مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة أهل البيت (ع)
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥١٦

بحث فقهي

تدل الآيات الشريفة على الأحكام الفقهية التالية :

الأول : تدل الآيات الكريمة على حرمة الربا وأنّه من الكبائر التي أوعد الله تعالى عليها النار ومن الموبقات التي تقضي على الفرد والنوع ويدل على ذلك السنة الشريفة وإجماع المسلمين ودليل العقل أيضا بل لا اختصاص لحرمة الربا بالشريعة المقدّسة الإسلامية فهو محرّم في جميع الشرايع الإلهية فهو من الأمور العامة النظامية المحرّمة ويدل على كونه محرّما عند اليهود قوله تعالى : (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ) [النساء ـ ١٦١].

الثاني : الربا مما اجتمع فيه حق الله وحق الناس فهو محرّم من جهتين وتشتد حرمته عند شدة حاجة المأخوذ منه فلا تنفع فيه التوبة فقط بل لا بد من رد ما أخذه المرابي إلى المأخوذ منه ويجري عليه جميع أحكام الغصب من بطلان الصلاة فيه وحرمة التصرف فيه وبطلان أداء الحقوق الواجبة أو المندوبة منه ووجوب رده إلى صاحبه وتدل على ذلك الأدلة الأربعة كما فصّلناها في كتاب الغصب من (مهذب الأحكام) ومنها قول نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «على اليد ما أخذت حتّى تؤديه».

الثالث : الربا إما قرضي أو معاملي :

والأول : دفع المال قرضا بشرط الزيادة على المقترض حين الأداء.

٤٤١

والثاني : بيع أحد المثلين بمثله مع الزيادة في أحدهما إذا كان من المكيل أو الموزون كبيع كيلو حنطة بكيلو وربع منها. ولكلّ واحد من القسمين أحكام خاصة مفصّلة في كتب الفقه ، ولا أثر لرضاء الطرفين في حلية الربا بعد نهي الشارع عنه وإلغاء هذا الرضا كما في المعاوضات المحرّمة فيكون وجوده كالعدم.

الرابع : ظاهر قوله تعالى : (فَلَهُ ما سَلَفَ) سقوط الضمان بالنسبة إلى ما مضى إذا أتلفه كما يظهر ذلك من السنة الشريفة أيضا وأما شموله لعدم وجوب الرد فيما أخذه ولم يتصرّف فيه فمشكل فلا بد حينئذ من الرجوع إلى السنة.

الخامس : إطلاق قوله تعالى : (وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا) يشمل كل زيادة ربوية سواء كانت عينا أم منفعه أو انتفاعا أو حقا. ومنها رباء النسيئة الذي كان متعارفا في الجاهلية وهو أن يدفع المال لمقترضه إلى مدة على أن يأخذ كلّ شهر قدرا معينا ثم عند حلول الدّين وتعذر الأداء يزيد المديون في الحق ويزيد الدائن على الأجل.

السادس : يدل قوله تعالى : (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ) على رفع حكم الربا فيما إذا لم تبلغه الحجة الظاهرية كما قد رفع حرمته في جملة من الموارد منها ربا الأب مع ابنه ، وربا السيد مع عبده ، وربا الزوج مع زوجته وقد فصل ذلك في الفقه.

السابع : يدل قوله تعالى : (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) على وجوب رد الدّين إلى صاحبه عند المطالبة وحرمة الطلب عند ثبوت عسر المديون ويجب إنظاره ، وتدل على ذلك جملة من الروايات منها ما ورد عن أبي عبد الله الصادق (عليه‌السلام) في رسالته التي كتبها إلى أصحابه : «إيّاكم وإعسار أحد من إخوانكم المسلمين وأن تعسروه بشيء يكون لكم قبله فإنّ أبانا رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كان يقول : ليس للمسلم أن يعسر مسلما ، ومن أنظر مسلما أظلّه الله يوم القيامة بظلّه يوم لا ظلّ الا ظلّه».

٤٤٢

ولو استدان أحد ولم ينو أداء الدّين لا يجوز له التصرف في المال المقترض لقول نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «من استدان ولم ينو الأداء فهو كاللص السارق» هذا في عدم قصد الأداء فضلا عن قصد عدم الأداء.

والظاهر من قوله تعالى : (فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) امتداد وقت الإنظار إلى حصول اليسار وتدل عليه جملة من الأخبار ، كما أنّ إطلاقه يشمل كلّ دين بلا اختصاص له بدين الربا فهو من القواعد الامتنانية في أبواب الديون والمعاملات.

