مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة أهل البيت (ع)
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥١٦

أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ). قال : لو أنّ أحدكم أهدي إليه مثل ما أعطى لم يأخذه الا عن إغماض وحياء قال : فكنا بعد ذلك يأتي أحدنا بصالح ما عنده».

أقول : القنوة : العذق بما فيه الرطب ، والشيص التمر الضعيف الذي لم يشتد نواه أو لم يكن له نواة أصلا ، والحشف الفاسد من التمر قال الشاعر :

كأنّ قلوب الطّير رطبا ويابسا

لدى وكره العنّاب والحشف البالي

وفي تفسير العياشي عن أبي بصير قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن قوله تعالى : (وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) قال : كان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) إذا أمر بالنخل أن يزكّى يجيء قوم بألوان من التمر هو من أردإ التمر يؤدونه عن زكواتهم تمر يقال له : الجعرور والمعافارة قليلة اللحاء عظيمة النّوا. فكان بعضهم يجيء بها عن التمر الجيد ، فقال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لا تخرصوا هاتين ولا تجيئوا بشيء ، وفي ذلك أنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) والإغماض : أن يأخذ هاتين التمرتين من التمر. وقال : لا يصل إلى الله صدقة من كسب حرام».

أقول : لأنّ الحرمة أخبث من كلّ شيء عند الله تعالى كما تدل الآيات المباركة والروايات بل قد يوجب الضمان لصاحبه فهو وزر في وزر.

وفي تفسير القمي في قوله تعالى : (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ) قال (عليه‌السلام) : «إنّ الشيطان يقول لا تنفقوا فإنّكم تفتقرون والله يعدكم مغفرة منه وفضلا ، أي : يغفر لكم إن أنفقتم لله وفضلا. قال : يخلف عليكم».

أقول : ما ورد في الرواية إنّما هو من باب الغالب والا فقد يكون عدم الإنفاق لأجل جهات خارجية أخرى يرغبها الشيطان.

وفي معاني الأخبار عن أبي عبد الرحمن عن أبي عبد الله (عليه‌السلام)

٤٠١

«إنّي ربما حزنت فلا أعرف في أهل ، ولا مال ولا ولد ، وربما فرحت في أهل ولا مال ولا ولد. فقال (عليه‌السلام) : إنّه ليس من أحد إلا ومعه ملك وشيطان ، فإذا كان فرحة كان من دنو الملك منه ، وإذا كان حزنة كان من دنو الشيطان منه ، وذلك قول الله تبارك وتعالى : (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ).

أقول : حيث إنّ روح الإنسان ذو جنبتين جنبة مؤيدة بالعقل والروحانيين ، وأخرى قريبة من المادة ويكون بهما تنظيم نظام النشأتين فقربه إلى الملك يكون من الجنبة الأولى ، وقربه إلى الشيطان يكون من الثانية.

وفي الدر المنثور عن ابن مسعود قال : «قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) إنّ للشيطان لمة يا ابن آدم ، وللملك لمة. فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشّرّ وتكذيب بالحق ، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق ، فمن وجد ذلك فليعلم أنّه من الله فليحمد الله ، ومن وجد الاخرى فليتعوذ بالله من الشيطان ، ثم قرأ : (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ).

أقول : اللمة : الخطوة والقرب والهمة ، وباقي الحديث ظاهر معلوم.

وفي الكافي عن الصادق (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) فقال (عليه‌السلام) : «طاعة الله ومعرفة الإمام».

وفي تفسير العياشي عن أبي جعفر (عليه‌السلام) قال : «الحكمة المعرفة».

وفيه أيضا عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) «الحكمة المعرفة والتفقه في الدّين».

أقول : كل ذلك من التفسير بالمصداق ، وتقدم ما يتعلّق بذلك.

وعن الصادق (عليه‌السلام) : «الحكمة ضياء المعرفة ، وميراث التقوى ، وثمرة الصدق ، ولو قلت ما أنعم الله على عباده بنعمة أعظم وأنعم وأرفع وأجزل وأبهى من الحكمة لقلت : قال الله عزوجل : (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ).

٤٠٢

وفي الخصال عن الصادق (عليه‌السلام) : «رأس الحكمة مخافة الله».

وفي الكافي قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «ما قسم الله للعباد شيئا أفضل من العقل فنوم العاقل أفضل من سهر الجاهل ، وإقامة العاقل أفضل من شخوص الجاهل ، ولا بعث الله نبيّا ولا رسولا حتّى يستكمل العقل ويكون عقله أفضل من جميع عقول أمته وما يضمر النبيّ في نفسه أفضل من اجتهاد المجتهدين وما أدى العبد فرائض الله حتّى عقل عنه ولا بلغ جميع العابدين في فضل عبادتهم ما بلغ العاقل ، والعقلاء هم أولوا الألباب ، قال الله تبارك وتعالى : (وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ).

