مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة أهل البيت (ع)
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥١٦

القوم الكافرين.

ومن الآية المباركة يستفاد أنّ شرط قبول العمل هو الإخلاص فيه لله تعالى. وأنّ الرياء من الموبقات التي تهدم الأعمال وتجلب الشقاء وتزيل الآثار.

٢٦٥ ـ قوله تعالى : (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ).

الإنفاق : العطاء. وابتغاء منصوب على المصدر ، وتثبيتا عطف عليه ، والجار والمجرور مفعول لتثبيت.

وقيل : إنّ «من» نشوية ، وأنفسهم في معنى الفاعل و (ما) في معنى المفعول مقدّر وتثبيتا منصوب على التمييز وهناك وجوه أخرى في إعراب هذه الجملة مذكورة في محالّها.

ومرضاة مصدر من رضى يرضى ، وابتغاء مرضاة الله أي : طلب ما فيه رضاء الله تعالى ، وإنّ رضاه ثوابه وسخطه عقابه ، وفي الدعاء المأثور : «أللهم إنّي أعوذ برضاك من سخطك ، وبمعافاتك من عقوبتك ، وأعوذ بك منك ، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» والرضاء والسخط من صفات الفعل لا من صفات الذات إلا إذا رجعا إلى علمه.

وتثبيتا من أنفسهم أي : بقوة اليقين واطمينان القلب بأنّهم يجدون ضعف ما أنفقوا ويمكنون أنفسهم من طاعة الله تعالى.

والمعنى : إنّ الذين يبذلون أموالهم يطلبون بذلك مرضاة الله تعالى بجدّ واهتمام من دون تقصير منهم فيه ويحصل ذلك بعزيمة ثابتة في أنفسهم من دون أن يعترضهم وهن ولا يتخلّل غير مرضاته تعالى في البين بوجه من الوجوه لا منّا ولا أذى ولا رياء ونحو ذلك من الخطرات القلبية والحركات الخارجية التي تنافي الخلوص. وإنّ غاية مراتب الخلوص والإخلاص هي أن لا يكون شيء سوى مرضاة الله ، لأنّ مرضاته غير محدودة بحدّ خاص إلا بالأمر العدمي أي عدم إذنه فيه.

٣٦١

قوله تعالى : (كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌ).

الجنة : البستان الكثير الشجر ، لأنّها تجنّه أي : تستره ، والربوة ـ مثلّث الفاء ـ : المحلّ المرتفع ، والطلّ : صغار المطر ، والأكل ـ بالضم ـ جمع أكلة : ما يؤكل من الشيء.

وإنّما شبّه سبحانه وتعالى بالجنة التي فوق الأرض المرتفعة لأنّها أزكى ثمارا وأعظم نماء وأنقى هواء وأبهج منظرا وأبعد عمّا يضر بالأشجار من المياه العفنة وفساد المستنقعات ، فإذا أصاب هذه الجنة المطر الغزير كانت أسرع نموّا ، وأحسن تنمية وأكثر ثمرا مثلا ما تكون في سائر الجنان وأجودها ، وكذا لو أصابها مطر ضعيف فإنّ الأثر فيها كذلك لكرم منبتها وجودة مغرسها ، وحسن موقعها.

والغرض من المثل بيان أنّ الأثر يترتب على الإنفاق في مرضاة الله تعالى من دون أن يتخلّف كمثل الجنة التي فوق الأرض المرتفعة إذا أصابها المطر فإنّه يجنى ثمارها بأحسن وجه كذلك الإنفاق في مرضاة الله تعالى فإنّ آثاره حسنة لاتصاله بالله تعالى فتشمل عنايته له وقبوله عزوجل له بأحسن قبول وخيره دائم وبره أبدي لا يزول وإن كان مختلفا باختلاف مراتب الخلوص والإخلاص ، ولكن أصل الإنفاق محبوب لديه لكونه في مرضاة الله تعالى وخلوصه عما يشينه ويفسده.

قوله تعالى : (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).

أي : والله يعلم نيات عباده ومراتب إنفاقهم بصير بأفعالهم فهو يجازي كلّ فرد حسب مراتب الخلوص والإخلاص لا يشتبه عليه أمرهم ، وفيه تأكيد على اختلاف مراتب الثواب تبعا لاختلاف مراتب النيات ، وتحذير للمنفقين من الرياء والنوايا الباطلة فإنّ الله بها عليم.

وفي هذه الآية الشريفة كمال الاهتمام بأمر الإنفاق وشدة العطف بالمنفقين ، تبتهج إليها النفوس ، وتشعر بالطمأنينة والراحة حين الإنفاق

٣٦٢

الصحيح الذي ينبغي اتباعه في هذا الأمر العظيم الذي قلّما يخلو من شوائب المادة والأوهام الفاسدة.

٢٦٦ ـ قوله تعالى : (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ).

هذا مثل آخر ضربه الله تعالى لمن ينفق ثم يتبعه بما يفسده ويحبطه.

والآية الشريفة تمثل حقيقة الأعمال والنيات بكلمات يتلألأ منها النور كأشعة الشمس في ظلماء الديجور تبتهج لها القلوب الواعية وتلتذ منها الآذان السامعة ترشد الإنسان إلى الحقيقة والواقع وتهديه إلى ما هو الأرشد والأصلح ، وتبيّن تأثير الأفاعيل المفسدة والنيات الباطلة في النفوس والأعمال ، وتحثه على التفكر والتمييز بين النافع والضار.

والود : المحبة ، وقد وردت هذه المادة في القرآن الكريم كثيرا ، والودود من أسماء الله الحسنى ، فإنّه الغفور الودود ، ويصح إضافته إلى الله تعالى وإلى خلقه.

