مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة أهل البيت (ع)
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥١٦

وهو يتحقق بالعمل بما يرتضيه المنعم المشكور والاجتناب عما يسخطه ولا يرضيه وهو الشكر الحقيقي ومع وجوده يستغنى عن الشكر اللساني ولو مرة ومع عدمه لا يكفي الأخير ولو ألف مرة.

وهذه الآية المباركة تشير إلى حقيقة من الحقائق التاريخية التي وقعت في الأمم الماضية ولها شؤون في الكتب ، وقد ورد ما يماثلها في العهد القديم.

ولكن ذكر بعض المفسرين : أنّها مثل لا حقيقة لها. وذكر آخرون : أنّ المراد من الموت هو استيلاء العدو واستعمار الأقوام واستعبادهم وإزالة استقلالهم وسلب مواردهم ونهب إمكانياتهم المادية والمعنوية وأنّ المراد بالإحياء هو نهوض الأمة في إبادة الأعداء واستعادة الاستقلال إليهم ودفاعهم عن حقوقهم.

ولكن ذلك خلاف سياق الآية الشريفة فإنّها كما ذكرنا تدل على حقيقة تاريخية واقعة في الخارج وسيأتي في البحث التاريخي ما يتعلق بها.

١٢١

بحوث المقام

بحث دلالي

يستفاد من هذه الآية المباركة أمور :

الأول : ذكرنا أنّ الآية الشريفة تدل على أنّ الإنسان لا يمكنه الفرار عن مقدّرات الله تبارك وتعالى وأنّ الهلع لا يرد قضاءه وأنّ الواجب عليه التسليم ويشير إلى مدلول هذه الآية قوله تعالى : (قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً) [الأحزاب ـ ١٦] ، فلن ينفع الفرار في دفع القدر المحتوم وإذا فروا فإنّهم ملاقوه لا محالة.

الثاني : لم يرد في الآية المباركة تفصيل وبيان كيفية الموت من أنّه كان جماعيا أو انفراديا في زمان محدود؟ وهل أنّهم ماتوا بسبب ما هربوا منه؟ ولعلّ السّر في إخفاء كلّ ذلك أنّ الآية في مقام بيان أصل التسليم وأخذ العبرة من طبيعة الواقعة بأنّ الفزع والجزع والحذر لا يغيّر المصير أو القضاء المبرم وأنّ الصبر والثبات والرجوع إلى قضائه هو المتعيّن وأما جزئيات الواقعة ، فهي لا تكون موضع العبرة غالبا.

الثالث : إنّما وضع الظاهر موضع المضمر في قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) أولا : لتعدد الموضوع وهذا يقتضي الإظهار. وثانيا : الاهتمام بالفضل وإظهار قدرته عزوجل وانحصاره فيه تعالى.

١٢٢

بحث روائي

في الكافي عن أبي جعفر (عليه‌السلام) في قول الله عزوجل : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ) فقال : إنّ هؤلاء أهل مدينة من مدائن الشام وكانوا سبعين الف بيت وكان الطاعون يقع فيهم في كلّ أوان فكانوا إذا أحسّوا به خرج من المدينة الأغنياء لقوّتهم وبقي فيها الفقراء لضعفهم ، فكان الموت يكثر في الذين أقاموا ويقلّ في الذين خرجوا ، ويقول الذين خرجوا : لو كنا أقمنا لكثر فينا الموت ، ويقول الذين أقاموا لو كنا خرجنا لقل فينا الموت.

