مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة أهل البيت (ع)
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥١٦

بحث روائي

في التهذيب عن أبي جعفر الباقر (عليه‌السلام) : «كلّ النكاح إذا مات الزوج فعلى المرأة حرة كانت أو أمة أو على أي وجه كان النكاح منه متعة أو تزويجا أو ملك يمين فالعدة أربعة أشهر وعشرا».

أقول : يستفاد ذلك من إطلاق الآية الشريفة أيضا.

في تفسير العياشي عن أبي بكر الحضرمي عن الصادق (عليه‌السلام) قال : «لما نزلت هذه الآية (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) جئن النساء يخاصمن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وقلن لا نصبر فقال لهن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : كانت إحداكن إذا مات زوجها أخذت بعرة فألقتها خلفها في دويرها في خدرها ثم قعدت فإذا كان مثل ذلك اليوم من الحول أخذتها ففتتتها ثم اكتحلت بها ثم تزوجت فوضع الله تعالى عنكنّ ثمانية أشهر».

أقول : لعل ترك ذكر عشرة أيام أنّه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كان في مقام بيان تعداد الشهور لا مطلق زمان العدة.

في الكافي عن محمد بن سليمان عن أبي جعفر الثاني (عليه‌السلام) قال : «قلت له : جعلت فداك كيف صارت عدة المطلقة ثلاث حيض أو ثلاثة أشهر ، وعدّة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرا؟ فقال (عليه‌السلام) : أما عدة المطلقة ثلاثة قروء فلاستبراء الرحم من الولد. وأما عدة المتوفّى عنها

٨١

زوجها فإنّ الله عزوجل شرط للنساء شرطا وشرط عليهنّ شرطا فلم يجابهن فيما شرط لهنّ ولم يجر فيما اشترط عليهنّ. شرط لهنّ في الإيلاء أربعة أشهر إذ يقول الله عزوجل : (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ) فلم يجوّز لأحد أكثر من أربعة أشهر في الإيلاء لعلمه تبارك وتعالى أنّه غاية صبر المرأة من الرجل. وأما ما شرط عليهنّ فإنّه أمرها أن تعتدّ إذا مات زوجها أربعة أشهر وعشرا فأخذ منها له عند موته ما أخذ منه لها في حياته عند الإيلاء قال الله تعالى : (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) ولم يذكر العشرة الأيام في العدّة إلا مع الأربعة أشهر وعلم أنّ غاية صبر المرأة الأربعة أشهر في ترك الجماع فمن ثم أوجبه عليها ولها».

أقول : روي قريب من ذلك في تفسير العياشي وغيره عن الباقر والرضا (عليهما‌السلام) وما ورد فيها من بيان وجه الحكمة في تشريع هذه العدة وتقدم في التفسير ما يتعلّق بها أيضا.

وفي تفسير العياشي عن الصادق (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ) ـ الآية ـ قال (عليه‌السلام) : «المرأة في عدّتها تقول لها قولا جميلا ترغبها في نفسك ، ولا تقول : إنّي أصنع كذ ، أو أصنع كذا القبيح من الأمر في البضع وكلّ أمر قبيح».

أقول : ما ذكره (عليه‌السلام) مقتضى الأدب المعاشري أيضا.

وفي رواية أخرى : «تقول لها وهي في عدّتها : يا هذه لا أحب إلا ما أسرّك ولو قد مضى عدّتك لا تفوتيني إن شاء الله ولا تستبقي بنفسك وهذا كلّه من غير أن يعزموا عقدة النكاح».

وفي الكافي عن الحلبي عن الصادق (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً) قال (عليه‌السلام) : «هو الرجل يقول للمرأة قبل أن تنقضي عدّتها أوعدك بيت آل فلان؟ ليعرّض لها بالخطبة ، ويعني بقوله تعالى : (إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً) : التعريض بالخطبة ولا يعزم عقدة النكاح حتّى يبلغ الكتاب أجله».

أقول : روي قريب من ذلك في عدة روايات.

