مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة أهل البيت (ع)
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥١٦

بحث روائي

في الكافي عن عبد الله بن سنان عن الصادق (عليه‌السلام) في قول الله تعالى : (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) قال (عليه‌السلام) : «هي الإيمان بالله وحده لا شريك له».

أقول : مثله ما رواه العياشي عن الباقر والصادق (عليهما‌السلام).

في المعاني عن عبد الله بن عباس قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «من أحبّ أن يتمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها فليتمسك بولاية أخي ووصيّي عليّ بن أبي طالب (عليه‌السلام) فإنّه لا يهلك من أحبّه وتولاه ولا ينجو من أبغضه وعاداه».

أقول : الروايات من الجمهور في ذلك كثيرة مذكورة في كتب الكلام والحديث والتفسير وغيرها ، وفي بعضها عليّ وذريته (عليهم‌السلام) ولا ريب في أنّ عليّا (عليه‌السلام) يدعو إلى كتاب الله عزوجل والعمل به وهو قرينه كما في الحديث المتواتر بين المسلمين عن النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض».

وفي الخصال عن الصادق عن آبائه عن أمير المؤمنين (عليهم‌السلام) قال : «المؤمن يتقلّب في خمسة من النور ، مدخله نور ، ومخرجه نور ، وعلمه

٣٠١

نور ، وكلامه نور ، ومنظره يوم القيامة إلى النور».

أقول : إذا كان المؤمن معتقدا بدين الله تعالى ملتزما في أعماله بأن يعمل على طبق ما شاء الله وأراد عزوجل يصير جميع ذلك من الأنوار المعنوية لفرض أنّ في قلبه إيمانا وهو نور معنويّ وحركات جوارحه مطابقة للإيمان وهي أيضا من الأنوار المعنوية فيكون مآله إلى النور وسيأتي شرح ذلك أيضا.

وفي أسباب النزول للواحدي عن مجاهد قال : «كان ناس مسترضعين في اليهود ـ قريظة والنضير ـ فلما أمر النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بإجلاء بني النضير قال أبناؤهم من الأوس الذين كانوا مسترضعين فيهم لنذهبنّ معهم ولنديننّ بدينهم فمنعهم أهلهم وأرادوا أن يكرهوهم على الإسلام فنزلت : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ)».

وفي الدر المنثور أخرج أبو داود والنسائي وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس في ناسخه وابن مندة في غرائب شعبه والبيهقي في سننه وغيرهم عن ابن عباس قال : «كانت المرأة من الأنصار تكون مقلاة لا يكاد يعيش لها ولد ، فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوّده ، فلما أجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار فقالوا : لا ندع أبناءنا فأنزل الله تعالى : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ).

أقول : وردت روايات اخرى في شأن نزول الآية الشريفة مذكورة في كتب القوم ، وكلّ ذلك من باب التطبيق ولا بأس به.

٣٠٢

بحث عرفاني

قد أثبت العلماء أنّ نسبة المعارف المعنوية إلى الأرواح كنسبة الأغذية الجسمانية إلى البدن والجسم ، فإنّ الجسم يصلح بصلاح الغذاء وينمو به ويفسد بفساده وتختلف درجات الغذاء فيهما ، كما أنّ له مراتب كثيرة جدّا بحسب اختلاف الأجسام بل اختلاف الحالات في بدن واحد فضلا عن أبدان مختلفة ، فكما أنّ من طبيعة الجسم التغذّي بما يصلحه والا اضمحل وزال وكذلك الروح فإنّه لا بد له من الانتفاع بما يناسبه والا لبطل استعداده وتعرض للهلاك.

والإكراه في التغذّي الجسماني يستلزم خلاف المطلوب بل يوجب تنفر الطبع عن الغذاء وانزجار النفس عنه ويؤثر ذلك على الروح أيضا لأنّ بينهما جذبا وكذا لا وجه للإكراه بالنسبة إلى الروح وما يرتبط به بل هو أشدّ تأثرا من الجسم لأنّه جوهر لطيف أكثر تحسّسا منه ، ولكن كلّ ميسر لما خلق له. ولكلام الحق تعالى جذبات وللقرآن كذلك ، وللموعظة الصادرة عن أهلها جذبات بمراتبها المختلفة التي لا حدّ لها ، ومع تحقق تلك الجذبة كيف يتصور الإكراه ، ويعلم سرّ ذلك في قوله تعالى : (فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [ابراهيم ـ ٤] وقوله تعالى : (وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [البقرة ـ ٢١٣] فلو لم تكن في المعشوق جذبة فإنّه لا يكون لجهد العاشق أثر وإن بلغ ما بلغ في العناء والمشقة.

