مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة أهل البيت (ع)
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥١٦

يمكن إطلاقه على الله تعالى وعلى سائر مخلوقاته غير الإنسان فلا بد أن يكون المراد من استعماله هو إبراز المقصود بعناية خاصة ففي مورد الكلام يكون بألفاظ موضوعة في المخاطبة والمشافهة وفي القول بمطلق الإبراز بحيث يفهم المعنى المقصود ، وفي الوحي والإلهام بعناية خاصة خفيّة ونحو ذلك فالجامع القريب في الجميع هو إبراز المقصود بعناية خاصّة ويختلف ذلك باختلاف الموارد والخصوصيات.

كلام الله تعالى :

لا ريب في أنّ التكلم من صفات الباري عزوجل بنص من القرآن الكريم والسنة الشريفة كما عرفت ، ويمكن الاستدلال عليه بالقاعدة المعروفة : «أنّ كلّ ما كان ممكنا في ذاته عزوجل ولم يستلزم من ثبوته له تعالى قبح فهو واجب له تعالى» وهذه القاعدة من القواعد الحكمية المتينة التي استدلوا عليها بأدلة كثيرة ، وقد أثبتوا أصل وجوب الذات بها قال بعض الفلاسفة :

إذ الوجود كان واجبا فهو

ومع الإمكان قد استلزمه

والتكلم صفة كمال ممكن في ذاته جلّت عظمته ولم يلزم من ثبوته له تعالى قبح فهو واجب له عزوجل حسب تلك القاعدة.

وتكلّمه عزوجل غير علمه وسائر صفاته الجمالية ، والجلالية ، للقاعدة التي أسست في محله ـ المشهورة عند الفلاسفة وغيرهم من : «أنّ اختلاف المفهوم كاشف عن اختلاف الذات والحقيقة الا إذا دل دليل على الاتحاد» مثل العلم فإنّه عين ذاته ومتحد معه وإن اختلف مفهومه مع الذات بدليل خارجي وهو مفقود في المقام.

والبحث في كلامه تعالى الذي هو معترك الآراء وإليه ينسب علم الكلام المعروف يقع في ناحيتين :

الأولى : في المراد من كلامه تعالى فإنّ الكلام حادث بالضرورة لأنّه

٢٠١

متدرج الوجود وكلّ متدرج الوجود حادث لا محالة فلو كان المراد من كلامه عزوجل هذا يلزم منه أن يكون تبارك وتعالى محلّا للحوادث وهو باطل بالضرورة وقد أثبتوا استحالته.

الثانية : في قدم كلامه أو حدوثه.

والحق أن يقال : إنّ الكلام بالمعنى المعهود في الإنسان لا يصح نسبته إليه عزوجل ، كما عرفت آنفا. إلا أنّ الكلام يشترك مع غيره في أنّه إبراز للحقيقة ، فالجامع بين كلّ كلام ـ سواء كان من الخالق أو المخلوق ـ هو إبراز المراد والمقصود في اللفظ والحروف وإن اختلف بالاعتبار. هذا هو حقيقة الكلام وأما خروجه من العضو المخصوص ونحو ذلك فهو خارج عن تلك الحقيقة.

نعم ، قيام هذا التكلم فيه تعالى إنّما يكون قياما صدوريا كسائر أفعاله المقدّسة مثل الخلق والرّزق ونحوهما بخلاف صفاته الذاتية فإنّها عين ذاته جلّت عظمته.

فالكلام من صفاته الفعلية ، للقاعدة التي ذكرناها مرارا في الفرق بين الصّفات الذاتية والصّفات الفعلية من أنّ كلّ صفة إذا صح الاتصاف بها وبنقيضها ـ أي الثبوت والسلب ـ كانت من صفات الفعل ، وكلّ صفة لا يمكن سلبها عنه عزوجل فهي من صفة الذات ، والتكلّم مما يمكن سلبه عنه عزوجل وإثباته له تعالى فهو من صفات الفعل ، قال تعالى : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) [النساء ـ ١٦٤] ، وقال تعالى : (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ) [آل عمران ـ ٧٧] ، فهو كالرّزق والهداية وغيرهما من صفات الفعل التي يصح الاتصاف بها وبنقيضها من دون أن يلزم محذور في البين. وفعله حادث فالتكلم حادث فلا يكون قديما ، كما أنّ إرادته جلّت عظمته فعله فهي أيضا حادثة. نعم ، منشأ كلامه إنّما هو علمه تعالى ، فهو بمنشئه في مرتبة الذات وبفعليته وإرادته في مرتبة الصّفات الفعلية الحادثة.

