مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة أهل البيت (ع)
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥١٦

وجوارحهم يكون؟؟؟ حسابه ، وهذا شأن جعل القانون لمن أحاط بجميع جهات قانونه واستولى عليها استيلاء تاما ، ولكن لا بد من الموازنة بين الاستيلاء على الخفايا والتعذيب عليها بحسب القوانين العقلية.

والمراد من قوله تعالى : (ما فِي أَنْفُسِكُمْ) تلك الأمور الكائنة في النفس التي تصدر الأعمال عنها وتكون أساسا لها فتشمل الملكات والأحوال والصّفات التي لها قرار في النفس ـ كالحب والبغض والحسد والحقد ونحو ذلك ـ فإنّها هي التي تكون قابلة للإظهار في الحركات الخارجية ، فيكون ما في النفوس على أقسام :

الأول : مجرد الخطور والفكرة من غير عزم ثابت عليه وإيجاد مقدمة من مقدماته والمستفاد من مجموع الأدلة السمعية أنّ مثل هذه الأمور إن كانت من الخيرات والحسنات يثاب عليها ويشتد ثوابها بحسب أهمية الفعل.

والغرض من ذلك هو تحريض الناس على إضمار الخيرات والحسنات والابتعاد عن السيئات والآثام ولا عقاب على المضمر إن كان من السيئات ما لم يبرز في عمل خارجي.

الثاني : الخطور مع العزم عليه.

الثالث : ما إذا حصل بعض المقدمات على المضمر. ويظهر حكم هذين القسمين من القسم الأول بالفحوى.

الرابع : ما إذا حصل العمل الخارجي فيترتب عليه الثواب وينبسط على جميع المقدمات حتّى الخطرات القلبية ، ولا بأس بأن يجتمع في شيء واحد ثوابات كثيرة من جهات متعددة فإنّ الله ذو الفضل العظيم هذا إذا كان المضمر من الخيرات والحسنات والفضائل.

وأما إذا كان من غيرها فقد ذكرنا أنّه لا عقاب ما لم يظهر في عمل خارجي إلا إذا كان الشخص من المقرّبين وأولياء الله تعالى المتفانين في حبه فإنّ خطرات قلوبهم مما يحاسب عليه وفي المأثور : «حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين».

٤٨١

وإن كان من العزم على الإثم والعصيان من دون فعل المعصية خارجا فلا ريب في أنّه نحو من التجري والطغيان ولكن لا يترتب عليه العقاب فإنّ مقتضى الآيات الكثيرة والسنة المقدسة أنّ العقاب يترتب على الأعمال الخارجية دون المنويات القلبية.

ومنه يظهر حكم ما إذا فعل بعض المقدمات غير المحرمة ولم يفعل أصل الحرام المقصود وأما إذا فعله فيستحق العقاب حينئذ على فعل الحرام لا أن يكون العقاب انبساطيا بالنسبة إلى المقدمات كما في الثواب لبناء عادته عزوجل على التخفيف قد سبقت رحمته غضبه هذا السبق ليس زمانيا فقط.

ومحاسبة ما في النفوس بالمعنى المتقدم مما تدل عليه النصوص الكثيرة كتابا وسنة قال تعالى : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) [البقرة ـ ٢٢٥] ، وقال تعالى : (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) [الإسراء ـ ٣٦] ، وغير ذلك من الآيات الشريفة.

ولكن المحاسبة من الله جلت عظمته أعم من أن يكون في البين؟؟؟ منه عزوجل على ما في النفوس سواء في الدنيا أو في الآخرة أو لا يكون فيهما معا ، لأنّ في نفس الاستيلاء على المحاسبة والإخبار عنها آثار خاصة هذا محصل ما يستفاد من مجموع الآيات الكريمة في مضمرات النفوس والجزاء عليها وما ورد في السنة الشريفة.

ولكن للمفسرين في تعيين المراد من ذلك أقوالا :

فقد ذهب جمع : إلى ثبوت المحاسبة والجزاء على كلّ ما يرد القلب وما يضمره الإنسان في النفس فيكون من التكليف بما لا يطاق وحينئذ تكون الآية المباركة منسوخة بقوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) المذكور في الآية التالية.