والاستفهام لإنكار وقوع ود الإنسان لما ذكر في الآية الشريفة وكيف يود ذلك؟!!.

والنخيل جمع نخل أو اسم جمع يذكر ويؤنث وهو شجر التمر والأعناب جمع عنب وهو ثمر الكرم ، وإنّما خصّهما بالذكر لجمال منظرهما وكثرة نفعهما و «من» تكون بيانية ، تبيّن أنّ الغالب في الجنة هو النّخل والكرم وفيها أيضا من كلّ الثمرات.

وقوله تعالى : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) كناية عن وفور المياه وكثرة الأشجار والتفاف أغصانها بحيث تكون الجنة ذات بهجة وسرور دائمة السقي والنضارة والأثمار.

والكبر هو الشيخوخة ، والذرية الأولاد ، والضعفاء جمع الضعيف والإعصار ريح شديدة تنبعث من الأرض نحو السّماء عموديا تسمّيه العامة (الزوبعة).

٣٦٣

والمثل يبيّن شدة الاحتياج وغاية الانقطاع ، ومنتهى الأمل والرجاء فإنّ الإنسان إذا كبر وشاخ احتاج إلى غيره في رفع نوائبه وقضاء حوائجه وليس له غير تلك الجنة التي قد عقد عليها آماله ويرتجى منها كلّ شيء وله من الذرية الضعفاء الذين لا يقدرون على العمل ولا يستطيعون الكسب والقيام بأيّ شأن من الشؤون فهم عالة عليه ففي مثل هذه الحالة يأتي على جنته الإعصار فيحرقها ويبدد آماله وينقطع رجاؤه فلا يقدر هو وذريته على شيء.

وقد جمع سبحانه في هذه الآية الشريفة جميع ما يوجب الانقطاع والحاجة ، وانعدام المعين والناصر ، والأمل الكبير ، فلو كان صاحب الجنّة شابا أو شيخا وحيدا ليس له ذرية أو كان معه ذرية أقوياء يمكنهم القيام بشؤونهم لما أفاد ذلك تلك الصورة التي تحصل من الآية الشريفة.

ووجه التمثيل أنّ الذي ينفق أمواله يعقد عليه آماله في الحصول على ما يترتب عليه من الآثار في الدنيا والآخرة فإذا عقّب إنفاقه المنّ أو الأذى أو سائر ما يوجب حبطه فإنّها تحرقه ويذهب هدرا لا يجني منه شيئا مع شدة احتياجه إلى ثمراته.

قوله تعالى : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ).

أي : كذلك يرشدنا الله تعالى إلى كشف الحقائق وبيان الدقائق.

قوله تعالى : (لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ).

رجى منهم التفكر في حالهم لأنّ الإنسان قرين الشهوات والأوهام لا تدع فيه مجالا للتفكر والرجوع إلى الرشد فلا بد من تثبيت النفس والعزيمة عند العمل والإخلاص لله تعالى.

وهذه الآية المباركة تبيّن حقيقة ما عليه الدنيا والآخرة فإنّ الأولى تكون زائلة فانية يعتريها الفساد والتبدل والانقضاء والانصراف فهي كبرق خاطف أليف الهم والغم بخلاف الثانية فإنّها دار أنس ومقام لا يفنى نعيمها ولا تنعدم

٣٦٤

بركاتها ولا بد من التأمل والتفكر فيما يؤول إليه الإنسان والتبصر في الأمور ، والاعتبار من الدنيا وما فيها ليفوز بالسعادة في الدارين.

٢٦٧ ـ قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ).

الآية المباركة تبيّن نوع المال المنفق به وأوصافه فاعتبر سبحانه أن يكون من الطيبات التي يرغب إليها الناس وتستلذها النفس لا أن يكون من الخبيث الذي يتنفر منه الطبع ويستكرهه الإنسان ، وهذا وإن كان وصفا للمال في المقام ولكنّ الآية تربط ذلك بالجانب الأخلاقي فتجعله من مكارم الأخلاق ، وهذا هو دأب القرآن الكريم إذا أراد التأكيد على أمر والاهتمام به وتهذيب النفس وترويضها على التحلّي بمكارم الأخلاق ، فإنّ الإنفاق من الطيّب أمر مرغوب فيه عند العقل والعقلاء والآية الشريفة ترشد إلى هذا الأمر العقلي ، ويجهد كلّ فرد في تحصيل الطيبات والاحتفاظ بها والله تعالى أمرنا بالإنفاق من هذه الطيبات دفعا لرذيلة الشح الكامن في النفس الإنسانية والاجتناب عن اللؤم والخساسة وهو الكمال الذي يطلبه الإنسان في جهده وعمله.

ومن هنا يظهر الجانب الأخلاقي في هذا الحكم الإلهي.

والطيّب معروف وهو يعرف تارة : بالمعنى الثبوتي أي ما تستلذه النفس والحواس ، وأخرى : بالمعنى العدمي أي ما ليست فيه منقصة أو غير الرديء ، وله مراتب كثيرة تختلف باختلاف الأعصار والأمصار ، كما أنّ له استعمالات متعدّدة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة ، ويستعمل في الجواهر والأعراض والذوات ، ولكن لم أجد ـ في ما تفحصت عاجلا ـ إطلاق لفظ الطيّب على الله جلّ جلاله ، ولعلّ الوجه في ذلك استعماله في الجسمانيات ، وهو تعالى منزه عنها.

وما كسبتم أي : ما حصل لكم من الأموال بسبب التجارة وغيرها وما أخرجه الله تعالى من الأرض من النبات والمعادن ونحوهما.

قوله تعالى : (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ).

التيمم : هو القصد إلى الشيء وعمده ولم يستعمل لفظ التيمم في

٣٦٥

القرآن الكريم إلا في ثلاثة موارد أحدها المقام ، والآخران في الطهور بالصّعيد قال تعالى : (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) [المائدة ـ ٦].