٨٢

سورة البقرة

الآية ٢٣٦ ـ ٢٣٧

(لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (٢٣٦) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٧))

بعد ما ذكر سبحانه وتعالى أقسام الطلاق وعدته وبعض أحكامه بيّن في هاتين الآيتين حكم الطلاق قبل الدخول فذكر ما يجب على الزوج في هذه الحالة من العطاء إلى الزوجة المطلقة إن لم يفرض لها مهرا معينا وطلّقها قبل المس والمباشرة ولهذه العطية أثرها النفسي في المرأة التي انفصمت عنها عقدة الحياة الزوجية وذاقت ألم الفراق ومرارة العتاب كما حفظ تعالى استطاعة الزوج فيها فعلى الغني بقدر غناه وعلى الفقير حسب ما يستطيع.

ولو فرض لها مهرا فيجب عليه دفع نصفه إن طلّقها قبل المس إلا إذا عفى الولي أو عفت الزوجة عن بعض المهر وأرشد الإنسان إلى توخي المودة والإحسان ، واختتمها بمراقبة الله تعالى وأنّه مطلع على النيات لتبقى القلوب نقية خالصة موصولة به جلّ شأنه فيتم الترهيب والترغيب.

٨٣

التفسير

٢٣٦ ـ قوله تعالى : (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً).

المس والمسيس هو اللمس يكنّى به عن المباشرة الجنسية وغشيان النساء بالقرائن الخارجية.

والفريضة : المهر لأنّه يقطع من مال الزوج للزوجة. وفرض الفريضة تسمية المهر وتقديره تفصيلا أو إجمالا.

والمراد ب (لا جُناحَ) رفع المنع والمسؤولية في كلّ من الموردين أي : عدم المس ، وعدم ذكر الصداق والمهر فإنّهما لا يمنعان عن صحة الطلاق ، ولا يجب على الزوج شيء.

وإنّما ذكر تعالى كلمة (أَوْ) لدفع توهم اشتراط اجتماعهما ، كما في قوله تعالى : (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) [الإنسان ـ ٢٤].

وقد ذكر سبحانه وتعالى في هاتين الآيتين المباركتين وغيرهما كما في قوله تعالى : (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً) [النّساء ـ ٤] ، وما ورد في السنة أقساما أربعة :

الأول : أن يكون الطلاق قبل المباشرة وغشيان النساء وقد فرض المهر ،

٨٤

فتستحق المرأة نصف المهر المسمّى.

الثاني : أن يكون الطلاق قبل الدخول ولم يسم لها مهرا في عقد النكاح فيجب عليه أن يمتعها على الموسع قدره وعلى المقتر قدره.

الثالث : أن يكون الطلاق بعد المس وبعد التسمية فتستحق المرأة المهر المسمّى.

الرابع : أن يكون الطلاق بعد المس ولم يسم المهر في عقد النكاح فيجب عليه مهر المثل.

ولكلّ واحد من هذه الأقسام أحكام خاصة مذكورة في كتب الفقه مأخوذة من الكتاب الكريم والسنة المقدّسة الشارحة.

قوله تعالى : (وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ).

الموسع اسم فاعل ، ويراد به من كان في سعة ، والمقتر خلافه أي من يكون في ضيق. وأصل القتر : قلة النفقة ، قال تعالى : (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) [الفرقان ـ ٦٧] ، وقال تعالى : (وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً) [الإسراء ـ ١٠٠] ، وهو يدل على أنّ البخل مما جبل عليه الإنسان فيكون مثل قوله تعالى : (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَ) [النساء ـ ١٢٨].

والقتر ـ بالتحريك ـ : سوء الحال ، قال تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ) [عبس ـ ٤١].

والمتعة والمتاع : ما يتمتع به أي ينتفع به ، والتمتيع : هو إعطاء المتعة. والقدر ـ بفتح الدال وسكونها ـ قدر الطاقة والإمكان.

والمعنى : يجب على الأزواج أن يمتعوا المطلّقات ـ اللّواتي لم يفرض لهنّ فريضة ولم يدخل بهنّ ـ شيئا بحسب حال الزوج في الغنى والفقر.

ويستفاد من سياق الآية المباركة أنّ المتعة من الحقوق التي تستحقها المرأة على الرجل بحسب حاله ، ويشهد له الاعتبار أيضا كما مر ، ولكنّ

٨٥

الكلام في أنّها من الحقوق الواجبة التي يلزم على الرجل وفاؤها أو أنّها من الحقوق المجاملية الأدبية؟ ظاهر الآية الشريفة هو الأول لظاهر الأمر.