وفساده واضح فإنّ الله تعالى لم يشرع دينا فيه ما لا يطاق وهو قبيح عقلا ويستحيل عليه عزوجل ، والآية غير ناظرة إلى التكليف بما لا يطاق ولا

٤٨٢

عموم لها حتّى يشمله.

وذهب آخر : إلى أنّ الآية مختصة بكتمان الشهادة فهي مرتبطة بما سبقها من الآيات. وهذا أيضا مردود بالإطلاق وعدم اختصاصها به كما هو الظاهر المعلوم.

وذهب ثالث : إلى أنّها مخصوصة بالكفار. ويرد عليه : ما ورد على سابقيه.

وقال رابع : بأنّ المراد بالإخفاء العمل. ولكنّه خلاف ظاهر الآية الشريفة.

قوله تعالى : (فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ).

تفريع على ما تقدم فإنّ المغفرة والعذاب يتوقفان على المحاسبة والعلم ومشية الله تعالى لغفران من يشاء وتعذيب من يريد عدل محض لأنّها منبعثة عن العلم الأتم الأكمل والحكمة البالغة الكاملة وعن عليّ (عليه‌السلام) في بعض حالاته الانقطاعية مع ربه : «اللهم لا تفعل بي ما أنا أهله فإنّك إن تفعل بي ما أنا أهله تعذّبني ولم تظلمني أصبحت أتقي عدلك ولا أخاف جورك فيا من هو عدل لا يجور ارحمني ، اللهم افعل بي ما أنت أهله فإنّك إن تفعل بي ما أنت أهله ترحمني وإن تعذّبني فأنت غنيّ عن عذابي وأنا محتاج إلى رحمتك فيا من أنا محتاج إلى رحمته ارحمني».

وإثبات المغفرة لما في النفوس يدل على أنّ لها شأنية العذاب باعتبار ثبوتها وقرارها في النفس بحيث تصدر الأعمال عنها ، فتكون الجملة قرينة لما ذكرناه آنفا من التفصيل في المضمرات.

قوله تعالى : (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

بيان العلة للمحاسبة والمشية في الغفران والتعذيب ، والقدرة من صفات ذاته المقدسة كعلمه وحكمته ، كما أنّ مالكيته تعالى لما سواه كذلك ، فيكون ما ذكر في الآية الشريفة معلّل بصدرها وذيلها ، وفي الآية من الإنذار والتخويف ما لا يخفى.

٤٨٣

بحوث المقام

بحث دلالي

يستفاد من الآية الشريفة ما يلي :

الأول : تثبت الآية الشريفة من الصفات لله تعالى صفة المالكية ، والقدرة ، والعلم ، والربوبية العظمى ، والحكمة البالغة ، ومحاسبة الله تعالى لعباده ، وهي من مهام صفاته العليا الذاتية ، وهي تستلزم القيومية.

الثاني : يستفاد من قوله تعالى : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) علم الله تعالى بالجزئيات ، ويمكن استفادة ذلك من سياق جملة من الآيات القرآنية والسنة الشريفة ، وعليه إجماع الأنبياء والمرسلين ، بل يمكن إقامة الدليل العقلي عليه أيضا.

ومن نفى علمه تعالى عن الجزئيات تمسكا بأنّه يستدعي الآلات وهو نقص بالنسبة إليه عزوجل فقد أخطأ وما ذكره مغالطة فاسدة ، وسيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام في علمه عزوجل إن شاء الله تعالى.

الثالث : تدل الآية الشريفة على أنّ المحاسبة من الله تعالى أعم من الجزاء والمحاسبة منه عزوجل تستدعي علمه بالجزئيات والكليات وبجميع

٤٨٤

شؤون العباد ، وتستلزم قدرته على جميع ما سواه فتكون في الإخبار بها آثار خاصة ، منها إراءة أعمال العباد الظاهرية والباطنية وسؤاله عزوجل منهم عن السبب في فعلها.

الرابع : يستفاد من هذه الآية وما في سياقها لزوم مراقبة الإنسان لنفسه ، وهي من أجل مقامات النفس ولها مراتب كثيرة وبعض تلك المراتب مبدأ السير والسلوك ، وبعضها الآخر غاية لها. كما لا يخفى على أهله ، والمراقبة عن الحركات مبدأ ، والمراقبة عن الخطرات غاية.