وفي الدر المنثور عن ابن عباس ، وابن جبير ، وأسماء بنت أبي بكر وغيرهم بعدّة طرق : «إنّ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كان يمنع عن الصدقة على غير أهل الإسلام ، وإنّ المسلمين كانوا يكرهون الإنفاق على قرابتهم من الكفار فأنزل الله تعالى : (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) فأجاز ذلك».

أقول : لو صح الحديث لكان المراد بنفي الهداية الإيصال إلى المطلوب من كلّ جهة كما تقدم.

وفي تفسير العياشي عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) قال (عليه‌السلام) : «ليس تلك الزكاة ، ولكنّ الرجل يتصدق لنفسه ، والزكاة علانية ليس بسر».

أقول : فصّلنا ذلك في الفقه وقلنا : إنّ الواجبات إتيانها علانية أفضل من إتيانها سرّا بخلاف المندوبات ، كما يأتي ما يدل على ذلك من الأخبار.

وفي الكافي عن الصادق (عليه‌السلام) : «كلّ ما فرض الله عليك فإعلانه أفضل من إسراره ، وما كان تطوّعا فإسراره أفضل من إعلانه ولو أنّ رجلا حمل زكاة ماله على عاتقه فقسّمها علانية كان ذلك حسنا جميلا».

وعن الباقر (عليه‌السلام) في قوله عزوجل : (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ) قال (عليه‌السلام) : «هي الزكاة المفروضة قلت : (وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ) قال : يعني النافلة إنّهم كانوا يستحبّون إظهار الفرائض وكتمان النوافل».

٤٠٣

أقول : لعلّ وجه ذلك أنّ إتيان الواجب علانية بعيد عن شبهة العجب والرياء لفرض أنّه واجب على جميع المسلمين.

وفي المجمع في قوله تعالى : (لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) ـ الآية ـ قال أبو جعفر (عليه‌السلام) : «نزلت الآية في أصحاب الصفة ، قال : وكذلك رواه الكلبي عن ابن عباس ، وهم نحو من أربعمائة رجل لم يكن لهم مساكن بالمدينة ، ولا عشائر يأوون إليهم فجعلوا أنفسهم في المسجد ، وقالوا : نخرج في كلّ سرية يبعثها رسول الله فحث الله الناس عليهم فكان الرجل إذا أكل وعنده فضل أتاهم به إذا أمسى».

أقول : هذه الرواية من باب ذكر أحد المصاديق في أصحاب الصفة في مسجد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله).

وفي تفسير العياشي عن جابر الجعفي عن أبي جعفر (عليه‌السلام) قال : «إنّ الله يبغض الملحف».

أقول : الإلحاف في السؤال : الإلحاح فيه ، وهو مبغوض إذا كان على غير الله تعالى ، وأما الإلحاح على الله جلّ شأنه فهو محبوب له ففي الحديث : «إنّ الله يحب الإلحاح في الدعاء».

وفي العيون عن الرضا (عليه‌السلام) عن آبائه (عليهم‌السلام) في قوله تعالى : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) ـ الآية ـ إنّها نزلت في عليّ (عليه‌السلام).

وفي الإختصاص مسندا عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «إنّها نزلت في عليّ (عليه‌السلام) وذلك كان عنده أربعة دراهم فتصدّق بدرهم ليلا ، وبدرهم نهارا ، وبدرهم سرّا وبدرهم علانية».

وروى الشيخ في التبيان. والعياشي في تفسيره مثله. وفي المجمع : وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهم‌السلام).

وروى الزمخشري في الكشاف مسندا ، والواحدي في أسباب النزول عن ابن عباس : «أنّها نزلت في عليّ (عليه‌السلام)».

٤٠٤

ورواه جمع غفير منهم الخوارزمي في المناقب ، والحافظ أبو نعيم ، والثعلبي في تفسيره ، والحمويني في فرائده ، وابن المغازلي وفي الدر المنثور أخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن عساكر من طريق عبد الله بن مجاهد عن أبيه عن ابن عباس : «أنّها نزلت في عليّ بن أبي طالب (عليه‌السلام) كانت له أربعة دراهم فأنفق بالليل درهما ، وبالنّهار درهما ، وسرّا درهما وعلانية درهما».

وفي مناقب ابن شهر آشوب ، وتفسير البرهان روى ذلك عن ابن عباس ، والسدي ، ومجاهد ، والكلبي ، وابن صالح ، والثعلبي ، والطوسي ، والواقدي ، والطبرسي ، والماوردي ، والقشيري ، والثمالي ، والنقاش ، والفتال ، وعلي بن حرب الطائي ، وعبد الله ابن الحسيني في تفاسيرهم.

أقول : الروايات الدالة في أنّ الآية الشريفة نزلت في عليّ (عليه‌السلام) متواترة بين المسلمين كما تقدم بعضها.

