مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة أهل البيت (ع)
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥١٦

والمراد بالهداية : هي الخاصة المنبعثة عن الفطرة التي فطر الناس عليها الموصلة للحق قال تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) [النّور ـ ٤٠] ، أو المراد درجات الهداية ومراتبها كما قال عزوجل : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) [محمد ـ ١٧] ، وقال تعالى : (وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً) [مريم ـ ٧٦].

ويمكن أن يكون سياق هذه الآيات بعد رد بعضها إلى بعض سياق قوله تعالى : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) [الأنفال ـ ١٧] ، وإذا لاحظنا هذه الآية الشريفة مع قوله تعالى : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) تصير النتيجة ليس عليك هداهم على نحو الإكراه ، ويكفي الإبلاغ والإنذار ، وقد حصل كلّ منهما ، فتشمل الآية جميع موارد الهداية ومتعلّقاتها من الإنفاق وغيره ولا دليل على التخصيص ، فيكون المعنى ليس عليك هداهم أي : إيصالهم إلى المطلوب لأنّ النبوة والرسالة إنّما هي الإبلاغ والبشارة والإنذار ولكنّ الله يهدي إلى المطلوب من يشاء بالتوفيقات الخاصة والعنايات المخصوصة بنحو الاقتضاء لمن يرى فيه الصلاحية فيوصله إلى المطلوب وهذه قضية عقلية تشهد على صحتها التجربة أيضا ويؤيدها النقل.

ثم رجع سبحانه إلى خطاب المؤمنين وأرشدهم إلى الإنفاق الصحيح وبيّن لهم الوجه في الإنفاق ب :

قوله تعالى : (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ).

التفات إلى خطاب الناس أو المؤمنين ليبيّن الباعث في الإنفاق وهو أمر فطري يبينه القرآن الكريم حثّا عليه ولذا كان الكلام خاليا عن أيّ من فنونه كالتبشير والإنذار ونحوهما.

والخير في المقام : ما كان من الطيب أو ما قصد به وجه الله تعالى.

أي : ما تنفقوا من خير فنفعه يعود إليكم والله تعالى منزه عن الانتفاع بما تنفقون ، ويمكن إقامة الدّليل العقلي على ذلك فإنّ نفع الإنفاق إما أن يرجع إلى الله تعالى أو إلى غير المنفق أو إلى نفس المنفق ، والأول مستحيل ، لأنّ

٣٨١

الله هو الغنيّ المطلق ، والثاني ظلم وهو قبيح بالنسبة إليه تعالى ، فيتعيّن الثالث مع تحقق الشرائط وفقد الموانع فالقضية من قبيل القضايا التي قياساتها معها.

قوله تعالى : (وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ).

بيان لعلة رجوع نفع الخير إلى نفس المنفق إذا كان لوجه الله تعالى فإذا كانت الغاية هي وجه الله تعالى دون غيره ففيه النفع العظيم ويعود إلى المنفق وإلا كان وبالا وحسرة.

والجملة خبر بمعنى النهي ، أي : لا تنفقوا الا لوجهه عزوجل أو حال عن ضمير الخطاب وعامل متعلّق الظرف أي : إنّ النفع يعود إلى أنفسكم في حال ابتغاء وجه الله به.

قوله تعالى : (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ).

تثبيت للمدعى ببيان أوفى. ولفظ (يُوَفَ) ظاهر في تأكد الوفاء ، وأنّ الأمر من الحقايق التي لا تقبل الشك والوهم ، فهو تعالى يفي بما وعد به من الثواب في الدنيا والآخرة ، كما وكيفا ومن سائر الجهات.

وإنّما أبهم الفاعل في قوله تعالى : (يُوَفَ) لبيان أنّ الغرض من الانتفاع يعود إلى الفاعلين للإنفاق وليس هناك فاعل غيرهم.

وذكر بعض المفسرين أنّ هذه الجملة (يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) مختصة بالآخرة فإنّ مثوبة الإنفاق توفى إليكم في الآخرة.

قوله تعالى : (وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ).

أي : لا تظلمون في شيء من أمر الإنفاق لا في أصله ولا في نقصان الجزاء ولا في تأخيره عن محلّ الحاجة ، ولا سائر خصوصياته فما تريدون وتطمئنون إليه من الربح والزيادة واصل إليكم ولا ينقص منه شيء.

٢٧٣ ـ قوله تعالى : (لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ).

مادة (حصر) تأتي بمعنى الضيق والمنع بلا فرق بين مناشئهما بحسب

٣٨٢

أصل اللغة وقد تقدم في قوله تعالى : (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) [البقرة ـ ١٩٦] ، بعض الكلام فيه فراجع.

والآية المباركة تبيّن مصرف الإنفاق والصدقات فإنّه تعالى بعد ما حث على الإنفاق بأبلغ أسلوب ، وأتم وجه ثم بيّن ما يوجب وهن العزائم وأمرنا بالابتعاد عنه ثم ذكر ما يوجب الخلوص والإخلاص فيه ، ذكر في المقام مصرف الإنفاق وهم : الفقراء الذين منعوا عن شؤونهم الدنيوية في سبيل الله تعالى. وأطلق عزوجل الكلام لأنّ أسباب المنع في سبيل الله تعالى كثيرة منها ما هو عادي ومنها ما هو عقلي ومنها ما هو شرعي مثل المرض أو الاشتغال بأمر أهمّ ديني لا يسعه الاشتغال بالكسب أو كثرة العيلة ونحو ذلك مما هو في سبيل الله تعالى ، كما يشمل منع كلّ مانع مباشريا كان أو تسبيبا ولو على نحو الاقتضاء.