٣٠٣

والحاصل : إنّه لا إكراه في الاستكمالات المعنوية مطلقا والآية الشريفة (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) تشير إلى أمر فطريّ عقلي ويرشد إليه قول عليّ (عليه‌السلام) : «وأرسل الرسل ليذكّرهم منسيّ الفطرة وتثير لهم دفائن العقول» فيكون إرسال الرسل من النظام الأحسن كإخراج المعادن من الأرض.

وأما الإكراه على بعض العلوم والحرف والصنايع الدائرة في هذا العالم فإنّ ذلك لا يؤثر الأثر المطلوب فإنّ شوب تلك العلوم والمعارف بالماديات أخرجتها عن المعارف المعنوية ، فأين المعارف الربوبية التي تبقى في النفس إلى الأبد وتنفعه في عالم البرزخ والحشر والنشر والجنة وأين الصنايع الظاهرية المادية في أدقّ معانيها التي لا تبقى بعد انفصال الروح عن الجسم ، ولو عبّر عنها بأنّها جسمانية الحدوث وجسمانية البقاء لكان حسنا.

يضاف إلى ذلك أنّ الأسباب الظاهرية المجبر عليها شيء وكمال النفس على فرض كونه كمالا شيء آخر بينهما بون بعيد كما هو معلوم.

٣٠٤

سورة البقرة

الآية ٢٥٨ ـ ٢٥٩

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٢٥٨) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٥٩))

الآيتان والتي تليهما تبيّن توحيد الله تبارك وتعالى وقدرته وعنايته لعباده المؤمنين ، فإنّه عزوجل بعد أن أثبت لنفسه التوحيد ومهام الصّفات العليا مثل القيومية المطلقة والربوبية العظمى والولاية على أهل الإيمان ووعدهم بإخراجهم من الظّلمات إلى النور ضرب في هذه الآيات أمثلة لبيان ولايته على المؤمنين وهدايته لهم وبيّن أنّ هناك هداية تحصل بالحجة والبرهان كالتي مع إبراهيم (عليه‌السلام) في قصته مع من آتاه الله الملك. وهداية بالمشاهدة والعيان كالتي حصلت مع ذلك المؤمن الكريم الذي مرّ على قرية مملوءة من العظام البالية المبعثرة فأخذه العجب من إمكان إحيائها فأماته الله مائة عام ثم بعثه ليرى بنفسه كيفية خلقها ونشوزها.

ولهذا كانت هذه الآيات مرتبطة بالآيات السابقة واللاحقة في كونها من مظاهر توحيده عزوجل وولايته وقدرته وإثبات المعاد.

٣٠٥

التفسير

٢٥٨ ـ قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ).

تقدم الكلام في جملة (أَلَمْ تَرَ) في آية (٢٤٣) وذكرنا أنّها تستعمل في مقام التعجب ويستفاد ذلك من بنائه اللفظي أو المعنوي.

والمحاجة : هي الجدال أي تبادل الحجة مع الخصم ومادة (حجج) تأتي بمعنى القصد ، والمحاجة لقصد الغلبة على الخصم. وتطلق الحجة على ما يقصد به إثبات شيء.

والمحاجة بين الحق والباطل قديمة حدثت بحدوث أصل الخليقة ، فإنّ أول ما خلق الله تعالى العقل ـ وهو خلق نوراني ـ وخلق في مقابله الجهل ـ وهو خلق ظلماني ـ وجعل لكلّ واحد منهما جنودا مجندة في الكمية لكنّها مختلفة في الكيفية ، فكلّ ما طلع نور حق في البين يهدي إلى الرشاد يخرج سحاب ظلماني يرعد ويبرق ويغوي العباد ، وهذه سنة الله في عباده ولن تجد لسنة الله تبديلا ، ولا تزال كذلك حتّى يفترق الفريقان فريق في الجنة وفريق في السعير فيلحق كلّ واحد منهما بما هو مثله ونظيره ويحظى بما يلائمه فيرتفع النزاع وينتهي الصراع.

وفي الآية الشريفة الذي مع الحق هو إبراهيم (عليه‌السلام) ومن يمثل جانب الباطل نمرود بن كنعان الملك المعروف المعاصر لإبراهيم (عليه

٣٠٦

السلام) وشبه الجملة في قوله تعالى : (فِي رَبِّهِ) متعلّق بحاجّ والضمير فيه يرجع إلى إبراهيم (عليه‌السلام).