الثامن : إطلاق قوله تعالى : (وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ) شموله لكلّ أنواع الصّدقة حتّى احتساب الدّين من الزكاة أو الحقوق الاخرى الواجبة بل يشمل إبراءه كلّا أو بعضا ، ويستفاد منه أنّ الصّدقة أفضل من الإنظار وإن كان الأخير واجبا ولا ضير في ذلك بعد استفادته من الأدلة.

التاسع : يدل قوله تعالى : (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) على بطلان التمثيل الظاهري (القياس) لأنّ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد التي لا يعلمهما الا الله تعالى.

العاشر : إنّ إطلاق قوله تعالى : (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ) يشمل التوبة بعد العلم بالحرمة كما يشمل الجهل بالتحريم وبعبارة اخرى يشمل الربا في الجاهلية قبل تشريع الحكم والربا في الإسلام بعد التوبة.

الحادي عشر : يستفاد من قوله تعالى : (فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ) على توسعة الأمر في المعاملات الربوية في الجملة فهو ظاهر في بطلان الزيادة في الربا أما بطلان أصل المعاملة فلا يمكن استفادته من الآية الشريفة بل ظاهرها الصحة ، ويمكن استفادة ذلك من قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا) الدال على صحة المعاملة ووجوب رد الفضل الذي أخذه زائدا على رأس ماله. هذا إذا لم يقم دليل معتبر على الخلاف وقد فصّلنا القول في باب الربا من كتابنا (مهذب الأحكام).

٤٤٣

الثاني عشر : إطلاق قوله تعالى : (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا) يشمل الربا القرضي والربا المعاملي لفرض صدق الربا على كلّ منهما ويدل عليه أيضا تفريق الآية بين الربا والبيع. وسياق قوله تعالى : (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) ظاهر في الربا القرضي.

٤٤٤

بحث روائي

تقدم أنّ الربا من الكبائر التي أوعد الله تعالى عليها النار في الكتاب العزيز وهو من الموبقات التي تجلب الفساد والشقاء وقد ذكر سبحانه في الكتاب العزيز بعض الآثار المترتبة على الربا ، وشرحت السنة الشريفة هذا الموضوع شرحا وافيا ونحن نتعرض في هذا البحث إلى بعض الروايات التي وردت في حرمة الربا ، وبعض ما ورد في موضوع الربا ، والآثار التي وردت في الأخبار ، كما ننقل الروايات التي وردت في تفسير مفردات الآية المباركة :

حرمة الربا في السنة :

في الكافي عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «درهم ربا عند الله أشد من سبعين زنية كلّها بذات محرم».

أقول : وفي بعض الروايات ثلاثين. والحصر ليس حقيقيا بل إضافي يختلف باختلاف مراتب اضطرار المديون وتشديدات أكل الربا.

والتشبيه إنّما هو باعتبار تشديد نفس الحرمة فإنّ حرمة الزنا تختلف باختلاف المزني بها ومكان الزنا وزمانه وسائر جهاته لا أن يكون تنزيلا للربا منزلة الزنا من كلّ حيثية وجهة حتى يلزم إجراء الحد ونحو ذلك.

ولعل جهة أشدية الربا من الزنا أنّ فيه المفسدة الشخصية والنوعية

٤٤٥

بخلاف الزنا الذي فيه مفسدة شخصية. نعم لو انتشر الزنا في المجتمع كان فيه مفسدة نوعية أيضا.

وفي الفقيه عن جعفر بن محمد عن آبائه (عليهم‌السلام) عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في وصية لعليّ (عليه‌السلام) قال : «يا عليّ الربا سبعون جزء فأيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه في بيت الله الحرام ، يا عليّ درهم ربا أعظم عند الله من سبعين زنية كلّها بذات محرم في بيت الله الحرام».

أقول : تقدم ما يتعلّق بذلك والمراد من سبعين جزء أنّ الربا مركب من سبعين معصية ومفسدة.

وفي الكافي عن أبي جعفر (عليه‌السلام) : «أخبث المكاسب كسب الربا».

أقول : لأنّ فيه خباثة شخصية ويوجب خباثة النوع باعتبار جريان أيدي المتبادلين على المال الذي وقع فيه الربا ويرشد إلى ذلك ما ورد عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «يأتي على الناس زمان لا يبقى أحد الا أكل الربا ومن لم يأكل الربا أصابه غباره».

