مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة أهل البيت (ع)
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥١٦

والثانية : هي الصّفات التي لا بد في تصورها من شيء آخر مثل العلم والقدرة والرّحمة فإنّها لا يمكن تصويرها إلا مع المعلوم والمقدور والمرحوم.

والثالثة : هي الصّفات الإضافية المحضة في حدّ نفسها مثل الرازقية والحكيمية فإنّها إضافة محضة وزائدة على الذات عند الكلّ ، وهذه الأقسام الثلاثة تجري في صفات الإنسان أيضا.

التقسيم الثاني : صفة الذات وصفة الفعل وتقدم سابقا الفرق بين الصّفات الذاتية والصّفات الفعلية. وقلنا : إنّ كلّ صفة إذا صح الاتصاف بها وبنقيضها فهي صفة فعل مثل الرزق والخلق والإرادة وكلّ صفة لا يمكن سلبها عنه فهي صفة الذات ، لأنّها عين الذات فيه عزوجل فلا يمكن انفكاكها عنه تعالى وهي كثيرة مثل العلم والقدرة وغيرهما.

والتقسيم الثالث : الصّفات الجمالية (الكمالية) والصفات الجلالية. والأولى عبارة عن الصّفات الثبوتية ، والثانية عبارة عن الصّفات السلبية.

ويمكن إرجاعهما إلى شيء واحد ، فإنّ الأولى ـ أي الصّفات الثبوتية ـ ترجع إلى وجوب الوجود والتحقق ، والثانية ـ أي الصفات السلبية ـ إلى سلب الإمكان عنه تعالى فيسلبه عنه عزوجل فتنتفي جميع النواقص الواقعية والإدراكية.

والمستفاد من السنة الشريفة : أنّ الصّفات الثبوتية له تعالى ترجع إلى معنى عدمي لأنّ ثبوت شيء له تعالى نحو تحديد فنفوا (عليهم‌السلام) عنه عزوجل حتّى هذه المرتبة من التحديد فيكون معنى «السميع والبصير» لا تخفى عليه المسموعات ، ولا تخفى عليه المبصرات ومعنى «الواحد والقادر» لا شريك له بوجه من الوجوه ولا يعجزه شيء وقد ورد نظيره في القرآن الكريم قال تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً) [الفاطر ـ ٤٤] ، فكما لا يمكن درك الذات كذلك لا يمكن درك حقيقة صفاته فإنّها «شيء لا كالأشياء».

التقسيم الرابع : بحسب العظمة والأعظم والأعظم الأعظم. ومن الأول

٢٨١

جميع أسمائه المقدّسة فإنّها عظيمة.

وأما الثاني : فقد تقدم بعض ما يتعلّق به في المباحث السابقة ، وقد ذكر بعضهم : أنّ بني إسرائيل سألوا موسى (عليه‌السلام) عن اسم الله الأعظم فقال لهم : «أياهيا شراهيا يعني : يا حيّ يا قيوم».

وأما الأخير فهو الذي وضعه على النهار فأضاء وعلى الليل فأظلم وبه قال تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) [فصّلت ـ ١١] ، وبه تلقف عصا موسى ما يأفكون ، فقال تعالى : (أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ) [الأعراف ـ ١١٧] ، إلى غير ذلك مما شرحته السنة المقدسة وهو من الغيب المكنون.

ومنها : تقسيمها بحسب العوالم فتارة : تكون في عالم وجوب الوجود ، وأخرى : في المجردات ، وثالثة : في الجواهر المادية ، ورابعة : في الأعراض القائمة بالغير.

وبالجملة : فإنّ جميع ما سواه مظاهر أسمائه وصفاته وربوبيته العظمى وقيوميته المطلقة. وهناك تقسيمات أخرى يقصر منها المقال ولا يعرفها إلا أهل الحال.

وقد اجتمعت جملة من تلك الأقسام في الآية الشريفة فمن الصفات الذاتية : الحياة ، والعلم ، والعلوّ ، والعظمة ، ومن الصفات الفعلية : الإذن ، ومن الصفات الحقيقية المحضة : الحياة ، والقيومية ، ومن الصفات الحقيقية ذات الإضافة : الملك ، والعلم ، ومن الصفات الإضافية : عنوان المالكية المستفاد من قوله تعالى : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ) ومن الصفات الكمالية الجمالية جملة منها ومن الصفات الجلالية نفي الشريك. وقد اشتملت الآية على الاسم الأعظم فهنيئا لمن التفت إليه.

الحياة ومعناها :

الحياة : تستعمل في معان متعددة ذكرها الله تعالى في القرآن الكريم.

