس ، ولكن ذكرنا أنّ ذلك لا كليّة فيه ، وتقدم أنّ العلم بحقائق الموجودات مطلقا من الغيب الذي يختص به جلّ جلاله أو من يفاض عليه من عنده عزوجل بل إنّ إفاضة جميع العلوم لا بد أن تنتهي إليه ، فيصح نفي العلم عن غيره عزوجل بقول مطلق ويأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام فيه.

الثاني عشر : قوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) مشتمل على الحكم وعلته والأول عبارة عن الأمر بالتقوى التي هي إتيان الواجبات وترك المحرّمات.

والثاني : هو أنّ الحاكم بذلك عالم بكلّ شيء من الجزئيات والكليات ويجازي على ذلك ، ومن كان هكذا وجب بحكم العقل أن يتّقى ، فتقوى الله واجبة إما لذلك ، أو لأنّ دفع الضرر الأخروي واجب عقلا.

ومن هذه الآية الشريفة بقرينة غيرها من الآيات نستفيد قاعدة جليلة وهي : أنّ كلّ ما يصدر من الذات المقدسة التي لا تناهي في أيّ جهة من جهاتها بالنسبة إلى جميع مخلوقاته فضلا عن أجلّها لا يكون إلا عن علم وحكمة وخبرة ولطف ورحمة وبصيرة ، وإحاطة بالجزئيات حدوثها وبقائها وفنائها وما تصير إليه بعد الفناء وصورها وتبدلها ، وأطوار الوجود وتغييراتها ـ فهو تعالى عليم حكيم خبير بصير لطيف رقيب يعلم جميع الموجودات من ذرة التراب إلى أشرف فرد من ذوي العقول والألباب علما إحاطيا ، قال تعالى : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك ـ ١٤] ، وعلمه بما سواه لا يقبل التغيير والتبديل لأنّه عين الذات وهو غير متناه أيضا فهو قبل الجعل ومع الجعل وبعده ومع التغيير والتبديل وما يصير إليه كلّ ذلك في عرض واحد بالنسبة إلى علمه الفعلي والسبق واللحوق والتقدم والتأخر إنّما هو في المعلوم بالعرض في سلسلة الزمان لا في العلم ولا في المعلوم بالذات. ولا تتصوّر الكلية والجزئية في هذا النحو من العلم المختص به جلّت عظمته وإنّ إطلاقهما عليه باعتبار المعلوم بالعرض لا في مرتبة ذات العلم ولا المعلوم

٥٤

بالذات بالنسبة إليه عزوجل. وستأتي تتمة الكلام في علمه عزوجل إن شاء الله تعالى ، وإن كان مثل هذا البحث عميقا جدا.

ما زلت أنزل من صفاتك منزلا

تتحيّر الألباب عند نزوله

فتصير صرعى عند قرب حلوله

فبأيّ وجه حام حول نزوله

٥٥

بحث روائي

في تفسير العياشي عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) في قول الله تعالى : (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا) قال : الرجل يطلّق حتى إذا كاد أن يخلو أجلها راجعها ، ثم طلّقها ثم راجعها يفعل ذلك ثلاث مرات فنهى الله عنه».

وفي تفسير القمي في قوله تعالى : (لا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا) قال (عليه‌السلام) : «إذا طلّقها لم يجز له أن يرجعها إن لم يردها».

أقول : يدل على أنّ المراجعة لا أثر لها ما لم تكن عن إرادة جدية.

وفي الفقيه عن الحسن بن زياد عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) : «لا ينبغي للرجل أن يطلّق امرأته ثم يراجعها وليس له فيها حاجة ثم يطلّقها ، فهذا الضّرار الذي نهى الله عنه إلا أن يطلّق ثم يراجع وهو ينوي الإمساك».

أقول : هذا معنى الضّرار بأن يراجع تلاعبا بها من دون إرادة جدية للمراجعة كما مر.

وفي تفسير العياشي عن أمير المؤمنين (عليه‌السلام) : «من قرأ القرآن من هذه الأمة ثم دخل النار فهو ممن كان يتخذ آيات الله هزوا».

أقول : تدل الرواية الشريفة على أنّ قراءة القرآن من دون العمل استهزاء واستخفاف بالقرآن وفي سياقها روايات كثيرة أخرى منها قول نبينا الأعظم (صلّى

٥٦

الله عليه وآله) : «ربّ تال القرآن والقرآن يلعنه».

وفي أسباب النزول للواحدي في قوله تعالى : (فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ) : «نزلت في معقل بن يسار قال : كنت زوجت أختا لي من رجل فطلّقها حتّى إذا انقضت عدتها جاء يخطبها فقلت له : زوجتك وأفرشتك وأكرمتك فطلّقتها ثم جئت تخطبها لا والله لا تعود إليها أبدا قال : وكان رجلا لا بأس به وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه فأنزل الله عزوجل هذه الآية فقلت الآن أفعل يا رسول الله فزوجتها إياه».

أقول : قريب من ذلك في البخاري والسنن الكبرى للبيهقي.

وفي الدر المنثور وأسباب النزول عن السدي قال : «نزلت في جابر بن عبد الله الأنصاري كانت له بنت عم فطلّقها زوجها تطليقة فانقضت عدتها ثم رجع يريد رجعتها فأبى جابر وقال : طلّقت ابنة عمنا ثم تريد أن تنكحها [الثانية]؟! وكانت المرأة تريد زوجها فقد رضيت به فنزلت الآية».