٤٨٥

بحث روائي

في تفسير العياشي ، والمجمع والتبيان عن الصادق (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ ...) أنّ المراد ما يتناوله الأمر والنهي من الاعتقادات والإرادات وغير ذلك مما هو مستور عنا.

أقول : هذه قرينة على أنّه ليس المراد من مورد المحاسبة مطلق ما يخطر بالبال وما تضمره النفوس ما لم تكن مستقرة في النفس وإرادة فعلية لحصول المراد خارجا ، وحينئذ فلا تختص المحاسبة بخصوص الجزاء على الأعمال الخارجية.

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : لما نزلت على رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ). قال : فاشتد ذلك على أصحاب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فأتوا رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) جثوا على الركب فقالوا : يا رسول الله كلّفنا من الأعمال ما نطيق : الصلاة ، والصيام ، والجهاد ، والصدقة ، وقد أنزل الله هذه الآية ولا نطيقها. فقال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتاب من قبلكم : سمعنا وعصينا؟ بل قولوا : سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير. فلما اقترأها القوم وذلت بها ألسنتهم أنزل الله في أثرها : (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ

٤٨٦

إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ...) الآية. فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى ، فأنزل : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ... إلى آخرها.

أقول : رواه جمع غفير عن أبي هريرة ، وروي أيضا قريب منه عن ابن عباس. كما روي النسخ أيضا عن ابن مسعود وعائشة.

وروي أيضا عن ابن عباس أنّها نزلت في الشهادة وإقامتها وكتمانها. فتكون الآية غير منسوخة.

وروي عن ابن عباس وعائشة : أنّ المراد بالآية تلك الأعمال التي لم يطلع عليها الحفظة.

وروي عن الربيع بن أنس : أنّ المراد بالمحاسبة ما يخبر الله العبد به يوم القيامة بأعماله التي عملها في الدنيا.

وروي عن عائشة : أنّ المراد بالمحاسبة ما يصيب الرجل من الغم والحزن إذا هم بالمعصية ولم يفعلها.

وروي عن ابن عباس أيضا في قوله تعالى : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ). فذلك سرائرك وعلانيتك يحاسبكم به الله فإنّها لم تنسخ ، ولكن الله إذا جمع الخلائق يوم القيامة يقول : إنّي أخبركم بما أخفيتم في أنفسكم مما لم تطلع عليه ملائكتي ، فأما المؤمنون فيخبرهم ويغفر لهم ما حدثوا به أنفسهم ، وهو قوله تعالى : (يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) يقول : يخبركم. وأما أهل الشك والريب فيخبرهم بما أخفوا من التكذيب ، وهو قوله : (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ).

وروي عن ابن عباس تفسيرها بوسوسة النفس ، أو حديث النفس وبناء على جميع هذه الروايات تكون الآية محكمة وغير منسوخة.

أقول : الروايات في النسخ وعدمه متعارضة ، مع أنّ رواية النسخ قاصرة السند وعلى فرض اعتبارها معارضة بالمثل ، ومخالفة لظاهر الكتاب ، وفي مثل ذلك لا بد أن يرجع إلى أصالة عدم النسخ عقلا وشرعا كما هو ثابت في

٤٨٧

محلّه. مع أنّ العقل يحكم بأنّه لا موضوع للنسخ فيما لا يعقل التكليف به ، وهو الخطرات القلبية الخارجة عن الاختيار.

وأما الروايات التي وردت في تفسير الآية الكريمة مما لا يدل على نسخها إن رجعت إلى ما ذكرناه فلا بأس بها والا فلا بد من طرحها.

٤٨٨

بحث عرفاني

خلق الله تعالى الإنسان كالمرآة للحقائق الواقعية والمعارف المعنوية بل هو كالمرآة لصفات جلاله وجماله.

الحق في كثرة الأعيان إذ ظهرا

ووجهه الأحديّ الذات ما كثرا

لكن كما شاهد الأعيان شاء يرى

وجه الحقيقة في مرآة إنسان

هذا إذا كان الإنسان منقطعا إلى الله تعالى ومنقادا له من كلّ جهة وأما غيره فلا يليق به هذا المقام بل قد يكون كالأنعام.