والمعنى : ألم ينته إلى علمك أو هل رأيت غرور الذي حاج إبراهيم (عليه‌السلام) في أمر ربّه.

ووجه الصراع بينهما : أنّ نمرود ادعى الربوبية لنفسه. لفضل راه فيه كما تفضل على سائر الآلهة والأرباب بل جعل نفسه ربّ الأرباب وموّه الأمر على ذلك المجتمع الوثني الذي كان يعبد الأصنام.

وأما إبراهيم (عليه‌السلام) فقد كان يذعن بالالوهية المطلقة لله تعالى والربوبية العظمى له عزوجل لم يشارك في سلطانه أحدا من مخلوقاته واحتج على الخصم : بأنّ ربّه الذي يحيي ويميت ، وأراد بهما الحياة والموت المشهودين المعروفين الحياة التي هي أصل كلّ إحساس وشعور والموت الذي هو الفناء لذلك ، فلما عارض نمرود إبراهيم بالمغالطة والتلبيس بأنّه يحيي ويميت حين قتل أحد المسجونين وأطلق الآخر ونجح هذا التلبيس على الحاضرين فصدّقوه جهلا منهم أو عنادا ، ورفع هذا التلبيس إبراهيم (عليه‌السلام) بمحاجة أخرى واضحة جلية يذعن بها الجميع أنّها من صنع الله تعالى ولذلك بهت الذي كفر ولم يسع لإبراهيم (عليه‌السلام) يبين وجه المخالفة لعلمه بأنّ ذلك المجتمع لا يقبله منه ولا يصدّقه أحد.

هذه هي المحاجة بين إبراهيم (عليه‌السلام) الذي يذعن بالالوهية المطلقة لله تعالى ونمرود الذي يعتقد بتعدد الأرباب والالوهية لنفسه.

قوله تعالى : (أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ).

المراد بالملك : تلك الإضافة الظاهرية بالنسبة إلى ما في الدنيا تتسع وتتضيق حسب ما يشاء الله تعالى ويريد وتكون هذه الإضافة معرضا لحدوث الإضافات الكثيرة تفنى وتزول ، ويكون المتلبّس بها في جهد أكيد شديد في جلب مقتضياتها ورفع موانعها ، وفي الحقيقية إنّه ليس إلا متاع الغرور. هذه حال الملك الظاهري.

٣٠٧

أما الملك الذي آتاه الله تعالى إبراهيم (عليه‌السلام) فهو مالكية حقايق الأمور وتسلطه على الممكنات بحيث يقلب الجوهر إلى آخر ويبدل الصورة إلى اخرى بإذن الله تعالى وهو باق ببقاء الله عزوجل ولا مناسبة بين الملكين الا نسبة العدم إلى الوجود.

ومن العجيب أن يكون الثاني مبتلى بالأول دائما كابتلاء إبراهيم (عليه‌السلام) بنمرود ، وموسى (عليه‌السلام) بفرعون ، ومحمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بالطواغيت من أهل عصره وليس ذلك الا لأجل كمال الأول وخسّة الثاني.

وجملة (أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ) في موضع التعليل يصح أن تكون تعليلا للمحاجّة يعني إنّما حاج نمرود إبراهيم لأنّه رأى نفسه ملكا فأورثه الكبر والإعجاب فحمله على الغرور ، ودفعه على المحاجة. ولم يعرف أنّ الذي أعطاه الملك يقدر على أن ينزعه عنه.

ويحتمل أن تكون الجملة في مقام بيان كفران نمرود للنعمة التي أنعم الله تعالى عليه في الدنيا ، فهو بدل أن يؤمن بالله تعالى ويشكره عليها ادعى الربوبية لنفسه وخاصم نبيّ الله عزوجل فيها ، ومثل ذلك كثير في المحاورات قال الشاعر :

جزى بنوه أبا الغيلان عن كبر

وحسن فعل كما يجزي سنمّار

ويصح إرجاع الضمير في قوله تعالى : (أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ) إلى إبراهيم (عليه‌السلام) فيكون المراد بالملك الملك المعنوي لا الملك الظاهري الإضافي ، ويدل عليه قوله تعالى : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) [النساء ـ ٥٣] ، وبهذا الملك أي النبوة التامة خاصم إبراهيم (عليه‌السلام) نمرود الملك الظاهري وحاجّه وأبهته لا أن يكون قد نازعه في ملكه الظاهري فإنّ مقام النبوة أعظم وأكبر من هذا الملك قطعا.