٢٠٢

ويمكن إرجاع كلمات القوم إلى ما ذكرناه وإن أبى ظاهر بعضها عن ذلك فإنّهم اختلفوا في ذلك فقال بعضهم بقدم كلامه وقال آخر بأنّه حادث مخلوق. وقال ثالث إنّ التجدد والتبدل إنّما يكون في المتعلّق بالعرض كالعلم.

ولكن مما ذكرناه تعرف المناقشة في جملة مما ذكره الفلاسفة والمتكلّمون في المقام وأطالوا فيه الكلام فيكون أصل النزاع صغرويّا بينهم ، واختلاط بين صفات الفعل وصفات الذات ، فمن جعل الكلام من صفات الذات ذهب إلى الكلام النفسي.

الكلام النفسي :

قلنا : إنّ الكلام والقول في الإنسان عبارة عن إبراز المقصود والمراد بواسطة الحروف والأصوات الحلقيّة ، وفي الله تعالى : إبراز المراد بواسطة الحروف على نحو الإيجاد فإذا سمعها المخاطب ينتقل ذهنه إلى المدلول عليه باللّفظ فيحصل التفهيم والتفهيم ، وقد ذكرنا أنّ الكلام يشترك مع كثير من الدّلالات في هذا الغرض كالإشارة والمحاكاة ونحوهما فإنّ من ذلك محاكاة وجود المعلول عن وجود العلّة ودلالته على خصوصياتها ، ومن ذلك ما يقال من حكاية عالم الإمكان عن علّته الحقيقية ، وكونه مظهرا من مظاهر علمه عزوجل وصفاته العليا المقدسة وأسمائه الحسنى تبارك وتعالى ودالّا عليه عزوجل ، فهو تعالى الدال على ذاته بذاته.

وكيف كان فالكلام هو الألفاظ الدالة على المعاني بالدلالة الوضعية وهذا هو المعنى المعروف فيه الذي ينصرف الذهن إليه عند إطلاقه في العرف واللغة.

ولكن ذهبت الأشاعرة إلى أنّ الكلام على قسمين : الكلام اللفظي وهو الأصوات الحلقية المعتمدة على مقاطع النّفس والحروف. والكلام النفسي وهو المعاني الذهنية التي يدل عليها الكلام اللفظي وقالت : إنّ الكلام اللفظي في الله تعالى حادث زائد على الذات ، والكلام النفسي فيه عزوجل شيء قائم

٢٠٣

به قديم بقدمه واستشهدوا بقول الأخطل :

إنّ الكلام لفي الفؤاد وإنّما

جعل اللسان على الفؤاد دليلا

وقالوا : إنّ هذا هو الكلام حقيقة الذي لا يختلف باختلاف العبارات والألفاظ ولا يتغيّر بتغيرها ، ويدل عليه اللفظ والإشارة والكتابة. وأنكر سائر الفلاسفة ذلك وأبطلوا الكلام النفسي واعتبروا المعاني النفسية صورة علمية وليست من الكلام بشيء ، فالكلام عندهم ليس إلا الأصوات والألفاظ التي تعبّر عن المعاني الذهنية التي هي صور علمية تصورية.

والبحث فيه يقع تارة : في مرحلة الثبوت والتصوير وأخرى : في مرحلة الإثبات ومقام الحجة والبرهان.

أما الأول : ـ فلا يعقل ثبوتا معنى للكلام النفسي ، لأنّهم يقولون في تعريفه : إنّه ليس من العلم ولا الإرادة بل هو شيء في مقابلهما قائم بالنفس حادث في الإنسان قديم في الله تعالى.

وفيه : أنّه لا تعقل صفة أخرى في النفس في مقابل العلم والإرادة حتّى تسمّى بالكلام النفسي وإن أرادوا مما يسمونه بالكلام النفسي في الله تعالى علمه الأزلي فلا مشاحة في الاصطلاح ولكن أكابرهم يصرّحون بالاختلاف ، فالكلام في اللغة والعرف والعقل يطلق حقيقة على تلك الأصوات الحلقية الدالة على المعاني ، كما عرفت. والمعاني في الذهن إنّما هي صور علمية ذهنية وهي غير الكلام النفسي.

قد يقال : إنّ الشيء الواحد قد يختلف باعتبارين فإنّ الصور الذهنية إنّما تكون علما وانكشافا للواقع من هذه الجهة وكلاما من جهة كونها علما مفاضا للغير.

وهو باطل لأنّ الصور العلمية هي نفس العلم وهم يصرحون بأنّ الكلام النفسي غير العلم. مع أنّ القول بالكلام النفسي بمعنى الصور الذهنية في الله تعالى يستلزم ثبوت تلك الصور الذهنية له عزوجل وتكثرها ، وكون علمه حصوليا ، واعتبار كلامه محتملا للصدق والكذب وغير ذلك ، ولا أظن أنّ

٢٠٤

عاقلا يلتزم بذلك فإنّ علمه تبارك وتعالى عين ذاته الأقدس ، وهو منزّه عن جميع هذه اللوازم الباطلة فإنّ كلامه صدق وعدل ومنزّه عن الذهن والتركب.