وهذه الآية الشريفة والآية التالية تشتركان في أنّ الطلاق فيها قبل المس والغشيان وإنّما تفترقان في أنّ الآية التالية قد فرض لها فريضة فيجب إخراج نصف المهر ، وفي الأولى لم يفرض لها فريضة فيجب إعطاء المتعة لها وهي غير مهر المثل وإنّما جعلت لها المتعة تطييبا لنفسها وجلبا لخاطرها.

وإنّما كرّر سبحانه وتعالى كلمة (قَدَرُهُ) لبيان أنّ الموسع يلاحظ قدر وسعه ولا ينقص عن ذلك ، والمقتر أيضا يلاحظ حاله ولا يزيد على ذلك ولو لم تكن مكررة لما أفاد هذه الفائدة.

قوله تعالى : (مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ).

متاعا مفعول مطلق ، لقوله تعالى : (وَمَتِّعُوهُنَ) وهو إما بمعنى ما يتمتع به أو بمعنى التمتيع.

وقيل : إنّه حال من (قَدَرُهُ). وقيل : إنّه تأكيد لمتعوهنّ والجميع يرجع إلى معنى واحد.

وحقا صفة للمتاع. والمعروف : ما تعارف عليه الناس على اختلاف طبقاتهم وحالاتهم.

والمعنى : إنّ المتعة هي حق واجب على من يريد الإحسان ، أو إنّها من الإحسان الذي يرغب إليه المحسنون ، وهذه قرينة أخرى على أنّها من الحقوق الإلزامية كما سيأتي في البحث الرّوائي.

وإنّما ذكر المحسنين تعظيما لشأنهم وترغيبا إلى الإحسان ، وتحريضا للناس على أن يدخلوا في زمرة المحسنين ، كما في سائر الخطابات التي تكون في هذا السياق ، كقوله تعالى : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ).

والحسن عبارة عن كل مرغوب إليه ـ بأي قوة من القوى النفسانية ظاهرية كانت أو باطنية ـ وتتصف به جميع الأشياء من الجواهر والأعراض بل

٨٦

جميع الاعتباريات ، وهو والإحسان بمعناهما الأعم من المعاني التي تدرك ولا توصف كما هو كذلك في جملة كثيرة من المعاني.

ومن فسره ببعض المعاني الخاصة فهو من باب التطبيق لا التخصيص وليس للحسن حد معيّن إلا أنّه محدود بما لم ينه عنه الشرع ، وهو من الصفات الإضافية فربّ حسن عند قوم لا يكون حسنا عند آخرين وما ورد في القرآن الكريم والسنة المقدسة من الترغيب إلى الإحسان والحسنة إنّما يراد بهما ما هو المتعارف. والمحسن من أسماء الله الحسنى وأما الحسن ـ بفتحتين ـ فلم أجد استعماله فيه تعالى منفردا نعم ورد في المأثورات «يا حسن التجاوز».

٢٣٧ ـ قوله تعالى : (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ).

بيان للقسم الأول من الأقسام المتقدمة ، وفيه تفصيل ما أجمل في قوله تعالى : (ما لَمْ تَمَسُّوهُنَ) أي : وإن وقع الطلاق قبل الدخول بهنّ وقد فرض لهنّ المهر فلهنّ نصف المفروض.

وتدل الآية المباركة على أنّ نصف المهر حق ثابت لهنّ يجب إعطاؤه ، والنصف الثاني يرجع إلى ملك الزوج ، وظاهر الآية الشريفة يدل على أنّ مجرد العقد مقتض لثبوت المهر في الجملة.

قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ).

أي : إلا أن تعفو المطلّقات عن النصف كلّا أو بعضا وحق الإسقاط والعفو إنّما يكون للمرأة البالغة الرشيدة جائزة التصرف في أموالها بلا فرق بين أن يكون العفو منهنّ مباشرة أومن وكيلهنّ في العفو فقط أو المأذون له في كلّ تصرّف.

والعفو : أعم من الإبراء والهبة ، فيكون كالتنازل من الإنسان الراضي.

ويعفون في موضع نصب ب (إِنْ) ، وهو مبني لاتصاله بضمير جماعة المؤنث.

٨٧

قوله تعالى : (أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ).

أي : أو يعفو وليّ الزوجة الصغيرة الذي جعل الله في يده عقدة النكاح ، والولي هو الأب أو الجد للأب أو الأخ القائم على أمرها وتدل على ذلك جملة من الروايات.