وفي التهذيب عن زيد بن عليّ عن آبائه عن عليّ (عليهم‌السلام) قال : «لعن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) الرباء ، وآكله وبايعه ، ومشتريه ، وكاتبه ، وشاهديه».

أقول : ورد في رواية أخرى «لعن رسول الله خمسة» ويمكن أن يكون الحصر إضافيا نظير الخمر التي لعن رسول الله جملة فيها.

وفي الكافي عن ابن بكير قال : «بلغ أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رجل أنّه كان يأكل الربا ـ ويسميه اللبأ ـ فقال : لئن أمكنني الله لأضربنّ عنقه».

أقول : يمكن أن يكون قتله لأجل استحلاله للربا وجرأته على الله تعالى وهتكه لحرماته وتدل عليه الرواية الآتية.

وفي الفقيه والعيون عن الرضا (عليه‌السلام) : «هي كبيرة بعد البيان ،

٤٤٦

والاستخفاف بذلك دخول في الكفر».

أقول : المراد من قوله (عليه‌السلام) بعد البيان أي تمامية الحجة عليه فلا ينحصر الأمر في خصوص الربا بل تكون جميع المحرمات كذلك أيضا.

وفي كنز العمال عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «ما ظهر في قوم الربا والزنا إلا أحلوا بأنفسهم عقاب الله».

أقول : يشهد لذلك الدليل والبرهان والوجدان.

وعنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «الربا ثلاثة وسبعون بابا والشرك مثل ذلك».

وعن الصادق (عليه‌السلام) : «الربا سبعون بابا أهونها عند الله كالذي ينكح أمه».

أقول : تقدم ما يتعلّق بهما.

موضوع الربا :

في تفسير القمي عن جعفر بن غياث عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «الرباء رباءان : أحدهما ربا حلال ، والآخر ربا حرام فأما الحلال فهو أن يقرض الرجل قرضا طمعا أن يزيده ويعوّضه بأكثر مما أخذه بلا شرط بينهما ، فإن أعطاه أكثر مما أخذه بلا شرط بينهما فهو مباح له ، وليس له عند الله ثواب فيما أقرضه وهو قوله عزوجل : (فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ) وأما الربا الحرام فهو الرجل يقرض قرضا ، ويشترط أن يرد أكثر مما أخذه فهذا هو الحرام».

أقول : الروايات في ذلك كثيرة والمستفاد من مجموعها أنّ شرط الزيادة محرّم ولكن نفس دفع الزيادة بلا شرط لا يكون محرّما بل يكون راجحا.

وفي التهذيب عن الحلبي عن الصادق (عليه‌السلام) : «إذا أقرضت الدراهم ثم جاءك بخير منها فلا بأس إن لم يكن بينكما شرط».

أقول : تقدم ما يتعلّق بذلك.

٤٤٧

وفي الكافي : «عن الرجل كانت لي عليه مائة درهم عددا قضانيها مائة درهم وزنا قال (عليه‌السلام) : لا بأس ما لم يشترط. وقال جاء الربا من قبل الشروط ، إنّما تفسده الشروط».

أقول : المراد من الشرط هو شرط الزيادة في العقد.

وفي الكافي أيضا عن عبيد بن زرارة قال : «سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام) يقول : لا يكون الربا إلا فيما يكال أو يوزن».

أقول : هذه الرواية تبيّن الرباء المعاملي لا الرباء القرضي.

وفي التهذيب عن عمر بن يزيد قال : «يا عمر قد أحل الله البيع وحرّم الربا ، بع واربح ولا تربه قلت وما الربا؟ قال (عليه‌السلام) : درهم بدراهم مثلين بمثل وحنطة بحنطة مثلين بمثل».

أقول : هذا أيضا في الربا المعاملي دون القرضي.

وفي التهذيب أيضا عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) : «ما كان من طعام مختلف ، أو متاع ، أو شيء من الأشياء يتفاضل فلا بأس ببيعه مثلين بمثل يدا بيد ، فأما نظرة فلا يصلح».

أقول : المراد من قوله (عليه‌السلام) : «يدا بيد» النقد وهذا في الرباء المعاملي ولا يتحقق الربا فيه لفرض اختلاف العوضين والمراد من النظرة النسيئة.

وفي الكافي عن سماعة عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «المختلف مثلان بمثل يدا بيد لا بأس».

أقول : تقدم ما يدل على ذلك.