قال : فاجتمع رأيهم جميعا أنّه إذا وقع الطاعون فيهم وأحسّوا به خرجوا كلّهم من المدينة فلما أحسّوا بالطاعون خرجوا جميعا وتنحوا عن الطاعون حذر الموت ، فساروا في البلاد ما شاء الله ثم إنّهم مروا بمدينة خربة قد جلا عنها أهلها وأفناهم الطاعون فنزلوا بها ، فلما حطوا رحالهم واطمأنوا بها قال لهم الله تعالى : موتوا جميعا ، فماتوا من ساعتهم وصاروا رميما تلوح وكانوا على طريق المارة فكنستهم المارة فنحوهم وجمعوهم في موضع فمرّ بهم نبيّ من أنبياء بني إسرائيل يقال له (حزقيل) فلما رأى تلك العظام بكى واستعبر وقال : يا ربّ لو شئت لأحييتهم الساعة كما أمتهم فعمروا بلادك وولدوا عبادك وعبدوك مع من يعبدك من خلقك ، فأوحى الله إليه أفتحب ذلك؟ قال : نعم يا ربّ ، فأحياهم الله فأوحى الله عزوجل إليه قل كذا وكذا فقال الذي أمره الله

١٢٣

عزوجل أن يقوله ـ فقال أبو عبد الله (عليه‌السلام) وهو الاسم الأعظم ـ فلما قال حزقيل ذلك الكلام نظر إلى العظام يطير بعضها إلى بعض فعادوا أحياء ينظر بعضهم إلى بعض يسبّحون الله عزوجل ويكبّرونه ويهلّلونه ، فقال حزقيل عند ذلك : أشهد أنّ الله على كلّ شيء قدير. قال عمر بن يزيد فقال أبو عبد الله (عليه‌السلام) : فيهم نزلت هذه الآية».

أقول : سواء كان حزقيل من أوصياء بني إسرائيل كما عن بعض أو نبيا من أنبياء بني إسرائيل فإنّ له شأنا لمكان الاسم الأعظم الذي عنده ، فأصل الواقعة مما لا ينكر وإنّما ذكرت في القرآن للردع عن الاعتماد على النفس من كلّ جهة والحث على التوكل على الله تعالى ، وللتنبيه على أنّ إرادته تعالى قاهرة ومهيمنة على ما سواه كما مرّ في الآيات السابقة ويأتي في الآيات اللاحقة إن شاء الله تعالى. وعن عليّ (عليه‌السلام) : «عند التقادير ضلت التدابير» فكم من هارب من بلية وهو واقع فيها بأشد مما فرّ منها. وأما محل الواقعة فسيأتي في البحث التاريخي ما يتعلق به.

هذا ، وإنّ رجلا من أمناء فرعون في مصر كان يدعى حزقيل أيضا وكان أول أمره نجارا وهو الذي سألته أم موسى (عليه‌السلام) أن يصنع لها تابوتا صغيرا تضع فيه ابنها الوليد ثم ألقت بوليدها في النّهر وقد حبس لسانه عند ما أراد إفشاء سرّ موسى (عليه‌السلام) وسيأتي في الآيات المناسبة تتمة الواقعة. ولكن لا يخفى أنّ حزقيل النبيّ غير هذا الرجل. كما أنّه غير ذي الكفل كما توهمه بعض.

الطبرسي في الاحتجاج في حديث عن الصادق (عليه‌السلام) قال : «أحيا الله قوما خرجوا من أوطانهم هاربين من الطاعون لا يحصى عددهم فأماتهم الله دهرا طويلا حتّى بليت عظامهم وتقطعت أوصالهم وصاروا ترابا فبعث الله في وقت أحبّ أن يري خلقه قدرته نبيا يقال له (حزقيل) ، فدعاهم فاجتمعت أبدانهم ورجعت فيها أرواحهم وقاموا كهيئة يوم ماتوا لا يفتقدون من أعدادهم رجلا فعاشوا بعد ذلك دهرا طويلا».

١٢٤

أقول : قريب منه ما عن أبي جعفر (عليه‌السلام) كما في الكافي ويستفاد من هذه الروايات أنّ المعاد عين المبتدإ كما أثبتوه في الفلسفة الإلهية. وحزقيل أي : قوة الربّ.