فإذا كان للإنسان الاستعداد لأن يحكي حقائق الممكنات مما مضى وما هو موجود وما هو آت فيجب أن يعتني بنفسه ويرعاها نهاية الرعاية ولا يسقطها عن الاعتبار والا تلحقها المهانة والصغار لأنّها السبب الموصل إلى كلّ مطلوب ، والرابط بين أهل الأرض والغيب المحجوب فأيّ مكرمة لله على خلقه أعظم من هذه المكرمة وأي موهبة له تعالى في عوالمه أفضل من هذه الموهبة ومن فعل ما يوجب درن هذه المرآة فقد جنى على نفسه وأضاع ما أعدّ له من النعم الباقيات قال تعالى : (فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [التوبة ـ ٧٠].

٤٨٩

سورة البقرة

الآية ٢٨٥ ـ ٢٨٦

(آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٢٨٥) لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٨٦))

الآيتان الشريفتان من جلائل آيات القرآن الكريم تشتملان على مضامين عالية جمعت فيهما مجامع الكمال والسعادة ، وفيهما أدب العبودية ونهاية الخضوع والتذلل لله تعالى في أسلوب بليغ جذاب ، وفيهما خلاصة ما تضمنته هذه السورة الشريفة التي كان الغرض المتحصل منها : الإيمان بالله تعالى ، والعبودية له عزوجل ، والإيمان برسله وما أنزل عليهم ، والطاعة له عزوجل بالايتمار بأوامره ، والانتهاء عن نواهيه ، والاتقاء عما يوجب سخطه وعذابه والإقرار بالبعث والنشور ، وفيها قصص أهل الكتاب للعبرة منها واللجوء إليه سبحانه وتعالى عما أصابهم بسبب تمردهم وطغيانهم.

ومن بديع أسلوب هذه السورة أنّها بدأت بالهداية للمتقين وختمت باللجوء إلى الله تعالى لطلب الهداية والغفران والإذعان بالطاعة الذي هو أمل

٤٩٠

المتقين ، فيكون أول السورة كالعلة الفاعلية وآخرها كالعلة الصورية أو المادية للأول وهما كالعلة الغائية لنظام التشريعات السماوية نزلتا على من هو علة غائية لنظام الخليقة والتكوين ، وقد ختمتا بطلب النصرة على القوم الكافرين وهي غاية دعوة الأنبياء والمرسلين والمؤمنين بالله تعالى ومضمونهما من القضايا العقلية التي تحكم بها الفطرة.

وفي الآيتين فضائل وآثار مهمة نبهت إليها السنة الشريفة ولعظم منزلتهما عند الله تعالى كانتا في كنز تحت العرش.

٤٩١

التفسير

٢٨٥ ـ قوله تعالى : (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ).

إخبار عن تصديق الرسول والمؤمنين بما أنزل إليهم من ربّهم. وإنّما أفرد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) للإرشاد إلى أهمية الإيمان بالله تعالى وأنّ الرسالة طريق إليه ولبيان أنّه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أول المؤمنين كما في الآية الشريفة التي حكى الله عنه : (إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) [الأنعام ـ ١٦٣] ، وكذا قوله تعالى : (وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) [الزمر ـ ١٢] ، والاعتناء بإيمانه وتشريفا له (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كما هو دأب القرآن الكريم في تشريفه فيذكره ويذكر معه المؤمنين وهو كثير في القرآن قال تعالى : (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) [الفتح ـ ٢٦].

والمؤمنون إما عطف على الرسول وما بعده جملة مستأنفة ، أو أنّ (آمَنَ الرَّسُولُ) جملة والمؤمنون جملة أخرى مستأنفة.

والخطاب إنّما هو بين أعظم الموجودات كلّها وبين أشرف مخاطب في الممكنات في محل هو أعلى مقامات القرب إليه تعالى الذي لا يصل إليه ملك مقرّب ولا نبي مرسل ، والحالة هي حالة الجذبة الأحدية المطلقة لمقام الأحمدية المنقطعة إليها فاستشرقت من الشوارق المعنوية من المبدإ الحنان

٤٩٢

بما لا يمكن تحديده بقلم ولا بيان.