ومن ذلك يعرف أنّ الجار والمجرور متعلّق بالنفقة والإنفاق المقدّر المذكور في الآيات السابقة مكرّرا.

ويستفاد من الآية الشريفة : ما ذكرناه آنفا من أنّ الأصل في تشريع الإنفاق هو الفقر وإن كان سبيل الله أعم من ذلك ، فيكون ذكر الفقراء من باب بيان أحد المصارف ، وقد وصفهم سبحانه وتعالى بأوصاف جليلة وعظيمة تدل على نبلهم وشدة ما قاسوه في سبيل الله تعالى ، وهي ست :

الأولى ـ الفقر كما قال تعالى : (لِلْفُقَراءِ).

الثانية ـ الحصر في سبيل الله تعالى.

قوله تعالى : (لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ).

هذه هي الصفة الثالثة فيهم أي : عاجزون عن الكسب والتجارة ونحوهما.

قوله تعالى : (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ).

هذه هي الصفة الرابعة. ومادة (حسب) تدل على الحكم على أحد

٣٨٣

النقيضين بدوا وترتيب الأثر عليه بلا تفكر في الطرف الآخر لا في الحال ولا في المآل. وهذه صفة رذيلة بخلاف الظنّ الذي هو ملاحظة الطرفين والحكم بالراجح منهما ، وقد يطلق الحسبان على الظن وبالعكس.

وقد وردت هذه المادة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة قال تعالى : (الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) [العنكبوت ـ ٢] ، وقال تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) [آل عمران ـ ١٤٢].

والتعفف : التلبس بالعفّة وهي حالة تحصل للنفس تمنعها عن غلبة الشهوة وهي من الصفات الممدوحة ومن مكارم الأخلاق ، بل من علامات العقل وفي الحديث : «أفضل العباد العفاف» ولها مراتب كثيرة أعلاها : استيلاء العقل على جميع القوى الشهوانية بحيث تأتمر النفس بأوامره وتنزجر عن نهيه وهي أعلى مراتب الإيمان لأنّ «العقل ما عبد به الرحمن واكتسب به الجنان». و «من» في قوله تعالى : (مِنَ التَّعَفُّفِ) لابتداء الغاية أو لبيان الجنس.

والمعنى : يتخيل الجاهل بأحوالهم أنّهم أغنياء لكثرة ملازمتهم للعفّة وترك سؤال الناس وإظهار حوائجهم إليهم.

ويستفاد من قوله تعالى : (مِنَ التَّعَفُّفِ) الدال على كثرة ملازمتهم لهذه الصفة المبالغ فيها أنّهم غير متظاهرين بالفقر ولا يظهر عليهم أثر الحاجة والمسكنة الا ما خرج عن القدرة وما لا سبيل لهم إلى ستره.

قوله تعالى : (تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ).

هذه هي الصفة الخامسة والسيماء والسماء : العلامة أي : يعرفون بالعلامات الظاهرة الدالة على أحوالهم نظير قول عليّ (عليه‌السلام) في وصف المتقين : «يخال مرضى وما بالقوم من مرض» فكأنّ السيماء تكفي في تعريف حالهم وأنّهم في شدة الحاجة والخصاصة.

٣٨٤

ومن توجيه الخطاب إلى الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) دون الجميع فيه حفظ لشؤونهم وصون لجاههم لأنّهم أرادوا حفظ أنفسهم بالتعفف ، ولا يستفاد من الآية الشريفة أنّ معرفة حالهم منحصرة بالسيماء فقط. بل لها طرق اخرى كما هو معلوم.

قوله تعالى : (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً).

هذه هي الصفة السادسة. والإلحاف كالإلحاح لفظا ومعنى ، وأصله من اللحاف وهو ما يغطّي الإنسان ويحيط به ، وكثرة السؤال مذمومة الا من الله تعالى فإنّه عزوجل يحب الإلحاح إليه في الدعاء.

أي : مع شدّة حاجتهم وتمادي الفقر بهم لا يسألون الناس سؤال الإلحاح.

والجملة تحتمل معنيين :

الأول : أنّهم لا يسألون الناس إلا ما دعت الحاجة والضرورة إليه أي : نفي الإلحاف دون أصل السؤال.

والثاني : أنّها كناية عن نفي السؤال أبدا لأنّ كثرة تعففهم أوجب الانقطاع عن الناس وعدم السؤال منهم أبدا ، فيكون صرف السؤال ولو مرة واحدة منهم إلحافا كما في قوله تعالى : (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت ـ ٤٦] ، فإنّ صرف انتساب الظلم إليه منشئ لصدق الظلّامية بالنسبة إليه جلّ جلاله وذلك كثير في الاستعمالات الفصيحة والأساليب البلاغية فيستعظم الفعل لأجل أهمية الفاعل وعظمته وفي الآيات المباركة والسنة الشريفة شواهد لما قلناه.