ومادة خبث تأتي بمعنى الرديء المنفور ، والخبيث مقابل الطيّب وهو يعم الجواهر والأعراض والذوات قال تعالى : (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ) [إبراهيم ـ ٢٦] ، فيستعمل في الاعتقاد أيضا قال تعالى : (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ) [آل عمران ـ ١٧٩] ، وفي الدعوات المأثورة «أعوذ بالله من الخبيث المخبث الشيطان الرجيم» فالمادتان في الخبيث والطيّب متقابلتان في جميع المراحل والصور والعوالم ، وفي أية نشأة وجدتا ، ويرجع ذلك إما إلى اختلاف الذوات أو إلى تقدير العزيز العليم ، لكن على نحو الاقتضاء لا العلية التامة كما ذكرنا مرارا.

والمعنى : لا تقصدوا الرديء المنفور مما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض فتخصّوه بالإنفاق وتعرضوا عن الطيّب.

قوله تعالى : (وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ).

الواو للحال ، والجملة حال عن فاعل تنفقون ، والعامل فيه الفعل ، وأن في موضع النصب.

والآية المباركة ترجع الموضوع إلى وجدان المنفقين لتوضيح الأمر ورفع المغالطة في مصاديق الخبيث ولتثبيت الحكم والتحريض على ترك ذلك والتوبيخ لمن يفعله.

ومادة (غمض) تأتي بمعنى وضع أحد الجفنين على الآخر ، وتستعمل في التغافل والتساهل أيضا وفي الحديث : «أصبت مالا وأغمضت في مطالبه» أي : تساهلت في حلاله وحرامه ـ كما هو عادة أهل هذا الزمان ـ ولم تستعمل هذه المادة في القرآن العظيم الا في هذه الموارد.

٣٦٦

والمعنى : إنّكم لا تأخذون الخبيث ولا ترضون به لأنفسكم الا أن تتغافلوا عن خبثه وتتساهلوا في رداءته وهذا ليس من الأخلاق الكريمة والإنسان بإعطائه لا يتصف بالجود والسخاء كما أنّه ليس كمالا أن يأخذ الشيء الرديء فإنّه ليس من المعروف المحبب.

قوله تعالى : (وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ).

أي : والله غنيّ منزه عن النقائص محمود على أفعاله وآلائه فلا ينبغي أن تتقربوا إليه بالخبيث.

وفي الآية المباركة تحذير عن أن يدنس ما يراد به وجه الله جلّ جلاله بالمعايب الظاهرية والنقائص الواقعية. ويقصد به ما يتنزل عن مقام الأحدية المطلقة ، فكما أنّ الذات المقدّسة وأفعاله المباركة منزهتان عن شائبة النقص والشرك لا بد أن يكون ما يقصد به وجهه الأقدس كذلك أيضا ، فينبغي مراقبة النفس والأفعال حينئذ.

٢٦٨ ـ قوله تعالى : (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ).

الفقر : الحاجة ولكنّه يستعمل على أقسام.

الأول ـ الحاجة الضرورية الفعلية ، وهي عامة لجميع الموجودات الممكنة لأنّ كلّ ممكن محتاج وكلّ محتاج ممكن قال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) [فاطر ـ ١٥] ، وقال تعالى في وصف الأنبياء : (وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ) [الأنبياء ـ ٨].

الثاني : عدم المقتنيات وهو المراد بقوله تعالى : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ) [التوبة ـ ٦٠] ، وغيره من الآيات.

الثالث : فقر النفس الذي أشار إليه نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في قوله : «كاد الفقر أن يكون كفرا» وهو في مقابل غناء النفس الذي هو من أجلّ الصّفات وأكملها.

الرابع : الفقر إلى الله تعالى وهو أرفع المقامات وأعلى الدّرجات فعن

٣٦٧

سيد الأنبياء في كلمته المباركة التي جمعت فيها أبواب من المعارف «اللهم اغنني بالافتقار إليك ولا تفقرني بالاستغناء عنك ويعجبني فقري إليك ولم يكن ليعجبني لو لا محبتك الفقر».

والفقر الذي يعد به الشيطان : هو فقر النفس فيكون الفقر في الدنيا وللدنيا وهو من أقبح الذمائم ومصدر كلّ فحشاء وسوء.

والفحشاء صفة كالسوداء والحمراء ، والفحش والفواحش والفاحشة ما عظم قبحه من الأفعال والأقوال ، ولم يرد لفظ الفحش في القرآن الكريم ، ولعلّه لأجل عظمة قبح هذه المادة لم يبق لها مفردا بذاته بل الفرد الواحد يشتمل على أنحاء من القبح من إيذائه الغير وبذاءة اللسان وقباحة الألفاظ والبيان فيشتمل كلّ فحش على فواحش لا محالة.

والآية الشريفة تبيّن أهمّ المثبطات للإنفاق في سبيل الله تعالى وأكبر الموانع في وجه الخلوص والإخلاص فيه ، وتقيم الحجة على ما ذكر في الآية السابقة فإنّ اختيار الخبيث للإنفاق من تسويلات الشيطان ووساوسه وهو بإغوائه يحرم الإنسان من الفضل العظيم الذي يكون في إنفاق الطيبات.