وفي التهذيب عن منصور بن حازم عن الصادق (عليه‌السلام) قال : «سألته عن البيضة بالبيضتين قال (عليه‌السلام) : لا بأس به. والثوب بالثوبين

٤٤٨

قال (عليه‌السلام) : لا بأس به. والفرس بالفرسين فقال (عليه‌السلام) : لا بأس به. ثم قال : كلّ شيء يكال أو يوزن فلا يصلح مثلين بمثل إذا كان من جنس واحد ، فإذا كان لا يكال ولا يوزن فلا بأس به اثنين بواحد».

أقول : لفرض اعتبار اتحاد العوضين في الرباء المعاملي فإذا اختلفا فلا ربا مع اعتبار كون العوضين من المكيل والموزون والبيض والثوب ليس منهما.

آثار الربا :

في الكافي عن سماعة قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : «إنّي قد رأيت الله تعالى قد ذكر الربا في غير آية وكرّره. قال (عليه‌السلام) أو تدري لم ذاك؟ قلت : لا. قال (عليه‌السلام) : لئلا يمتنع الناس من اصطناع المعروف».

أقول : إذا فرض اقتصار الناس على الزيادة الربوية فقط تمحق جميع المعاملات وتذهب الخيرات والبركات ويختل النظام.

وفي الفقيه عن زرارة عن أبي جعفر (عليه‌السلام) : «إنّما حرم الله عزوجل الربا لئلا يذهب المعروف».

أقول : تقدم ما يدل على ذلك.

وفي تفسير القمي في قوله تعالى : (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ) عن الصادق (عليه‌السلام) قال : «قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : لما أسري بي إلى السماء رأيت قوما يريد أحدهم أن يقوم فلا يقدر أن يقوم من عظم بطنه ، فقلت : من هؤلاء يا جبرائيل؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ، وإذا هم بسبيل آل فرعون يعرضون على النار غدوا وعشيا ، يقولون ربنا متى تقوم الساعة».

٤٤٩

أقول : ما في الرواية حقيقة حال المرابي كشفها الله تعالى لرسوله ليلة المعراج.

وفي التهذيب عن زرارة عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «إنّي سمعت الله يقول : (يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ) ، وقد أرى من يأكل الربا يربو ماله؟! فقال (عليه‌السلام) : أي محق أمحق من درهم ربا يمحق الدّين ، وإن تاب منه ذهب ماله وافتقر».

أقول : هذا من الآثار الوضعية للربا تظهر ولو بعد التوبة ومثل ذلك في المعاصي قليل جدا.

وفي العيون عن الرضا (عليه‌السلام) : «وعلة تحريم الربا لما نهى الله عزوجل عنه ولما فيه من فساد الأموال لأنّ الإنسان إذا اشترى الدرهم بالدرهمين كان ثمن الدرهم درهما وثمن الآخر باطلا فبيع الربا وشراؤه وكس على كلّ حال على المشتري وعلى البائع فحرم الله عزوجل على العباد الربا لعلة فساد الأموال ، كما حظر على السفيه أن يدفع إليه ماله لما يتخوف عليه من إفساده حتّى يؤنس منه رشد ، فلهذه العلة حرّم الله عزوجل الربا وبيع الدرهم بالدرهمين يدا بيد وعلة تحريم الربا بعد البينة لما فيه من الاستخفاف بالحرام المحرّم وهي كبيرة بعد البيان وتحريم الله عزوجل لها لم يكن إلا استخفافا منه بالمحرّم الحرام والاستخفاف بذلك دخول في الكفر ، وعلة تحريم الربا بالبينة لعلة ذهاب المعروف ، وتلف الأموال ، ورغبة الناس في الربح ، وتركهم القرض ، والقرض صنائع المعروف ولما في ذلك من الفساد والظلم وفناء الأموال».

أقول : المراد من الوكس : النقص.

وفي عقاب الأعمال عن النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «من أكل الربا ملأ الله بطنه من نار جهنّم بقدر ما أكل وإن اكتسب منه مالا لا يقبل الله منه شيئا من عمله ولم يزل في لعنة الله والملائكة ما كان عنده منه قيراط واحد».

٤٥٠

أقول : القيراط أصله قرّاط وهو نصف عشر الدينار وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بكلا جزئيه مطابق للقاعدة العقلية وهي ترتب المسبب على السبب.

وفي تفسير العياشي عن الصادق (عليه‌السلام) : «آكل الربا لا يخرج من الدنيا حتّى يتخبطه الشيطان».