والصحيح أنّ النفوس تختلف في ذلك فإنّ من انقطع إلى الله تعالى ولازم العفة بحيث ظهرت على جميع جوارحه وأفعاله وأقواله لا يسأل الناس أبدا لأنّه ينافي الانقطاع إليه عزوجل فضلا عن الإلحاف في السؤال الا إذا أذن الشارع فيه حفظا للنظام ولا ينافي ذلك فضل التعفف فيهم فإنّ السؤال قد يكون واجبا وقد يكون مندوبا.

٣٨٥

وبهذه الصفة تنهي الآية الشريفة أوصاف الفقراء الذين تصرف الصدقات فيهم وهي أوصاف ممدوحة كلّ واحدة منها كافية لتهذيب النفس وتوجب تخفيف ما يقاسونه من الفقر والخصاصة وإذا اجتمعت هذه الأوصاف في فرد فهو القدر المتيقن من مصارف النفقات والصدقات ولا يكفي ثبوت أصل الفقر في الإنفاق عليهم وأخذ الصّدقات وقد فصّلنا ذلك في الفقه من كتابنا (مهذب الأحكام).

قوله تعالى : (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ).

أي : إنّ الله تعالى عليم بما تنفقون من الخير يوفّيكم جزاءه.

وفي الآية الشريفة وعد بالجزاء والمضاعفة ، وترغيب إلى الخير وتحذير عن سوء النية فإنّ الله عليم بنواياكم وحكمته البالغة وقضاؤه المبرم وقدره المحتوم على طبق علمه ، فهذه الآية الشريفة على اختصارها متضمنة لجملة من القضايا المحكمة المشروحة في الكتاب الكريم والسنة المقدّسة.

٢٧٤ ـ قوله تعالى : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً).

أعظم آية تحث على الإنفاق وتبشّر المنفقين بعظيم الأجر والثواب وخطاب إلهي للمنفقين بالأمن والأمان.

وفي الآية الشريفة بيان عموم الأوقات والأحوال ، ويمكن أن يكون ذكر الليل والنهار والسر والعلانية كناية عن الاستمرار على الإنفاق بحيث يصير طبيعة ثانية لهم.

وإنّما قدم سبحانه وتعالى الليل والسرّ على النهار والعلانية لبيان فضل صدقة السرّ لأنّ العمل فيهما أخلص لله تعالى فيكون أقرب للقبول وإن كان الجمع بين الأربعة فيه للدلالة على أنّ لكلّ واحد منهما موضعا معينا.

والسرّ خلاف العلانية وهما من الأمور الإضافية ويلحظان بالنسبة إلى المخلوق وأما بالنسبة إلى الله تعالى فإنّ الجميع عنده علن لا تخفى عليه

٣٨٦

خافية ، بل السّرائر ظاهرة عند ذوي البصائر من عباده ففي الحديث عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «اتقوا فراسة المؤمن فإنّه ينظر بنور الله».

والآية الشريفة تدل على اهتمام المنفقين بالبذل والعطاء ليشمل جميع الأوقات والأحوال ليستوفوا عظيم الأجر والثواب وتوغلهم في كسب مرضاة الله تعالى ونصب أنفسهم في إرادة وجهه عزوجل وتزكية نفوسهم ، وهم القليلون بين أفراد الناس ، ولذا وردت روايات كثيرة بل متواترة بين المسلمين أنّها نزلت في عليّ (عليه‌السلام) وسيأتي في البحث الروائي نقل جملة منها.

قوله تعالى : (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ).

وعد حسن من الباري عزوجل بأجر عظيم لهم وكرّمهم بإضافتهم إلى نفسه ، والآية الشريفة تشعر بالرأفة والتلطف معهم.

والأجر والاجرة : ثواب العمل دنيويا كان أو أخرويا قال تعالى : (وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا) [العنكبوت ـ ٢٧] ، وقال تعالى : (لَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ) [يوسف ـ ٥٧] ، وهذه المادة كثيرة الاستعمال في القرآن الكريم ، ولا تقال الا في النفع دون الضّرر بخلاف الجزاء فإنّه يستعمل فيهما معا قال تعالى : (وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً) [الدّهر ـ ١٢] ، وقال تعالى : (ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ) [الكهف ـ ١٠٦].

وجملة (عِنْدَ رَبِّهِمْ) جملة تشريفية وهي تدل على عدم تناهي الأجر من جميع الجهات الفاضلة كما يأتي.

قوله تعالى : (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).

أي : لا خوف عليهم ممّا هو الواقع ولا هم يحزنون من المتوقع ونفي جنس الخوف والحزن يشمل جميع الأحوال والأزمان من الدنيا والبرزخ والنشر والحشر إلى عالم الخلود في الجنة الذي هو عالم الكمال ونشأته وظهور الحق بالحق.