أقول : لا بأس بتعدد منشإ النزول ، وإنّ الآية الشريفة في مقام بيان الكبرى الكلية ـ تعدد منشأ نزولها أولا ـ وهذه الروايات لا تدل على ثبوت الولاية لمن ذكر فيها بوجه وذكرنا في تفسير الآية أنّها أجنبية عن الولاية المدّعاة في المقام وإنّما تدل على الترغيب إلى الايتلاف بينهما بأي وجه أمكن شرعا.

٥٧

سورة البقرة

الآية ٢٣٣

(وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٣))

الآية الشريفة تقرر أمرا من الأمور التكوينية الاجتماعية بأسلوب بليغ مشعر بالعطف والحنان والألفة ، وهو تنشئة الأولاد بالرضاع والحضانة والتربية ، فأمر تعالى الوالدين بالقيام بشؤون الأولاد والعناية بهم ، كما أمر الوالدات بارضاعهم مع التراضي والتوافق بينهما كل ذلك مع لحاظ المعاشرة بالمعروف التي أمرنا بها في الآيات السابقة فإنّ هذه الحياة متقومة بهما فلا بد من التعاون بينهما لانقاذها من المشكلات والصعاب وجلب السعادة لهما وصلاح الأولاد الناشئين في حضانتهما.

ثم أمر بالتقوى لأنّها الغاية من كل تكليف وارشاد ولا تحصل الا بمراقبة النفس وما ورد في هذه الآية الشريفة يعترف به العقل السليم والطبع المستقيم الذي نزل به الوحي المبين على قلب سيد المرسلين.

٥٨

التفسير

٢٣٣ ـ قوله تعالى : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ).

مادة (رضع) تأتي بمعنى شرب اللّبن من الثّدي. والرضاع من صفات الأنثى كالحائض ، والحامل ، فإذا أريد الصفة يقال مرضع وإذا أريد الفعل يقال مرضعة قال تعالى : (يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ) [الحج ـ ٢] ، وقال تعالى : (وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ) [القصص ـ ١٢].

ومادة (حول) تأتي بمعنى التغير والتبدل والانفصال ، وبهذا الاعتبار يقال : حال فلان بيني وبينك. قال تعالى : (أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) [الأنفال ـ ٢٤] ، وقال تعالى : (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ) [سبأ ـ ٥٤] ، وقال تعالى : (وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) [هود ـ ٤٣].

والتغير والتبدل إما بالذات ، أو بالصفات ، أو بالإضافات ، ويمكن أن يجتمع في الزمان جميع ذلك ، لأنّه متغيّر بالذات ، وكذا بالصفات والإضافات.

والمراد بالحولين الكاملين : أربعة وعشرون شهرا ، فلا يكفي الحول وبعض الحول لما ورد في الآية المباركة من التحديد والتوصيف.

والآية إخبار عن سنّة من سنن الطبيعة الجارية في النظام الأحسن حفظا للنوع ، لأنّ شفقة الأم على الولد واهتمامها بحفظه من حين الولادة إلى أن

٥٩

يستقل الولد ، وعطفها عليه بحيث لا تدخر عنه شيئا ، وتبذل النفس والنفيس له وتقاسي في سبيله ، فقرّر سبحانه وتعالى هذا القانون الطبيعي التكويني في التشريع السّماوي.

ويستفاد من هذا الخطاب الحنان والرأفة وكمال العناية بتربية الأولاد فقدم تعالى الوالدات ، لكثرة علاقتهنّ وعنايتهنّ بالأولاد.

وذكر سبحانه وتعالى الولد حتّى يشمل الذكر والأنثى من دون فرق بينهم خلاف ما كان شايعا في عصر نزول الآية الشريفة ثم جعل الوالدة في كفالة الوالد.

ويختص الحكم في الآية المباركة بالوالد والوالدة والولد وإنّما عدل سبحانه عن الأمهات إلى الوالدات ، لأنّ الأخيرة تشعر بالعناية الشديدة وتشتمل على الحكمة أيضا فإنّ الولد يولد من الوالدة ويكون بمنزلة الثمرة لها.

قوله تعالى : (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ).

يستفاد منه أنّ التحديد المذكور غالبي فإن اقتضت المصلحة عدم البلوغ إلى آخر المدة كان لهما ذلك ، فإنّ الأمر موكول إلى الوالدين بلا فرق في ذلك بين الوالدة المطلّقة وغير المطلّقة ، ولكن يستفاد من الآية المباركة أنّ الرضاعة من حق الوالدة ، ولا يمكن أن يستبد الوالد بالأمر من دون موافقتها ، ويدل عليه ذيل الآية الشريفة.

وإنّما عدل سبحانه وتعالى من خطاب الإناث إلى خطاب الذكور لأجل أنّ الحضانة والرضاعة لا تتمان إلا بموافقة الوالد وتقريره ، لأنّه الركن الأساسي في المجتمع الزوجي.

قوله تعالى : (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ).

أي : كلاهما مسئولان تجاه هذا الرضيع ، وإنّما عدل سبحانه من الوالد إلى المولود له لاشتمال الأخير على الحكمة أيضا ، فإنّ الولد ملحق بالوالد وبعض منه ، فعليه كفالته والقيام بمصالحة ومنها النفقة على الوالدة وكسوتهنّ

٦٠