وأما المقام الثاني ـ أي إثبات الكلام النفسي ـ فقد استدلوا بأدلة كثيرة واضحة الفساد لمن أمعن النظر فيها.

منها : أنّ اللفظ كاشف عما يترتب في نفس المتكلّم قبل التلفظ به.

والجواب عنه : ما ذكرناه آنفا من أنّه تصور مداليل الألفاظ الذي هو العلم. ودلالة الألفاظ عليه تكون دلالة عقلية ، كدلالة الأفعال على ما يتصوره الفاعل.

ومنها : أنّ إطلاق الكلام على الموجود الذهني صحيح حقيقي لا يحتاج إلى عناية ويدل عليه قوله تعالى : (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) [الملك ـ ١٣].

ويرد عليه : ما تقدم سابقا مع أنّه معارض بما إذا تصور الفعل في النفس فلا بد أن يقال لذلك فعل نفسي ولا يقولون به.

ومنها : أنّ إطلاق الكلام على الله تعالى إنّما هو باعتبار من قام به الكلام لا من أوجده ، والقائم به لا يكون إلا قديما.

وفيه : أنّ إطلاق الكلام عليه عزوجل باعتبار القيام به على نحو آخر من أنحاء القيام كما هو مفصّل في علمي الفلسفة والأصول كقيام الرزق والخلق بالنسبة إليه عزوجل والا كان الرزق والخلق قديمين ولا يقولون به.

واستدلوا بأدلة أخرى هي موهونة جدّا لا يخفى على من راجعها في مظانّها.

٢٠٥

سورة البقرة

الآية ٢٥٤

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٥٤))

أمر سبحانه وتعالى في ما تقدم بالإنفاق بأسلوب لطيف فيه التحبب والترغيب والعناية بالمنفقين وعقب هنا الأمر بالإنفاق للمؤمنين خاصة بأسلوب آخر فيه الترهيب وذلك لأنّ الآية الأولى كانت بعد الأمر بالقتال في سبيل الله تعالى وإخبار الأمم الماضين فالمقام يقتضي الترغيب إلّا أنّ هذه الآية وردت بعد اختلاف الأمم واقتتالهم بعد ما جاءتهم البينات فاقتضى الترهيب ، أو لاختلاف النفوس فإنّ أكثر الناس لا يفيدهم الترغيب إن لم يكن مقرونا بالترهيب ، فأمر سبحانه بالإنفاق قبل أن تنقطع الأسباب ويأتي يوم لا يرجى الا رحمته ولا ينفع الإنسان إلا ما قدمه في هذه الحياة وعدّ سبحانه وتعالى من لم يعمل بأحكامه وأوامره عزوجل من الكافرين الظالمين لأنفسهم المستوجبين للعقوبة والخذلان بسوء اختيارهم وخبث ضمائرهم.

٢٠٦

التفسير

٢٥٤ ـ قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ).

الخطاب للمؤمنين باعتبار أنّهم أشرف الأفراد أو لأنّهم المؤهلون لقبول الأحكام الإلهية أو لغير ذلك مما ذكرنا في مثله ، وقد تقدم أنّه خطاب مدني نزل بعد هجرة المسلمين إلى المدينة المنورة ونزول جملة من الأحكام الشرعية.

والإنفاق معروف وهو يشمل الواجب منه والمندوب ، ويستفاد من نسبة الرزق إليهم الحث على الإنفاق فإنّ ما عندهم إنّما هو رزق من الله تعالى ـ فهو إنفاق من مال الله الذي رزقهم ـ وهو الرازق والمنعم عليكم أي : أنفقوا من بعض ما جعلكم مستخلفين فيه.

قوله تعالى : (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ).

البيع معروف وهو إعطاء المثمن وأخذ الثمن ، والشراء عكسه ، وقد يطلق أحدهما على الآخر.

أي : أنفقوا من قبل أن يأتي يوم القيامة الذي لا يمكن ابتياع شيء للتفدية به وحفظه نفسه.

٢٠٧

قوله تعالى : (وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ).

الخلّة والخلال خالص المودة بحيث تخلل في جميع الجسد كتخلل الروح فيه ، يقال : قد تخلّلت مسلك الروح منّي. وسمي الخليل خليلا لأجل ذلك.

أي : أنّ يوم القيامة تنقطع فيه الأسباب الظاهرية التي كانت دائرة في الدنيا فلا تنفع الصداقة فإنّ (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) [الزخرف ـ ٦٧] ، ولا تفيد الشفاعة فإنّها لا تكون إلا لمن اتخذ عند الله عهدا أو (لِمَنِ ارْتَضى) [الأنبياء ـ ٢٨] ، والأمر يومئذ كلّه لله.