٣٨٧

بحوث المقام

بحث دلالي

تدل الآيات الكريمة على أمور :

الأول : يستفاد من الآيات الشريفة أهمية الإنفاق في الإسلام ، فقد ورد ذكره في مواضع كثيرة من القرآن تبيّن جميع ما يتعلّق بشؤونه وجهاته من المنفق ، والمنفق عليه ، والمال المنفق ، وزمان الإنفاق ، وحالاته ، والإخلاص فيه ، وما يشوبه من الأوهام والتخيلات وكلّ ما يستلزم بطلانه وإذهاب أثره ، وهذه الآيات هي أجمع ما ورد في هذا الأمر ، وقد شرحت السنة الشريفة ما يتعلّق به شرحا وافيا قلّما يوجد في غيرها ، وقد وعد سبحانه وتعالى في هذه الآيات عظيم الأجر والثواب للمنفقين ، وكرّمهم أن نسبهم إلى نفسه ، فقال تعالى : (لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) ، وبشرهم بإذهاب الخوف والحزن عنهم وهو غاية ما يطلبه الإنسان الضعيف الذي تحيط به المكاره والآفات وما يرد عليه من الأهوال في العوالم المختلفة ولذا نرى أنّ مثل هذه البشارة لا تكون إلا في أمور مخصوصة.

وعقب سبحانه وتعالى الآيات المتقدمة التي بيّن عزوجل فيها إحياء الموتى وكيفية الحشر والنشر بهذه الآيات ، لأنّها تتضمن نحوا آخر من الحياة ،

٣٨٨

وهي الحياة الحاصلة من الإضافة إلى الحيّ القيوم والملك القديم الديموم تلك الإضافة الإشراقية أو الإضافة التشريفية ، فإنّ الإضافة إلى القيّوم المطلق تجذب المضاف من المادة إلى الحق ، وتهيؤه للسفر من الحق إلى الحق ، ويشتد ذلك ويضعف باشتداد تلك الإضافة وضعفها. وربما يكون أسرع من طرفة عين وربما يبطئ كثيرا لموانع في البين ، وهي كلّ الأشياء فما ذا وجد من فقدها وماذا فقد من وجدها.

الثاني : إنّما أطلق عزوجل «سبيل الله» ليشمل كلّ سبيل موصل إليه تعالى بلا اختصاص له بمورد خاص أو مخصوص ، وينطبق على كل ما لم يكن منهيا عنه شرعا ويوجب كمال الإنسان بالكمالات المستفادة من الكتاب والسنة ، ويشترط في كونه سبيل الله إحراز رضاء الرب والإنفاق في سبيل الله إنّما يكون له صفة الديمومة والبقاء لإضافته إلى الله تعالى الأزلي الأبدي ، وفي غير هذه الصورة يكون الإنفاق هباء منثورا.

الثالث : إنّما أضاف سبحانه الأموال إلى الناس في قوله تعالى : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ) مع أنّ المال في الواقع والحقيقة له عزوجل لأنّه المنعم عليهم ، لتقرير الملكية الدائرة بين الناس ، ولإثبات التجارة الرابحة فينفقون أموالهم لله تعالى وهو عزوجل يعوّضهم بأجزل ثواب وأعظم أجر فيكون إعلانا للاسترباح عن سلطان لا حدّ لسلطانه وملكه ، وبشارة للبذل والعطاء عن جواد لا نهاية لجوده وكرمه.

الرابع : إطلاق قوله تعالى : (وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) يشمل الدنيا والآخرة في الكم والكيف أو هما معا ، كما أنّه تعالى لم يقيّد ما ضربه من مثل السنبلة في الدنيا والآخرة فهو شامل لهما.

الخامس : يستفاد من قوله تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) أنّ الإنفاق في سبيل الله الجامع للشرائط والفاقد للموانع يستلزم النماء والأجر والثواب ، بل تدل الآيات الشريفة على أنّ كلّ ما يصدر من العبد في مرضاته عزوجل ـ قولا كان أو عملا أو مالا ـ في الدنيا لا بد أن يظهر في

٣٨٩

عالم الآخرة لكن في صور ذلك العالم لما بين العالمين من الاتحاد ، ويدل على هذه القاعدة القرآنية قوله تعالى : (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ) [البقرة ـ ١١٠] ، وتتفرع على هذه القاعدة قاعدة أخرى لها أهمية عظيمة في أبواب المعاد وهي إمكان تبدل الجواهر إلى الأعراض وبالعكس ، وهذا مما يمكن صدوره من الطبيعة المسخرة تحت قدرة الله جلّت عظمته فضلا عن إبداعه جلّ شأنه وربما تشاهد النفوس القدسية ذلك كمال الآخرة في الدنيا.

السادس : إنّما أطلق سبحانه وتعالى المنّ والأذى في قوله تعالى : (ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً) ولم يحدّهما بحدّ معيّن لاختلافهما باختلاف الأشخاص والعادات والأعصار والأمصار والحالات ، والإطلاق يشمل القول والفعل والكتابة والإشارة ، وكلّ واحد من عنواني المنة والأذى يوجب حبط ثواب الإنفاق وبطلانه ، وسيأتي الكلام في الحبط في الموضع المناسب إن شاء الله تعالى.

السابع : يستفاد من عظيم الأجر الذي وعد به عزوجل على الإنفاق الذي لم يلحقه المنّ والأذى أنّهما من أقبح الرذائل يحبطان الإنفاق ويذهبان أثره ، فكلّ ما يترتب على الإنفاق من المحاسن والآثار الحسنة الفردية والاجتماعية والنفسية يذهبه المنّ والأذى ، بل كلّ واحد منهما يؤثر في النفس والفرد والمجتمع آثارا سيئة يكفي الواحد منها في هدم السعادة المرجوّة ، ولذا ورد في الشرع الحنيف الحث على الابتعاد عنهما ، بل ذكر علماء الأخلاق أنّ أثر المنة والأذى يسري إلى النسل والأعقاب ، فيوجب ذلك حرمانهم عن جملة من الخيرات ، كما أنّ أثر المعاشرة معهم بالمعروف توجب توفيقهم للخيرات والاستباق إليها.