وروى الواحدي والسيوطي في الدر المنثور عن الطبراني وابن أبي حاتم «أنّ الآية نزلت في أصحاب الخيل الذين يعلفونها في سبيل الله».

أقول : على فرض صحة الرواية لا بأس بكونه من أحد المصاديق ويكون علي (عليه‌السلام) رأس النزول ومنشأه والبقية من باب التطبيق.

وفي الدر المنثور أخرج ابن المنذر عن سعيد بن المسيب «أنّها نزلت فى عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف إذ أنفقا في جيش العسرة».

أقول : يمكن أن يقال : بأن يكون للنزول منشأ انبساطي يكون بعض أفراده هو المنشأ الأول وينبسط على جميع ما يصلح لذلك فما هو مورد النزول ، ووجهه في المرتبة الأولى إنّما هو عليّ (عليه‌السلام) فينطبق على غيره بحسب المراتب والشأن إذا لا منافاة بين هذه الأخبار إذا لوحظ النزول بوجه انبساطي كلّي وكان منشأه عليّا (عليه‌السلام).

وفي بعض التفاسير : «أنّ الآية نزلت في أبي بكر تصدق بأربعين الف دينار عشرة بالليل ، وعشرة بالنهار ، وعشرة بالسرّ ، وعشرة بالعلانية».

أقول : تقدم ما يرتبط بذلك.

٤٠٥

بحث فقهي

يستفاد من الآيات الشريفة الأحكام الفقهية التالية :

الأول : أنّ الإنفاق والصدقات مطلقا واجبة كانت أو مندوبة متقوّمة بقصد القربة فما لم تضف إلى الله تعالى تكون باطلة ، ولا تبرأ الذمة لو كانت من الصدقات الواجبة وتجب الإعادة ، وقد ذكرنا أنّ الإضافة إليه عزوجل في كلّ عمل بمنزلة روح ذلك العمل.

الثاني : إطلاق الآيات الشريفة الواردة في الإنفاق المالي في سبيل الله يشمل الإنفاق الواجب ـ كالزكاة ، والخمس ، والكفارات المالية والنفقات الواجبة ، والإنفاق المندوب كأصل الوقف والسكنى والعمرى والوصايا والهدية والهبة وغيرها.

ويشترط في قبول جميع ذلك قصد سبيل الله تعالى والإخلاص فيها وعلى قدر الإخلاص يتحقق مقدار الثواب وما أعدّه الله تعالى من عظيم الأجر وعدم إبطالها بالمنّ والأذى.

والإنفاق ينقسم بانقسام الأحكام الخمسة التكليفية فهو إما مباح أو واجب أو مندوب أو مكروه أو حرام والأخير لا وجه له إلا العصيان واستحقاق العقاب ، والبقية إن قصد بها وجه الله وسبيله ففيها الثواب وعظيم الأجر وإن خلت عن ذلك وخلت عن الرياء وما يفسدها يصح أن يترتب الثواب أيضا ،

٤٠٦

ويترتب الثواب على الإنفاق المكروه بعد ما كان أصل الذات محبوبا وهو ليس بعادم النظير مثل الصلاة في الأمكنة المكروهة والأزمنة المكروهة.

الثالث : إطلاق قوله تعالى : (فِي سَبِيلِ اللهِ) يشمل القصد التفصيلي وهو معلوم لكلّ أحد والقصد الإجمالي الارتكازي كما إذا قصد الشخص أنّ كلّ ما يفعله من الأفعال المباحة في زمان معيّن يكون لله تعالى ثم فعل فعلا غافلا عن هذا القصد لكن كان بحيث لو التفت إليه لكان بانيا على قصده فهذا أيضا من قصد سبيل الله.

ويكفي قصد سبيل الله عن النائب والوكيل في تحقق الثواب ما لم يتحقق المنّ والأذى فإنّهما يهدمان العمل ويبطلانه بل قد يحرم الإنفاق حينئذ لاشتماله على إيذاء الغير وهتكه.

ولا فرق في المنّ والأذى بين ما إذا كان بعد الإنفاق بلا فصل أو معه ، كان بعنوان المنّ والأذى أو لم يكن ولكن انطبق العنوان عليه.

الرابع : إيذاء المؤمن والمنة عليه يجتمع فيه حق الله تعالى وحق الناس ، لكثرة ما ورد في السنة الشريفة من عناية الله تعالى بشأن المؤمن فلا يكفي فيه مجرّد الاستغفار والتوبة ما لم يجلب رضاه.

الخامس : إطلاق قوله تعالى : (لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى) يشمل ما إذا حصلا من صاحب المال أو من وسيطه كالوكيل والنائب عنه ، لأنّ المستفاد من مجموع الآية الشريفة أنّ ذاتهما مبغوضتان ومن رذائل الصفات وخبائث الأخلاق مطلقا فالنّهي يشمل الجميع. ولكن لو قصد الموكل القربة ومرضاة الله تعالى وتنزه عن المنة والأذية ، وقصد الوكيل المنة والأذية أثم الوكيل من دون أن يمحق ثواب أصل العمل.