٢٨٢

ويمكن أن يجعل لها جامع قريب فيما سواه أي : منشأ الفعل والإرادة فيشمل الجميع بل يشمل الحياة النباتية لصدور فعل النمو منها ولها نحو إرادة وإن كنا لا نفهم ذلك.

وأثبت أكابر الفلاسفة أنّ حقيقة الحياة تدور مدار حقيقة الوجود بحسب الأصل والاشتداد والتضعف وسائر الجهات فيكون أولى الحقائق بالوجود أولاها بالحياة ، وأشدّها وأعظمها بالنسبة إليه يكون كذلك بالنسبة إلى الحياة ، وكما أنّ الوجود يدرك مفهومه إجمالا ولا يمكن درك حقيقته ، كذلك الحياة ، فهما ككفتي الميزان في جملة من الجهات.

مفهومها من أبده الأشياء

وكنهها في غاية الخفاء

وكما لا مطمع للممكن في درك الذات الأقدس الرّبوبي كذلك لا مطمع له في درك حياته جلّت عظمته وهي عين ذاته فلا بد وأن تعرف الحياة فيه تعالى بمعنى عدمي أي : عدم الموت ، إذ لا يمكن الإحاطة بحقيقتها فيه تبارك وتعالى ، لفرض أنّها عين ذاته الأقدس ، فيلزمه جميع الكمالات الحاصلة من الحيّ فتكون بمنزلة الوجود.

فما كان وجوده وحياته منشأ كلّ شيء وحياته ، فيكون قيوم كلّ شيء لا محالة ، فتنحصر القيومية المطلقة فيه جلّت عظمته قيومية حقيقية واقعية إحاطية ، وما كان كذلك لا يعقل أن تأخذه سنة أو نوم. فهذه الآية الكريمة مترتبة ، فكلّ سابق بمنزلة العلّة للاحقه كما تقدم فالحياة المطلقة الذاتية ـ على ما ذكرناه ـ علّة للقيومية كذلك ، والقيومية المطلقة الذاتية علّة تامة لعدم تحقق السّنة والنوم والغفلة والفتور ، والجميع علّة تامة لسعة إحاطته وقدرته لجميع السّموات والأرض وما فيهما.

والكلّ معلول إرادته التامة حدوثا وبقاء ذاتا وصفة ، ومثل ذلك منحصر في الفرد وهو الله تعالى فهو العلي العظيم المنزه عن الند والشرك لا يجانسه أحد من مخلوقاته.

٢٨٣

النوم ومعناه :

النوم : وجدانيّ لكلّ حيوان كالأكل والشرب ، وتوليد المثل ونحو ذلك من الوجدانيات وهو ضروري بالنسبة إلى الحيوان تتوقف عليه حياته كسائر الأمور الضرورية التي يتوقف عليها بقاؤه وحياته.

ومحصّل ما ذكره الفلاسفة في حقيقة النوم أنّه يرجع إلى عزل الروح نفسها عن الشؤون والتدبيرات الخارجية للبدن وحصرها في البدن لمصلحة في ذلك العزل والحصر وإنّما هي تفعل ذلك بإرادة من الحيّ القيوم فهو تعالى يقبض الأرواح ويبسطها ، فالنوم حاصل منه عزوجل لكن جعل ذلك بالأسباب الطبيعية الظاهرية التي جرت عادته على تطبيقها في جميع خلقه من ذروة العرش الأعلى إلى تراب الأرض الأدنى.

ولا فرق بين النوم والموت من هذه الجهة قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الأنعام ـ ٦٠] ، وقال تعالى : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الزمر ـ ٤٢] ، وقد ورد عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «كما تنامون تموتون وكما تستيقظون تحيون» فكلّ منهما مفارقة تدبير الرّوح من البدن ، فإن طالت مدة ذلك يكون موتا والا كان نوما.

ولما كان الرّوح خلقا آخر وهو من أمر الرّبّ قال تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) [الإسراء ـ ٨٥] ، فلا بد أن تكون تحت استيلائه وسلطنته من كلّ جهة ولا معنى للقهارية المطلقة عليها الا ذلك. نعم للأسباب الظاهرية دخل بنحو الاقتضاء كما في جميع المخلوقات هذا إجمال ما لا بد من تفصيله ويأتي في محلّه.

وأما النوم الذي أطلقوا عليه (النوم المغناطيسي) فإن كان ناتجا من التسلط على الروح من حيث هي مع قطع النظر عن سائر الجهات فهذا غير

٢٨٤

ممكن لأنّ الرّوح من عالم الأمر ولا يتسلّط عليها الا من ارتبط بعالم الأمر ، والناس بمعزل عن ذلك إلا من اصطفاه الله تعالى وارتضاه.