٣٠٨

قوله تعالى : (إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ).

إنّما قال إبراهيم (عليه‌السلام) (رَبِّيَ) لاعتراف الجميع بأنّ ربّ إبراهيم هو الله تعالى.

والمراد بالحياة والموت : ما هو المدرك بالحس والوجدان النوعيان الشاملان لجميع ما هو متصف بالحياة من النبات والحيوان والإنسان.

أي : قال إبراهيم (عليه‌السلام) في مقام المحاجّة مع نمرود إنّ ربّي من يقدر على الإحياء والإماتة بل على إيجاد العالم وإفنائه فإنّ إعطاء الروح وأخذه إنّما يكون تحت استيلائه وفي قبضته ، ولكن نمرود فهم من ذلك الإحياء والإماتة الشخصيتين للإنسان فادعى لنفسه ذلك أيضا ، فأمر بإحضار شخصين من السجن فقتل أحدهما وأطلق الآخر ـ كما ورد في بعض الروايات ـ فقال أنا احيي وأميت. ولم يعلم أنّ ذلك ليس من الإحياء والإماتة فإنّ الإطلاق من السجن والقتل بمعزل عن الاستيلاء على الروح ـ مطلقا ـ الذي هو منحصر في الله تعالى أو من يأذن الله عزوجل له بالتسلط عليه.

وإنّما خص إبراهيم (عليه‌السلام) في حجته الإحياء والإماتة دون غيرهما من صنع الله تعالى ، لأنّهما يختصان به تعالى وليس لغيره عزوجل منهما صنع وهما مشهودان للجميع واضحان جليان ومع ذلك لم ينفع الاحتجاج بهما عليهم وذلك لقصور تفكرهم وتعقلهم ولا يرجى أكثر من ذلك ممن أسر نفسه في المادة وأوقع نفسه في سجن الماديات لا يرقى فكره عن محيط نفسه ولا يعرف أنّه في أين ومن أين وإلى أين ، ومثل ذلك يجري في كلّ قوم بلغ الانحطاط الفكري فيهم إلى هذا المستوى وإن تقدّم في الماديات الرقيّ الحضاري ولا نرى هذا الانحطاط المعنوي في مجتمعنا المعاصر والمدنية الحاضرة أيضا الا لبعدهم عن المعارف المعنوية وانهماكهم في الماديات.

قوله تعالى : (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ).

أي : أنا الربّ الذي يحيي ويميت ، وقد قصر ذلك على نفسه ـ ولم

٣٠٩

يقل : وأنا احيي وأميت أيضا ـ اعتقادا لنفسه الربوبية فادعى لنفسه ما وصف به إبراهيم (عليه‌السلام) ربه ، وصرف الكلام عن وجهه إما عنادا ولجاجا ومكابرة أو أنّه بلغ في الانحطاط الفكري إلى المستوى الذي لا يميّز بين الحياة الحقيقية والموت كذلك وبين الإحياء والإماتة بالمعنى الذي أراده كما ذكرنا آنفا.

قوله تعالى : (قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ).

مقتضى السياق أنّ إبراهيم (عليه‌السلام) لما أيس من هدايته وسد باب المصادرة ، كما فعل نمرود في الحجة الأولى وإثبات الربوبية لنفسه ذكر (عليه‌السلام) : أنّك إذا تعتقد الربوبية وتصنع كما يصنع ربّي الله الذي له الالوهية والربوبية العظمى على ما سواه فإنّه تعالى يأتي بالشمس من المشرق فتصرّف أنت فيه فائت بالشمس من المغرب.

وإنّما عدل (عليه‌السلام) عن الرّب إلى اسم الجلالة هنا لأنّ الربوبية قد صارت واضحة بإقامة الحجة عليها في المرة الاولى فالتفت الخليل (عليه‌السلام) إلى أنّه تعالى معبود الكلّ كما أنّه ربّ الكل.

ولعلّ ذكر إبراهيم (عليه‌السلام) الشمس لأنّها كانت من أعظم المعبودات عندهم فأراد (عليه‌السلام) أنّ هذا النيّر العظيم الذي تقدّسونه وتحترمونه احترام الآلهة مسخر تحت إرادة الله تعالى. ومما ذكرنا يظهر الوجه في تفريع هذه الحجة على الحجة الاولى.

قوله تعالى : (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ).

البهت : هو انقطاع الحجة وعدم القدرة على إقامتها فينقطع اللجاج والمحاجة لا محالة أي : فسكت نمرود الكافر بالله تعالى متحيّرا مدهوشا لا يقدر على الرد.