وقيل : إنّ المراد به الزوج أيضا لأنّ بيده عقدة النكاح وحلّها أيضا. ولكنّه مردود فإنّه حينئذ يكون مخيّرا بين دفع نصف المهر كلّا أو تشطيره وتبعيضه ، فلا يكون الطلاق مشطرا في نفسه ، أو يعفو عن جميعه ، وهو مناف لملكية المرأة المهر بالعقد والتصرف في حقها.

وأما عفو الزوج عن النصف الآخر فهو أيضا ليس بصحيح فإنّه ليس للمرأة حق في النصف الآخر ولا يجب على الزوج دفعه إليها حتّى يصح في مورده العفو ، فإذا دفع إليها النصف فهو إحسان وفضل منه.

قوله تعالى : (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى).

أي : أنّ العفو على أية حال ومن أيّ واحد صدر هو أقرب للتقوى لأنّ عفو الإنسان عن حقّه فيه الفضل الكبير وهو أقرب إلى فضيلة التقوى ، ولأنّ فيه من التشبه بأخلاق الله تعالى لأنّه عفوّ غفور فيكون أقرب للتقوى.

قوله تعالى : (وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ).

مادة (نسي) تأتي بمعنى الترك والإهمال ، والتأخير ، ومنه قول نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «صلة الرحم منسأة للأجل ومثراة للمال»

وتأتي بمعنى الذهول والغفلة في مقابل الذكر والالتفات ، ومنه قوله تعالى : (وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ) [الكهف ـ ٦٣] ، وقال تعالى : (نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) [الحشر ـ ١٩].

والمراد به في المقام : هو الأول بقرينة تعلّق التكليف به ، ويمكن إرادة الأخير أيضا إن كان منتهيا إلى الاختيار ولو ببعض أسبابه.

والفضل : هو الزيادة في المكارم وما يكون ممدوحا وليس بواجب وفي

٨٨

المقام الفضل بالنسبة إلى الرجل : أن يعطي أكثر من النصف ولو بقليل ، وبالنسبة إلى المرأة : أن تأخذ أقل منه ولو بقليل.

والآية المباركة تحرّض الإنسان على ابتغاء الفضل والإحسان بالعفو عن الحقوق والتخفيف ، وعدم التغافل عن المكارم عند عروض أسباب التخاصم والتنازع ، فإنّها تشير إلى قاعدة عقلية تشمل كلّ ما يقع في طريق الاستكمال والسعادة الأبدية ، وإن كانت باعتبار سياق الكلام والمورد ظاهرة في الحقوق المجاملية المتعارفة بين الناس.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).

ربط ذلك بمراقبته تعالى حتّى تكون الأعمال ـ كالقلوب ـ خالصة موصولة بالله على كلّ حال. فيكون ذلك زيادة في الترهيب والترغيب أي : أنّ أعمالكم ظاهرة وغير خفية لدى من يحيط بها وأنّه يجازيكم بها.

٨٩

بحث روائي

في الكافي عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) : «في رجل طلق امرأته قبل أن يدخل بها قال (عليه‌السلام) : عليه نصف المهر إن كان فرض لها شيئا ، وإن لم يكن فرض لها فليمتعها على نحو ما يمتع مثلها من النساء».

أقول : المراد من قوله (عليه‌السلام) «ما يمتع مثلها من النساء» أي مثلها في مراعاة حال الزوج فلا اختلاف بين هذه الرواية وغيرها الدالة على اعتبار حال الزوج فقط.

في تفسير العياشي عن أبي الصباح عن الصادق (عليه‌السلام) : «إذا طلق الرجل امرأته قبل أن يدخل بها فلها نصف مهرها وإن لم يكن سمّى لها مهرا فمتاع بالمعروف على الموسع قدره وعلى المقتر قدره وليس لها عدة وتتزوج من شاءت من ساعتها».

أقول : قريب من هذه الروايات روايات كثيرة أخرى ذكرناها في الفقه.

في الكافي والتهذيب وتفسير العياشي في عدة روايات عن الباقر والصادق (عليهما‌السلام) : «إنّ الذي بيده عقدة النكاح هو الولي».

أقول : الروايات في ذلك كثيرة.

في الفقيه والتهذيب عن الصادق (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (أَوْ

٩٠

يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) قال : «يعني الأب والذي توكله المرأة وتوليه أمرها من أخ أو قرابة أو غيرهما».