السادس : تجب الإعادة في الصّدقات الواجبة لو كانت بعنوان المنّ والأذى ولا تجزي لقوله تعالى : (لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى) والنّهي في العبادة يوجب الفساد كما ثبت في محلّه راجع كتابنا (تهذيب الأصول).

السابع : يستفاد من قوله تعالى : (كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ)

٤٠٧

مبغوضية الرياء واستلزامه بطلان العمل ويكون المرائي آثما سواء تعلق الرياء بجميع العمل أم بجزء من أجزائه أم بشرط من شروطه هذا إذا كان العمل عباديا ، وأما إذا لم يكن المورد عبادة ولم يعتبر في تحققه قصد القربة فإنّه لا يوجب البطلان ولكنّه يوجب الحرمان عن الثواب.

وهو من رذائل الأخلاق ومن الصفات الخبيثة جدّا ينافي الاستكمالات مطلقا وإنّه يرجع إلى إراءة غير الواقع بصورة الواقع ، ويجتمع فيه أنواع من الأخلاق الذميمة ، والصفات الرذيلة ، كالغش والمكر والخديعة وغير ذلك ولعل تعدد أسمائه في السنة المقدسة كما تقدم لأجل تعدد مصاديقه ، فهو من المقبحات الذاتية سواء كان بين الخلق بعضهم مع بعض أو بين الخلق والخالق فإنّ قبحه أعظم وأشنع ، وقد كنّي في علم الأخلاق ب (ام الخبائث) كما كنّي الخمر بذلك.

الثامن : يستفاد من قوله تعالى : (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ) أنّ الحق نوعيّ لا أن يكون شخصيّا فليس للفقير أن يأخذ الخبيث ولا تبرأ ذمة المالك بذلك ، وإطلاق الآية الشريفة يشمل الصّدقات الواجبة والصّدقات المندوبة.

التاسع : إطلاق قوله تعالى : (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ) ـ الآية يشمل المباشرة والتسبيب كما يشمل جميع أنحاء الإبداء والإخفاء سواء كان في جميع الصّدقات أو في البعض ، وتقدم أنّ الإبداء في الصّدقات الواجبة والإخفاء في غيرها.

٤٠٨

بحث عرفاني

العبودية الحقيقية لله تعالى جوهرة كنهها الربوبية ، والتفاني في مرضاة الخير المطلق خير مطلق ، ويصير العبد بذلك محبوبا لدى الجميع من دون أن يكون في البين واسطة وشفيع ، بل يصير العبد بها محبوب الممكنات وتشرق عليه الشوارق من ربّ البريات.

ألم تر أنّ البدر يشرق ضوؤه

بصفو غدير وهو في أفق السما

فإنّ استغراق العبد في العبودية المحضة تلذذ من الجمال المطلق الأتم واستشعار بالكمال الأرفع الأهم فلا تعلم نفس ما اخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون ، وفي مثل هذه المرتبة تتحد الحقيقة والفعل والفاعل وحينئذ يقصر القلم عن البيان ويكل اللسان عن الكلام.

وحيث لا يجد المدّعون لعبودية الله تعالى هذا المقام في أنفسهم ويعترفون بعدم وجدانهم له فلا بد أن يعترفوا بعدم وجدانهم لمقام العبودية المحضة ، فإنّ عدم المعلول يكشف عن عدم العلّة وكيف يصل أحد إلى هذا المقام وهو منغمر في الشهوات وأليف الغفلات.

وإنّما يعبد العابدون أهواءهم النفسانية التي أفنوا جميع حيثياتهم وشؤونهم فيها (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) [الفرقان ـ ٤٣].

والعبودية الحقيقية هي التي تظهر آثارها على العبد فلا يصدر منه معصية

٤٠٩

ولا يخطر في باله غير رضاء الرب وفيها قال عليّ (عليه‌السلام) «اعبد الله كأنّك تراه فإن لم تكن تراه فإنّه يراك واحذره أن يراك حيث نهاك».

وإنّها إذا استولت على القلب فلا يشغله شاغل من الشواغل المادية الدنيوية ولا يمنعه مانع من الإنفاق في سبيل الله تعالى فإنّ الخلق كلّهم عيال الله عزوجل.

والعبودية الحقيقية إضافة بين المعبود والعابد وهي دواء لجملة من الأمراض النفسانية الروحانية وفيها سرّ الخلوص والإخلاص.