١٢٥

بحث تاريخي

ذكر جمهور المفسرين أنّ الآية الشريفة تشير إلى قوم من بني إسرائيل وقع فيهم الوباء فخرجوا هاربين فنزلوا واديا فأماتهم الله تعالى ، وقد اختلفوا في القرية التي كانوا فيها فنقل عن بعضهم أنّها (داوردان) من نواحي شرقي واسط. وقيل : إنّها قرية من قرى الشام.

كما أنّهم اختلفوا في عددهم بين مقلل لهم وهو أربعة آلاف ومكثر لهم وهو ستمائة ألف.

وقد اختلفوا أيضا في مدّة موتهم ، وقيل أماتهم الله قبل آجالهم عقوبة لهم ثم بعثهم إلى بقية آجالهم.

هذا ، ولكن بعثهم كان معجزة لنبي من أنبيائهم وهو حزقيل بن يوزي ثالث أنبياء العبرانيين الكبار كان معاصرا لأرميا ودانيال في القرنين السادس والسابع قبل الميلاد ، وكان من الذين ساروا إلى السّبي وهو صغير السّن وكان يخبر رفقاءه في السّبي بالأخطار والمصائب المحدقة بهم ، وله سفر من أسفار التوراة تكثر فيه الرؤيا والتشابيه الشعرية والاستعارات التي كان الغرض منها تهذيب الأسرى وتوبيخهم على تذمرهم وإصرارهم على خطاياهم ودعوتهم للتوبة وتسلية للأتقياء منهم برجاء العودة إلى ديارهم وهلاك أعدائهم.

وقد وردت هذه الواقعة تقريبا في الإصحاح السابع والثلاثين من سفر

١٢٦

حزقيال حيث ورد فيه «كانت عليّ يد الربّ فأخرجني بروح الربّ وأنزلني في وسط البقعة وهي ملآنة عظاما ، وأمرّني عليها من حلوها وإذا هي كثيرة جدّا على وجه البقعة وإذا هي يابسة جدّا فقال لي : يا ابن آدم أتحيا هذه العظام؟ فقلت : يا سيد الرّب أنت تعلم ، فقال لي : تنبّأ على هذه العظام وقل لها : أيتها العظام اليابسة اسمعي كلمة الربّ هكذا قال السيد الربّ لهذه العظام هانذا ادخل فيكم روحا فتحيون وأضع عليكم عصبا وأكسيكم لحما وأبسط عليكم جلدا وأجعل فيكم روحا فتحيون إنّي أنا الربّ فتنبأت كما أمرت وبين ما أتنبأ كان صوت وإذا رعش فتقاربت العظام كلّ عظم إلى عظمه ونظرت وإذا بالعصب واللحم كساها وبسط الجلد عليها من فوق وليس فيها روح فقال لي : تنبأ للروح تنبأ يا ابن آدم وقل للروح هكذا قال السيد الربّ هلمّ يا روح من الرياح الأربع وهبّ على هؤلاء القتلى ليحيوا ، فتنبأت كما أمرني فدخل فيهم الروح فحيوا وقاموا على أقدامهم جيش عظيم جدا جدا».

وكيف كان فإنّ كثيرا مما ذكره المفسرون لم يقم عليه دليل معتبر وقال ابن عطية : «إنّ هذه القصص كلّها لين الأسانيد» وإنّ الآية الشريفة لم يذكر فيها الا أصل الواقعة كما عرفت.

وأكبر الظن أنّ منشأ القول في هذه الواقعة بأنّ النبيّ هو الذي دعا الله تعالى في بعثهم وإحيائهم ما تقدم في سفر حزقيال وأنّه صاحب رؤيا قيام العظام اليابسة وكان متأخرا عن عصر موسى بكثير.