وإن كان في الجسم من حيث ارتباطه بالروح فله وجه ، ولكن كلية ذلك مشكلة أيضا لغير أولياء الله تعالى وأحبّائه الذين بذلوا جميع شؤونهم لله تعالى فسلّطهم على ما شاءوا وأرادوا فمشوا بحق اليقين في عالم عين اليقين وأدركوا بأبصارهم ما لا يدركه الناس ببصائرهم. نعم ما يدعونه من الوقوع إنّما يكون في الأرواح الجزئية الدنيئة هذا ما يتعلّق بالنوم بالنسبة إلى الحيوان.

وأما النوم في غيره فهو يختلف باختلاف متعلّقه فيكون تارة سباتا وأخرى : فتورا وثالثة : غفلة ونحو ذلك مما لا يخلو عنها مخلوق من مخلوقات الله تعالى.

ولكن جميع ذلك منفيّ عنه تعالى وهو منزّه عن السّنة والنوم وغيرهما مما يوجب الفتور والغفلة وقد ذكرنا أنّ عروض النوم والسّنة عليه مستحيل بنفسه لأنّه من عوارض الجسم والجسمانيات ، ويلزم المحال أيضا لأنّه يستلزم الغفلة وهي تنافي القيومية المطلقة والإحاطة الواقعية الحقيقية.

٢٨٥

سورة البقرة

الآية ٢٥٦ ـ ٢٥٧

(لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٥٦) اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥٧))

قرر سبحانه وتعالى في الآية السابقة كليات اصول الدّين وهي توحيد الله تعالى وتنزيهه عن الشرك والأنداد والنقائص والأوهام وأثبت تعالى لنفسه الأقدس أمهات الصفات العليا والأسماء الحسنى. كما دلّت الآية على المعاد أيضا للتلازم بين المبدإ والمعاد.

يبيّن عزوجل في هاتين الآيتين أصلا آخر من أصول الدّين وهو النبوة بعد الإشارة إليها في الآية السابقة وقرّر تعالى أنّ الدّين الذي نزل به على خاتم الأنبياء قد حوى من المعارف الإلهية والتشريعات الربوبية التي هي من الوضوح بمكان مما لا يدع مجالا إلى الشك والريبة ويهدي إلى الفطرة السليمة والعقل المستقيم فمن آمن بما أنزل الله تعالى فقد خرج من ظلمات المادة والمعاصي إلى النور الإلهي ودخل في ولاية الله تعالى وفاز بسعادة الدّارين ومن أعرض وكفر به أطفأ نور الفطرة بالكفر والطغيان وصار من أولياء الشيطان فنال الشقاوة والخسران.

٢٨٦

وميّز سبحانه في هاتين الآيتين بين تشريع الدّين فاعتبر أنّ معالمه واضحة وأعلامه جلية عالية فلا إكراه عليه ولا إجبار على الدخول فيه وبين بقائه فاعتبر فيه الاستمساك بالعروة الوثقى التي تجعل الدّين غضا طريا يؤمن عليه من تلبيس المنافقين وزيغ المعاندين ودسائس الكافرين ولا يمكن الانفكاك بين الأمرين والا استلزم الخلف فإنّ تشريع الدّين من دون الضمان على بقائه واستمراريته لا سيّما إذا كان خاتم الأديان الإلهية كان لغوا ولأجل ذلك كانت النبوة والولاية متلازمتين. ومن ذلك يعلم الوجه في بعض الأخبار التي تدل على جعل هاتين الآيتين من متممات الآية السابقة لأنّ بهما تتم أصول الدّين جميعها.

٢٨٧

التفسير

٢٥٦ ـ قوله تعالى : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ).

مادة (كره) تدل على زوال الرضا وطيب النفس أو الرغبة فيسقط الفعل لذلك عن الأثر المطلوب منه ، وعن نبينا الأعظم فيما تواتر عنه : «رفع ما اكرهوا عليه» أي رفع الأثر عن الفعل المكره عليه ولها استعمالات كثيرة في القرآن ، ومراتب متفاوتة في الوجدان وتختلف باختلاف الجهات قال تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) [البقرة ـ ٢١٦].

والدّين هو الاعتقاد الصحيح المستتبع للعمل والرابط بين العباد وخالقهم وبين بعضهم مع بعض. أي : لا إجبار في الدّين.

والآية تنفي الدّين الذي فيه الإكراه ـ سواء كان حكما وضعيا تكوينيا أي لا دين فيه الإكراه والإجبار على الدخول فيه أو حكما تشريعيا أي النّهي عن الدخول في الدّين كرها وهما متلازمان في المقام.