ولم يصرّح سبحانه باسمه تحقيرا ، ويمكن أن يراد به كلّ من كفر سواء كان نمرود أو من حضر في مجلسه.

٣١٠

قوله تعالى : (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).

أي : إنّ الله تعالى لا يهدي ولا يوفق من أعرض عن الحق بعد وضوح الحجة فيتركهم إلى أنفسهم فهم ظلموا أنفسهم بسوء اختيارهم واتخذوا سواء الجحيم بدلا عن الصّراط المستقيم.

ومن ذكر الوصف (الظَّالِمِينَ) يستفاد أنّ العلة في عدم الهداية هو الظلم ، وهذا مما يؤكده القرآن الكريم في موارد كثيرة لأنّه أقوى وأغلظ حجاب بين النفس الإنسانية والمعارف الربوبية كما تقدم بيانه.

٢٥٩ ـ قوله تعالى : (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها).

مادة (خوى) تأتي بمعنى الخلاء والسقوط ، وترك ما بين الشيئين خاليا ، يقال : خوى بطنه عن الطعام أي خلا بطنه ، وخوى النجم أي سقط ، وفي الحديث «كان عليّ (عليه‌السلام) إذا سجد يتخوّى كما يتخوّى البعير الضامر» أي يتجافى جميع أجزاء بدنه في السجود يعني لا يلصق أجزاء بدنه بعضها ببعض ولا بالأرض الا المساجد السبعة.

والعرش : كلّ مرتفع أظلّ الإنسان من سقف أو بيت ، أو كرم ، والتعريش جعل الخشب تحت الكرم ، بل كلّ بناء عرش ، وعريش مكة أبنيتها والعرش ـ بالضم ـ عرق في أصل العنق.

وهذه الجملة أي (خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) قد ذكرت في مواضع من القرآن الكريم ، والكلّ تكون كناية عن الخلو من الأهل.

وأما لفظ. (خاوِيَةٌ) في قوله تعالى : (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ) [الحاقة ـ ٧] فهي بمعنى ساقطة.

والجملة تحتمل معنيين : الأول ـ سقوط السقوف وانهدام الحيطان عليها. والثاني ـ سقوط السقوف وبقاء الحيطان ، ومن يستظلّ بالحيطان دون السقوف وكلّ منهما صحيح وواقع في الخارج ومشاهد في الدور الخربة والقرى المندرسة.

٣١١

ومادة (قري) تأتي بمعنى التجمع ، وسميت القرية قرية لتجمع الناس فيها ولها استعمالات كثيرة في القرآن الكريم مفردا وتثنية وجمعا قال تعالى : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) [الأعراف ـ ٩٦] ، وقال تعالى : (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف ـ ٣١].

و «أو» حرف عطف وقد ذكر المفسرون وجوها في عطف هذه الآية ولكن الصحيح أنّها معطوفة على المعنى فإنّه لما بيّن سبحانه أنّ الاستمساك بالعروة الوثقى موجب لهداية الإنسان والخروج من الظلمات إلى النور عقب عزوجل ذلك بجملة من الأمثلة التي تبيّن طرق الهداية واستشهد ببعض قصص الأنبياء مع أممهم للإرشاد إلى أنّهم هم العروة الوثقى التي لا بد من التمسك بهم.

وقد تفنّن عزوجل في بيان القصص فذكر الاولى لبيان الاحتجاج على المعاد ، لمكان التلازم بين المبدإ والمعاد ثبوتا وإثباتا كما تقدم ، وأكد المعاد بذكر كيفية الحشر والنشر ، كما ورد في قصة إبراهيم (عليه‌السلام) مع الطيور الأربعة ، لكثرة أهميّة المعاد واستبعاد الناس بأنّ عين البدن المحسوس في دار الغرور كيف يعاد في دار النشور ، مع تراكم الاستحالات الواردة عليه فكم من بدن صار ترابا ثم صار بدنا لإنسان آخر :

ربّ لحد قد صار لحدا مرارا

ضاحك من تزاحم الأضداد

ودفين على بقايا دفين

من عهود الآباء والأجداد

صاح هذي قبورنا تملأ الأرض

فأين القبور من عهد عاد

وذلك كلّه من كمال قهاريته تعالى وعلمه التام المتعلق بذرات الموجودات وجزئياتها حدوثا وبقاء ، فالتمييز لدى العلم الأزلي ثابت وإن تبادلت عليها الاستحالات الكثيرة في الدنيا والآخرة وما يحدث في كلّ منهما الصادر عن نظام العلم الأزلي المتعلّق بالموجودات تعلّقا خارجا عن تعقل الإنسان لقصور العقول عن دركه.