كما أنّها ترشد الناس إلى حقيقة من الحقائق القرآنية وهي أنّ كلّ ما يوهن عزيمة الإنسان من الأوهام والتخيلات والوساوس النفسانية يرجع إلى إغواء الشيطان سواء كان بواسطة أو بغيرها ، وهي التي تؤكد رذيلة الشح الكامن في كلّ نفس وتورث البخل والإمساك فتؤدي إلى انتهاك أوامر الله تعالى ومخالفتها ، وترجع أخيرا إلى نبذ ما أراده الله تعالى من المصالح في هذا الأمر الخطير المهم بالنسبة إلى الفرد والمجتمع فتختل سعادتهما المرجوة التي كتبها الله سبحانه لهما وتفشو الرذائل والفحشاء ، ولذا أكد سبحانه أنّ الشيطان الذي يغوي الإنسان بإلقاء خوف الفقر في نفسه وإظهار البخل والإمساك والحرص في الإنسان وهي من سفاسف الأخلاق التي تؤدي إلى ارتكاب الفحشاء التي يأمر بها الشيطان والإغواء الذي يطلبه للإنسان ، وهذا هو الضّلال المقابل للحق الذي أمر به الله سبحانه وتعالى فإنّه لا ثالث بينهما ، ولذا عقب سبحانه ذلك بقوله : (وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً) لبيان أنّ هذا هو الحق الصالح وترشدنا إلى ما هو الخير

٣٦٨

للإنسان دون ما يريده الشيطان.

والشيطان ـ سواء كانت نونه أصلية أو زائدة من شاط ـ معروف في جميع الملل والأديان وهو اسم لذلك المخلوق الناري الذي هو مثال لكلّ شرّ ورذيلة مهلكة والمعاصي الموبقة ، ويطلق على كلّ غاو من الجن والإنس والحيوان ، وله وجود جمعي وانبساطي مضل للإنسان كما نطق به الكتاب العزيز في مواضع كثيرة منه قال تعالى : (إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً) [الإسراء ـ ٥٣] ، ولكن بالعقل وجنوده يمكن إرغامه والتغلب عليه فهو وجنوده يضادان الشيطان وينافيانه في جميع الشؤون والحالات وهو في المنطقة السّفلى ، والعقل وجنوده في المنطقة العليا وبينهما الخصام الشديد والنزاع الأكيد في جميع الأطوار والحالات حتّى يفرّق الله تعالى بينهما بالموت ، فإنّ الشيطان مرجوم في غير هذا العالم وليس له سلطان فيه ، ولذا كانت الدنيا سجن المؤمن ودار البلية ولا سجن أعظم ولا بلية أشد من الابتلاء بهذا الخبيث وسيأتي في الموضوع المناسب الكلام في الشيطان مفصّلا إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى : (وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً).

الوعد من الإنشاء لا من الإخبار فلا يتصف بالصدق والكذب بل يتصف بالوفاء به وعدمه وهو المراد بصدق الوعد وكذبه. ويستعمل في الخير والشر ولكن الإيعاد يستعمل في الشرّ فقط.

ومادة (غفر) بمعنى صون اللباس عن الدنس والوسخ قالوا : غفّر ثوبك في الوعاء واصبغ ثوبك فإنّه أغفر للوسخ. وغفران الله ومغفرته للعبد هو صونه عن العذاب.

والفضل الزيادة عن الاقتصاد ، ويختلف في المدح والذم باختلاف متعلّقه ففضل العلم والحلم ممدوح ، وفضل الغضب مذموم ، وما كان من الله تعالى فلا حدّ له.

وفي ذكر وعد الله بالمغفرة والفضل مقابل وعد الشيطان بالفقر والفحشاء إرشاد إلى اختيار الإنسان ما هو الأصلح له.

٣٦٩

والمعنى : إنّ الله تعالى يعد الإنسان الذي اختار الطيّب من أمواله لينفقها في سبيل الله المغفرة وغفران الذنوب وزيادة في الثواب والدّرجات ومنه يستفاد أنّ الإنفاق لا يخلو عن العوض.

قوله تعالى : (وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ).

أي : والله واسع غير محدود بحد الإمكان مطلقا ، عليم بجميع الأمور محيط بحقائق الأشياء ودقائقها فوق ما نتعقله من معنى الإحاطة فهو واسع يعطي عباده ما وعدهم به عليم لا يجهل أمورهم.

والواسع من أسمائه المباركة الحسنى وهو كثير الاستعمال في القرآن الكريم موصوفا في مواضع بالعلم وفي اخرى بالحكمة ، ولم أجده فيه وفي الدعوات المعتبرة مطلقا من غير وصف. نعم ، ورد في الأسماء الحسنى «يا واسع» ولا بد من تقييده بما في القرآن ويمكن أن يجعل ذلك ردا لمن يقول بوحدة الوجود والموجود.

إن قيل : إنّ السعة العلمية تستلزم السعة الذاتية أيضا لأنّ علمه تعالى عين ذاته.

يقال : أصل ذلك مبنيّ على وحدة الوجود والموجود مطلقا ، والاشتراك الحقيقي مع التشكيك. وأما مع البينونة أي بينونة صفة لا بينونة عزلة فلا موضوع لهذه الإشكالات أصلا.

وسياق الآية الشريفة في المقام يدل على أنّ المراد سعة الفضل والمغفرة لكن على ما يقتضيه العلم والحكمة لا مطلقا ، فإنّه لا يليق به عزوجل ، وقد شرح ذلك كلّه الأئمة الهداة (عليهم‌السلام) دفعا لهذه الشبهات.

٢٦٩ ـ قوله تعالى : (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ).

الإيتاء : الإعطاء. والحكمة وزان فعلة ومادة (حكم) تدل على المنع الخاص وهو الحاصل عن الإحكام والإتقان. والحكمة هي التي تمنع صاحبها عن القبائح والرذائل اعتقادا وقولا وعملا على نحو تكون محكمة في النفس لا

٣٧٠

يصيبها ضعف ولا فتور غالبة على قوى النفس والإرادة توجهها نحو الخير والسعادة وفي الحديث : «ما من آدمي إلا وفي رأسه حكمة إذا همّ بسيئة فإن شاء الله أن يقدعه بها قدعه» أي تمنع من هي في رأسه من السيئة بنحو الاقتضاء كما تمنع الحكمة الدابة.