وترك المنّ والأذى هو من فروع الإحساس بالمسؤولية بالوظيفة التي كلّف الإنسان بها ، فإنّ الإنفاق الذي هو فعل الإنسان لا بد له فيه أن يحسّ بمسؤوليته من الجهات المعتبرة شرعا وعقلا ، من عدم المنة وعدم الأذية ، والإخفاء ، وأن يستقلّه وإن كان كثيرا ، وأن لا ينظر إلى عوضه الدنيوي فإنّ له

٣٩٠

عند الله الأجر العظيم فأساس تحسين كلّ حسنة هو الإحساس بالمسؤولية ، كما أنّ أساس ارتكاب كلّ سيئة هو الغفلة عنها. أو الاستقامة التي أمر الله تعالى نبيه وأصحابه بها في قوله تعالى : (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ) [هود ـ ١١٢] ، وهي العدالة التي هي عبارة عن مخالفة الهوى وصون النفس وإطاعة أمر المولى وهو ما يسميه جمع بالعرفان.

فالمنّ والأذى من أرذل الصفات وأخسها وأقبح الأخلاق وأدونها يضرّان بالشخص والمجتمع بل الأذى من أظهر صفات السباع والحيوانات الكاسرة وهما من المفاهيم الإضافية المختلفة باختلاف الحالات والأشخاص والأزمنة والأمكنة.

كما أنّهما من الأمور القصدية وقد يكونا من الأمور الانطباقية القهرية أيضا.

الثامن : يدل قوله تعالى : (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ) على خلق كريم من مكارم الأخلاق ، وهو الرد الجميل أو العفو والإغماض عن السائل إذا لم يجد ما يبذله له ، بل يستفاد من الآية الشريفة أنّ الرد كذلك أولى من الصدقة التي يتبعها أذى فإنّ مفسدة الأذى تذهب بمصلحة الصدقة فيكون فعلا شنيعا بخلاف الرد الجميل قولا كان أو غيره.

التاسع : تدل الآية الشريفة : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى) على حبط المنّ والأذى للصدقة وهذا هو مورد خاص خرج بالدليل وأما في غير ذلك فلم يقم دليل على إحباط كلّ معصية أو الكبيرة لما يسبقها من الطاعات ما عدا الشرك وسيأتي القول في الحبط في الموضع المناسب إن شاء الله تعالى.

العاشر : يدل قوله تعالى : (كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) على أنّ المرائي لا يؤمن بما يدعو الله تعالى إليه في أمر الإنفاق وما يعد عليه من الأجر الجزيل ، وبعبارة أخرى إنّ كفره كان جهتيا أي الكفر في أمر الإنفاق وثوابه فلو كان مؤمنا لقصد الله تعالى واختار جزيل

٣٩١

الثواب ولم يقصد رئاء الناس فلم يكن كفره بالله واليوم الآخر رأسا وبالكلية والا لكان المناسب أن يقول : «ولم يؤمن بالله واليوم الآخر».

وكيف كان فالمستفاد من الآية الشريفة : أنّ الرياء في عمل من لوازم عدم الإيمان بالله واليوم الآخر بالنسبة إليه.

الحادي عشر : يدل قوله تعالى : (ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) بعد ذكر الإنفاق رياء والإنفاق الذي يتبعه المنّ والأذى على أنّ المراد من مرضاة الله هو عدم كون الإنفاق من أحدهما وهو الإنفاق لوجه الله الخالص من كلّ ما يوجب الفساد والبطلان ثم البقاء على ذلك في النفس بحيث لا يعترضه ما يبطله ويفسده ، فأحد القيدين يتكفّل حدوث النية الخالصة ، والثاني يتكفل البقاء والاستمرار على تلك النية وهو قوله تعالى : (وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ). وهذا يدل على أنّ في النفس حالات كثيرة تمنعها عن التفكر والتبصر فأمر سبحانه بالتثبت والتفكير.

الثاني عشر : يستفاد من قوله تعالى : (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ) حالتان إحداهما حالة الاستغناء والطمأنينة والراحة ، والثانية حالة الإعواز والاضطراب وشدة الحاجة.

فالأولى تتمثل في الإنفاق في وجه الله تعالى الخالص من كل ما يوجب فساده وزوال أثره.

والثانية تتمثل في الإنفاق مع المن والأذى ، وقد ذكرنا في التفسير ما يتعلق بهذه الحالة فراجع.

الثالث عشر : يدل قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ) على أنّ ما يتقرب به إلى الله تعالى وما يرجى منه ارتفاع الدرجات لديه لا بد أن يكون منزّها عن الشرك والنقص ، وأن يكون نقيّا من كلّ دنس ، فالتصدق من المال الحرام أو المشتبه لا يكون إلا وبالا على صاحبه ، وكذا سائر الأعمال التي يؤتى بها لوجهه الكريم ، مع أنّ جميع ما يصدر من العبد يدخر عوضه له أضعافا كثيرة ، فبذل الخبيث والرّدي خلاف العدل والإنصاف

٣٩٢

هذا إذا كان مشتملا على الطيّب والخبيث. وأما لو كان جميعه من الخبيث فلا بأس بالإخراج منه لأنّ المنساق ما إذا كان المال مشتملا على الخبيث وغيره وقصد خصوص الأول لدناءة النفس.