أقول : المستفاد من هذا الحديث أنّ المراد ممن بيده عقدة النكاح من يتولاها إما بوكالة من المرأة وكالة تفويضية أو بولاية من الشرع مع مراعاة المصلحة كما ذكرنا في الصداق من (مهذب الأحكام).

في التهذيب عن رفاعة عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «سألته عن الذي بيده عقدة النكاح قال : الولي الذي يأخذ بعضا ويترك بعضا وليس له أن يدع كلّه».

أقول : يمكن حمله على وجود المصلحة والا فليس من شرائط العفو ذلك.

في تفسير العياشي في قوله تعالى : (أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ). قال : «هو الأب والأخ والرجل يوصى إليه».

وفي الدر المنثور عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «إنّ الذي بيده عقدة النكاح : الزوج».

أقول : وردت عدة روايات عن طريق الجمهور دالة على تفسير الآية الشريفة بالزوج ولكن يمكن حملها على ما إذا فوضت المرأة أمر المهر إلى الزوج حتّى العفو وتقدم ما يتعلق بذلك في التفسير أيضا.

وفي تفسير العياشي عن أبي جعفر (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) قال : «قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) يأتي على الناس زمان عضوض يعض كلّ امرئ على ما في يديه وينسون الفضل بينهم قال الله تعالى : (وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ)».

أقول : المراد بالعضوض : الشدة في الإمساك لأجل تركهم مكارم الأخلاق وفضائلها.

٩١

سورة البقرة

الآية ٢٣٩

(حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (٢٣٨) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (٢٣٩))

بعد أن ذكر سبحانه وتعالى جملة من الأحكام المتعلقة بشؤون الحياة الزوجية وبيّن ما يكون سببا في سعادة هذه الحياة ونبّه الإنسان إلى ابتغاء الإحسان في جميع شؤونه ، وعدم تناسي الناس الفضل بينهم.

بيّن في هاتين الآيتين المباركتين ما هو من أعظم الشؤون العبودية التي لها دخل في تكميل الحقيقة الإنسانية وهي الصلاة التي دعا إليها جميع الأنبياء وبها يتشرف المصلّي بالتكلّم مع الحيّ القيوم وهي إسراء النفوس إلى الملكوت الأعلى ومعراج أرواح المتعبّدين إلى قاب قوسين أو أدنى ، وهي التي تنهى عن الفحشاء والمنكر ، وتبعث النفوس الغافلة إلى التذكر بجلال الله عزوجل وجماله ، وتذكير الإنسان إلى مكانته الحقيقية ، وتجعله مراقبا لنفسه لتطهيرها من رذائل الأخلاق وتحليتها بفواضلها ، وتمكنها على تحمل المصاعب والآلام في طريق الاستكمال.

وفي تعقيب تلك الأحكام بالأمر بالصلاة التي هي أكبر العبادات إشارة إلى أنّ الايتمار بأوامر الله سبحانه وتعالى والانتهاء عن نواهيه إنّما يكون في

٩٢

النفوس المستعدة وهي لا تحصل إلا بإقامة الصلاة والمحافظة عليها وأدائها بخضوع وخشوع لتنال النفس سعادتها. فهي الروح لتلك الأحكام وإنّها بدون الصلاة كالجسم الذي لا روح له.

٩٣

التفسير

٢٣٨ ـ قوله تعالى : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ).

مادة (حفظ) تأتي بمعنى المواظبة على الشيء والإقبال عليه مرة بعد أخرى ، والمحافظة على الصّلوات هي المواظبة عليها بإقامتها في أوقاتها بحدودها وشرائطها ، والإقبال عليها بالإخلاص والخشوع والخضوع ، فالمحافظة أخص من مطلق الإتيان لأنّ الحفظ عبارة عن التفقد والتعهد والرعاية.

وإنّما عبّر سبحانه وتعالى بهذا اللفظ المشعر بفعل الإثنين لبيان أنّ كلّ من حافظ على الصّلاة وأدّاها على ما هي عليه في الواقع هي أيضا تحافظ على رعايته ، فهي تردعه عن الفحشاء والمنكر ، كما قال تعالى : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) [العنكبوت ـ ٤٥] ، وفي السنة الشريفة من ذلك الشيء الكثير.