أقول : تقدم ما يتعلق بذلك.

وفي المجمع عن الصادق (عليه‌السلام) : «إنّما شدد في تحريم الربا لئلا يمتنع الناس من اصطناع المعروف قرضا أو رفدا».

أقول : الرفد بمعنى الصلة والعطية وقد مرّ سابقا ما يتعلق بهذه الرواية.

وفيه أيضا عن عليّ (عليه‌السلام) : «إذا أراد الله تعالى بقرية هلاكا ظهر فيهم الربا».

أقول : الهلاك أعم من الهلاك المعنوي والظاهري.

ما ورد في تفسير مفردات الآية :

في الدر المنثور عن أنس قال : «قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : يأتي آكل الربا يوم القيامة مختبلا يجر شقيه ، ثم قرأ : (لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ).

أقول : ما ذكره (صلى‌الله‌عليه‌وآله) هو عادة نوع المصروعين في الدنيا.

وفي الكافي عن أحدهما (عليهما‌السلام) في قوله تعالى : (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ) قال (عليه‌السلام) : «الموعظة التوبة».

أقول : هذا تفسير بالمعنى الأخص.

وفي التهذيب عن محمد بن مسلم قال : «دخل رجل على أبي عبد الله (عليه‌السلام) من أهل خراسان قد عمل بالربا حتّى كثر ماله ، ثم أنّه سأل الفقهاء فقالوا : ليس يقبل منك شيء حتّى ترده إلى أصحابه فجاء إلى أبي

٤٥١

جعفر (عليه‌السلام) فقص عليه قصته فقال أبو جعفر (عليه‌السلام) : مخرجك من كتاب الله عزوجل : (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ) قال (عليه‌السلام) والموعظة التوبة».

أقول : يستفاد من هذه الرواية العموم كما ذكرنا ذلك في كتاب البيع ـ فصل الربا من (مهذب الأحكام).

وفي الكافي عن الصادق (عليه‌السلام) : «كلّ ربا أكله الناس بجهالة ثم تابوا فإنّه يقبل منهم إذا عرف منهم التوبة وقال (عليه‌السلام) : لو أنّ رجلا ورث من أبيه مالا وقد عرف أنّ في ذلك المال ربا ولكن قد اختلط في التجارة بغيره حلال ، كان حلالا طيّبا فليأكله وإن عرف منه شيئا أنّه ربا فليأخذ رأس ماله وليردّ الزيادة».

أقول : هذه الرواية ظاهرة في اختصاص الحرمة بخصوص الزيادة فلا شمول لها لجميع المال.

وفي التهذيب عن الصادق (عليه‌السلام) : «سئل عن الرجل يأكل الربا وهو يرى أنّه حلال فقال (عليه‌السلام) : لا يضره حتى يصيبه متعمدا ، فإذا أصابه متعمدا فهو بمنزلة الذي قال الله عزوجل : (لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ)».

أقول : ظاهرها اختصاص الحكم بصورة العلم لا صورة الجهل به.

وفي تفسير العياشي عن الباقر (عليه‌السلام) قال الله تعالى : «أنا خالق كلّ شيء وكلت بالأشياء غيري إلا الصدقة فإنّي أقبضها بيدي حتّى أنّ الرجل والمرأة يتصدّق بشق التمرة فأربيها كما يربي الرجل منكم فصيله وفلوه حتّى أتركه يوم القيامة أعظم من أحد».

أقول : تقدم ما يتعلق بذلك.

وفي تفسير العياشي عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) : «عن الرجل يكون عليه الدّين إلى أجل مسمى فيأتيه غريمه فيقول أنقذني فقال : لا

٤٥٢

أرى به بأسا لأنّه لم يزد على رأس ماله وقال الله تعالى : (فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ)».

أقول : لم يتحقق في الفرض موضوع الربا لأنّه مشروط بالزيادة وهو منتف.

وفي تفسير القمي : «لما أنزل الله تعالى : (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا) ـ الآية ـ فقام خالد بن الوليد إلى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قال : يا رسول الله ربا أبي في ثقيف وقد أوصاني بأخذه عند موته فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا)».

أقول : حيث إنّ المال انتقل إلى الورثة فهم مأمورون بعدم أخذ الزيادة وردها إلى صاحبها الذي كان معلوما وإنّ الوصية بالمحرّم غير نافذة.