الرابع عشر : يدل قوله تعالى : (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) على أنّ سبب البخل والإمساك عن بذل الطيّب خوف الفقر الذي يوجب التثاقل ، والاستمرار عليه يستلزم ظهور ملكة البخل فيؤدي إلى تعطيل أوامر الله تعالى والاستهانة بها ، وهو الكفر بالله العظيم ، وقد أرشدنا الله تعالى إلى بطلان ذلك وأنّ الشيطان هو الذي يعد الإنسان الفقر وهو من وساوسه وحبائله التي توهن عزيمة الإنسان والشيطان لا يعد إلا الباطل والضلال ، ويستفاد ذلك من قوله تعالى : (وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً).

وقد ذكر سبحانه الوعدين أحدهما وعد الشيطان والآخر وعد الله ليفكر الإنسان فيهما ويعتبر منهما ويختار ما هو الأصلح له بعد بيان طرق الصلاح والهداية وطرق الفساد والغواية. وهذه الآية الشريفة من الآيات التي تدل على اختيار الإنسان في أفعاله.

الخامس عشر : يدل قوله تعالى : (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) على أهمية الحكمة وعظم منزلتها فإنّها من مواهبه التي يمنحها لمن يشاء من خلقه وهي من الخير الكثير.

وإنّما ذكر سبحانه هذه بعد بيان حال الإنفاق وما يستلزمه في حياة الإنسان الشخصية والاجتماعية ، للإرشاد إلى أنّ ما ذكر هو من الحكمة التي لا بد من مراعاتها والتعهد بحفظها والعمل بما أنزل الله تعالى ليمكن الوصول إلى السعادة الأبدية والكمال المنشود.

السادس عشر : يستفاد من ذيل الآية الشريفة : (فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) أنّ كلّ ما يقال في الحكمة هو دون وصفها وأنّه لا يمكن الوصول إلى كنهها ولا بد من وصفها بما وصفه الله تعالى من الخير الكثير ، وهو لا يختص بالأعراض ولا بالجواهر المجرّدة من الممكنات بل تجل في حد الواجب

٣٩٣

بالذات فإنّه جلّت عظمته حكيم ، والحكمة عين ذاته الأقدس. فللحكمة مظاهر مختلفة ومتفاوتة وأتم مظاهرها القرآن الكريم وحملته العاملون به ، فهي الخير الكثير سواء في ذاتها أو في غايتها أو في ظهورها وتجليّاتها فهي بجميع شؤونها خير كثير ولا يمكن لأحد الاستغناء عن الخير فضلا عن الكثير منه.

السابع عشر : يدل قوله تعالى : (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) أنّ ترك الإنفاق على الفقراء والمحتاجين مع احتياجهم إليه أو اشتمال الإنفاق على ما لا يرتضيه الله تعالى ظلم كبير غير مرضيّ له تعالى ، ولا يقبل التكفير والشفاعة الا برد الحق إلى أهله ، ونفي النصرة عن الظالمين لا يختص بالدنيا أو الآخرة بل يشمل جميع أنحاء النصرة والإعانة.

الثامن عشر : يدل قوله تعالى : (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) على أنّ كلّ واحد من الإظهار والإخفاء صحيح ولا بأس به ، لأنّ في كلّ واحد منهما آثارا حسنة وقد مدح الله عزوجل المنفقين بكلّ واحد منهما إلا أنّ الإخفاء إلى الإخلاص أقرب ، وكلّما كان كذلك كان أقرب إلى القبول ولذا كانت صدقة السرّ أفضل من صدقة العلن.

التاسع عشر : يستفاد من قوله تعالى : (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) شدة ما قاساه الرّسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في أمر الإنفاق من أمته حتى وصل الأمر إلى التهديد والإيعاد والخشونة في هذا الأمر المهم ، ولذا كان في الكلام ما يطيب به خاطره (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ويخفّف عن شدة الصدمة عليه ، والجملة متعرضة لبيان شدة اهتمام الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بهداية أمته وهو الرسول الأمين الرؤوف.

العشرون : يدل قوله تعالى : (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) على حقيقة من الحقائق القرآنية وهي أنّ نفع الإنفاق ليس أمرا وهميا بل هو أمر حقيقي واقعي يوفيه الله تعالى في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما يختلف حسب اختلاف درجات الإنفاق في الاختلاف وسائر الشؤون ، ولذا طوى ذكر الفاعل لبيان هذه الجهة.

٣٩٤

الحادي والعشرون : إطلاق قوله تعالى : (أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) يشمل جميع مراتب الإحصار ولعلّ من أهمها حصر النفس للتفقه في الدّين والعمل بما جاء به سيد المرسلين فإنّه السيما الذي في قوله تعالى : (تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ) ويدل أيضا على كفاية السيما في إحراز الفقر وعدم الاحتياج إلى شيء آخر ما لم يعلم الخلاف خصوصا في أهل العفاف والكفاف.