وللصلاة أنحاء من الوجودات والمظاهر فهي في هذا العالم مركبة من جملة من الأعراض ، وفي عالم آخر لها وجود مستقل تمدح فاعلها وتشفع له أو تذمه وتلعنه ، وفي نشأة أخرى : غيب الغيوب تكون من صقع الله جلّ جلاله لا يعلمها إلا هو.

والصّلوات في الإسلام من أهم العبادات التي أمر الناس بها فهي عمود

٩٤

الدين إن قبلت قبل ما سواها وإن ردت رد ما سواها.

تنهى عن المنكر والفحشاء

أقصر فذاك منتهى الثّناء

وأعدادها كثيرة والواجب منها الصّلوات الخمس المعروفة بين المسلمين التي ورد ذكرها في القرآن الكريم وشرحتها السنة المقدّسة شرحا وافيا وبيّنت أركانها وشروطها وآدابها وسائر جهاتها بيانا قوليا وعمليا.

قوله تعالى : (وَالصَّلاةِ الْوُسْطى).

تخصيص بعد تعميم للاهتمام بها والترغيب إليها.

والوسطى تأنيث الأوسط وهو من الأمور الإضافية يصح إطلاقه على ما يقع وسطا بين الاثنين أو أكثر ولهذا اختلف العلماء في تعيين الوسطى من الصّلاة :

فقيل : إنّها الصبح لكونها وسطا بين فرائض الليل وفرائض النهار والقيام إليها شديد وقال به جمع من أصحاب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله).

وقيل : إنّها الظهر ، لأنّها وسط بين العشاء والصبح ، والعصر والمغرب ، وأنّها وسط النهار المبتدئ من طلوع الفجر والمنتهي بغروب الشمس ، ولأنّها أول صلاة صلّيت في الإسلام ، وفي قراءة عائشة وحفصة «حافظوا على الصّلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر» بالواو وروى مالك في موطّئه ، والطيالسي في مسنده عن زيد بن ثابت قال : «الصلاة الوسطى : صلاة الظهر» وزاد الطيالسي «وكان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) يصليها بالهجير». وقال بهذا جمع من أصحاب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وهو المشهور بين الإمامية المروي في عدة أخبار كما يأتي في البحث الروائي.

وقيل : إنّها العصر ، لكونها وسطا بين الظهر والمغرب ، وأنّ ما قبلها صلاتان نهاريتان وهما الصبح والظهر ، وبعدهما صلاتان ليليتان وهما المغرب والعشاء ، وقال بهذا جمع آخر من أصحاب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وبه قال الجمهور ، وأخرج الترمذي عن ابن مسعود «قال رسول الله (صلّى الله

٩٥

عليه وآله) : الصلاة الوسطى صلاة العصر» ، وروى مسلم وأبو داود عن عليّ (عليه‌السلام) مرفوعا : «شغلونا عن الصّلاة الوسطى صلاة العصر» يعني يوم الأحزاب ، وفي رواية الشيخين أنّ النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قال يوم الأحزاب : «ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارا كما حبسونا وشغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس».

وقيل : إنّها المغرب لأنّها متوسطة في عدد الركعات ، ولا تقصر في السفر ، وأنّها وسط بين صلاتي جهر وصلاتي إخفات.

وقيل : إنّها العشاء الآخرة لأنّها بين صلاتين لا تقصران ، ولأنّها يستحب تأخيرها ، وذلك شاق فوقع التأكيد في المحافظة عليها ، هذا بحسب الأقوال :

وأما بحسب الأخبار فسيأتي في البحث الرّوائي ما يتعلّق بها ، ولكن نفس الآية الشريفة لا تدل على شيء مما ذكر وهي مجملة لا يظهر المراد منها فلا بد من ترجيح أحد الاحتمالات من الرجوع إلى السنة الشريفة والقرائن القطعية.

ومذهب أهل البيت عليهم‌السلام : أنّها صلاة الظهر كما يأتي في البحث الروائي بل يمكن أن يستشهد له بقوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) [هود ـ ١١٥] ، حيث إنّه تعالى لم يذكر صلاة الوسطى بين الطرفين وخصوصا بعد الأمر في قوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) [الإسراء ـ ٧٨] المتفق بين المسلمين على أنّها صلاة الظهر المعبّر عنها في لسان عليّ (عليه‌السلام) بصلاة الأوّابين.