والمراد بما أنزل إليه : جميع ما أوحي إليه من المعارف والأحكام والسنن ، وجوامع كلماته المباركة.

قوله تعالى : (كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ).

حكاية عن حال كلّ من الرسول والمؤمنين على وجه الانفراد لأنّ الإيمان مطلوب من كلّ فرد فرد فهو قائم بالفرد حقيقة بخلاف غيره فإنّه يشمل الجميع أيضا ولذا حكى عنهم على سبيل الجمع كما في قوله تعالى : (فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ).

وتفصيل بعد إجمال اهتماما بالإيمان وتعظيما لشأنه فإنّ الإيمان بالقرآن الذي أنزل على الرسول يدعوان إلى التصديق بالله تعالى وبالكتب والرسل والملائكة والقرآن حاو على جميع ذلك إجمالا وتفصيلا. ولا بد من الإيمان به على ما يليق وبالكيفية التي قرّرها.

والتصديق بالملائكة باعتبارهم سفراء الله تعالى إلى الأنبياء والرسل وحملة الوحي وأنّهم عباد مكرمون لا يعصون الله في ما أمرهم به ويفعلون ما يؤمرون.

والإيمان بالكتب الإلهية التي أنزلها الله تعالى لهداية البشر وسعادتهم وما تضمنته من المعارف والأحكام.

والترتيب طبيعي في سلسلة النزول ولكن في سلسلة الصعود يكون الإيمان بالأنبياء والرسل أولا ثم بالكتب ثم بالملائكة. وأما الإيمان بالله تعالى فهو محيط بجميع ذلك صعودا ونزولا.

قوله تعالى : (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ).

حكاية عن مقولهم من دون ذكر القول كما في قوله تعالى : (قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا) لأنّ الإيمان استولى على قلوبهم وملئت بحبّ الله تعالى

٤٩٣

ورسله بلا تمييز بينهم ، فهذا حال المؤمنين في إيمانهم سواء أظهروا ذلك في القول أم لا.

وفي الآية الشريفة رد على أهل الكتاب وغيرهم الذين يفرقون في الإيمان برسل الله تعالى تعصبا أو لأجل أغراض فاسدة ، كما حكى عنهم الله تعالى في آيات متعددة من القرآن الكريم.

والآية المباركة ترشدنا إلى قضية عقلية وهي أنّ التفرقة بين الرسل غير معقولة لأنّ الرسالة إنّما تكون عن واحد وفي واحد ، والتبدل الزماني وتفاوت الاستعدادات خارجان عمّا تتقوم به الرسالة وقد ذكرنا في قوله تعالى : (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) [البقرة ـ ٢٥٣] ، ما يرتبط بالمقام.

قوله تعالى : (وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا).

حكاية عن قولهم مع ذكر القول من دون ذكره في الحكاية السابقة مع أنّهما في كلام واحد. وهو من بديع الأسلوب وفيه إظهار لخضوع القائلين وخشوعهم.

وهو إخبار عن الطاعة والانقياد فإنّ السمع يكنّى به عن القبول والإذعان ، والإطاعة عن الانقياد ، وهذا هو حقيقة الإيمان سواء كان هذا القول شرحا للإيمان بالله تعالى ، يعني : سمعنا قول الله وأطعنا تكاليفه ، أو يكون شرحا للإيمان بالرسل ، يعني : سمعنا قول الرسول وأطعنا أوامره ونواهيه ، ويكون متعلقا بغفرانك. يعني : سمعنا وأطعنا موجبات غفرانك وهي الايتمار بالأوامر والانتهاء عن النواهي فإنّ جميع ذلك صحيح ويرجع إلى شيء واحد وهو بيان حقيقة الإيمان وهما يستعملان فيما هو المقدور وما يقبل الفهم ، وغيرهما ليس بداخل تحت التكليف فيكون الكلام تمهيدا لما سيأتي من نفي التكليف بما لا يطاق.

والسمع والطاعة من مقوّمات العبودية لله تعالى بحيث تبعث السمع على العمل والطاعة على المحاسبة وهما من حقوق الله تعالى على العبد والالتزام بهما من العبد يكون قضاء لحقه عزوجل عليه ووفاء لعهده مع الرب تعالى.