وفي الدر المنثور عن ابن عباس في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا) نزلت في بني عمرو بن عوف من ثقيف ، وبني المغيرة من بني مخزوم ، وكان بنو المغيرة يربون لثقيف فلما أظهر الله تعالى رسوله على مكة وضع يومئذ الربا كلّه ، فأتى بنو عمرو بن عمير ، وبنو المغيرة إلى عتاب بن أسيد وهو على مكة ، فقال بنو المغيرة : ما جعلنا أشقى الناس بالربا؟ وضع عن الناس غيرنا. فقال بنو عمرو بن عمير : صولحنا على أنّ لنا ربانا. فكتب عتاب في ذلك إلى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فنزلت الآية».

أقول : يمكن تعدد الواقعة بين خالد وبين من ذكر في هذه الرواية.

وفي المجمع قريب منه وزاد : «فقال النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : ألا إنّ كلّ ربا من ربا الجاهلية موضوع ، وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب ، وكلّ دم في الجاهلية موضوع ، وأول دم أضعه دم ربيعة بن الحارث ابن عبد المطلب كان مرضعا في بني ليث فقتله هذيل».

وفي الدر المنثور : أخرج أبو داود ، والترمذي في صحيحه ، والنسائي ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه عن عمرو بن الأحوص : «أنّه شهد حجة

٤٥٣

الوداع مع رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فقال : «ألا إنّ كلّ ربا في الجاهلية موضوع ، لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون».

وفي الكافي عن الصادق (عليه‌السلام) قال : «صعد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) المنبر ذات يوم فحمد الله وأثنى عليه ، وصلّى على أنبيائه ثم قال : أيّها الناس ليبلّغ الشاهد منكم الغائب ، ألا ومن أنظر معسرا كان له على الله في كلّ يوم صدقة بمثل ماله حتّى يستوفيه ، ثم قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) : «وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدّقوا خير لكم إن كنتم تعلمون» إنّه معسر فتصدّقوا عليه بما لكم فهو خير لكم».

أقول : لا بأس بأن يكون الإنظار صدقة وإن كان واجبا ، كما أنّ دفع المال يكون صدقة وإن كان واجبا كالزكاة.

وفي تفسير العياشي عن الرضا (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) أخبرني عن هذه النظرة التي ذكرها الله عزوجل لها حد يعرف إذا صار هذا المعسر لا بد من أن ينظر ، وقد أخذ مال هذا الرجل وأنفق على عياله ، وليس له غلة ينتظر إدراكها ولا دين ينتظر محلّه ولا مال غائب ينتظر قدومه؟ قال (عليه‌السلام) : ينتظر بقدر ما ينتهي خبره إلى الإمام فيقضي عنه ما عليه من سهم الغارمين إذا كان أنفقه في طاعة الله ، فإن كان أنفقه في معصية الله فلا شيء له على الإمام. قلت : فما لهذا الرجل الذي ائتمنه وهو لا يعلم فيم أنفقه في طاعة الله أو في معصيته؟ قال (عليه‌السلام) : يسعى له في ماله فيرده وهو صاغر».

أقول : يحمل قوله (عليه‌السلام) «وهو لا يعلم فيم أنفقه» على ما قبل ظهور بذل المال في الحرام فحينئذ يجب عليه السعي بعد الظهور وهو صاغر ، فالأقسام أربعة :

الأول : العلم بصرف المال في الطاعة ، فعلى الإمام أن يؤدي دينه.

الثاني : الشك ـ في الصرف في الحرام ـ مستمرا ويحمل فعل المديون على الصحة فعلى الإمام أيضا أن يؤدي دينه.

٤٥٤

الثالث : العلم بالصرف في المعصية لا بد له أن يسعى ويؤدي دينه بنفسه.

الرابع : عدم العلم بذلك حين دفع المال إلى المديون وبعد مدة علم أنّه صرف المال في الحرام ، فحينئذ يسعى وهو صاغر ويستفاد جميع هذه الأقسام من الروايات المتقدمة.

وفي المجمع في قوله تعالى : (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) : «اختلف في حدّ الإعسار فروي عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) أنّه قال : هو إذا لم يقدر على ما يفضل من قوته وقوت عياله على الاقتصاد».

أقول : حد الإعسار أمر إضافي يختلف باختلاف المديونين وعيالاتهم والأزمنة والأمكنة ومقدار قدرتهم على تحصيل المال فلا بد من الرجوع إلى الحاكم الشرعي ، وهو يرجع إلى أهل الخبرة.