ويوصف بها الله تعالى ، فإنّ من أسمائه الحسنى (الحكم) و (الحكيم) وقد ورد في أكثر من تسعين موردا في القرآن الكريم مقرونا إما بالعزيز والعليم أو الخبير أو العليّ ولعلّ ذلك لملازمة حقيقتها فيه تعالى لتلك الصّفات فجيء بها تبيينا وإيضاحا ، كما يوصف بها الإنسان قال تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ) [لقمان ـ ١٢].

وإذا تتبعنا الموارد التي ذكر فيها الحكمة في القرآن الكريم نرى أنّها تذكر تارة مقرونة مع الكتاب قال تعالى : (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) [البقرة ـ ١٢٩]. واخرى بعد ورود جملة من الأحكام الشرعية التي نزلت لتهذيب الإنسان وسوقه إلى الكمال والسعادة كما في سورة الإسراء قال تعالى بعد سرد جملة كثيرة من التكاليف الإلهية والأحكام الفطرية : (ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ) [الإسراء ـ ٣٩].

ويستفاد من ذلك : أنّ الحكمة هي تلك المطالب الحقة التي ترتسم في النفس وتوجب التوفيق بين الاعتقاد والعمل والسوق إلى الكمال المنشود للإنسان ، فتشمل جميع الحقائق الفطرية والأحكام الشرعية والمعارف الحقة التي تتعلّق بالمبدإ والمعاد ، وتشرح الحقائق المتعلقة بالنظام الأحسن من حيث ارتباطه بسعادة الإنسان والتي لا تقبل الكذب والبطلان ، فتكون للحكمة مظاهر كثيرة متفاوتة فتارة تتجلّى في القرآن الكريم الذي هو مصدر كلّ ما يكون في العالم من أنواع الحكمة المتعالية وهي من أشعة هذا النور العظيم وشوارق ذلك النيّر المعظم ، تأخر زمان وجودها أو تقدم لأنّ القرآن من اللوح المحفوظ ، وهو محيط بهذا العالم ، كما أنّ الكتب الإلهية من مظاهر هذا التجلّي الأعظم.

٣٧١

ومن مظاهرها أيضا الدّين ومعرفته والتفقه فيه فإنّ الدّين هو القانون المتكفل لجميع مطالب الإنسان من حين نشأته إلى ما بعد مماته وعن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «إنّ الله آتاني من الحكمة مثل القرآن وما من بيت ليس فيه شيء من الحكمة الا كان خرابا ألا فتعلّموا وتفقهوا ولا تموتوا جهالا».

ومن أجلّ أفراد الحكمة وأعظمها شأنا معرفة الله الواحد الأحد المتفرد الصمد. فهي بحسب المبدإ هو الجهد الأكيد في التصدّي لمرضاة الله الحكيم ، وبحسب الغاية لذة روحانية مفاضة من الغيب العليم ، ويلزم الإحاطة بحقائق الأشياء على قدر طاقة الإنسان ولأجل هذا تطلق الحكمة على تلك المعلومات الحقة الصادقة ويسمّى العارف بها حكيما إلهيّا أو متألها.

وبالجملة : هي الخير الكثير كما وصفها به عزوجل ، وفي الحديث : «إنّ في الجنة دارا ـ ووصفها ثم قال ـ لا ينزلها الا نبي أو صدّيق أو شهيد أو محكّم في نفسه».

ومن الحكمة ما تكون فطرية إفاضية من عالم الغيب ، ومنها : ما تكون اكتسابية تكتسب بالمجاهدات والرياضات الشرعية ، ومنها ما هو مركب منهما.

ومن الحكماء من اجتمع جميع أنواع الحكمة فيه وهم رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه بكلّ معنى الصدق والوفاء ، فشرح الله صدورهم بكلّ معنى الانشراح ، تشتاق إليهم الجنان العاليات وهذه هي إحدى مراتب الحكمة وقس عليها سواها.

ولكن للحكمة مرتبة خاصة محجوبة عن البصائر والأفكار لا تليق الا لمن يقدر على تحمل الأسرار ، ويشهد لما قلناه شواهد من العقل والآثار والأخبار ، كما أنّها ليست منحصرة بالبحث والنظر والفكر فقد تحصل للنفوس المستعدة من إفاضات الباري فعن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «إذا رأيتم المؤمن سكوتا فادنوا منه فإنّه يلقي الحكمة» وعنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «اتقوا فراسة المؤمن فإنّه ينظر بنور الله».

٣٧٢

ولكنّ الأصل في إفاضة جميع أفراد الحكمة والعرفان ومراتبها هو الإخلاص لله جلّ جلاله فعن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «من أخلص لله أربعين صباحا جرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه وأنطق بها لسانه» وعن جمع من أكابر علماء النفس دعوى التجربة في ذلك ، فتكون حقيقة الحكمة ارتباطا خاصا مع عالم الغيب وأما غيرها فهو فنّ وصناعة وهما شيء والحكمة الواقعية شيء آخر.

نعم ، الحكمة تارة تكون علمية واخرى عملية ولا نهاية لمراتبهما اما الثانية فغايتها الرضوان ولقاء الله تعالى ولا نهاية لكلّ واحد منهما وأما الأولى فإنّ غايتها الاستلهام من الغيب وهو غير محدود ، والتحديد إنّما يكون من الممكن المستفيض لا في المبدإ المفيض.