والدليل على أنّه لا إكراه في الدّين أمور :

أحدها : أنّ الدّين مطابق للفطرة ، وحكمة العقول ، وهما من أهم أسباب الاستكمال في الإنسان وهو بفطرته يسبق إلى الكمال فلا يحتاج إلى الإكراه والإلجاء ، بل إنّ ما ينتفي عنه طيب النفس والرضاء العام يصح سلب

٢٨٨

الكمال عنه خصوصا في بعض مراتب الإكراه.

الثاني : أنّ الإكراه على الدّين ينافي الجزاء مطلقا فإنّ الأثر إنّما يترتب على الفعل الاختياري بلا فرق بين الوضعيات والتكليفيات.

الثالث : الإكراه إنّما يكون مورده الأفعال والحركات الخارجية أما الأمور القلبية فلا مجرى للإكراه فيها والدّين من الأمور القلبية فلا يجري فيه الإكراه والإلجاء لأنّ الإكراه فيها لا يستتبع العلم والتصديق وهما من نتائج الحجة والبرهان دون الإكراه والإلزام.

والآية المباركة تبيّن حقيقة من الحقائق القرآنية التي تدل على نفي الإكراه في الدّين كلّه وبها تكون حجة على من زعم بأنّ الدّين لم يقم إلا بالسيف والقتال مع أعداء الدّين حتّى يدخلوا في الدّين فيرفع الفتنة من الأرض قال تعالى : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) [البقرة ـ ١٩٣].

ومما ذكرنا يظهر بوضوح فساد زعمهم فإنّ القتال الذي أمر به الإسلام ، والجهاد الذي حث عليه القرآن ليس لأجل إكراه الناس على الدخول في الدّين وبسط النفوذ ، وإنّما هو لأجل الدفاع عن النفس وإحياء الحق وإرجاع الناس إلى الفطرة بعد الجحود وإنكار الوجدان.

وبعبارة أخرى يكون القتال لدفع المزاحم وإزالة العقاب في سبيل نشر الدّين وليس ذلك في أصل الجعل والتشريع ، إذ ليس للإيمان الحاصل من الإكراه أيّ أثر كما عرفت.

مع أنّ الدّين مطابق للفطرة السليمة ولا مجرى للإكراه فيها فإنّ من قبله ودخل فيه كان مستقيما على الفطرة ومن أنكره خرج عن فطرته قال تعالى : (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [البقرة ـ ٥٧] ، والدّين كسائر الأمور الفطرية التي من ينكرها كان جاحدا لهويته وإرادته ، والسبب في الإنكار هو البعد عن منبع النور وانغماره في دار الغرور.

وإنّما الشواغل الحسية

قد حجبت نفوسنا النورية

٢٨٩

ويدل على ذلك قوله تعالى : (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ) فالمرجع هو حكم العقل والفطرة قبل إرسال الرسل وبعدهم ومعهم. هذا أولا.

وثانيا : إنّ الإكراه لو كان بحق فهو حسن بل واجب في النظام الأحسن وله نظائر كثيرة في تنظيم النظام مثل البيع في موارد الاحتكار وإجبار المحتكر على البيع بثمن المثل ، والإكراه في الدّين إكراه بحق مطلقا فإنّ تركه قبيح وأي قبح أشد من ترك الإنسان من أن يسعى في الشقاوة الأبدية ، فيكون الإكراه لأجل إزالة الشقاوة في الطرف المكره كالإكراه للتصالح بين الأطراف المتنازعين.

والآية تنفي الإكراه بغير الحق ، كما كان معمولا بين الطواغيت والجبابرة وما كان معهودا في بعض الأديان.

وثالثا : إنّ التاريخ يكذب هذا الافتراء ، لأنّ الإسلام في ابتداء دعوته كان مستخفيا والمشركون قد أعلنوا العداء له وكانوا يفتنون المسلمين بأنواع الأذى ونهاية التعذيب حتّى اضطر الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وأصحابه إلى الهجرة عن مهبط الوحي.

ويمكن أن تكون الآية الشريفة إرشادا بتعليم المؤمنين إلى ما يقع عليهم من الإكراه على الكفر من الكافرين. يعني : إن اكرهتم على الكفر فأضمروا الحق في قلوبكم واجهروا لهم بجوار حكم ما يريدون فتكون هذه الآية نظير قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) [النحل ـ ١٠٦].

قوله تعالى : (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ).