مع أنّ وقت الظهر عظيم جدّا ففي صحيح محمد بن مسلم عن الصادق (عليه‌السلام) : «سألته عن ركود الشمس فقال : يا محمد ما أصغر جئتك وأعضل مسألتك وإنّك لأهل للجواب ، إنّ الشمس إذا طلعت جذبها سبعون ألف ملك بعد أن أخذ بكلّ شعاع منها خمسة آلاف من الملائكة بين جاذب ودافع حتّى إذا بلغت الجوّ وجازت الكوّ قلبها ملك النور ظهرا لبطن فصار ما

٩٦

يلي الأرض إلى السماء وبلغ شعاعها تخوم العرش فعند ذلك نادت الملائكة : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر والحمد لله الذي لم يتخذ صاحبة ولا ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له وليّ من الذل وكبّره تكبيرا فقال له : جعلت فداك أحافظ على هذا الكلام عند زوال الشمس؟ فقال : نعم حافظ عليه كما تحافظ على عينك».

وسيأتي شرح الرواية في الموضع المناسب إن شاء الله تعالى. وعن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في الصحيح : «إذا زالت الشمس فتحت أبواب السماء وأبواب الجنان واستجيب الدعاء فطوبى لمن رفع له عند ذلك عمل صالح».

قوله تعالى : (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ).

مادة (قوم) تدل على الثبوت والعزم والاستقامة والرعاية والحفظ وقد ورد جميع ذلك في الآيات الشريفة المتعدّدة ، كما يأتي إن شاء الله تعالى والمراد به هنا ما يكون عن استقامة وتثبت.

وأما مادة (قنت) فقد وردت في القرآن كثيرا بهيئات مختلفة منتسبة إلى الرجال تارة وإلى النساء أخرى وإلى مخلوقاته وموجوداته ثالثة وكلّها مقرونة بالمدح والتمجيد ، قال تعالى : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ) [النحل ـ ١٢٠] ، وقال تعالى : (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً) [الزمر ـ ٩] ، وقال جل شأنه : (يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ) [آل عمران ـ ٤٣] ، وقال تعالى : (وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ) [الأحزاب ـ ٣٥]. وقال تعالى : (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) [البقرة ـ ١١٦]. فإنّ جميع الموجودات تتصف بالقنوت له جلّت عظمته لأنّ كلّ مربوب قانت وخاضع لربه.

وأصلها ينبئ عن خضوع خاص يكون مظهرا للعبودية ، وما ذكره المفسرون واللغويون من الدعاء ، والعبادة ، والخشوع ، والصلاة ، والسكوت ، وطول القيام كلّ ذلك من المصاديق لا أن تكون معاني مستقلة في حدّ نفسها ، فلا يكون من مشترك اللفظ أو المعنى.

٩٧

وقد اطلق على السكوت ، كما في حديث زيد بن أرقم : «كنا نتكلم في الصلاة حتّى نزلت : (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) فأمسكنا عن الكلام». ولكنّه سكوت خاص بقرينة قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «إنّ هذه الصلاة لا يصح فيها شيء من كلام الآدميين إنّما هي قرآن وتسبيح».

والقنوت من أفضل مقامات العبودية وله مراتب كثيرة شدة وضعفا.

والمراد به في المقام : الخضوع والخشوع الخاص ، كما يأتي في البحث العرفاني.

والمعنى : اشتغلوا بطاعة الله عزوجل طاعة خضوع وخشوع مخلصين له لا تغلبكم زخارف الدنيا وزبرجها.

ولا يختص القيام لله تعالى والقنوت له جلّت عظمته بحالة دون أخرى بل يجريان في جميع الحالات لا سيّما في العبادات فإنّهما روحها ولا ينال العبد سرّ التوحيد إلّا إذا كانت جميع أعماله الجوانحيّة والجوارحيّة بل تمام حركاته لله تعالى ، فيكون مسيره من الحق إلى الحق ، ويخرج عن الفقر إلى الغنى المطلق ، ويتنزه عن كلّ ما يوجب البعد عنه تعالى حتّى يكون جل شأنه سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ، كما ورد في الحديث ، لأنّه قام في الحق بالحق للحق.

٢٣٩ ـ قوله تعالى : (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً).