وقال بعض الأعاظم من الحكماء المتألهين : «إنّ غاية ما للإنسان من الكمال هو الاتصال بالعقل الفعال المسيطر على الملك والملكوت تسيطر الروح على الجسد». وهذا صحيح إذا كان المراد بذلك روح القرآن والشريعة الأحمدية المنبعثة عن الحقيقة المطلقة الأحدية لأنّ الإحاطة بالواقعيات صعبة جدّا إن لم تكن ممتنعة مهما بلغت فطنة العقول في الحدة والذكاء والدقة لا سيّما بالنسبة إلى المعارف وأسرار القضاء والقدر التي لا يمكن أن يحيط بها غير علّام الغيوب ، وقد ورد النّهي عن الخوض في جملة منها وأنّه لا يزيد الخوض فيها إلا تحيّرا ، فلا مناص للحكيم الا الوقوف على ظواهر الكتاب والسنة المقدّسة وهي تحتوي على معادن العلم والحكمة والمعارف وما يكفي لتكميل النفوس الناقصة وإيصالها إلى أوج الكمال والمعرفة وهي الحكمة الحقة التي تفيد لجميع النشآت قال تعالى : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام ـ ٢٨] ، أي الكتاب المشروح بالسنة أو السنة الشارحة للكتاب ، وقال تعالى : (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [الأنعام ـ ٥٩] ، وهو مصدر كلّ علم ومعرفة هذا بالنسبة إلى الحكمة العلمية.

وأما الحكمة العملية فلا بد وأن تكون مطابقة للشريعة المقدسة الختمية وإلا كانت لغوا محضا.

٣٧٣

ثم إنّه غلب استعمال الحكمة على الفلسفة المتوارثة عن اليونان وقد اصطلح على قدماء الفلاسفة بالحكماء وقسموهم إلى الإشراقيين والمشّائيين والرّواقيين كما أنّهم قسموا الحكمة الاصطلاحية (الفلسفة) إلى علمية وعملية والثانية عبارة عن علم الفقه والأخلاق وقسموا الفقه إلى العبادات والمعاملات (أي العقود والإيقاعات) والأحكام والسياسات وأنّ بمعرفتها والعمل بها يصل الإنسان إلى مقام الإنسانية والخروج عن حدود الحيوانية البهيمية وبذلك تتم المدينة الفاضلة التي خلق الإنسان لأجل ورودها والاستكمال فيها.

وقسّمت الحكمة العلمية إلى قسمين : الإلهيات والطبيعيات ، ولكلّ واحد منهما فصول وأبواب ، وقد جعل كلّ فصل من فصول الطبيعيات في العصر الحديث علما مستقلا برأسه.

كما أنّ من فصول الفلسفة الإلهية البحث عن كلام الله تعالى من حيث قدمه وحدوثه وكثر النقض والإبرام فيه حتّى جعل ذلك علما مستقلا له أبواب كثيرة وفصول طويلة.

ولكن كلّ من نظر في الحكمة الاصطلاحية يرى أنّها كغبار على اللجين ولو فرض فيها شيء صحيح فهو مستلهم من الوحي المبين أو السنة المقدسة وغيره ليس الا من الأوهام والتخيلات والمغالطات وكلّ واحد منها حجاب عن الوصول إلى الواقع ولذلك كثر الخلاف وقلّ الوصول إلى المراد ، وقد ذكرنا أنّ الحكمة بمعزل عن البطلان والتكذيب ومنزّهة عن جميع ذلك ، وإذا كانت الحكمة ما ذكروه فليست هي الا العلم بالمصطلحات فقط فهي كعلم اللغة مثلا وهي صنعة وفنّ لا تزيد على سائر الصنايع والفنون بل ربما يكون بعضها أفضل منها كما هو المحسوس.

قوله تعالى : (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً).

يؤت مبني للمفعول مجزوم بأداة الشرط ، والحكمة مفعول ثان وإنّما أبهم تعالى الفاعل مع أنّه معلوم مما تقدم وهو الله تعالى لبيان أنّ الحكمة بنفسها منشأ الخير الكثير فالحكمة والخير الكثير مقرونان فمن تلبس بها فقد

٣٧٤

حظي بالخير الكثير فلا يحتاج الانتساب إلى الفاعل في توصيفها به.

وتوصيف الخير بالكثير لبيان أنّ الحكمة من جميع جهاتها خير كثير كما عرفت آنفا فيكون القيد توضيحيا ومن مقومات ذاتها ويشهد لذلك ما نسب إلى عليّ (عليه‌السلام) : «علّمني رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ألف باب يفتح من كلّ باب ألف باب» وعن ابنه الصادق (عليه‌السلام) : «إنّما علينا أن نلقي إليكم الأصول وعليكم أن تفرّعوا».

ويستفاد من الآية الشريفة : أهمية الحكمة وعظيم منزلتها وشرافتها من وجوه :

الأول : ذكرها في سياق فضل الله تعالى وهو واسع عليم.

الثاني : تعليق إتيانها على من يشاء وهم خلّص عباده فيفهم من ذلك أن ليس لكلّ أحد الوصول إليها الا بعناية منه عزوجل.

الثالث : توصيفها بالخير الكثير.

الرابع : الحصر المستفاد من قوله تعالى : (وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) فإنّه يدل على أنّهم المتيقنون من مورد المشيئة لإفاضة الحكمة.