١٢٧

سورة البقرة

الآية ٢٤٥

(وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٤٤) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٤٥))

بعد ما بيّن سبحانه أنّ الإنسان لا يمكنه الفرار من القضاء الإلهي وأنّه تعالى هو الحافظ له في الأخطار والمصائب فكان ذلك توطئة لهاتين الآيتين وهو فرض القتال ، والقرض الحسن ، فإنّه مع العلم بأنّ الإنسان لا ينفعه الخوف ولا الاغترار بنفسه ، وأنّ الأمر كلّه بيد الله تعالى ولا بد من متابعته في كلّ ما ينزله ليحوز السعادة والنجاح فأمر الناس بالجهاد والتضحية في سبيل الله لإعلاء كلمة الحق وحرضهم على الإنفاق بأسلوب رفيع خلّاب لأنّ الدفاع عن الحق يلازم الاستعداد له وتجهيز العدة والقوة من بذل المال ويبيّن سبحانه أنّه سميع لما يصدر من الإنسان في الاعتذار عن العمل والتثبيط عن الجهاد عليم بالنيات وأنّه القابض لما ينفقه المؤمنون وإليه مرجع الجميع.

١٢٨

التفسير

٢٤٤ ـ قوله تعالى : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ).

الخطاب عام لجميع الناس وهو ظاهر في الفرض والوجوب ، وقد قيده سبحانه في المقام وغيره بكونه في سبيل الله ، والمراد به كل ما يؤدي إليه جلّت عظمته والتقييد به ظاهر فإنّ القتال في سبيل الله إعلاء للحق ونشر لدين الله الذي فيه صلاح الإنسان ، ولأنّ القتال في سبيله فيه الحياة السعيدة والكمال الذي يطلبه الإنسان ولأنّه المحفّز على مقارعة السيوف واقتحام الصفوف ، ولئلا ينسبق إلى الذهن أنّ القتال إنّما هو لإيجاد الحكومة الدنيوية والتسلط على رقاب الناس وتوسيع المملكة الظاهرية كما يدعيه خصوم الإسلام.

قوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).

أي : إنّ الله تعالى سميع لا تخفى عليه المسموعات سواء كانت منكم أو من غيركم عليم بالنيات وخطرات القلوب.

وفيه تحذير عن المخالفة وتحريض إلى مراقبة النفس فلا بد من الامتثال ونبذ ما يوجب الجبن والفتور والتعلّل بما يوجب النفاق كما كان يفعله المنافقون واليهود فإنّ من علم بأنّ الله سميع لما يتعلّل به وما يقوله في الجهاد ، عليم بالنيات راقب نفسه واستعد للقتال ومبارزة الأبطال وهان عليه

١٢٩

عمل الشدائد والصعاب وتحمّل المشاق ففي الحديث عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «صفرة في سبيل الله خير من حمر النّعم» أي : جوعة في سبيل الله.

٢٤٥ ـ قوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً).

خطاب في منتهى الفصاحة وأعلى مراتب البلاغة يتضمّن الحثّ على الإنفاق والتحريض على تقديم الخير بأسلوب رفيع يجد الفرد لذة النداء في البذل والعطاء وفيه غاية التأثير على النفوس الضعيفة يدعو الغنيّ والفقير إلى البذل وتقديم الخير على السواء ويفتخر العاقل بالمبادرة إلى العمل بمفاده ، ولذة المخاطبة تذهب كلّ مشقة وصعوبة كيف وإنّ الخطاب صادر من المالك الحقيقي والغنيّ عن العالمين يستقرض عباده مما أنعم عليهم ويعدهم الدّفع بأضعاف مضاعفة وما أبعد من حرم عن هذه المرابحة وما أشد خسارة من بقي في الخسران والمخاطرة.

ومن ذلك يعلم وجه تغيير الخطاب من الأمر في الآية السابقة إلى الاستفهام للتهييج وتنشيط الذهن بتغيير الخطاب وللإكبار والاستعظام له كما هو مستعمل في كلّ أمر يراد إعظامه ويندر الإقدام عليه قال تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) [البقرة ـ ٢٥٥].

والقرض : يأتي بمعنى القطع ، لأنّ المقرض يقطع إضافة ما يقرضه عن نفسه ويربطها بالمقترض وهو على قسمين :

قرض حاجة ، وهو محال بالنسبة إليه عزوجل لاستغنائه عن الغير بالذات واحتياج الكل إليه كذلك.