ونظير الآية قوله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) [البقرة ـ ١٢٣] ، فليس للإنسان إلا ما سعى في هذه الدنيا.

والمراد من الشفاعة المنفية في هذه الآية ونظائرها : شفاعة بعض أهل الدنيا لبعضهم الآخر لأغراضهم الدنيوية ، وأما الشفاعة بإذنه جلّت عظمته للعصاة على ما أذن فيه تعالى ، فلا ريب في ثبوتها في الآخرة عقلا وشرعا ، كما يأتي في البحث الكلامي.

ويمكن أن تحمل الشفاعة المنفية على الصّداقة المتحققة في الدنيا ، كما عن بعض المفسرين. ولكنّه بعيد عن سياق الآية المباركة.

قوله تعالى : (وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ).

أي : التاركون للإنفاق مما رزقهم الله تعالى المعرضون عنه هم الظالمون لأنفسهم إذ حرموها السعادة الأبدية ، وأوجبوا على أنفسهم الشقاوة الدائمة الخالدة ، فقد تركوا ما يؤهلهم لنيل رحمة الله ونجاتهم فأي ظلم يتصوّر أشد من هذا.

والآية تثبت أمرا حقيقيا وهو عالم الآخرة التي تنقطع فيه الأسباب الظاهرية التي كانت تدور في عالم الدنيا فلا يفيد في ذلك العالم الا ما سعى

٢٠٨

الإنسان في هذا العالم وتدل على ذلك جملة كثيرة من آيات الذكر الحكيم قال تعالى : (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [المجادلة ـ ٦] ، وقال تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) [البقرة ـ ٢٨١] ، إلى غير ذلك من الآيات المباركة ، وكذلك السنة الشريفة.

ويمكن أن يقام الدليل العقلي عليه أيضا فإنّ الإنسان إذا بلغ في السّير التكاملي إلى مقام خلاقية النفس بكلّ ما يشاء وما يريد لا يرى إلا ذاته ـ كما أثبته أكابر الفلاسفة ـ فيكون كمال ذاته وابتهاجها بذاته من دون احتياج إلى شيء آخر حتّى يمكن تداركه بالبيع أو الخلّة ، وكذا إذا وصل في النزول إلى مرتبة لا ينفعه شيء أبدا ، فكلّ واحد من الخلودين ينقطع فيهما الأسباب والحاجات ففي قوس الصعود تنقطع حاجات الدنيا بانفتاح أبواب البركات المعنوية ، وفي غاية قوس النزول تنقطع الحاجات بالمرة ، لعدم إمكان رفع الحاجة والتدارك ، بالخلّة ، أو الشفاعة التي لم تكن إلا بإذن الله تعالى.

وفي الآية الشريفة كمال التحريض على اغتنام الفرصة بأيّ وجه أمكن قبل فواتها مثل قوله تعالى : (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) [المائدة ـ ٤٨] ، وقوله تعالى : (سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) [الحديد ـ ٢١]. وقول عليّ (عليه‌السلام) : «اغتنموا الفرص فإنّها تمر مرّ السحاب».

٢٠٩

بحوث المقام

بحث دلالي

تدل الآية الشريفة على أمور :

الأول : يدل قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا) على رجحان الإنفاق عقلا وشرعا وإطلاقه يشمل الواجب والمندوب كما يشمل جميع ما رزقه الله تعالى لعبده المؤمن من مال أو جاه أو نفع أو منفعة أو انتفاع ، أو الاعتقاد الصحيح والعلم النافع والعمل الصالح بشرط أن يكون لمرضاة الله فإنّ ذلك هو المقصود الأصلي من إنفاق ما رزقه الله تعالى.

الثاني : تدل الآية الشريفة على أنّ ترك العمل بما أنزله الله تعالى والتقصير في الانتفاع بصالح الأعمال مع العلم بالارتحال من هذه الدنيا وعدم الاستقرار في دار الزوال كل ذلك يوجب الحسرة العظمى في دار القرار وهي كافية في العذاب ولا يحتاج إلى عذاب النار ، ولذا لم يعيّن سبحانه وتعالى نوعا من العذاب في هذه الآية الشريفة ، وإنّما بيّن انقطاع أسباب التوقّي التي كان يتخيل أنّها تنفع في تلك الدار.