الخوف : توقع المكروه ، ورجال جمع راجل كقيام جمع قائم وأصحاب جمع صاحب ، وهو الكائن على رجليه في مقابل الركبان الذي هو جمع الراكب كفرسان جمع فارس ، وكل شيء علا شيئا آخر فقد ركبه.

والآية الشريفة عطف على الآية السابقة وهي بمنزلة الشرط لها أي : حافظوا على الصّلوات إن لم يكن هناك خوف والا فتتقدر المحافظة بقدر الخوف ، فأدّوا الصّلاة حينئذ رجالا أو ركبانا.

وهذه الآية المباركة تكشف عن الأهمّية البالغة التي ينظر بها سبحانه وتعالى إلى الصّلاة والمحافظة عليها ولا تسقط حتّى في ساعة الخوف

٩٨

والشدة ، فإنّ كلّ موضوع كثر الاهتمام به ازداد ابداله وأطواره وشؤونه ، ولا يوجد موضوع شرعي ولا قانون إلهي أفضل وأجل من هذه العبادة الخاصة أي الصلاة فإنّ فيها جذب العبد إلى عالم الأحدية والسعادة الأبدية فأيّ قانون يتصوّر أفضل منها ، ولأجل ذلك أرسل الفقهاء قاعدة «أنّ الصّلاة لا تسقط بحال» ، وقد وردت في السنة المقدسة قواعد تسهيلية امتنانية في الصلاة لم نرد في غيرها من العبادات.

ويستفاد من هذه الآية الشريفة : إجزاء الصلاة في حالة الخوف بأي نحو اقتضاه الخوف ، ولا تحتاج إلى الإعادة أو القضاء بعد الأمن لعدم الإشارة إلى ذلك ، وهذا هو الذي تقتضيه سهولة الشريعة.

ولم يحدد سبحانه وتعالى الخوف الموجب لتبدل التكليف بل أوكله إلى نفس الإنسان بعد مراعاة جانب عقله ، قال تعالى : (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) [القيامة ـ ١٤] ، فيكون المناط تحقق الخوف العقلائي لدى المكلّف من أي مصدر تحقّق سواء كان في القتال المأذون فيه شرعا أو كان في الدّفاع عن النفس والعرض والمال ، أو الحاصل من السبع والحرق أو الغرق ونحو ذلك. ويتقدّر التكليف بقدره فيترك كلّ ما ينافي الحذر ويبقى ما لا ينافيه على حاله ، ويجب تحرّي المقدور مهما أمكن فيسقط جملة من شرائط الصّلاة الاختيارية عند عروض الخوف كالاستقرار ، والقبلة ، والطمأنينة بل قد يوجب سقوط الركوع والسجود والتعويض عنهما والإيماء لهما لأنّه الميسور له ، وقد ذكر سبحانه وتعالى كيفية صلاة الخوف في القتال في سورة النساء.

وإنّما قدم الراجل على الراكب لاشتداد الأمر بالنسبة إليهم ، ولأنّ الغالب في عصر النزول كانوا راجلين ، وذكرهما بالخصوص لبيان وجوب المحافظة على الصّلاة على كلّ حال يمكن من المشي والركوب وعدم سقوطها بحال ، ولا يجب تأخيرها عن وقتها في هذه الحالة ، كما يراه بعض الفقهاء ، والآية مجملة في كيفية صلاة الخوف ، ولكن شرحتها السنة الشريفة وذكرها الفقهاء في كتب الفقه.

٩٩

قوله تعالى : (فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ).

تفريع على المحافظة على الصّلاة أي : إذا زال الخوف واطمأنت النفس فاذكروا الله ذكرا مثل ما علّمكم في كيفية عباداته وشرايع دينه. وإطلاق الآية المباركة يدل على مطلق الذكر كمّا وكيفا ، ويمكن الاختلاف باختلاف الحالات والخصوصيات ، وربما تجب الصلاة بالكيفية المعهودة في حال الاختيار والأمن.

ولعل الوجه في وجوب ذكر الله تعالى في هذه الحالة لأنّ الناس غالبا بعد زوال الخوف يذكرون الأشخاص ويفتخرون بالألقاب والأعمال ، فأمرهم عزوجل بذكر الله تعالى لأنّه المنعم الحقيقي والسبب الواقعي في زوال الخوف ، وقد أنعم الأمن والأمان والخير والإحسان فيجب شكره على ما علّمكم معالم دينكم.

١٠٠