وقرض رباح ، لأن يرجع المال إلى المقرض مع الربح الحلال وهو جائز بالنسبة إليه تعالى ، وعليه يدور النظام المصرفي فيصرف المال المقترض في المنافع العامة ثم يرجع إلى صاحبه مع النفع ، ولكن لا بد من تقييده بما إذا كان مطابقا للموازين الشرعية.

والمراد به في المقام : كلّ ما يقدّمه الإنسان من الخير الذي يرجع نفعه

١٣٠

إلى النفس أو المجتمع ، وإنّما عبّر سبحانه وتعالى به لبيان التنظير ، وليس المراد القرض الاصطلاحي الذي يؤخذ لرفع الحاجة والضرورة ويشرح هذه الآية المباركة قوله تعالى : (وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً) [المزمل ـ ٢٠].

وقد اعتبر سبحانه ما يقدمه الإنسان من الخير إلى النفس أو المجتمع وما ينفقه في سبيله قرضا لنفسه للحث والترغيب فإنّ رغبة الإنسان إلى البذل ضعيفة في نفوس الكثيرين فلا بد فيه من الحث الأكيد والمبالغة الشديدة لقرضه تعالى ، وللإرشاد إلى أنّ القرض إنّما يكون قرضا له إذا كان في سبيله ولوجهه عزوجل.

والقرض الحسن : ما كان خالصا لوجهه الكريم خاليا عن شوائب الشرك والرياء وفاقدا للمنّ والسمعة وما كان فيه منفعة عامة ترجع إلى الصالح العام وأن يتضمن الخير وما يقرّبه إلى الربّ الكريم.

قوله تعالى : (فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً).

جواب للطلب المؤكد في قوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ) ويضاعفه منصوب جوابا للاستفهام وقرئ بالرفع أيضا.

والأضعاف واحدها ضعف وهو : أداء المثل وزيادة ، ومنه الحديث : «تضعف صلاة الجماعة على صلاة الفذ خمسا وعشرين درجة».

وهذه الآية المباركة تؤكد ما ورد في صدرها فإنّه يدل على أنّ ما يقدمه له تعالى لا يضيع ولما كان ذلك غير كاف في الترغيب أكده بأنّ الجزاء إنّما يكون أضعافا مضاعفة كثيرة ـ في الدنيا والآخرة ـ لا نهاية لها ولا حدّ ولا يحصي عددها إلا الله تعالى.

وقد ورد في آيات أخرى تحديد الجزاء تارة بالعشرة قال تعالى : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) [الأنعام ـ ١٦٠] ، وأخرى بالسبعمائة مثل قوله تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ

١٣١

سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة ـ ٢٦١] ، وثالثة بقوله تعالى : (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ) [سبأ ـ ٣٩] ، ويحمل الاختلاف على مراتب الخلوص عن الشرك والرياء والموانع ، أو مراتب حسن النية ومراتب الانقطاع التام.

قوله تعالى : (وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ).

حث منه تعالى على الإنفاق وإرشاد إلى أنّ أمر الرزق بيده عزوجل والقبض : القتر والضيق. ويقابله البسط. وقرئ بالصاد تفخيما للسين لمجاورته للطاء.

أي : إنّ الله تعالى غنيّ عن العالمين لا يضرّه منع مانع فهو الباسط للرزق والقابض له يقترّ على وفق المصلحة والحكمة المتعالية فإنّ الأمر كلّه بيده فلا ينبغي أن يخاف المنفق الفقر بإنفاقه لأنّ بيده تعالى بسط الرزق فلا بد من اغتنام الفرصة في البذل والإنفاق من قبل أن يضيق الرزق ويذهب المال وتبقى الحسرة.