الثاني والعشرون : يستفاد من الآية الشريفة (لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا) أنّ الأصل في مصرف الصّدقات الفقراء كما عليه الفقهاء خصوصا هذا القسم منهم وهذا يدل على كثرة عناية الله تعالى بمن أحصر في سبيله.

الثالث والعشرون : يستفاد من قوله تعالى : (أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) شدة المجاهدة النفسانية فإنّ العفة شيء والتعفّف شيء آخر والثاني أشد لكثرة الملازمة حتى صار خلقا للعفيف.

الرابع والعشرون : يستفاد من قوله تعالى : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً) كثرة الملازمة للإنفاق حتّى صار ذلك خلقا لهم وقد وعدهم عظيم الأجر ، وقد ختم سبحانه وتعالى الكلام بما وعد به أولا وفيه من براعة الأسلوب والحث على الإنفاق ما لا يخفى.

٣٩٥

بحث روائي

في المحاسن عن عمر بن يزيد قال : «سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام) يقول : إذا أحسن المؤمن عمله ضاعف الله تعالى عمله لكلّ حسنة سبعمائة وذلك قول الله : (وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) فأحسنوا أعمالكم التي تعملونها لثواب الله فقلت له : وما الإحسان؟ قال (عليه‌السلام) : إذا صلّيت فأحسن ركوعك وسجودك ، وإذا صمت فتوقّ كلّ ما فيه فساد صومك ، وإذا حججت فتوقّ ما يحرم عليك في حجك وعمرتك. قال (عليه‌السلام) : وكلّ عمل تعمله لله فليكن نقيّا من الدّنس».

وفي تفسير العياشي عن الصادق (عليه‌السلام) «إذا أحسن العبد المؤمن ضاعف الله له عمله بكلّ حسنة سبعمائة ضعف وذلك قول الله تعالى : (وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ).

أقول : دوران مراتب القبول مدار كمال العمل معلوم عقلا وشرعا ويكفي في ذلك قوله تعالى : (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) والنصوص في ذلك متواترة والأدلة العقلية شاهدة على ذلك.

في الدر المنثور في قوله تعالى : (وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) أخرج ابن ماجة عن الحسن بن عليّ بن أبي طالب ، وأبي الدرداء ، وأبي هريرة ، وأبي أمامة الباهلي ، وعبد الله بن عمر ، وجابر بن عبد الله وعمران بن حصين كلّهم يحدّث عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قال : «من أرسل بنفقة في سبيل

٣٩٦

الله وأقام في بيته فله بكل درهم سبعمائة درهم. ومن غزا بنفسه في سبيل الله وأنفق في وجهه ذلك فله بكلّ درهم سبعمائة الف درهم ثم تلا هذه الآية : (وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ).

أقول : يستفاد من هذه الرواية وأمثالها أنّ منشأ التضاعف لا بد وأن يرجع إلى نفس العامل من الكمالات الموجودة فيه والإخلاص الحاصل له وغير ذلك.

وفي الدر المنثور أيضا أخرج عبد الرزاق عن أيوب قال : «أشرف على النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) رجل من رأس تل ، فقالوا : ما أجلد هذا الرجل لو كان جلده في سبيل الله فقال النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أو ليس في سبيل الله إلا من قتل؟ ثم قال : من خرج في الأرض يطلب حلالا يكفّ به والديه فهو في سبيل الله ، ومن خرج يطلب حلالا يكفّ به أهله فهو في سبيل الله ، ومن خرج يطلب حلالا يكفّ به نفسه فهو في سبيل الله ، ومن خرج يطلب التكاثر فهو في سبيل الشيطان».

أقول : ثبت إجماع المسلمين على أنّ المراد من سبيل الله مطلق سبل الخير ووجوه البرّ ولعلّهم أخذوا ذلك عن مثل هذه الرواية الشريفة.

وفي المجمع في قوله تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) الآية عامة في النفقة في جميع ذلك أي في الجهاد وغيره من أبواب البر ، وهو المرويّ عن أبي عبد الله (عليه‌السلام)».

أقول : يجري فيه ما ذكرنا في سابقه والروايات في ما ذكره كثيرة.

في تفسير القمي في قوله تعالى : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) عن الصادق (عليه‌السلام) قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «من أسدى إلى مؤمن معروفا ثم آذاه بالكلام أو منّ عليه فقد أبطل صدقته ، ثم ضرب الله فيه مثلا فقال : (كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ

٣٩٧

عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ).

وقال (عليه‌السلام) : من أكثر امتنانه وأذاه لمن يتصدّق عليه بطلت صدقته ، كما يبطل التراب الذي يكون على الصّفوان ، والصّفوان هي الصخرة الكبيرة التي تكون في مفازة فيجيء المطر فيغسل التراب منها ويذهب به فضرب الله تعالى هذا المثل لمن اصطنع معروفا ثم أتبعه بالمنّ والأذى.

وقال الصادق (عليه‌السلام) : «ما من شيء أحبّ إليّ من رجل سلفت منّي إليه يد أتبعتها أختها. وأحسنت بها له ، لأنّي رأيت منع الأواخر يقطع لسان شكر الأوائل ، ثم ضرب مثل المؤمنين الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم عن المنّ والأذى قال : (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).