٣١٢

وإنّما ذكر سبحانه إبراهيم في الآية السابقة وأبهم اسم الذي مر على القرية واسمها والقوم الذين كانوا يسكنون فيها تعظيما لإبراهيم (عليه‌السلام) وتشريفا له فإنّ لله عزوجل مع إبراهيم عنايات خاصة وله مع الله حالات.

ولأنّ الغرض هو بيان كيفية الهداية والموعظة ولا يحتاج إلى ذكر الأسماء بعد استيفاء الغرض من ضرب المثل ، أو لأنّ الإحياء بعد الإماتة من الأمور المستبعدة عند الناس والمستعظمة عندهم فاقتضى الحال أن يكون الكلام بلحن الاستهانة والاستصغار ، وهذا من ضروب الفصاحة والبلاغة في أنّه يؤتى بلحن الاستهانة في الموارد التي لا تخلو عن الاستعظام والاستبعاد.

وقد اختلف المفسرون في اسم القرية فقيل : إنّها بيت المقدس لما خربها بختنصّر البابلي ، وقيل : إنّها المؤتفكة ، وقيل : غير ذلك ، كما أنّهم اختلفوا في اسم الذي مرّ على القرية فقيل : إنّه عزير وهو المروي عن ابن عباس بعدّة طرق والمنسوب إلى عليّ (عليه‌السلام). وقيل : إنّه أرميا وقيل : إنّه عزير ، وهو المروي عن الصادق (عليه‌السلام) وقال به جمع من المفسرين. وقيل غير ذلك. وقال الزمخشري في الكشاف «إنّه رجل كافر» وهو مردود من جهات كما ستعرف ، وقال شيخنا البلاغي : «وقد كفانا ابن المنير في حاشيته مؤنة الرد لما استند إليه الكشاف في دعواه».

قوله تعالى : (قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها).

أنّى : أداة استفهام تأتي للبحث عن الحال والمكان وتتضمن معنى (كيف).

والمعنى : كيف يحيي الله تعالى هذه القرية وأهلها بعد موتها ، وسياق الكلام يدل على أنّ المشار إليه في (هذه) إنّما هي الأجساد البالية والعظام الرميمة وخراب القرية.

وإنّما قال ذلك استعظاما للإحياء لا استبعادا منه لقدرة الله تعالى ويدل عليه قوله تعالى في آخر الآية المباركة : (أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). ومثل هذا الكلام يصدر عن كلّ من ينظر في الأمور نظر تفحص وتمعن ويقف

٣١٣

فيها وقوف معتبر ، وقد ضرب الله تعالى المثل في نفسه فأماته ثم أحياه كما حكى عزوجل.

قوله تعالى : (فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ).

مادة (عوم) تأتي بمعنى السباحة يقال : عامت السفينة في البحر وسمي العام عاما ، لأنّ القطعات الزمانية ـ كالأيام والليالي ـ كأنّها تسبح في الزمان ، والفرق بينه وبين السنة أنّ الأول يطلق غالبا على ما فيه الخصب والرخاء والثانية تطلق على ما فيه الشدة والجدب وفي حديث حليمة السعدية : «خرجنا نلتمس الرضعاء بمكة في سنة سنهاء» أي لا نبات بها ولا مطر.

ومادة (بعث) تأتي بمعنى إثارة الشيء ، وهي تختلف باختلاف المتعلّق ، ولها استعمالات كثيرة في القرآن الكريم.

والبعث تارة يكون بمعنى إيجاد الشيء بعد العدم المحض وهو مختص بالله تعالى. واخرى : بمعنى إحياء الموتى ، وهو أيضا مختص به عزوجل ، لأنّ الأرواح إيجادا وإفناء ، تحت سلطة الله تعالى وقد يهب عزوجل ذلك لمن يشاء من خلقه ، كما سلّط عزرائيل على قبض الأرواح ، وعيسى على إحياء بعض الأموات وبعثه.

والمراد من الموت : هو المعنى الحقيقي منه أي : توفاه بإزهاق الرّوح من الجسد.

والمعنى : أماته وتوفاه مائة عام ثم بعثه برد الرّوح إليه.