٤٩٤

قوله تعالى : (غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ).

الغفران مصدر كالكفران ، وهو بمعنى الستر منصوب بفعل مقدر من لفظه أو غيره أي : اغفر غفرانك أو نسأل غفرانك.

ومن المقابلة بين السمع والطاعة وبين الغفران يستفاد أنّ الأولين حقا لله تعالى على العبد ، والثاني حق العبد على الله تعالى.

وإنّما حذف المتعلّق ليشمل جميع مراتب إحسانه تعالى ، وتفاؤلا من المؤمنين بأنّ الخير المحض لا يصدر منه الا الخير المحض ، وأنّ أصل الإيمان الذي هو أرفع المقامات وأفضل الحسنات يذهب السيئات فالمؤمن في الدنيا رهين نعمته وفي الآخرة غريق رحمته.

وقد ذكروا الرب لما فيه التلطف وبيان الاحتجاج على رحمته تعالى أي : إنّنا مربوبون لا نملك من أمرنا شيئا وأنت الربّ الذي يرجع إليه العبد فاغفر لنا.

وختموا الدعاء بالمصير إليه اعترافا منهم بالفقر والنقصان وهو المرجع في الدنيا والآخرة وقد طلبوا منه الغفران والستر عما يقع منهم في طريق الاستكمال والمصير إليه عزوجل.

٢٨٦ ـ قوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ).

الوسع : الطاقة ، ووسع الإنسان أي ما تسعه قدرته وما تتحمله طاقته وهو يشمل جميع مراتب التكاليف وأبدالها فهو ذو مراتب بحسب متعلقه.

والكلام يحتمل أن يكون من الله تعالى إرشادا إلى تقديسه في كماله ولطفه بعباده ، وتعاليا عن القبح في التكليف بغير المقدور وامتنانا على العباد.

كما يحتمل أن يكون من الرسول والمؤمنين إظهارا لعدله ورأفته بهم. والجملة كالنتيجة لما تقدم في الآية السابقة كما عرفت آنفا ، وتوطئة لما ذكر في الجملة الآتية.

٤٩٥

والمعنى : إنّ الله لا يكلف عباده بما لا يطيقون ولا يحملهم على ما لا يقدرون فللإنسان جزاء ما يكسبه من الخير حسب وسعه وطاقته وعليها وزر ما اكتسبت نفسه من الشر يوفي جزاء كلّ منهما ولا يظلمهم فيه.

وإنّما نسب الاكتساب إلى النفس توبيخا واحتجاجا عليه فإنّه قد تحمّل في الشر من المشقة والتكلف وهو يدل على أنّ في النفس عند الشر صراع بين العقل والشرع من ناحية والنفس الأمارة من جهة أخرى فقد تحمل المشقة وإن كانت النفس إليه أحب وأعمل لأنّه من مشتهياتها بخلاف الخير فإنّها مجبولة عليه ولا يحتاج إلى المشقة والاعتدال.

والآية الشريفة تدل على اختيار الإنسان في أفعاله والرد على من يقول بالجبر ، وما ورد فيها من القضايا العقلية التي تحكم بها الفطرة السليمة قرّرها الرب الرؤوف على لسان نبيه العظيم بدلا عن لسان الأمة فسأل ربه فأرشدهم الله تعالى إلى ما يحفظهم ويقيهم وما هو الأصلح لهم.

قوله تعالى : (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا).

مادة (نسي) تأتي بمعنى الترك والتأخير والإهمال ، وهي كثيرة الاستعمال في القرآن الكريم والسنة الشريفة ، ولعل أعظمها على القلوب قوله تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) [الحشر ـ ١٩] ، وقوله تعالى : (وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) [الجاثية ـ ٣٤].

والنسيان في أمثال هذه الموارد بمعنى الترك. وفي الحديث : «صلة الرحم مثراة للمال ومنسأة للأجل» وهي بمعنى التأخير.

والسهو والنسيان والخطأ والغفلة لها جامع قريب وهو سقوط الالتفات والتوجه التفصيلي في النفس عن المعنى فعلا. والاختلاف إنّما هو بلحاظ أصل المعنى في الذاكرة أو الحافظة أو أصل المخ على تفصيل مذكور في محله.