الآية الشريفة في مقام التعليل لنفي الإكراه في الدّين. والرشد ـ بضم الراء والشين أو بضم الرّاء فقط ـ يأتي بمعنى الصّلاح وإصابة الصواب خلاف الغي ، ويستعمل بمعنى الهداية أيضا. وهو من المفاهيم المشككة التي لها مراتب متفاوتة جدّا وقد استعمل في القرآن كثيرا قال تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ) [الأنبياء ـ ٥١] ، أي : آتينا ما يوجب صلاحه ويهديه إلى الحق والصواب وقال تعالى ـ حكاية عن أصحاب الكهف ـ : (وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا

٢٩٠

رَشَداً) [الكهف ـ ١٠] ، وقال تعالى : (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً) [النساء ـ ٦] ، أي : صلاحهم في استعمال الأموال وقال تعالى : (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً) [الكهف ـ ٦٦] ، فإنّ الرشد الذي آتاه خليله إبراهيم مرتبة منها والرشد الذي يحصل لليتيم أيضا مرتبة أخرى. وبينهما بون عظيم.

والغي : خلاف الرشد ، ويستعمل في الضّلال أيضا ، وله مراتب شدة وضعفا.

والمعنى : لا إكراه في الدّين لأنّه قد تبيّن طرق الصّلاح ، ووضح سبيل الحق ، وتميّز بينه وبين سبيل الباطل.

وسياق الآية المباركة المشتملة على التعليل يدل على أنّها من المحكمات التي لم ينسخ شيء منها ، فلا وجه لما عن بعض المفسّرين من أنّ الآية المباركة منسوخة بقوله تعالى : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) [البقرة ـ ١٩٣] ، لما ذكرناه آنفا من أنّ القتال لأجل إزالة الباطل لا إثبات الحق والطريق الواضح.

قوله تعالى : (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ).

الطاغوت : من الطغيان ، واللفظ من صيغ المبالغة يوصف به الواحد والجمع ويستوي فيه التذكير والتأنيث ، ومادة (طغى) تأتي بمعنى التجاوز عن الحد في الطغيان ، وقد ذكر هذا اللفظ ثمان مرات في القرآن الكريم تارة واحدا قال تعالى : (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ) [النساء ـ ٦٠] ، وأخرى : في مقام الجمع قال تعالى : (أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ) وثالثة : مؤنثا يعود إليه الضمير المؤنث الظاهر في الجماعة قال تعالى : (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها) [الزمر ـ ١٧] ، ورابعة أشير إليه بهؤلاء قال تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً) [النساء ـ ٥١] ، وهو في جميع استعمالاته مبغوض لدى الرحمن وذوي الفطرة السليمة من أفراد الإنسان.

٢٩١

ويطلق على كلّ من كان سببا للطغيان والضّلال مثل الأصنام ، والشيطان ورؤساء الشرك والعناد ، وتعرف المصاديق من القرائن الحافة بموارد الاستعمال ، ففي المقام يراد به كلّ ضلال وما يكون سببا للخروج عن الحق والصراط المستقيم سواء كان صنما أو إنسانا أو شيطانا أو العصبية والأهواء الباطلة ، فله وجود نوعي شامل لجميع الأفراد والمصاديق.

أي : فمن يكفر ويعرض عمّا كان سببا للطغيان ، ويتبرّا من دعاة الشرك والضّلال ، ويؤمن بالله وحده لا شريك له. ويأتي جواب الشرط.

قوله تعالى : (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى).

الاستمساك : شدة التمسك وإحكامه. والعروة : هي مقبض الإناء ونحوه. ويطلق على التعلّق بشيء ولو بالحبل المتين.

والوثقى : تأنيث الأوثق ، أي : الثابت والمحكم المأمون قطعه ، وجمع الوثقى الوثق كالفضلى والفضل.

وفي الآية الشريفة تشبيه بليغ واستعارة لطيفة وهو من تشبيه المعقول بالمحسوس تقريبا إلى الأذهان المستأنسة بالأجسام كما هو دأب القرآن ، ولبيان أنّ الإيمان بالله تعالى والكفر بالطاغوت يوجبان السعادة الحقيقية واستقرار نفس المؤمن وعدم تأثير الأوهام والشبهات فيها.

والمعنى عام يشمل جميع العرى الجسمانية والمعنوية والروحانية الداعية إلى الحق والرشاد ، ولا عروة أوثق من هدي الرحمن ومعارف القرآن ، ولا كمال أكمل وأجل مما يفيضه الله تعالى على عباده.

والمراد بها في المقام : الإيمان بالله الذي لا يعتريه ريب وتردد ولا يعقل أن تعتريه الشبهات والوهن في الحجج ، لاتصال هذه العروة بالملك القدّوس ومدبر الأرواح والنفوس العليم الحكيم المهيمن على الجميع ، وخلوصها عن شوائب الماديات وظلمات المادة.

فلنفس هذه العروة الوثقى حياة معنوية أجل وأشرف من الحياة

٢٩٢

الظاهرية ، ولها مظاهر مختلفة في جميع العوالم وهي الصّراط المستقيم وسواء السبيل ، والحياة الأبدية في عالم الآخرة.