والعبد يبذل المال اليسير والإنفاق في سبيل الله يرتبط بذلك مع عالم لا نهاية لعظمته ولا حدّ لجهة من جهاته فيتضاعف بنفس الإضافة التشريعية أضعافا مضاعفة لا في الدنيا فحسب بل في كلّ عالم يظهر فقر الإنسان الذاتي من كلّ جهة ، ولو أردنا بيان الأدلة السمعية والشواهد العقلية لطال المقام.

فالإنفاق إما لأجل حبّه من حيث هو كمال للإنسان كان الإنسان جوادا بنفسه أو لأجل رضاء الله تعالى أو لأجل حب المنفق عليه حبا يرجع إليه عزوجل فجميع ذلك يرجع إلى نفس العبد المنفق ويكون كمالا له ويستكمل به استكمالا حقيقيا تتبعه السعادة الأبدية وهي غاية خلق الخليقة وتلزم ذلك السعادة الدنيوية والكمال الدنيوي الزائل فلا استكمال الا بالإضافة إلى الحيّ القيوم وكلّ من أهمل ذلك أهمل غاية خلقه وسعى في تعطيلها وتضييعها.

والإضافة إلى الله تعالى لا بد أن تكون عن طريق الوحي المبين المنزل على سيد المرسلين ، كما أنّ أصل العمل المضاف إليه يجب أن يكون كذلك وإليه تدعو جميع الآيات والسنة المقدسة والأدلة العقلية.

وبذل المحبوب في مرضاة المحبوب من طرق إثبات خلوص المحبة وصفاء المودة ، ويتضاعف ذلك حسب تضاعف عظمة المبذول له وأهميّة الوصول إلى قربه ورضوانه ، ونفس هذه الإضافة توجب للباذل درجة رفيعة مع قطع النظر عن سائر الجهات ولذلك أجمل سبحانه وتعالى قوله : (وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) وقوله تعالى : (تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ) [البقرة ـ ١١٠] ، فالعين

٤١٠

موجودة عنده سبحانه وتعالى ولا يعقل فناؤها لكن مع إضافات لا تتناهى وكلّ ما ورد فيه من التحديد فإنّما هو بحسب موجودات هذا العالم لا بحسب الواقع الذي يطلق عليه (عند الله) أو (عند الربّ) ولا معنى للربوبية العظمى إلا تربية ما يصل إليه بما يليق به.

وأما الملكية ، والمالكية ، والاختصاص فإنّها إذا لوحظت بحسب هذا العالم فهي قابلة للتغيّر والتبدل ولكن الإضافة الواقعية وهي سبيل الله والحق المطلوب له باقية لا تزول بل تنمو وتزداد بالعناوين الخارجية ولا يحدها الزمان والمكان ولا غير ذلك من ملابسات الفعل.

ولذلك فكلّ إنفاق يصدر عن غير ذلك ولا يقصد به الحق المتعال يكون من ترجيح المرجوح على الراجح الذي هو قبيح عقلا ولا نصيب للفاعل منه في الآخرة فقد ذهب المال وبقي الحسرات.

٤١١

بحث علمي

الإنفاق من أعظم ما يهتم به الإسلام وهو من إحدى ركائزه وأصوله وقرين أهم العبادات وعدله في معظم آيات القرآن وقد ذكر في مواضع مختلفة من القرآن الكريم مؤكدا عليه بأساليب مختلفة مرشدا الناس إلى ما يتضمنه من المصالح والحكم وتتجلّى أهمية هذا الأمر أنّه يمسّ الاجتماع الإنساني ويرفع كثيرا من مشاكله وآلامه وحاجاته ، ويؤلف بين أفراده ويوقع التضامن بينهم ليكونوا كالبنيان المرصوص أمام عاديات الدّهر ونوازله وهذا ما اهتم به الإسلام فإنّ سعادة الفرد بسعادة النوع والاجتماع ، وهما في نظره على حدّ سواء ، فلا سعادة لأحدهما بدون سعادة الآخر.

والإنفاق بنفسه أمر فطري فإنّ مدّ يد المساعدة إلى بني النوع من غرائز الإنسان ولا يسع لأحد إنكاره ولكن هذا الأمر الفطري إن أهمل وترك ولم يقترن بداع عقليّ أو شرعيّ خارجيّ لزال وأصابه الفناء أو قلّ داعويته كسائر الغرائز فلا يمكن الاستفادة منه ، ولذا نرى أنّ بعض المذاهب الاقتصادية تذهب إلى إنكار الصّدقات وتشدد النكير عليها وتعتبرها من موجبات التخلف والانهيار الاقتصادي والخلقي للمجتمعات بينما نرى أنّ بعض المجتمعات لا تنكر الإنفاق والصّدقات ولكن تعتبر الفقير عالة على المجتمع يجب التخلص منه.