ويمكن أن يحمل هذان اللفظان على المعنى الأعم مما قلناه ومن أنّه تعالى يقبض بيده المال المنفق في الخيرات ويبسط الجزاء بيده أيضا ، ويشهد له قوله تعالى : (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ) [التوبة ـ ١٠٤] ، وما ورد في السنة المقدسة من أنّ المال المنفق يصل إلى الله تعالى أولا ثم إلى المنفق عليه.

وإنّما ذكرهما في المقام لئلا يستبعد الجزاء العظيم الذي وعده الله تعالى على الإنفاق والقرض.

قوله تعالى : (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).

وعد للذين آمنوا وأنفقوا فإنّهم إليه يرجعون فيوفّيهم جزاء ما أنفقوا ووعيد للذين تركوا نهج الهدى واتبعوا النفس الأمارة فتشتد حسرات المقتر الشحيح على ما فرط.

١٣٢

بحوث المقام

بحث دلالي

تدل الآية المباركة على أمور :

الأول : أنّ تقييد القتال بكونه في سبيل الله في قوله تعالى : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) للإرشاد إلى أنّه لا بد من أن يكون الجهاد والقتال خالصا عن الأوهام المنحرفة والأفكار السيئة ويكون لوجهه الكريم لتشييد الدّين وأركان الحق ، ولبيان أنّ الجهاد في الإسلام إنّما يكون لتوسعة سلطان الحق والدّين الذي فيه سعادة الدنيا والآخرة ، وليس لأجل توسيع الرقعة وإيجاد السلطة الدنيوية.

الثاني : أنّ ذكر : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) في ذيل آية القتال للإعلام بشدة الاهتمام بالجهاد في الإسلام فإنّ في القتال هيجان النفس واشتداد الغضب وربما يقع المقاتل بسبب ذلك فيما لا يرضيه تعالى فأكد سبحانه بأنّ الله مراقب له في هذه الحال وحذّره عن المخالفة والنفاق.

الثالث : إنّما عبّر سبحانه بالقرض دون غيره لأنّ في القرض حفظ الرد والجزاء ويشعر باحتياج المستقرض إلى المقرض فيكون أدعى لرفع اليد عن

١٣٣

كلّ ما يملكه وإنفاقه ابتغاء مرضاة الله تعالى ، وإثارة العطف في قلب المؤمن على كلّ ذي حاجة وفاقة.

الرابع : إنّما عبّر سبحانه وتعالى ب : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) زيادة في التلطف وإثارة للحنان وأيّ لطف أشد منه؟! وهو مالك السّموات والأرض غنيّ عن العالمين يستقرض منهم بالإنفاق.

الخامس : إطلاق القرض يشمل بذل النفس والمال والمنافع والانتفاعات بل ما يعتقده الإنسان ومكارم الأخلاق فإنّ كلّ ذلك يعتبر قرض الله تعالى إذا كان حسنا خالصا عن شوب النفاق والشرك والرياء.

السادس : تدل الآية المباركة على التوحيد العملي والحرية في الأعمال فإنّ الله يستقرض عباده فهم مخيّرون في الأداء والوفاء وأحب أن يكون حسنا لوجهه الكريم فيتجلّى التوحيد العملي على الجوانح والجوارح.

السابع : تشمل هذه الآية الشريفة وأمثالها ما إذا كان القرض مباشريّا أو تسبيبيا فإنّ فضله الكريم يعم الجميع ، وتدل على ذلك أخبار كثيرة في السنة المقدسة.

الثامن : تشمل هذه الآية ما إذا كان الإقراض في زمان الحياة أو بعد الموت فتشمل جميع الوصايا التبرعية وغيرها من الخيرات.

التاسع : لا ريب في تفاوت مراتب الإقراض من حيث الفضل والأفضلية كما شرح ذلك في السنة المقدّسة فعموم الآية المباركة تشمل جميعها كما أنّها تشمل ما إذا اشترط المقرض الزيادة على الله تعالى أو لم يشترط.