وفي الدر المنثور عن ابن عباس ، والسّدي ، وعطية العوفي ، وأبي صالح ، وسعيد بن جبير : «أنّ آخر آية نزلت من القرآن قوله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ).

أقول : إنّ ذلك يناسب مع كثرة اهتمام القرآن بالتقوى حدوثا وبقاء بدوا وختما.

٤٥٥

بحث قرآني

خلق الله تعالى الإنسان وأودع فيه قوة يميّز بها الخير عن الشر ، والنافع عن الضار ، وألهمه بعض الأمور التي بها ينظّم شؤون حياته الفردية والاجتماعية ويسعى إلى الكمال المعدّ له ، وبهما ترفّع على سائر الموجودات في هذا العالم وكان له هذا المقام السامي ، كما أنّ بهما استقامت خطواته وانتظمت أفكاره ، وبهما يكافح في عيشه في هذه الحياة المليئة بالمتاعب والمشاكل ، ولو لا هذه الموهبة الربانية لكان للإنسان شأن آخر ، وهو خلاف الحكمة في خلق الإنسان الذي قد أبدع الله تعالى في صنعه ، وخلق له الأرض وما عليها ليعمّرها ويتزوّد منها إلى العوالم التي ترد عليه.

وبحكم هذين الأمرين ـ أي العقل والفطرة ـ تحكمت قواعد وأصول على جميع خطوات الإنسان وخصوصياته ، ونظمتها تنظيما حسنا ، وهي كثيرة يبحث عنها في علوم متعددة.

ولكن تلك القواعد العقلية والأمور الفطرية قد تعرّضت لانحرافات وشكوك وشبهات بمرور الزمن مما أوجب طمس كثير منها وتعرض الإنسان لاختلافات ومشاكل عجز عن حلّها ومتاعب وهموم أثقلت كاهله فأرسل الله تعالى رحمة بعباده الرسل والأنبياء ليثيروا لهم دفائن العقول ويذكروهم منسيّ الفطرة ، ويهدوهم إلى سواء السبيل ويرشدوهم إلى الحقّ القويم ليفوزوا بالسعادة الأبدية ويسعدوا في حياتهم.

٤٥٦

وقد أنزل معهم الكتاب والحكمة التي تحتوي على المعارف الإلهية والأحكام الشرعية التي تبتني على حكم ومصالح نوعية تجلب السعادة والخير للإنسان ويصل بها إلى الكمال المطلق ، وقد تكفلت لجميع جوانب الإنسان الفردية والنوعية ولم يهمل أمرا من الأمور الجزئية ، وجعل العمل بها من أجزاء الإيمان الصحيح والوصول إلى السعادة في الدارين. وأما إذا أهملها وخالف حل في البلاء والشقاء وسلب السعادة عن نفسه.

ومن الموضوعات التي اعتنى بها الشرع القويم الربا وقد حرّمه الله تعالى وشدّد النكير عليه وجعل آكله محاربا لله تعالى ولرسوله العظيم ، وبيّن سبحانه وتعالى في ضمن الآيات المتقدمة أمرين هامين لا بد من البحث حولهما وإمعان النظر فيهما لأنّهما يتكفلان جميع الآثار المترتبة على هذه الكبيرة الموبقة.

الأمر الأول : قوله تعالى : (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ). والآية الشريفة تضع الحد الفاصل في كلّ ما يقال في هذا الأمر الخطير ، وترشدنا إلى حقيقة من الحقائق القرآنية التي تبيّن الوضع الإنسانيّ عند انتشار ظاهرة الربا في المجتمع ، وهي من ملاحم القرآن العظيم ، وتحدد سلوك الإنسان وأفعاله وأفكاره ، وتبيّن أنّ الربا يمنع الإنسان من القيام بالوظيفة التي قرّرها العقل والفطرة ، ويخرجه عن حالته الطبيعية المستقيمة الرشيدة ، فلا يكون فكره صحيحا منتجا ولا فعله متضمنا للخير والنفع وشبّه سبحانه وتعالى حال الإنسان المتعاطي للربا بحال المصروع الذي خرج عن الاستقامة والاستواء في أفكاره وأقواله وأفعاله ، وهو تشبيه واقعي حقيقي. فهو قد سلب عن نفسه تلك الحالة الهنيئة المطمئنة الآمنة القويمة ، وصار قرين المشاكل والآلام والانهيار الفكري ، وترشد الآية الكريمة إلى معنى أبعد من ذلك وهو أنّ الإنسان مع الربا لا يكون فكره قويما ومستقيما فلا تفيده النظريات والقوانين التي يجعلها لحلّ مشاكله ولجلب السعادة إليه ، فهي لا تكون منتجة ، بل هي مجرد أوهام تسكن إليها النفس برهة من الزمن لتخفّف عنها ما تكابده ولكنّها تعود بأشد مما كانت أولا بعد ما