ولكن ذكر بعض المفسرين : أنّ المراد بالإماتة هو فقد الحس والحركة دون مفارقة الروح البدن أي السبات ثم أعاده إلى ما كان عليه أولا مثل رقود أصحاب الكهف ثلاثمائة وتسع سنين ، وقال : إنّ السبات في هذه المدة أمر غير مألوف وخارق للعادة وبرجوع الحس والحركة بعد السبات يتحقق الاحتجاج على إمكان الحياة بعد الموت ولو في سنين عديدة.

وما ذكره مخالف لظاهر الآية الشريفة صدرا وذيلا ، مع أنّه لا استحالة

٣١٤

في الإحياء بعد الموت في هذه الدنيا حتّى يتكلّف بالتصرف في معنى الآية المباركة. وقياس هذه القصة على قصة أصحاب الكهف أمر غير معقول حتّى عند القائلين بالقياس فإنّ دلالة الألفاظ لا يمكن أن تكون مورد القياس.

قوله تعالى : (قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ).

اللبث والمكث بمعنى واحد أي : قال الله تعالى بعد بعثه وإحيائه بعد الموت : كم لبثت في موتك هذا؟ قال : لبثت يوما أو بعض يوم. والترديد باعتبار اختلاف وقت الموت ووقت الإحياء فظنّ تخلل الليلة بينهما. أو هو كناية عن عدم الإحساس بالمدة الطويلة.

قوله تعالى : (قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ).

أي : قال الله تعالى له : ما لبثت ذلك المقدار بل لبثت مائة عام. والغرض من السؤال إظهار عجزه وبيان المشية الإلهية التي تعلّقت بجعله مورد القدرة على إحياء الموتى.

والسؤال والجواب يدل على أدب القرآن المشتمل على مخاطبة الله تعالى مع خلقه وهي تدل على كمال العناية والرأفة ، وفيها تظهر العبودية مع المعبود الحقيقي على نحو ما يشاء المعبود ، وهي اللذة التي لا منتهى لها شدة وعدة ومدة.

قوله تعالى : (فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ).

أي : لم يتغيّر بتغير السنين ومرّ الأزمان. يعني لم يتغيّر الطعام والشراب في مائة سنة مع كونهما في معرض التغيير والاستحالة في عدة أيام.

وإنّما أمر بالنظر لاستبانة طول المدة ودفع ما يخطر بالبال من قصرها.

قوله تعالى : (وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ).

بأن صار رميما تفرّقت عظامه وتقطعت أوصاله وبادت أجزاؤه كيف يحييه الله تعالى صحيحا سويا يصلح للركوب عليه. وفي تكرار الأمر بالنظر إيماء بانتقال الكلام إلى برهان آخر لتثبيت طول المدة.

٣١٥

قوله تعالى : (وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ).

أي : إنّ ما جعلناه فيك من الموت والإحياء كلّ ذلك ليستدلّوا بها على ثبوت المعاد.

ويستفاد من سياق الكلام ـ أي عطف الغاية ـ أنّ الغاية من هذا الفعل لم تكن منحصرة في إظهار الآية لهذا الشخص فقط وإزالة التعجب عنه الذي أظهره في إحياء الموتى بل الغاية أيضا هي جعله علامة للناس يستدلّون بها على ثبوت المعاد وإظهار القدرة الأزلية الحاكمة على كلّ شيء فإنّ الذي يقدر على إحياء الموتى في هذه المدة لقادر على إحيائها بعد مدة أطول منها فلا تختص قدرته بزمان دون آخر.

قوله تعالى : (وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً).

النشز : البروز والظهور ، والإذاعة ، والارتفاع والجميع يرجع إلى معنى واحد وهو الظهور وإنّما الاختلاف في المتعلّق.

أي : انظر إلى العظام كيف ترتفع ويجتمع بعضها مع بعض بالتركيب ثم نكسوها لحما لتصبح خلقا جديدا سويا.

والأمر بالنظر هنا لاستبانة ما قد يتوهم من استحالة عود الأجزاء إلى الصورة الأصلية بعد التغيّرات والتحوّلات الكثيرة ولذلك كان مورد النظر خاصا له من هذه الجهة وعاما من جهة أنّ إحياء الموتى والبعث يكون كذلك.

والظاهر أنّ المراد من العظام هي : عظام الموتى المجاورين له وعظام الحمار ، ولا ينافي ذلك جعله آية للناس ولم يجعل إحياء موتى أهل القرية آية ، فإنّ الظاهر أنّ الله تعالى جعله محور إثبات ذكر هذه الحكاية بلا فرق بين عظام موتى أهل القرية أو عظام خصوص الراكب والمركوب.