العاشر : أهم ما تشمل هذه الآية قرض الجاه بجميع مراتبه خصوصا لو كان لنجاة النفوس المحترمة وكان خالصا لوجهه الكريم.

١٣٤

بحث روائي

في تفسير العياشي عن الصادق (عليه‌السلام) قال : «لما نزلت هذه الآية : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : ربّ زدني فأنزل الله تعالى : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ربّ زدني فأنزل الله : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) والكثير عند الله لا يحصى.

أقول : قريب منه ما رواه في المعاني أيضا ولا بد أن يكون كذلك لأنّ الإضافة إليه غير محدودة بحد أبدا وإنّما التحديد يتحقق باعتبار متعلّقه وموضوعه وهو يختلف باختلاف المقاصد والنيات.

في تفسير العياشي عن أبي الحسن موسى (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) قال : هي صلة الإمام (عليه‌السلام).

أقول : قريب منه غيره وإنّه من باب التطبيق وذكر بعض المصاديق وقد تقدم في التفسير ما يتعلّق به أيضا.

القرطبي عن زيد بن أسلم قال : «لما نزل : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) قال أبو الدّحداح : فداك أبي وأمي يا رسول الله إنّ الله يستقرضنا وهو غنيّ عن القرض؟! قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : نعم يريد أن يدخلكم

١٣٥

الجنة به ، قال : فإنّي أقرضت ربّي قرضا يضمن لي به ولصبيتي الدحداحة معي الجنة. قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : نعم ، قال : فناولني يدك فناوله رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : يده فقال : إنّ لي حديقتين إحداهما بالسافلة والاخرى بالعالية ، والله لا أملك غيرهما قد جعلتهما قرضا لله تعالى. قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : اجعل إحديهما لله والأخرى دعها معيشة لك ولعيالك. قال : فأشهدك يا رسول الله أنّي قد جعلت خيرهما لله تعالى وهو حائط فيه ستمائة نخلة قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : إذا يجزيك الله به الجنة. فانطلق أبو الدحداح حتّى جاء أم الدحداح وهي مع صبيانها في الحديقة تدور تحت النخل. فأنشأ يقول :

هداك ربّي سبل الرشاد

إلى سبيل الخير والسداد

يبني من الحائط بالوداد

فقد مضى قرضا إلى التناد

أقرضته الله على اعتمادي

بالطوع لا منّا ولا ارتداد

إلا رجاء الضّعف في المعاد

فارتحلي بالنفس والأولاد

والبر لا شك فخير زاد

قدّمه المرء إلى المعاد

قالت أم الدحداح : ربح بيعك بارك الله لك في ما اشتريت ثم أجابته أم الدحداح وأنشأت تقول :

بشّرك الله بخير وفرح

مثلك أدّى ما لديه ونصح

قد متع الله عيالي ومنح

بالعجوة السوداء والزهو البلح

والعبد يسعى وله ما قد كدح

طول الليالي وعليه ما اجترح

ثم أقبلت أم الدحداح على صبيانها تخرج ما في أفواههم وتنفض ما في أكمامهم حتّى أفضت إلى الحائط الآخر فقال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : كم من عذق رداح ودار فياح لأبي الدحداح».

أقول : روي ذلك بطرق متعددة وفي بعضها قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله) :

١٣٦

«كم من عذق مدلل لأبي الدحداح في الجنة» ويدل عليه قوله تعالى : (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ) وأما أمر رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، بإبقاء إحدى الحديقتين على ملك أبي الدحداح لأنّ البذل على العيال أيضا صدقة لله لئلا يصير أبو الدّحداح عالة على الغير وذلك مذموم في الشرع المقدس.

١٣٧

بحث عرفاني

تقدم أنّ الله جلّ جلاله محيط بما سواه إحاطة واقعية قيوميّة بالقدرة التامة والحكمة البالغة والعلم الأكمل الأتم لا يعزب عنه شيء في السّموات ولا في الأرض ، ومن أهم جهات إحاطته السلطة على كلّ ما يضاف إليه عزوجل ولا يعقل بينونة عزلة له مع خلقه.