وأما سائر المذاهب الاقتصادية فإنّ الأهم عندهم هو إزالة الفقر

٤١٢

والتفاوت بين الأفراد من المجتمع ووضعت نظريات متفاوتة في محو هذه الظاهرة أو الحدّ منها ، وقد أيدت بعض السلطات الزمنية بعض هذه النظريات وحاولت تطبيقها على الحياة ، ولكن جميعها لم تصل إلى الحل المنشود بل تراجع كثير منها أمام المشاكل وما جلبتها من الشقاء والفساد وهو ما نراه اليوم في كثير من المجتمعات.

ولكن نظر الإسلام في الإنفاق يختلف عن جميع ما وضعه الإنسان في هذا المجال حتّى اليوم ، فهو ينظر إلى الإنفاق من جوانب ثلاثة متكاملة لا يصح النظر إلى جانب والإغماض عن بقيّة الجوانب فهي وحدة متكاملة باجتماعها يصل الإنسان إلى المطلوب والا استلزم خلافه وحرم من الغرض الذي يترتب على الإنفاق وهي :

الجانب الاقتصادي :

الإسلام إنّما يريد من الإنفاق والصدقات رفع الحوائج وإيجاد التكافل الاجتماعي. وتحقيق حياة نوعية متقاربة الأفراد متشابهة الأبعاض وذلك برفع معيشة الفقراء الذين أعوزهم المال في رفع الحوائج وتقريبهم إلى الطبقة العالية أهل الغنى والثروة وكبح جماح الأغنياء وعدم تمركز الثروة فيهم وفي أيّ طبقة من طبقات المجتمع قال تعالى : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ) [الحشر ـ ٧] ، وحرّم الإسراف والتبذير بالزينة بغير المعروف.

وبه ترتفع الحوائج ، ويقل التفاوت الا ما كتبه الله تعالى بحسب الاستعداد وبذلك تنتظم شؤون الحياة وتترتب ترتيبا صحيحا يتضمن سعادة الإنسان وفي ذلك يتحد أفراد المجتمع أمام الحوادث وعوادي الدهر فتحيى فيهم ناموس الوحدة والتعاون ويرتفع التباغض والتنافر بين الأفراد ، وقد أثبتت لنا هذه الحقيقة السيرة النبوية الشريفة على صاحبها آلاف التحية والثناء ففي مدة زعامته (صلى‌الله‌عليه‌وآله) للأمة سعى في إيجاد الوحدة الاجتماعية

٤١٣

المتكافلة وتحقيق الأهداف التي رسمها الإسلام في حياة الإنسان مما جعل هذه البرهة من الزمان نورا يسطو على جبين الدّهر ومنارا يقتدى به (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) [الأحزاب ـ ٢١].

الجانب التربوي :

والإسلام ينظر في الإنفاق والصّدقات إلى تربية الإنسان تربية واقعية حقيقية تقوم على التعاطف والتراحم بين الأفراد والتكافل بينهم ونبذ التفرقة والتنافر فأوجب الصّلة بين الأفراد وفتح أبواب الصّدقات والإنفاق وحرّم الأذية والمنّ والبخل قال تعالى : (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [التغابن ـ ١٦] ، وأكد على تحريم الرياء والنفاق فإنّهما يهدمان كلّ مروة في الإنسان ويزيلان أثر كلّ تربية ويجلبان كلّ فساد وقد عرفت كيف ضرب الله تعالى الأمثال لذلك في الآيات المتقدمة مما لا يدع مجالا للشك.

الجانب الأخلاقي :

فقد لاحظ الإسلام في الإنفاق كونه أمرا أخلاقيا يرشد إلى التخلق بأخلاق الكرام والتحلي بصفة الجود والسخاء والتزين بالملكات الفاضلة والأخلاق الكريمة ، وأنّه من الحكمة التي يؤتيها من يشاء من خلقه ، وهذا ما أكدت عليه الآيات السابقة ، ففي الإنفاق يجتمع كثير من مكارم الأخلاق. وبه يمكن الإنسان ترويض نفسه وإرغامها على نبذ كثير من مساوي الأخلاق والتحلّي بمكارمها.

هذا موجز ما أردنا ذكره في الإنفاق في نظر الإسلام ، وهذه هي حقيقة من الحقائق القرآنية التي عليها في معظم الآيات المباركة والسنة الشريفة وإنّ العمل بها يجلب السعادة في العاجل والآجل والإعراض عنها يوجب الحرمان والشقاء وشيوع الفساد والفحشاء ، وهذا ما نراه اليوم في حياة الإنسان وقد صوّر لنا أمير المؤمنين (عليه‌السلام) بعض تلك الجوانب الخطيرة في هذه الحياة التعسة إذ يقول (عليه‌السلام) : «وقد أصبحتم في زمن لا يزداد الخير