وإن شئت قلت : إنّها حياة عالم الغيب ظهرت في عالم الشهادة ليتمسك بها عباد الرحمن ويفوزوا بمراتب الجنان ، وهي الحبل الإلهي النوراني المتين ممدود من عالم النور إلى الظلمات ليستنقذ الناس من الهلكات ويلجم به الشيطان قبل أن يلجم الشيطان عباد الرحمن ، وجميع ذلك يشير إلى الحقيقة التي لا يمكن أن تدرك إلا بالعمل بها وحينئذ يشعر المتمسك بها بالتجلّي الإلهي على قلبه ، ويعترف بأن لا كمال فوق ذلك.

والقضية فطرية وجدانية فإنّ الإنسان لو خلّي وطبعه وزالت عن نفسه الحجب الظلمانية لاختار الكمال الحقيقي الدائمي الذي لا انفصام فيه على الكمال الزائل الفاني.

قوله تعالى : (لَا انْفِصامَ لَها).

مادة (فصم) تدل على الانقطاع والانقلاع وفي الحديث : «فينفصم عنه الوحي وإنّ جبينه ليتفصّد عرقا» أي : ينقطع عنه الوحي. والجملة في موضع الحال التي تؤكد مضمون الآية المتقدمة.

أي : إنّ الاستمساك بالعروة الوثقى التي هي الإيمان بالله والكفر بالطاغوت من أقوى العرى التي يؤمن عليها من الانقطاع وتتبعد عن حيرة الشك ووهن الحجة ولا يمكن أن يتصوّر فيها ذلك لإضافتها إلى الله عزوجل الحيّ القيوم وهي النور الذي يتجلّى للأنام ويرتفع به الظلام ، وما فيه الظلام يقبل الانفصام.

قوله تعالى : (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).

جملة تفيد الترغيب والترهيب أي : والله سميع للأقوال عليم بالنيات والأعمال ، وإنّما أتى عزوجل بهذين الاسمين ، لكون الإيمان والكفر مما يتعلق باللسان والجنان.

٢٩٣

٢٥٧ ـ قوله تعالى : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ).

خطاب فيه منتهى العطف والحنان وفيه البشارة بأنّه تعالى وليّ أهل الإيمان وهذا من أجلّ المقامات وأشرفها لهم ، ووعد منه عزوجل لهم بإخراجهم من الظّلمات إلى النور.

وهذه الولاية ولاية الرعاية والصّلاح والعطف والحنان أي : إنّ الله تعالى المدبر للمؤمنين يقوم بتدبيرهم بما هو الأصلح لهم ، وهي غير الولاية التكوينية التي له تعالى على جميع ما سواه ، وهي مضافا إلى كونها إراءة الطريق إيصال إلى المطلوب أيضا ، وأيّ مطلوب أجلى وأعلى من الوصول إلى عالم النور الذي مبدؤه ومنتهاه هو الله عزوجل.

وقد أضاف جلّت عظمته تلك الولاية إلى ذاته الأقدس وهذه الإضافة تشريفية من أكمل أنحاء الحقائق.

وإنّما أتى بالظلمات بلفظ الجمع لكثرة مناشئ الظلمة والجهل والغواية وتباينها بحيث لا يمكن جمعها تحت جامع واحد إلا جامع اعتباري لا حقيقة له.

وأما النور فإنّه حقيقة واحدة ، والمراد به في المقام : نور الهداية والطاعة والإيمان ولا وجه للتعدد فيه ، لأنّه من واحد وفي واحد ولغرض واحد والتعدد لو كان فهو فرضي اعتباري لا أن يكون حقيقيا وموضوعه يدور على استكمال الأبدي المطلق. وهذا النور المعنوي يعم الدنيا والآخرة.

والكلام محمول على حقيقته دون المجاز ولكن لنفس الحقيقة مراتب كثيرة شدة وضعفا وجوهرا وعرضا وكمالا ونقصا ، فلا وجه لحمله على المجاز كما عن بعض المفسرين ، كما لا وجه لحمله على الحقيقة التي هي محجوبة عن البصائر والأبصار وهي عالم الغيب ، لأنّ اللفظ ظاهر في الحقيقة غير المحدودة بعالم دون عالم آخر. نعم ، لها مظاهر ومراتب كما مرّ ، ففي الآية الشريفة يراد من النور : الإيمان والهداية ومن الظلمات : الضّلال والغواية.

٢٩٤

وإنّما خص المؤمنين بالذكر لأنّهم استحقوا بالإيمان هذه المنزلة العظيمة والمقام السامي ، فهم لم يعاندوا الحق ولم يطفؤا نور الفطرة بالكفر ففازوا بعطف الله عزوجل عليهم ورأفته بهم وتولي أمرهم.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ).