وطلب نفي المؤاخذة على النسيان والخطأ باعتبار ما جبل الإنسان عليه من الضعف والفتور وهما قد يقعان بسبب التساهل والتقصير في التحفظ على

٤٩٦

مقدمات التكليف فطلبوا من الرب الرحيم أن لا يؤاخذهم على ذلك كما كان على العكس بالنسبة إلى الذين من قبلهم وطلبوا منه الهداية والتوفيق والرشاد لئلا يقعوا فيما يوجب النسيان والخطأ لما عرفوا من أنفسهم الضعف.

وإنّما قدم النسيان لكثرة ابتلاء الإنسان به حتّى قيل : إنّ اشتقاق اسمه منه.

وإنّما أدخل الرسول نفسه في زمرة المؤمنين وطلب نفي المؤاخذة على النسيان والخطأ باعتبار أنّه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) من حيث ذاته معرّض لذلك وإن كان باعتبار حضوره لدى الله تعالى واعتصامه به في جميع حالاته معصوما منزها عن ذلك كلّه.

قوله تعالى : (رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا).

الإصر : الضيق والحبس ، والمشقة ، ولم يرد هذا اللفظ في القرآن الكريم الا في ثلاثة مواضع ، أحدها المقام. والثاني قوله تعالى : (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ) [الأعراف ـ ١٥٧] ، والثالث قوله تعالى : (وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي) [آل عمران ـ ٨١] ، أي العهد الضيق الشديد. والمراد به التكاليف الشاقة ، كما أنّ المراد من (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا) أهل الكتاب.

والإصر الذي حمل على غيرنا لم يكن بجعل أولي ، بل كان بسبب تمردهم ولجاجهم وأعمالهم الفاسدة ، قال تعالى : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ) [الأنعام ـ ١٤٦]. وقد حكى الله عزوجل في كتابه الكريم كثيرا منها ، وتقدمت قصة ذبح البقرة في هذه السورة ، ويستفاد ذلك أيضا من قوله تعالى : (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ) [الأعراف ـ ١٥٧] ، حيث نسب الإصر إلى أنفسهم لأنّهم السبب في تحمّله ، وفي هذه الآية نسب التحمل إلى الله

٤٩٧

تعالى باعتبار مجرد المنشئية ، وليس هو من التكليف المنفي عنه عزوجل عقلا ، لأنّه مما اختاره الإنسان بسوء اختياره ، ويدل على ذلك قوله تعالى : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) [الحج ـ ٧٨] ، فإنّه يدل على نفي الحرج في كلّ دين سماوي سواء كان ملة إبراهيم (عليه‌السلام) أو شريعة موسى ، وعيسى ، ومحمد (عليهم‌السلام) التي هي تابعة لملة إبراهيم (عليه‌السلام).

إن قيل : إنّ التكليف يلازم المشقة والثقل ، لأنّه من الكلفة وهي المشقة.

يقال : إنّ كون التكليف ملازم للمشقة أعم من كونه فوق الطاقة وما لا تسعه قدرة الإنسان أو ضيّقا حرجيا بحيث يحتمل المشقة الشديدة مع أنّ التكليف بالأحكام أمر يجوّزه العقل ولا مانع فيه فإنّ إهمال الإنسان من كلّ جهة قبيح وهو ممتنع على الله تعالى ، بل إنّ إهماله إهمال للنظام الكياني كلّه.

وبملاحظة قبح التكليف بما لا يطاق يكون التكليف الممدوح هو الذي لا يكون فيه العسر والحرج ، وهو من الواجبات المستقلة العقلية النظامية.

وإطلاق الآية الشريفة يشمل جميع التكاليف الشاقة حتّى التكاليف الامتحانية التي ابتليت بها الأمم السابقة ، والتكاليف التي يضعها الإنسان على نفسه على سبيل التخيل والوسواس التي هي خلاف الأدلة الشرعية الواصلة إلينا ففي الحديث «الدّين يسر ولا تعسّروا» وقد اعتبرها الإمام الصادق (عليه‌السلام) من إطاعة الشيطان حيث قال : «وأي عقل له وهو يطيع الشيطان» أعاذ الله تعالى عباده منه فيكون معنى الآية الشريفة : ربنا ألهمنا الرشاد والتوفيق لترك ما يوجب جميع ذلك.