٤١٤

فيه إلا إدبارا والشرّ فيه إلا إقبالا ، والشيطان في هلاك الناس إلا طمعا فهذا أوان قويت عدته وعمّت مكيدته ، وأمكنت فريسته ، اضرب بطرفك حيث شئت من الناس هل تبصر إلا فقيرا يكابد فقرا؟! أو غنيا بدّل نعمة الله كفرا؟! أو بخيلا اتخذ البخل بحق الله وفرا؟! أو متمرّدا كأنّ باذنه عن سمع المواعظ وقرأ». وليس للمسلمين مناص الا الأخذ بمجامع الإسلام والعمل بما جاء به القرآن فإنّ بذلك ترتفع جميع المشكلات ويقهرون به أعداءهم ويتسلطون على من سواهم تسلّطا واقعيا غير قابل للنقض والإبرام ، وهذا هو أدب الإسلام الذي أدّب المسلمين حيث قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «ما آمن بي من بات شبعانا وجاره جائع» ، وقال أيضا : «المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه» إلى غير ذلك مما هو كثير.

٤١٥

سورة البقرة

الآية ٢٧٥ ـ ٢٨١

(الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧٥) يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (٢٧٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٧٨) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (٢٧٩) وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٨٠) وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٨١))

تتضمن الآيات الشريفة بعض أحكام الربا الذي كان شايعا في الجاهلية يتعاطاه اليهود والمشركون وقد شدّد الله سبحانه وتعالى في الربا بما لم يكن مثله في سائر الكبائر من الذنوب فهدّد بما يفزع الضمائر ويزلزل القلوب ، فأكد الحرمة فيه وشدّد النكير على المرابين والوعيد لمن استحل الربا وأصرّ على فعله.

واعتبر القرآن الربا من أعظم أنواع الطغيان وأشد أنحاء العصيان ومن

٤١٦

يرتكبه يكون محاربا لله ورسوله. وهو يوجب شيوع الفساد وهدم النظام وفيه من الآثار السيئة المشومة التي تؤثر في الفرد والاجتماع وفيه ضياع حق النوع.

وسياق الآيات الشريفة يدل على أنّها نزلت لتأكيد الحرمة السابقة التي لم يكن المسلمون يراعونها فهي لم تشرع حكما جديدا في الربا بل كان التشريع في الآية التي نزلت قبل هذه الآيات وهي قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [آل عمران ـ ١٣٠] ، وقبل هذه الآية نزلت آية أخرى تبيّن اتجاه الإسلام في هذا الأمر الخطير ، فكانت كالتوطئة للتشريع الجديد قال تعالى : (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) [الروم ـ ٣٩] ، ومن ذلك يعلم أنّ الربا كان مبغوضا عند هذا الدّين الحنيف من حين حدوثه.

ويستفاد من المقابلة بين الربا في هذه الآيات السبع والصّدقات التي تقدمت والإنفاق الذي ذكر في الآيات السابقة عظم ما يترتب على الربا من الآثار السيئة كما يترتب على الإنفاق من الآثار الحسنة فإنّه نزول عن المال كلّه بلا عوض ولا رد تقرّبا إلى الله تعالى بخلاف الربا الذي هو استرداد للمال مع الزيادة ، فكلّ ما فيه المصلحة يقابله كلّ ما في الربا من المفسدة ، فهو يقابله في جميع الآثار والفضائل والرذائل وفي كلّ العوالم.

ومن ذلك يستفاد وجه الارتباط بين هذه الآيات والآيات السابقة فإنّ فيها تحريضا على الإنفاق وتوزيع الثروة بالعدل والإنصاف وفي هذه الآيات إزالة تمركز الثروة وإعدام الابتزاز وهدم التمايز إلا بالتقوى التي أمرنا الله تعالى بها في هذه الآيات مكرّرا.

٤١٧

التفسير

٢٧٥ ـ قوله تعالى : (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ).

الأكل معروف والمراد به هنا : أخذ الربا وانتزاعه من مالكه وهو المدين.

ومادة (ربو) تأتي بمعنى الزيادة والارتفاع ولها استعمالات كثيرة في القرآن الكريم وفي الحديث : «من أجبى فقد أربى» وفي حديث الصدقة : «إنّها تربو في كفّ الرّحمن حتّى تكون أعظم من الجبل». وفيه «الفردوس ربوة الجنة» أي : أرفعها ، ومنه أيضا : «فلا والله ما أخذنا من لقمة إلا ربا من تحتها» يعني الطعام الذي دعا فيه النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بالبركة.

وشرعا : زيادة خاصة في القرض أو في بيع أحد المثلين بالآخر مع الزيادة كما فصّلناه في (باب الرّبا) من (مهذب الأحكام).

ومادة خبط تأتي بمعنى المشي على غير استواء ، يقال لمن يتصرف ولا يهتدي : يتخبط خبط عشواء ، وفي الدعاء «اللهم إنّي أعوذ بك أن يتخبّطني الشيطان».