المراد من النور : نور العقل والفطرة ، ومن الظلمات : ظلمات الغواية والضّلال.

وهذا النور هو منشأ السعادة على نحو الاقتضاء فهو نور إجماليّ يقبل الزيادة والنقصان تبعا للعقائد الحسنة والمعارف الحقة والأعمال الصالحة ، والعقل ، والفطرة والشرع أمور متحدة في الواقع والحقيقة ومختلفة بالاعتبار ، وكلّ واحد منها يدعو إلى الآخر.

والآية المباركة من قبيل القضايا الطبيعية التي لا تحتاج إلى إقامة الحجة والبرهان ويكفي فيها المشاهدة والوجدان.

أي : إنّ الذين كفروا بالله العظيم واتبعوا الطاغوت فإنّهم خرجوا من ولايته تبارك وتعالى عليهم ولا مدبر لأمرهم ولا مسيطر على نفوسهم إلا الطاغوت الذي يكون شأنه إخراج الإنسان من النور الفطري إلى ظلمات الجهل والغواية وسوقهم إلى الشقاوة والحرمان وحيرة الضلالة ، فهم قد حرموا أنفسهم باتباعهم الطاغوت.

قوله تعالى : (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ).

الجملة من قبيل القضايا الطبيعية التي يؤتى بها لبيان ترتيب الأثر على المؤثر كقول نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «حفت النار بالشهوات» وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «من حفر لأخيه بئرا وقع فيه» أو كقول : «من شرب سمّا هلك».

أي : إنّ الآخرة ليس فيها إلا جزاء الأعمال الصادرة في الدنيا وأولئك

٢٩٥

الكافرون الذين اختاروا الكفر حرموا أنفسهم السعادة وأطفؤوا النور الإلهيّ في نفوسهم فهم أصحاب النار هم فيها خالدون لخلود نياتهم على ذلك كما يأتي مفصلا.

٢٩٦

بحوث المقام

بحث دلالي

يستفاد من الآية الشريفة أمور :

الأول : يمكن الاستدلال بقوله تعالى : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) على رد من يقول بالجبر لأنّه إذا لم يكن إكراه في الدّين فلا يكون فيه الجبر بالأولى ، لأنّ الإكراه هو حمل الغير على اختيار فعل مع عدم الرضا وطيب النفس ، والجبر هو عدم أصل الاختيار كحركة يد المرتعش ، ونحو ذلك من الأمثلة التي يذكرونها ومنها ما ذكره أهل الجبر : «قال الحائط للوتد لم تشقني؟ قال : سل عمّن يدقني» وقد تعرّضنا له في أحد مباحثنا السابقة فراجع.

الثاني : يمكن أن يكون قوله تعالى : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) من نفي الحكم بعنوان نفي الموضوع تأكيدا وتثبيتا ، وله نظائر كثيرة في السنة الشريفة مثل قول نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «لا يتم بعد احتلام ولا رضاع بعد فطام» وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام» فتكون جميع الموضوعات التي يتحقق فيها الإكراه عقدا كان أو إيقاعا أو غيرهما لا يترتب عليها الأثر المطلوب شرعا لأجل الإكراه.

وربما يحتمل أن يكون قول نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «رفع

٢٩٧

عن امتي الخطأ ، والنسيان ، وما أكرهوا عليه ، واضطروا إليه» مقتبسا من هذه الآية الشريفة وأمثالها من الآيات الواردة في الخطإ والنسيان وكيف كان فهي تبيّن حقيقة من الحقائق القرآنية التي ابتنى عليها الإسلام كما تقدم.

الثالث : يستفاد من قوله تعالى : (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ) أنّ كلّ ما ورد في الشرع المبين إنّما هو إرشاد إلى حكم الفطرة والعقل كحسن الإحسان وقبح الظلم اللذين هما من المستقلات العقلية التي يحكم به كلّ ذي فطرة سليمة فما ورد في الشرع في سياق ذلك يكون إرشادا إليه وتصحيحا للثواب والعقاب ، وتنطوي في ذاك جملة كثيرة من الأحكام ، فهذه القاعدة كقاعدة شكر المنعم من أمهات القواعد العقلية المقرّرة في جميع الشرائع الإلهية تبتني عليها جملة من أبواب العلوم الإسلامية وتدل القاعدة المزبورة على أنّ جعل القانون بالجبر والإكراه ظلم وهو قبيح بالنسبة إليه جلّت عظمته ولكن لا بد من بيان طرق الخير وطرق الشر أولا ثم جعل القانون للمكلّف المختار ، والأمر الأول يتكفّله العقل والفطرة ، وهما مع الإنسان حدوثا وبقاء والأمر الثاني تتكفّله الشرايع الإلهية.