الثالث : يمكن أن يراد بالبيع مطلق المبادلة المالية والانتقال بيعا كان أو هدية أو غيرهما مما يدور هذا العالم عليه ، كما أنّه يمكن أن يراد بالخلّة مطلق

٢١٠

المصاحبة الدائرة بين أفراد الإنسان في هذه الدنيا كما في قوله تعالى : (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ) [عبس ـ ٢٥] ، وإنّما أتى بالخلّة لبيان أنّها إذا لم يفد هذا النوع من المصاحبة فغيرها بطريق أولى.

الرابع : تدل الآية الشريفة على أنّ الدنيا دار عمل واكتساب والآخرة دار جزاء وثواب ويمكن أن يكون قول نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «الدنيا مزرعة الآخرة» مكتسبا من أمثال هذه الآية المباركة.

الخامس : الآية الشريفة ظاهرة في تبدل الصور الدنيوية إلى صور أخرى تناسبها في عالم الآخرة ، فإنّ البيع والخلّة والشفاعة التي كانت دائرة في هذه الدنيا ، فإنّ جميعها تتبدل إلى صور أخرى إما بما ينافيها إن كانت لغير الله تعالى ، أو بما هو أشرف منها إن كانت لله تعالى.

وتبدل الصور وانقلابها لا يختص بعالم الآخرة بل هي دائرة في هذه الدنيا ـ كما أثبته أكابر الفلاسفة (رحمهم‌الله تعالى) ـ وأنّ القصور والترتيب في العوالم ، إنّما هو بالنسبة إلى المدرك ـ بالكسر ـ لا في الواقع والحقيقة ، فإنّ عدم رؤية الأعمش إنّما هو لقصور في بصره لا لقصور في المبصر ، وهذا بحث علمي دقيق نتعرّض له في الآيات المناسبة إن شاء الله تعالى.

السادس : إنّما قال تبارك وتعالى : (وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) المستفاد من سياقه الحصر ، لأنّ الكفر بالله العظيم أو باليوم الآخر من أقوى وأغلظ الحجب بين النفس الإنسانية والمعارف المعنوية والكمالات الحقيقية ولا يرتفع هذا الحجاب القوي الشديد بأيّ رافع وفي أيّ عالم من العوالم التي ترد على الإنسان ما لم يرفعه عن نفسه باختياره الإيمان في هذا العالم ، فتركه باختياره ظلم لنفسه كذلك.

ويمكن أن يستأنس من هذه الآية المباركة وأمثالها بشارة إلهية وهي أنّ كل ما ورد في القرآن الكريم من الإيعاد على الظلم يراد به ترك الإيمان بالله تعالى ـ أي الكفر ـ باختياره بقرينة ما تواتر عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) عن الله تعالى : «كلمة لا إله إلا الله حصني فمن دخل حصني أمن عذابي» اللهم ثبتنا في هذا الحصن العظيم واهدنا الصراط المستقيم.

٢١١

بحث أدبي

قرأ بعض الآية الشريفة (لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ) بالنصب من غير تنوين وكذا في نظائر المقام كقوله تعالى : (لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ) [إبراهيم ـ ٣١] ، وقوله تعالى : (لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ) [الطور ـ ٢٣] ، وذلك حملا للنفي على الاستغراق لجميع الوجوه المتصورة في كلّ صنف واستشهد بقول حسان بن ثابت :

ألا طعان ، ألا فرسان عادية

إلا تجشؤكم حول التنانير

وحينئذ تكون لا والمنفي في موضع رفع بالابتداء ، والخبر (فيه). أو صفة (اليوم).

والمشهور قراءة الآية الشريفة بالرفع والتنوين ، لأنّ (لا) بمنزلة (ليس) فيكون المرفوع مبتدأ أو اسم ليس والخبر (فيه) فيكون الجواب غير عام. وهناك وجوه ثلاثة أخرى في إعراب هذه الجملة مذكورة في الكتب المفصّلة في إعراب جملة (لا حول ولا قوة إلا بالله).

٢١٢

بحث عرفاني

للحق جلّت عظمته تجليات :

منها : تجلّي ذاته بذاته لذاته ، وفيه تجلّي علمه وحكمته وقدرته وجميع الصفات الراجعة إلى الذات الأقدس ويلزم ذلك ابتهاج الذات بالذات ولا يعقل حد لهذا الابتهاج المنبعث عن الجامعية المطلقة للكمال المطلق فوق ما نتعقله من معنى الكمال ويقصر عن شرحه المقال.

ومنها : تجلّيه تعالى في صفاته الفعلية لما سواه ويلزم ذلك التكثر في المتعلّق لا في الذات لكن من ينظر إلى أنّ التكثرات من حيث إنّها من آثار تجلّيه تعالى يرى وحدة التجلّي من حيث الإضافة إلى الواحد الأحد لا من جهة التكثرات وقد نسب إلى عليّ (عليه‌السلام) : «ما رأيت شيئا الا ورأيت الله قبله ومعه» وكذا يمكن ذلك لمن كان منقطعا إليه تعالى بحقيقة معنى الانقطاع فالبيع والخلّة والشفاعة لأهل الانقطاع إليه عزوجل كمال الانقطاع تكون من مظاهر إذنه وتجلّياته.