وقال زهير :

رأيت المنايا خبط عشواء من تصب

تمته ومن تخطي يعمّر ويهرم

٤١٨

ويتخبطه مثل يتملكه ويتعبده أي : تتابع الخبط عليه بسبب مس الشيطان له ، فتتابع سقوطه بحيث فقد رشده لا يميّز بين الخير والشر والنافع والضار.

والقيام خلاف القعود والمراد به في المقام : هو النهوض بأمور المعاش قال تعالى : (لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) [الحديد ـ ٢٥].

ومعنى قوله تعالى : (كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ) أي : لا يقوم في امور المعاش والحياة بالوجه الصحيح والنّهج القويم وذلك لأنّ الإنسان بل سائر الحيوان قد أودع الله تعالى فيه قوة يميّز بها الخير من الشر والنافع من الضار وبها ينظم شؤون حياته باتساق وانتظام وبها يهتدي الإنسان في أفعاله واعتقاداته وينتفع من حياته بالوجه الحسن وما كتبه الله تعالى فيها ، فإذا اختلّت هذه القوة الدرّاكة المميّزة اختلت أفعاله وحركاته وأحكامه فلا يرشد إلى الصحيح منها والنافع كالمصروع الذي فقد فيه التمييز. فلا يقوم في معيشته بالوجه الصحيح النافع.

وفعل المرابي في أخذه الربا من الأفعال التي ليس فيها الخير والنفع وهو خلاف ما تدعو إليه الفطرة المستقيمة والعقل في الأفعال فإنّه اختلاس وابتزاز لأموال الناس من غير عوض فيكون في طرف زيادة ونقصان في الطرف الآخر.

ويمكن أن يكون مس الشيطان موجبا لاختلال نظمه وخبط في أموره في جميع النشآت ، ففي هذا العالم يغلب عليه الوهم والخيال ويبتعد عن الفطرة المستقيمة والقوة العاقلة فيرى كالمصروع ، وفي موقف الحشر يراه جميع الناس كذلك لأنّه عالم ظهور الحقائق والسرائر للجميع فيحشر المرابي كالمصروع وهذا من خواصهم وعلاماتهم ، فإنّ لكلّ معصية أثرها الخاص يظهر في هذا العالم عند أهل الحقائق والبصائر وفي عالم الآخرة عند كشف السّرائر. فلا يكون ما في هذا العالم الذي نحن فيه الا مادة واحدة تتبادل عليها الصّور والأعراض ، بل لا معنى لدار الكون والفساد الا ذلك وكلّ ما في الإنسان من الصّفات الحسنة أو القبيحة الذميمة ستبدو وتظهر في الدنيا أو في الآخرة.

٤١٩

وعليه فلا يختص خبط الشيطان بخصوص الربا بل هو عام يشمل جميع المعاصي والآثام ولعلّ في ذكر كلمة التشبيه في الآية المباركة إشارة إلى ذلك. نعم ، للخبط مراتب متفاوتة شدّة وضعفا حسب مراتب المعاصي والمداومة عليها.

وخواص المعاصي وآثارها لا يعلمها الا الله تعالى أو من علّمه عزوجل من أوليائه وفي الحديث عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «إنّ على كلّ عاص من معصيته علامة تليق به فيعرف بها صاحبها وعلى كلّ مطيع من طاعته أمارة تليق به فيعرف بها صاحبها وذلك معنى قوله تعالى : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) [الرحمن ـ ٣٩]. وقد ورد في القرآن الكريم والسنة الشريفة بعض تلك الآثار قال تعالى : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى) [طه ـ ١٢٦] ، وقال تعالى : (وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً) [طه ـ ١٠٢] ، وعن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «يبعث الشهيد يوم القيامة وأوداجه تشخب دما» وعنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في شهداء بدر : «زملوهم بدمائهم وثيابهم فإنّهم يبعثون فيها يوم القيامة» ويمكن إقامة الأدلة العقلية على ذلك ويأتي في الموضع المناسب بيانها إن شاء الله تعالى.

وكيف كان فليس المراد من خبط الإنسان من مسّ الشيطان هو المعنى الظاهري الجسماني فقط أي : من مسه الشيطان فأصابه الخبل والجنون فتكون حركاته على غير انتظام واتساق بل المراد الأعم من ذلك وما ذكرناه آنفا من عدم استقامة أفعال الإنسان وأحكامه وعدم تطابقها مع العقل والفطرة المستقيمة فيشمل جميع وساوس الشيطان ومكائده وحيله ومصائده ، فيكون استيلاء غير القوة العاقلة على أعمال الإنسان من أقوى جهات تخبطه بالمس.

وبالجملة : انعزال الإنسان عن العقل والشرع يكون من مسّ الشيطان وإن كان في ظاهر الأمر صحيحا وفي كمال الرخاء والسعة ولكنّه في الواقع قرين الفساد وأليف الشرور والآلام وهذا ما نراه في عالمنا المعاصر ، فإنّ

٤٢٠