فسبيل الله تعالى لا بد أن يرجع إلى علمه وحكمته وهما عين ذاته الأقدس بالوجود العلمي الواقعي ، وإن كان بالوجود الخارجي قتل العدو أو الظالم أو المنافق أو الكافر ، وإماطة الأذى عن طريق العابر فإنّ كلّ ذلك من سبيله عزوجل بالوجود العلمي وإن كان فعلا خارجيا للعبد والجزاء على ذلك كلّه من شؤون ذاته المقدّسة لأنّه يرجع إلى رحمته وهي من صفات الذات وكيف تعقل غفلته تعالى عن ذلك لا سيّما في مثل هذه الحياة التي لا يمكن درك حقيقتها ، واستقراض هذا الحيّ القيوم والقبض والبسط بالنسبة إليه.

وكذا جميع ما يتعلق به من أهم جهات رحمته وحنانه وحكمته وكل ذلك من صفات الذات وجامعيته لتلك الكمالات غير المتناهية فلا بد أن يكون المتوجه إلى الله تعالى متوجها إلى هذه الجهات ، فإنّه لا يفني نفسه بالقتال ولا ينعدم عنه المال بل يتحوّل في جميع ذلك إلى أحسن الأحوال وينكشف عنه الغطاء ويرى ذلك في الحال والمال. وقد أخبر سبحانه وتعالى أنّ الكلّ يرجع إليه بجميع شؤونه وحيثياته لفرض كون مبدإ عملهم منه وهو تعالى هو المبدئ المعيد فلا بد في قوس الصعود من رجوع الشيء إلى مبدئه.

١٣٨

سورة البقرة

الآية ٢٤٦ ـ ٢٥٢

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٢٤٦) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٤٧) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٤٨) فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٢٤٩) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٥٠) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٢٥١) تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢٥٢))

١٣٩

الآيات الشريفة نزلت عقيب الأمر بالقتال والترغيب إلى القرض الحسن وبذل النفس والمال في سبيل الله تعالى وإقامة الحق وتبيّن موردا خاصا مما يمكن أن ينطبق عليه ما ورد في الآيتين السابقتين من جميع الجهات التي بينها سبحانه وتعالى.

فترشد الآيات المباركة إلى ما للقتال من الدخل في النظام الاجتماعي والتربوي والديني ، وما يترتب عليه من السعادة إن كان في سبيل الله تعالى والدفاع عن الحق وهي تبيّن الشروط التي لا بد من توفرها في متولّي الأمر وهي العلم والصحة والإيمان وبعض الصفات التي لا بد من أن تتحلّى بها الأمة وهي الإيمان والجرأة والتوكل وعدم مخالفة القائد ونبذ الضعف والجبن.

وبيّن سبحانه أنّ باجتماع تلك الشروط والصفات تتحقق السعادة والوصول إلى الكمال والقرب إلى التأييد الإلهي والنصر.

وهذا الذي ذكره سبحانه هو قصة قوم من بني إسرائيل طلبوا من نبيّ لهم أن يبعث لهم قائدا يقودهم إلى الدفاع عن النفس والرجوع إلى الوطن والأهل بعد أن اجتمع رأيهم على ذلك وقد وعدهم نبيهم بالنصر إن هم وفوا بما عاهدوا عليه ، ولكن وهن عزمهم وانفسخت إرادتهم وانعدم فيهم الثبات والاستقامة إلا قليلا منهم ممن ألهمهم الله تعالى الرشد والصواب فبلغوا النصر.

وإنّما ذكر سبحانه هذه القصة ، ليعتبر بها من بعدهم من الأمم ويسيروا على هدى القرآن حتّى يصلوا إلى ما كتبه لهم من النصر والسعادة.

وقد ذكر سبحانه في هذه الآيات كل ما له دخل في القيادة الصحيحة والنظام الاجتماعي السعيد.

١٤٠