الخامس : ذكرها في القرآن الكريم مقرونا بالتجليل والتعظيم فتكون هذه الموهبة الربانية نصيب من أفنى جميع شؤونه الإمكانية في مرضاة ربه وصار قلبه متيّما بحبه وولها في عظمته ولم يكن له بقاء الا منه تعالى وبه عزوجل. وحينئذ تصير ذاته ونفسه حكمة جوهرية وأعماله حكمة عملية ، وأفكاره حكمة علمية ، وهم الذين ثبت الحق في ضمائرهم ، وازهق الباطل عن سرائرهم ، وانقشعت عن بصائرهم سحائب الارتياب وعن قلوبهم أغشية المرية والحجاب ، ففازوا بالمحل الأعلى ، وحازوا القدح المعلّى ، ونظروا إلى جميع ما سوى الله تعالى بالنظرة الاولى ، وحيث إنّ لهذا المقام مراتب كثيرة من الظهور ، وكلّما كثرت مظاهر الشيء كثرت أسماؤه فقد تكون الحكمة القرآن الذي يعمل به وقد تكون السنة المقدسة والعمل بها ، والعلم بحقايق الموجودات مع الالتفات إليها من حيث المبدأ والمنتهى.

٣٧٥

ومن ذلك يعلم أنّ مجرد العلم بلا عمل ليس من الحكمة في شيء كما عرفت.

قوله تعالى : (وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ).

اللب : هو العقل الخالص أي : إنّ الحكمة لا ينالها الا من كان متذكرا والمتذكر لا يكون الا من كان ذا لب خالص عن شوائب الأوهام والماديات.

ويستفاد من الآية الشريفة : أنّ أجلّ مقامات العقل مقام تذكره عزوجل فينبعث منه العمل بما يرتضيه. وللتذكر مراتب ودرجات وبحسبها تختلف درجات اللب فإنّ بعضها هو العقل والإدراك والشعور والفكر.

٢٧٠ ـ قوله تعالى : (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ).

(ما) موصولة تتضمن معنى الشرط والعائد ضمير محذوف يفسره (مِنْ نَفَقَةٍ). والآية عامة تشمل جميع أنحاء الإنفاق سواء كان قليلا أم كثيرا في الطاعة أم في المعصية ، كان مع الإخلاص أم مع الرياء واجبا كان أو مندوبا.

قوله تعالى : (أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ).

النذر : التزام بعمل لله تعالى على نحو مخصوص ولا ينعقد النذر المشروع الا أن يقول : «لله عليّ» وهو إما مطلق أو مشروط ، من فعل أو ترك ، والفعل يشمل جميع الأفعال الراجحة ، كما أنّ الترك يشمل جميع التروك الراجحة.

وبعبارة اخرى : يشترط أن يكون المنذور طاعة لله تعالى سواء كان فعلا أو تركا.

ولا يختص النذر بالإسلام بل واقع في بقية الأديان والمذاهب قال تعالى حكاية عن مريم ابنة عمران : (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) [مريم ـ ٢٦] ، وقال تعالى حكاية عن امرأة عمران : (رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [آل عمران ـ ٣٥] ، وهذا أيضا عام يشمل جميع أنحاء النذر.

٣٧٦

قوله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ).

جواب للشرط والجملة خبر للموصول والرابط الضمير في «يعلمه» ودخل عليها الفاء لأنّها وقعت جزاء للشرط ، أي : إنّ الله يعلم أعمالكم ونياتكم فيثيب على الطاعة ويعاقب على المعصية ، ويجازي على ما يستحق من الجزاء ولا يخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.

والآية مشتملة على الحث على الطاعة والزجر عن المعصية والمخالفة ففيها وعد ووعيد وأكد الوعيد بقوله تعالى : (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ).

وإنّما عبّر عزوجل بقوله : (فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ) دون سائر التعبيرات لأنّه إخبار عما هو حاصل بالضرورة وكائن لا محالة لأنّ علمه تعالى الأزليّ بجميع ما سواه كلية وجزئية يمتنع أن يزول ، وأما غيره من القبول والثواب فهما مترتبان على امور اخرى ربما لا تتحقق ، فليس كلّ معلوم له تعالى مقبولا لديه.

قوله تعالى : (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ).

أي : إنّ الظّالمين في إنفاقهم ونذرهم بأن لا يكون في مرضاة الله تعالى ليس لهم أنصار ينصرونهم ولا معين لهم يستعان به سواء في الدنيا أو في الآخرة ، فإنّ المال إنّما يقي الإنسان ويفتدى به عنه إذا كان صرفه وإنفاقه في سبيل الله تعالى وفي مرضاته والا كان هدرا وعلى المنفق حسرة ، وأما الشفعاء فإنّما تنصر الإنسان إذا كان مرضيا عند الله تعالى والمنفق في غير مرضاة الله تعالى لم يكن كذلك والآية المباركة نظير قوله تعالى : (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) [غافر ـ ١٨].

كما أنّ الآية الشريفة تدل على أنّ الإخلال في الإنفاق أو تركه من الظلم الذي لا يقبل التكفير لأنّه في حقوق الناس وهو لا يقبل التوبة والتكفير الا برد الحق إلى أهله.

ومن ذلك يستفاد الوجه في إتيان الأنصار بصيغة الجمع ، فإنّ جميع أفراد الأنصار منفية عن الظالم في حقوق الناس ما لم يرد الحق إلى صاحبه.

٣٧٧

٢٧١ ـ قوله تعالى : (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ).

مادة (ب د ا) تأتي بمعنى ظهور الشيء ظهورا بينا ، ولها استعمالات كثيرة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة قال تعالى : (وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا) [الزمر ـ ٤٨] ، وقال تعالى : (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) [الزمر ـ ٤٧] ، ومنها البدو في مقابل الحضر قال تعالى : (وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ) [يوسف ـ ١٠٠] ، وهو في مقابل الإخفاء ، قال تعالى : (بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ) [الأنعام ـ ٢٨] ومنه :

باسم الإله وبه بدينا

ولو عبدنا غيره شقينا

وحبذا ربّا وحب دينا

والإبداء والإخفاء من الأمور النسبية الإضافية ويصح اجتماعهما في شيء واحد من جهتين.