وفي الآية كمال الامتنان على أمة محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) والبشارة لهم.

٤٩٨

قوله تعالى : (رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ).

الكلام في هذه الآية الشريفة كالكلام في سابقتها ، فإنّ التكليف بما لا يطاق قبيح عقلا وهو محال على الله تعالى ، بل المراد نفي وإبعاد ما يوجب الوقوع في المشقة والتعب الشديد ، كالابتلاء والامتحان وجزاء الأعمال السيئة في الدنيا والآخرة. أي : لا توقعنا فيما يوجب هذه الأمور بسوء اختيارنا.

وفي تكرار لفظ الرب في هذه الموارد رجاء بعث صفة الرحمة من الرب ، وإظهار العبودية في المربوب ، وقد ذكرنا في سورة الفاتحة أنّ في هذا الاسم الشريف خصوصية لم تكن في غيره عند الدعاء ، ولذا كان الأنبياء والصالحون يذكرونه في حالاتهم الانقطاعية مع الله تعالى.

قوله تعالى : (وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا).

العفو : إذهاب أثر الشيء ، والمراد به محو آثار المعاصي والذنوب.

والمغفرة : الستر ، أي الصفح عن الذنوب وإسقاط حق العقوبة والعذاب. والرحمة تشمل الجميع.

ويستفاد من هذه الآية الشريفة أدب الدعاء ، فإنّ الذنوب والآثام تجلب آثارا خاصة ، وتوجب العقوبة والعذاب ، فطلبوا محو الآثار أولا وإسقاط حق العقوبة ثانيا ، والرحمة في جميع الأحوال من التوفيق والسداد.

ويختلف طلب المغفرة في هذه الآية عنه في صدرها ، فإنّ في هذه إنّما يكون عن الذنوب والنقص الحاصل من جهة الخطاء والنسيان وارتكاب ما يوجب الوقوع في المشقة والإصر. وأما الغفران في قوله تعالى : (غُفْرانَكَ رَبَّنا) إنّما هو مطلق يشمل جميع الحالات والأمور.

ويحتمل أن تكون هذه الجملات الثلاث مقابلة لتلك الدعوات ، فالعفو يكون عما يصدر من الإنسان نسيانا أو خطأ ، لكثرة وقوع المكلّف في المخالفة بسبب التقصير في التكليف ومقدماته. والغفران للذنوب والصفح عن العقوبة بالنسبة إلى ما يوجب الإصر ، والرحمة بالنسبة إلى ما لا طاقة لنا به.

٤٩٩

قوله تعالى : (أَنْتَ مَوْلانا).

جملة مستأنفة ، أي : أنت وليّ أمرنا وملجؤنا في جميع أمورنا ، وفي ذكره بالخصوص لإظهار العجز والعبودية له تعالى ، وجلب رأفته وعطفه على من لا ملجأ له الا إليه.

قوله تعالى : (فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ).

دعاء لطلب النصرة على القوم الكافرين الذين يقفون في سبيل نشر الدعوة الإلهية ودين الحق.

والنصرة على الكافرين مطلقة تشمل النصرة المعنوية بحسب المعارف والأحكام ، والآداب ، ومكارم الأخلاق. والنصرة الظاهرية التي تتوقف على إقامة الدّين ، والعمل بالشريعة ، ونبذ الفرقة والاختلاف. وهي غاية دعوة الأنبياء والمرسلين ، فإنّ بها يتحقق ثبات الدّين واستمراره وإقامته.

والآية المباركة بصدرها وذيلها تتضمن الدعاء بالتوفيق والسداد لتحمل الدّين بعد حدوثه ، وبقائه وإقامته ، ولا أثر لأحدهما بدون الآخر ، ولذا كان هذا الدعاء بعد السمع والطاعة لأصل الدّين وتحمله بالوجه الصحيح ، ثم نشره لإعلان الحق.

وإنّما كان هذا الدعاء على سبيل الجمع باعتبار أنّ الاتحاد هو الموجب للنصرة ، وفيه من التحريض على الاتفاق والاجتماع ، ونبذ الفرقة والاختلاف ما لا يخفى.

٥٠٠