ومنها : تجلّياته التي تحصل باختيار عباده الصالحين فكلّ فعل من الأفعال الحسنة أضيف إليه عزوجل يكون من مظاهر تجلّيه خصوصا الصّلاة الجامعة للشرائط كما مرّ.

٢١٣

ومنها : تجلّيه في الآخرة وهو يقصر البيان ويعجز القلم عن تحديده وحده.

ومنها : تجلّيه بإفناء ما سواه ثم إيجاد ما أفناه وهو يدل على قهاريته قال تعالى : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) [غافر ـ ١٦] ، إلى غير ذلك ممّا مرّ في بعض المباحث السابقة بل تجلّياته تبارك وتعالى غير محدودة كما قال تعالى : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) [الرحمن ـ ٢٩].

٢١٤

بحث كلامي

من الألفاظ الشايعة في القرآن الكريم لفظ (الشفاعة) ومشتقاتها التي ربما تبلغ أكثر من ثلاثين موردا ، والمستفاد من مجموع الآيات التي ورد فيها لفظ الشفاعة أنّها من الأمور الثابتة المتحققة بلا ريب ولا إشكال إلا أنّ في بعضها تنسب الشفاعة إلى الله تعالى بالأصالة وفي بعضها الآخر تنسبها إلى غيره عزوجل برضاه وإذنه ، فهي لا تنفي الشفاعة من أصلها.

والشفاعة من الموضوعات التي كثر الاهتمام بها في الإسلام بل في سائر الأديان الإلهية ، فقد بحث عنها في غير واحد من العلوم الإسلامية كعلم الكلام ، وعلوم التفسير والحديث والفقه.

والإلمام بها يقتضي البحث في مفهوم الشفاعة ومتعلّقها ، وثبوتها ، ومورد جريانها ، وشروطها ، وزمان تحقّقها ، ومن تصح منه ، ونسبتها إلى سائر المفاهيم الشرعية التي تثبت العفو والمغفرة وغير ذلك.

مفهوم الشفاعة :

مادة (شفع) تأتي بمعنى ضم الشيء مع غيره لغرض يترتب عليه ، فالشفاعة هي انضمام المشفوع له مع المستشفع لنيل غرض لا يناله إلا بها. وهي من الأمور الدائرة بين أفراد الإنسان لتحقيق أغراض خاصة وإنجاح بعض المقاصد كما أنّها من الرّوابط الاجتماعية الوثيقة بين الحاكم والمحكوم عليه.

٢١٥

وإذا تأملنا في الشفاعة الدائرة في الاجتماع الإنساني نلاحظ أنّها تكون من متمّمات الأسباب ، فهي جزء المقتضي بالتعبير العلمي لا العلة التامة المنحصرة لأنّها لا تكون إلا فيما إذا كان المشفوع له قابلا في الجملة لنيل الغرض المترتب على الشفاعة فلا مجرى لها في ما لا قابلية له أصلا كما أنّها متوقفة على إذن المشفوع عنده للشفيع ، فإذا أراد فرد أن ينال كمالا أو خيرا يليق به ـ ماديا كان أو معنويا ـ أو أراد الخلاص من عقاب المخالفة بعد استحقاقه يلجأ إلى الشفاعة ، فيضم إلى سببه الناقص الذي عنده من لياقة أو نحوها سببية الشفيع الذي هو بدوره لا بد أن يكون مؤهّلا لقيامه بهذه الوساطة ، فالشفاعة من الأسباب المتمّمة في التأثير لا المستقلّة هذه هي الشفاعة الدائرة في المجتمع وإنّها تتقوم بأمور :

الأول : أن يكون المشفوع له مؤهلا وقابلا لنيل الغرض والمراد في الجملة وإن كان ناقصا من جهة فيتمم تلك الجهة بالشفاعة فلا أثر للشفاعة في ما لا قابلية له أصلا كالشفاعة لفرد أمي لا يعرف شيئا أن يحوز منصبا علميّا كبيرا أو الشفاعة للمشرك أن يدخل الجنة.

الثاني : الشفاعة إنّما تكون في الأمور الخارجية عن الذات كالكمالات الاكتسابية التي تكون بالاختيار أو الأمور الموجبة لمخالفة القانون بالاختيار.