والصدقات جمع الصّدقة وهي في الأصل : كلّ ما يخرجه الإنسان من ماله على وجه القربة ، وهي أعمّ من الواجبة والمندوبة ، وربما تطلق على كلّ معروف يترتب عليه الخير ومنه قول نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «كلّ معروف صدقة» فتعم المال والأقوال والأفعال الحسنة.

وحيث إنّ الصّدقة ـ أي : المال الذي ينفق في سبيل الله تعالى ـ خير محض لا بد أن تصرف فيما أذن فيه الله جل جلاله ، وقد أذن عزوجل في موارد ثمانية قال تعالى : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [التوبة ـ ٦٠] وهذه الموارد الثمانية تختلف إبداء وإظهارا فإنّ الصرف على الفقراء لا يكون فيه إبداء غالبا لا سيّما إذا كان الفقير من الذين يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف ، وأما الصّرف في سبيل الله فيلازمه غالبا الإظهار والإعلان.

٣٧٨

والمستفاد من الكتاب الكريم والسنة المقدّسة أنّ الصّدقات مطلقا إنّما شرّعت لأجل الصرف على الفقراء ، فهم الأصل في تشريعها ، وتقتضيه القاعدة العقلية وهي (تقديم الأهم على المهم).

والصّدقات مطلقا ـ واجبة كانت أو مندوبة ـ متقوّمة بقصد القربة فإذا لم يرد بها وجه الله تعالى فهي باطلة لا ثمرة لها ولا تبرئ الذمة لو كانت من الواجبة وقد عرفت سابقا أنّ الإضافة إليه عزوجل في كلّ عمل هي بمنزلة روح ذلك العمل ولا أثر لجسد إذا فقد منه الروح.

ونعمّا هي أي نعم شيء هي ، وهو ثناء على إبداء الصدقة ، وقد اختلف في قراءتها فالمشهور قراءتها بكسر النون والعين ، وقرأ بعضهم بكسر النون وسكون العين «فنعما». وقرأ ثالث بفتح النون وكسر العين (فنعمّا).

وما في (نعمّا) في موضع نصب ، وقيل «هي» تفسير للفاعل المضمر قبل الذكر فالفاعل هو الإبداء ثم حذف وأقيم ضمير الصدقات مكانه ولكنّه لا يخلو عن تكلّف بل الفاعل نفس الصدقة أي : الصّدقة نعم الشيء في ذاتها فيكون الإبداء والإخفاء من عوارضها التي لا تغيّر وجه الحسن في نفس الذات ما لم يطرأ عليها ما يبطلها.

وكيف كان ففي الآية الشريفة ثناء على إبداء الصّدقات وأنّ الإبداء لها لا يذهب آثارها إذا كانت لوجه الله تعالى ما لم يعرض عليها ما يبطلها كالرياء والمنّ والأذى لأنّ صدقة العلن أكثر نتاجا وأبعد أثرا.

قوله تعالى : (وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ).

لأنّ الإخفاء أقرب إلى الإخلاص وأبعد من الرياء وفيه حفظ عزة الفقير وإكرام له وتقدم سابقا أنّ الإسلام إنّما يراعي في جميع التكاليف جانب الخلوص والإخلاص فكلّما كان الشيء أقرب إلى الإخلاص كان أهمّ وأعظم وأظهر ولذا كانت صدقة السرّ أفضل من صدقة العلن مطلقا وخيرا منها وفي الحديث : «إنّ صدقة السرّ تطفي غضب الرب» وسيأتي في البحث الروائي ما يدل على ذلك.

٣٧٩

وإنّما قدم تعالى الإبداء على الإخفاء لأنّه الغالب في صدقات الناس والموافق لطبائعهم والإخفاء إنّما هو حظ الخواص بل أخصهم ولذا كان الترغيب عليه أكثر.

ويستفاد من قوله تعالى : (وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ) ما ذكرنا آنفا من أنّ الأصل في تشريع الصّدقات الفقراء ، وإنّما ذكرهم في خصوص الإخفاء لأنّ فيه حفظ كرامتهم خصوصا حرمة المتعفف ومن ذلك يعرف أنّ كلمة «خير» أفعل التفضيل وقيل : إنّها اسم وليست بمعنى التفضيل فيتساوى حينئذ الإبداء والإخفاء ، ويصح الاختلاف باختلاف الخصوصيات.

قوله تعالى : (وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ).

أي : إنّ الإخفاء في الصدقات سبب لأن يمحو الله تعالى بعض ذنوبهم. ويمكن أن يجعل ترتب تكفير السيئات بالنسبة إلى كلّ واحد من الإبداء والإخفاء فإنّ الصدقة بنفسها من موجبات التكفير.

وإنّما ذكر «من» التبعيضية لأنّ الصدقة لا تكفّر جميع الذنوب بل بعضها لا تكفر الا برد الحق إلى صاحبه كما عرفت.

قوله تعالى : (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ).

أي : والله خبير بأعمال العباد ونياتهم لا يخفى عليه شيء لفرض أنّ جميع ما سواه تحت إحاطته وقيوميته وربوبيته العظمى لا يعزب عن علمه شيء في الأرض ولا في السّماء وكيف يغيب عنه شيء وهو الشاهد الحاضر.

٢٧٢ ـ قوله تعالى : (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ).

التفات عن خطاب المؤمنين إلى خطاب الرسول تسلية لقلبه الشريف عما كان يشاهده من بعضهم في أمر الإنفاق والصّدقات فأبلغه عزوجل بأنّه ليس عليك إيصالهم إلى الحق المطلوب ولم تكن أنت مسئولا عن ذلك فهو الذي يهدي من يشاء في أصل التوفيق وإنّما عليك البلاغ فلا تحزن على ما يصدر عنهم ولا يضيق صدرك بأفعالهم وهو الحريص على هداهم.

٣٨٠