٤٥٧

يرى عدم جدواها ، وهذا هو الجانب المهم الذي يرشد إليه القرآن الكريم ، ويؤكد ذلك إتيان ضمير الجمع في قوله تعالى : (لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ) يعني أنّ المجتمع الذي حلّ فيه الربا لا يمكنه النهوض بالأمر والتأثير في رفع المشكلات فضلا عن الأفراد ، وقد اتضح صدق ما أفاده القرآن ، فنرى في عالمنا المعاصر بعد انتشار الربا عقم النظريات والقوانين التي وضعت في رفع المشكلات ، ولا يشك أحد من الباحثين أنّ عالمنا المعاصر مع ما فيه من وسائل الراحة والتمتع من الحياة لكنّه من أشد الأوقات بعدا عن الحقيقة والواقع والعيش الهنيء.

الأمر الثاني : قوله تعالى : (يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ). والآية ترشدنا إلى أنّ الربا يلازمه أثر آخر مهم في حياة الإنسان وهو سلب الكمال عن الأشياء وذلك لأنّ لكلّ شيء طرفي كمال ونقص ، والإنسان بفطرته يسعى إلى الكمال ، فهذا المال بجميع أصنافه من النقود والأمتعة ونحوهما قد استخدمه الإنسان لرفع حوائجه المادية ويستعين به في أموره الأخروية فهو محور المعاملات وعليه تدور المعاوضات ، ووضع قواعد وقوانين تحدّد التعامل به ، وجعل الكمال فيه هو رفع الحوائج بالعدل والإنصاف وإشباع الرغبات على الوجه الأحسن ، واعتبر التعدّي عن القواعد المضروبة والقوانين المقرّرة ظلما وعدوانا.

والقرآن الكريم يبيّن أنّ الله تعالى يمحق بسبب الربا جميع الآثار المحبوبة لديه عزوجل المترتبة على المال من البركات ، وإقامة المعروف وسدّ جوعة الفقراء إلى غير ذلك مما هو كثير ، وهذا هو المراد بالمحق الإلهي فيما يشاء.

وأما تكدس الأموال في هذا العالم من الربا فلا يكون محقا بالنظر الأوّلي بالنسبة إلى المرابي وغيره ، وإن كان بالنظر الحقيقي الواقعي هو محق أيضا ، كما قال تعالى : (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) [التوبة ـ ٥٥].

وبالجملة : إنّ الله تبارك وتعالى يمحق بالربا الإنسانية الكاملة فردا ونوعا

٤٥٨

فيؤثر في النفس الإنسانية فيحل الفقر والحرمان في المجتمع ويجعل الفقير يحس بالذل والهوان مما يجعله مترقبا الفرص للانتقام ممن سلب ماله ونيل حقوقه فتكون النفوس في رعب دائم وخوف مستمر وبالتالي فهو محق للأخلاق الفاضلة ، وإيقاع الإنسان في سفاسف الأمور وذمائم الأخلاق ، فيغلب الحرص والطمع. ومحق لأبواب المعروف والخيرات. هذا كلّه بالنسبة إلى الآثار الدنيوية.

وأما الآثار الأخروية : فإنّ لها شأنا آخر فإنّ لكلّ معصية أثرها الخاص يظهر في عالم الآخرة بما يناسب تلك المعصية ، ويمكن أن تكون الآيات الشريفة الواردة في الربا ناظرة إلى جميع العوالم فهي تبيّن حقيقة الربا من حيث هي مع قطع النظر عن العوالم والنشئات.

٤٥٩

سورة البقرة

الآية ٢٨٢ ـ ٢٨٣

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٨٢) وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨٣))

ذكر تعالى في هاتين الآيتين ما يقرب من عشرين حكما تتعلّق بأصول المعاملات والمعاوضات كالبيع والدّين والرهن ونحوها ، وهي قواعد نظامية ثابتة في فطرة العقلاء قرّرها سيد الأنبياء (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بوحي من السماء.

٤٦٠