الثالث : أنّه لا مجرى للشفاعة في الأمور التكوينية والأسباب الطبيعية سواء كانت من الخير والشر أو النفع والضر إلا بالعناية فيها فلا بد من الرجوع إلى أسبابها الطبيعية والوسائل المناسبة فإنّ العطش مثلا إنّما يرتفع بالارتواء والشرب ، والجوع بالأكل ، والمرض بالدواء ، والحر بالوسائل المناسبة ، والبرد باللبس وغير ذلك من الأمور الطبيعية ولا أثر للشفاعة فيها. نعم في جملة من التكوينيات يكون انضمام شيء إلى شيء آخر موجبا لحصول الغرض المقصود وتسمية ذلك بالشفاعة تكون بالعناية.

الرابع : أنّ الشفيع إنّما يكون جزء متمما آخر منضما لسببية المشفوع له إذا كان بحد نفسه قابلا للقيام بالسببية ومؤهلا لها فيتوسط بين المشفوع له

٢١٦

والمشفوع عنده بما يوجب نيل الكمال أو دفع الشر والعقاب وهو إنّما يتوسل لدى المشفوع عنده بما يؤثر عليه من صفات حميدة فيه عنده كالرّحمة والكرم ونحوهما أو في المشفوع له كالعبودية والمذلّة وغيرهما.

الخامس : أنّ الشفيع إنّما يرجع إلى المشفوع عنده بما يرتضيه لا بما هو غير ممكن أو لا يرتضيه فإنّ ذلك قبيح لا يمكن أن يكون مورد الشفاعة فلا يرجع عليه في خلع المولوية عن نفسه أو إبطال الحكم والتشريع أو إلغاء المجازاة ونحو ذلك فإنّ هذه الأمور مما تقبح الشفاعة فيها وهو من المضادة والمعارضة لا من الشفاعة وإلى ذلك يشير قول نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «من حالت شفاعته دون حدّ من حدود الله عزوجل فقد ضاد الله في أمره».

فالشفاعة عند العرف توسط بين السبب ومسببه فهي لا تخرج عن مطلق قانون السببية لكن لا على نحو المضادة والمعارضة والغلبة كما في الأسباب الطبيعية والتكوينية.

الشفاعة في الإسلام :

تقدم أنّ الشفاعة قد وردت في القرآن الكريم في مواضع متعددة والسنة الشريفة بما لا يحصى ولم يرد تحديد من الشرع فيها فيستفاد أنّها في الإسلام هي نفس ما عليه في العرف والاجتماع الإنساني إلا أنّ أثرها الكبير يظهر في يوم القيامة وليس لها في هذه الدنيا ذلك الأثر الكبير ، ولكن نسبة الشفاعة إلى الله عزوجل تكون على نحوين :

الأول : توسط الأسباب بينه تعالى وبين غيره فإنّه عزوجل المبدأ والمنتهى وإليه يرجع الأمر كلّه وهو المالك للخلق على الإطلاق والرب لهم وله من الصفات العليا الحسنى والقيومية العظمى التي يدبر بها خلقه. وبينه تعالى وبين خلقه المحتاج إليه أسباب عادية وعلل وجودية ووسائط كثيرة فإنّه أبى أن يجري الأمور إلا بأسبابها فتكون مجاري إعمال قدرته مثل مجاري الطبيعة والتكوين.

وإطلاق الشفاعة على هذا النوع من السببية صحيح ولا مانع منه عقلا ، بل يستفاد ذلك من قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي

٢١٧

سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) [يونس ـ ٣] ، حيث أورد الشفاعة بعد خلق السّموات والأرض والتدبير لهما ، فلا تكون إلا في أمور التكوين ويستفاد من الآية أنّ الشفاعة بهذا المعنى هي من جملة تدبير الخلق وتنظيم النظام الأحسن الربوبي ، ويؤيد ذلك أيضا قوله تعالى : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) [البقرة ـ ٢٥٥] ، فهذه هي الشفاعة التكوينية أي توسيط العلل والأسباب الوجودية بين مسبب الأسباب وخالق الأرض والسّماء وبين خلقه المفتقر إليه.

الثاني : الشفاعة لديه تعالى بمعنى رفع العقاب عن عباده العاصين أو زيادة الثواب لعباده المطيعين ، فإنّ الله تعالى أرسل الرسل مبشرين ومنذرين مبلّغين صادعين بالحق وأنزل معهم الكتاب المشتمل على الأحكام التشريعية الراجعة إلى مصالح العباد ووضع الثواب للمطيعين والعقاب على العاصين وأقام الحجة في العباد وأتمها عليهم (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) [الأنفال ـ ٤٢] ، ولكنّه تعالى رأفة بخلقه ورحمة بعباده جعل الشفاعة لنفسه ، وهو من شؤون رحمته المطلقة التي وسعت كلّ شيء وهذه هي الشفاعة في الجعل والتشريع.