قال : مثلهم كمثل جنّة أي : بستان في موضع مرتفع ، أصابها وابل أي : مطر فآتت أكلها ضعفين ، أي : يتضاعف ثمرها كما يتضاعف أجر من أنفق ماله ابتغاء مرضاة الله والطّلّ ما يقع باللّيل على الشجر والنبات وقال أبو عبد الله (عليه‌السلام) : والله يضاعف لمن يشاء لمن أنفق ماله ابتغاء مرضاة الله قال : فمن أنفق ماله ابتغاء مرضاة الله ثم امتنّ على من تصدّق عليه كان كما قال الله تعالى : (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ) قال (عليه‌السلام) : الإعصار الرياح فمن امتنّ على من تصدّق عليه كان كمن له جنة كثيرة الثمار وهو شيخ ضعيف وله أولاد ضعفاء فيجيء ريح أو نار فتحرق ماله كلّه.

أقول : لفظ «أسدى» بمعنى أعطى ومنه قول نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «من أسدى إليكم معروفا فكافئوه».

ولفظ معروف يشمل المال والعمل والقول ، وذيل الرواية يرشد إلى أهمّ الأمور الاجتماعية إذ كلّ معروف لا بد وأن يتدارك عند المجتمع الإنساني

٣٩٨

وحينئذ يبقى المعروف دائميّا ومستمرّا ولا يضمحل أبدا ، كما هو ذيل الحديث.

ثم إنّ الروايات في تدارك النّعم والهدايا بمثلها أو بأحسن منها كثيرة ، والظاهر موافقة ذلك للفطرة ، لأنّ المنع من المنعم عليه يوجب سلب النعمة بين الناس وإدبارها وإنّ التدارك يوجب الترغيب في استمرار النعمة والهدية فإنّ الناس أبناء ما يحسنون.

وفي الدر المنثور أخرج ابن المنذر والحاكم في صحيحه : «أنّ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) سأل البراء بن عازب فقال : يا براء كيف نفقتك على أمك؟ ـ وكان موسعا على أهله ـ فقال يا رسول الله ما أحسنها؟! قال : فإنّ نفقتك على أهلك وولدك وخادمك صدقة فلا تتبع ذلك منّا ولا أذى».

أقول : يشهد لذلك جملة أخرى من الروايات ومنها يستفاد أنّ المنّ والأذى في الإنفاقات الواجبة يوجب زوال ثوابها بل قد يوجب بطلانها رأسا.

وفي تفسير المجمع عن الصادق (عليه‌السلام) عن النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «من أسدى إلى مؤمن معروفا ثم آذاه بالكلام أو منّ عليه فقد أبطل الله صدقته».

أقول : تقدم ما يدل على ذلك.

وفي الدر المنثور في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ) أخرج ابن جرير عن عليّ بن أبي طالب (عليه‌السلام) أنّه قال : «من الذهب والفضة ، ومما أخرجنا لكم من الأرض قال : يعني من الحب والتمر وكلّ شيء عليه زكاة».

أقول : يستفاد من هذه الرواية وجه التعميم للنفقات الواجبة والمندوبة أما الأولى فمثل الزكاة المتعلّقة بما هو واجب ، وأما الثانية فما تعلّق بما هو مندوب كما فصّل في الفقه.

في الكافي عن أبي بصير عن الصادق (عليه‌السلام) في قول الله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ

٣٩٩

الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ) قال : «كان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) إذا أمر بالنخل أن يزكى يجيء قوم بألوان من التمر ، وهو أردأ التمر يؤدونه عن زكاتهم ، تمر يقال له : الجعرور والمعافارة قليلة اللحاء عظيمة النوى ، وكان بعضهم يجيء بها عن التمر الجيّد فقال رسول الله : لا تخرصوا هاتين النخلتين ولا يجيئوا منها بشيء ، وفي ذلك نزل : (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) والإغماض أن تأخذ هاتين التمرتين».

أقول : ما ذكره (صلى‌الله‌عليه‌وآله) موافق للوجدان الإنساني من أنّ الإنفاق إلى المحبوب وإيصال شيء له لا بدّ أن يكون من شيء محبوب ومرغوب.

وفي رواية أخرى عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ) فقال : «كان القوم قد كسبوا مكاسب سوء في الجاهلية فلما أسلموا أرادوا أن يخرجوها من أموالهم ليتصدقوا بها ، فأبى الله تبارك وتعالى إلا أن يخرجوا من أطيب ما كسبوا».

أقول : هذا صحيح فإنّ الطيب يشمل عدم خبث المادة وعدم الحرمة فلو أنفق أحد من أطيب ما عنده ولكن كان ذلك حراما أو مشتبها يصير الإنفاق من الخبيث.

وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد والترمذي في صحيحه ، وابن ماجة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه والحاكم في صحيحه ، والبيهقي في سننه عن البراء بن عازب في قوله تعالى : (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ) قال : «نزلت فينا معشر الأنصار كنّا أصحاب نخل كان الرجل يأتي من نخله على قدر كثرته وقلّته وكان الرجل يأتي بالقنو والقنوين فيعلّقه في المسجد ، وكان أهل الصفة ليس لهم طعام فكان أحدهم إذا جاع أتى القنو فضربه بعصاه فيسقط البسر والتمر فيأكل ، وكان ناس ممن لا يرغب في الخير يأتي الرجل بالقنو فيه الشيص والحشف ، وبالقنو قد انكسر فيعلّقه فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا

٤٠٠