قوله تعالى : (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

اعتراف منه بالعلم الثابت في نفسه قبل قوله : (أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها) وإنّما قال ذلك استعظاما في نفسه وقد جعله الله آية للناس لإثبات

٣١٦

المعاد وإظهار القدرة التامة.

ويمكن أن يكون المراد بالعلم هنا الوصول من مرتبة حق اليقين إلى عين اليقين.

٣١٧

بحوث المقام

بحث أدبي

ذكر الأدباء أنّ من المبهمات الموصولات لعدم تبيّن معناها إلا بالصلة وهذه هي جهة بنائها لكن الإبهام فيها مختلف شدّة وضعفا فإنّ بعضها متوغلة في الإبهام مثل (من) و (ما) و (ذي) وبعضها دون ذلك مثل (الذي) و (التي) ونحوهما.

وإنّما ذكر تعالى (الذي) في قوله تعالى : (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) للدلالة على المعهود ومعروفية صلته بخلاف (من) الموصولة فإنّها تدل على الإبهام.

كما أنّ في إتيان المضارع «يحيي ويميت» دلالة على استمرار الإحياء له تعالى وتجدده وبيان أنّ هذا شأنه دائما.

و (أنا) أي الاسم الضمير في قوله تعالى : (قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) هو ضمير المتكلّم وحده والألف الأخيرة تحذف في الأصل ، وهو مبنيّ على الفتح فرقا بينه وبين (أن) التي هي حرف ناصب للفعل والألف الأخيرة إنّما هي لبيان الحركة في الوقف فإن توسطت الكلام سقطت.

٣١٨

والكاف في قوله تعالى : (أَوْ كَالَّذِي) قيل : إنّها بمعنى مثل جيء بها للتنبيه على تعدد الشواهد ، فهي في موضع نصب معطوفة. وقيل : إنّها زائدة. ولكنّه مردود لما أثبتناه من عدم الزيادة في القرآن الكريم.

قوله تعالى : (وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) جملة حالية ، وعلى عروشها إما خبر بعد خبر أو متعلق بخاوية وذلك للاختلاف في معناه.

ومائة في قوله تعالى : (مِائَةَ عامٍ) منصوبة على الظرفية.

و (كم) في قوله تعالى : (قالَ كَمْ لَبِثْتَ) يسأل بها عن مقدار الزمان وهي في موضع نصب على أنّها ظرف زمان.

وقوله تعالى : (لَمْ يَتَسَنَّهْ) أصله يتسننن بثلاث نونات أبدلت الثالثة ألفا لتكرار الأمثال ثم حذفت الألف للجزم فصار يتسنّن وجيء بالهاء لبيان حركة النون في الوقف.

وقرئ «ننشرها» أي نحييها ، كقوله تعالى : (ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ) [عبس ـ ٢٢]. وقرئ «ننشرها» بفتح النون وضم الشين مأخوذ من النشر بعد الطّي. ولكن القراءة المشهورة ما سبق (نُنْشِزُها) وتقدم وجهه.

٣١٩

بحث دلالي

يستفاد من الآية الشريفة أمور :

الأول : إنّما ذكر الله تعالى قصّة خليله بعد آية الكرسي للإشارة إلى أنّ مثل الخليل هو العروة الوثقى التي لا انفصام لها وبواسطة مثله يخرج الذين آمنوا من الظلّمات إلى النور ، وأنّ نمرود وأمثاله من الطواغيت هم الذين يخرجون الناس من النور إلى الظلمات.

الثاني : يستفاد من الآيات الشريفة أدب المحاجة مع الخصم وهي وإن كانت مذمومة ولعلّه لذلك نسب المحاجة إلى نمرود تجليلا لمقام الخليل عن نسبة المرجوح إليه ، ولكن إذا اشتملت على إحقاق الحق وإبطال الباطل فلا ريب في رجحانها بل قد تجب ، ومحاجة الأنبياء (عليهم‌السلام) ومن يتلو تلوهم من هذا القبيل.

وقد بيّن الله سبحانه في هذه الآيات كيفية المحاجة مع الظالمين أيضا وذلك بالاحتجاج عليهم بظواهر دار الكون والفساد وعالم التغيّر والتبدل لقصور عقولهم عن الوصول إلى ما وراء ذلك ، ويستفاد ذلك من آيات كثيرة أيضا مثل قوله تعالى : (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) [الغاشية ـ ١٧] ، فمن كان مأنوسا بركوب البعير وسوق الحمير لا بد له أن يستدل على الخالق بما هو المأنوس لديه ، ولكن يقول عزوجل لنبيه الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : (أَوَ

٣٢٠