وبعد كون أصل الشفاعة بيده وتحت استيلائه وقدرته ، له تبارك وتعالى أن يجعلها لمن يشاء من خلقه ويريد وفق الحكمة البالغة والعلم الأتم ، وتدل على ذلك جملة من الآيات الشريفة قال تعالى : (يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) [طه ـ ١٠٩] ، وقال تعالى : (لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى) [النجم ـ ٢٦] ، وإطلاق قوله تعالى : (لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) [الأنبياء ـ ٢٨] ، يدل على أنّه لا بد في الشفاعة من إذنه في المشفوع له والشفيع. وقال تعالى : (وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [الزخرف ـ ٨٦].

والمستفاد من جميع ذلك : أنّ الشفاعة بجميع جهاتها وخصوصياتها لا بد أن تكون تحت اختياره وإرادته كما تدل على ذلك القاعدة العقلية أيضا

٢١٨

فالشفاعة على نحو ما تقدم مطابقة للعقل والشرع والعرف ، فمن أنكرها بهذا المعنى إنّما ينكر أمرا وجدانيا يعترف به بجنانه وينكره بلسانه.

ثبوت الشفاعة :

لا ريب ولا إشكال في إمكان الشفاعة فهي ليست من المحالات الأولية ، لما هو المتسالم بين الفلاسفة من أصالة الإمكان في كلّ شيء الا إذا دل دليل معتبر على الامتناع ، ولم يتخيل أحد في أنّ الشفاعة من الممتنعات الذاتية هذا بالنسبة إلى الإمكان الذاتي.

وأما الإمكان الوقوعي فقد دلت الأدلة العقلية والنقلية على وقوعها في الخارج على ما يأتي من التفصيل ، وقد استدل على تحقق الشفاعة بالأدلة الأربعة : الكتاب ، والسنة ، والإجماع ، والعقل.

الشفاعة في القرآن :

تدل عليها آيات كثيرة منطوقا ومفهوما ، نفيا وإثباتا في الدنيا والآخرة وهي على طوائف :

الاولى : الآيات التي تدل على انحصار الشفاعة في الله واختصاصها به عزوجل قال تعالى : (قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [الزمر ـ ٤٤] وقال تعالى : (ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) [السجدة ـ ٤]. وقال تعالى : (لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ) [الأنعام ـ ٧٠].

الثانية : ما تدل على التعميم وثبوتها لغيره عزوجل بإذنه ورضاه وهي كثيرة منها : قوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) [البقرة ـ ٢٥٥]. ومنها : قوله تعالى : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) [الأنبياء ـ ٢٨] ومنها : قوله تعالى : (لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) [مريم ـ ٨٧] ومنها : قوله تعالى : (يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) [طه ـ ١٠٩] ، ومنها : قوله تعالى : (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي

٢١٩

شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى) النجم ـ ٢٦].

الثالثة : ما تدل على ثبوت الشفاعة في الدنيا قال تعالى : (مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً) [النساء ـ ٨٥] فإنّ سياقها يدل على أنّها في الدنيا.

الرابعة : ما تدل على نفي الشفاعة إما مطلقا أو في يوم القيامة أو عن طائفة خاصة قال تعالى : (يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ) [طه ـ ١٠٩] ، وقال تعالى : (أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [البقرة ـ ٢٥٤] وقال تعالى : (وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [الزخرف ـ ٨٦] ، وقال تعالى : (لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) [مريم ـ ٨٧] وقال تعالى : (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) [غافر ـ ١٨] والمراد من الظّالمين الكافرين بقرينة قوله تعالى : (وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ).

والمستفاد من مجموعها : أنّ الشفاعة ثابتة لله تعالى أصالة وهو المالك لها وتكون لغيره تعالى بإذنه ورضاه ، وهي لا تكون في يوم القيامة إلا لمن ارتضاه الله تعالى وأذن له بالشفاعة وهذا هو الذي تقتضيه القواعد العقلية لانحصار مالكية كلّ شيء فيه تعالى وجميع تلك الآيات المباركة تدل على عدم ثبوتها لغيره عزوجل اقتراحا من الناس ومن دون مشية الله تعالى وارتضائه ، فتحمل الآيات النافية للشفاعة إما على الشفاعة الاقتراحية للناس ، أو على وقت دون وقت.

ونسبة الشفاعة إليه عزوجل كنسبة سائر الأمور المختصة به عزوجل التي يفيضها على غيره : كعلم الغيب ، والرزق ، والحكم ، والملك وغير ذلك مما هو كمال له فإنّه تعالى يثبته لنفسه عزوجل وينفيه عن غيره ثم يثبته له بإذنه وارتضائه وهذا شايع في القرآن الكريم فإنّ الأمر لله وهو فعّال لما يريد.

٢٢٠