ولعلّ أحد أسرار ابتلاء آدم (عليه‌السلام) بالمعصية إثبات التمييز بين الطريقين إتماما للحجة على الناس وتحذيرا لهم عن المخالفة ومتابعة الوسواس الخناس ، والا فأيّ مناسبة بين سجود الملائكة أجمعين وعصيان ربّ العالمين ، فهو إعلان للعصيان لمصالح كثيرة لا أن يكون قد صدر من آدم (عليه‌السلام) معصية حتّى صغيرة فيكون من قبيل إنامة نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) عن صلاة الغداة لتوسيع الأمر على أمته رأفة منه عزوجل على عباده.

الرابع : ذكرنا أنّ المراد بالعروة الوثقى هي جميع كمالات الإنسان مطلقا وهي تارة تكون عرضا قائما بالغير كالاعتقادات الحقة الحاصلة لأهل الإيمان والقرآن الكريم بهذا الوجود الخارجي الواقع بين الدفتين.

وأخرى : يكون جوهرا قائما بالذات كسيد المرسلين (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ومن يتبعه في العلم والعمل الدين وردوا بحر المادة وخرجوا منه ولم

٢٩٨

تمسهم نداوة منه فضلا عن أن يذوقوه فرجعوا إلى الله تعالى كما بدؤا منه ولم يخطر في جوانحهم إلا الله عزوجل ولم يصدر من حركات جوارحهم شيء إلا لله جلت عظمته (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام ـ ٩٠] ، وهم العروة الوثقى الإلهية ، والحبل الممدود بين السّماء والأرض وبهم يصرف العذاب عن أهل الأرض.

وثالثة : لا تكون عرضا ولا جوهرا بل هي الصراط المستقيم الذي ينتهي إلى الله عزوجل فتكون من صفات فعله الأقدس إلا إذا رجعت إلى العلم والحكمة فتكون حينئذ من صفات الذات ، ويمكن أن تجعل من الصفات البرزخية بين الذات والفعل.

وليس للقسم الأخير وجود واحد فرديّ بل له في كلّ من عوالمه تجلّ خاص لأهله بمظاهر ذلك العالم ويشهد لذلك قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ) [فاطر ـ ٤١] إلا أنّ بعض الموجودات يتمسك بها بالطبع ، والبعض الآخر بالتسخير ، وثالث بالاختيار ، وإن جعلناها من صغريات النظام الأحسن كان الأمر أظهر وأبين.

الخامس : قوله تعالى : (لَا انْفِصامَ لَها) قيد توضيحي لا أن يكون احترازيا ، ذكر لكثرة الاهتمام بالعروة الوثقى وللتأكيد على التمسك بها.

السادس : إنّما قدم الكفر على الإيمان في قوله تعالى : (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ) لبيان أنّ التحلية بالفضائل لا بد أن تسبقها التخلية عن الرذائل فالاولى مترتبة على الثانية فلا يكون استمساك بالعروة الوثقى الا بترك ما سوى العروة والأخذ بها فقط ، فيكون الكفر هو الترك والإيمان هو الأخذ.

السابع : إنّما ذكر سبحانه «السميع العليم» في آخر الآيات المباركة للإعلام بأنّ كلّ ما يقال في شأن العروة الوثقى الإلهية هو مسموع له تعالى ، وكل ما يخطر بالبال بالنسبة إليها يكون معلوما لديه عزوجل فلا بد من التحفظ عن القول فيها الا بالحق ، وتمسك القلوب في الخطرات والجوارح عن

٢٩٩

الحركات الا في الحق وبالحق ، وهذه هي حقيقة العروة الوثقى العملية التي أمرنا باتباعها ، فالآية الشريفة ترشد الناس إلى التمسك بالعروة الوثقى في أقوالهم وأفعالهم.

والآية التالية تشرح بعض جهات العروة الوثقى كما هو واضح وهو الإخراج من الظلمات إلى النور.

الثامن : يستفاد من قوله تعالى : (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) أنّ النار هي الدار التي تليق بأهل الظلمات التي خلت نفوسهم عن النور الذي يسوقهم إلى الحق والرضوان ، فما ورد في هذه الآية يبين تناسب الجزاء مع العمل الذي هو من الحقائق القرآنية.

التاسع : إنّما أتى سبحانه وتعالى بلفظ المضارع في قوله تعالى : (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) للدلالة على الثبوت والاستمرار حالا بعد حال فهدايته سبحانه مستمرة بالنسبة إلى المؤمنين.

٣٠٠