مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة أهل البيت (ع)
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥١٦

لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [فصلت ـ ٥٣].

الثالث : يستفاد من قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ) أنّ هذه المحاجة وقعت بعد أن رباه الله تعالى وأوصله إلى مقام حق اليقين وعين اليقين فكانت بعد اصطفائه (عليه‌السلام) لمقام الخلة وبعد كسر الأصنام وإراءته ملكوت السّموات والأرض وكان في بهت هذا الجبار بمثل هذا القول المختصر المختار سرّ ملكوتيّ إلهيّ وشروق نور غيبيّ إلى قلب أصفى من اللّجين وأحب الأنبياء من قرة عين.

ولعلّ الوجه أيضا في اختصاص الرب بالذكر دون غيره من الأسماء الحسنى والصّفات العليا أنّ المحاجة إنّما كانت في تدبير العالم وتربيته فكان نمرود يدعي ذلك لنفسه وإبراهيم (عليه‌السلام) يثبته لله تعالى وينفيه عن غيره ، ولذلك استشهد ببعض الحوادث مثل إحياء الموتى وشروق الشمس.

الرابع : إنّما خص الشمس بالذكر لأجل أنّها كانت من جملة المعبودات عندهم كما يظهر من قصته (عليه‌السلام) مع قومه في الرجوع إلى القمر والشمس ، ولبعد هذه الحجة عن التمويه والمغالطة كما فعل نمرود في الحجة الأولى ، ولأنّ إبراهيم (عليه‌السلام) كان يعلم أنّ نمرود لا يسعه إنكار هذه الحجة والادعاء بأنّ ذلك من شأن الطبيعة العمياء وأن يقول بأنّ من يدعي الربوبية لنفسه لقادر على أن يتصرّف في الطبيعة فبهت في أول وهلة.

الخامس : يظهر من قوله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ) أنّه ليس من المحالات الذاتية والا لما طلبه إبراهيم (عليه‌السلام) لإمكان أن يدعي الخصم أنّه من المحال الذاتي ويدل عليه أيضا ما ورد في السنة المقدّسة في علائم ظهور رجل من ذرية خليل الرّحمن الذي يلف لواء ختم الوصاية وينشر لواء القسط والهداية أنّ الشمس تطلع من مغربها.

السادس : يستفاد من قوله تعالى : (أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ) أنّ سبب طغيانه ودعواه أن رأى لنفسه الملك والسلطة والنفوذ الذي أنعمه الله عليه والا فليس له من دونه شأن يذكر ، ولذا لم يذكر الله تعالى اسمه تحقيرا له. هذا إذا رجع

٣٢١

الضمير في (آتاهُ) إلى نمرود.

وأما إذا رجع الضمير في (آتاهُ) إلى إبراهيم (عليه‌السلام) فيكون السبب في المحاجة والطغيان أن رأى ما وهبه الله تعالى لإبراهيم من الملك والحكمة.

السابع : يدل قوله تعالى : (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) على أنّ العلة في عدم الهداية هي الظلم ، فإنّ تعليق الحكم على الوصف مشعر بالعلية.

ويصح أن يكون قوله تعالى : (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) من قبيل نفي الحكم بلسان نفي الموضوع يعني : أنّ من جحد الحق بعد ظهوره لديه ووضوحه عنده وصيرورته مبهوتا لا يكون قابلا للهداية وله نظائر كثيرة في القرآن الكريم فيكون مثل قول القائل : «ليس للظلمة ضياء ونور».

الثامن : يستفاد من قوله تعالى : (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) أنّ المار على هذه القرية قد أبدى إعجابه عن كمال قدرته جلّت عظمته ونهاية اقتداره فيكون اعترافا بالحيرة وعدم الإحاطة بالخصوصيات والجهات إلا لله تعالى فقط كما في قوله تعالى : (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) [الرّعد ـ ٥] ، وتعجب الأنبياء وأولياء الله تعالى من هذا القسم وليس هو من التعجب الإنكاري الشايع بين الناس ، ويدل على ما ذكرناه في ذيل الآية الشريفة : (قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

التاسع : إنّما أبهم سبحانه وتعالى اسم القرية واسم النبيّ الذي مرّ عليها بل وزمان القصّة لأنّ المراد إظهار القدرة التامة وأنّها غير مختصة بوقت دون آخر أو بمكان دون آخر والأسلوب البلاغي يقتضي عدم ذكر جهات القصة غير الدخيلة بالمقام استعظاما له واستضعافا لغيره.

وذكر بعض المفسرين : أنّ المراد بالقرية أهل القرية كقوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها) [يوسف ـ ٨٢] ، ولكنه مردود بما ذكرناه.

العاشر : يحتمل أن يكون قوله تعالى : (لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) بيانا لقصر المدة التي لبث فيها بعد أن رأى الآيات أو إشارة إلى عظم الآيات التي

٣٢٢

رآها من الله تعالى فتكون المدة الطويلة بالنسبة إليها قصيرة كما في قوله تعالى في أحوال المحشر : (قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ) [المؤمنون ـ ١١٣].

الحادي عشر : أنّ الوجه في تكرار كلمة (انْظُرْ) في الآية الشريفة : أنّ في كلّ واحد من الموارد الثلاثة غرضا خاصا وبرهانا معينا لا يكون في غيره ، فالأول لبيان دفع ما يتوهم من قصر المدة لما شاهده من عدم تغيّر الحال فأمره بالنظر إلى الطعام والشراب. والثاني لبيان طول المدة واستبانتها فأمره بالنظر إلى الحمار ، والثالث لبيان كيفية البعث والنشور فأمره بالنظر إلى نشر العظام وبعثها.

الثاني عشر : يدل قوله تعالى : (وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها) على كمال قدرته على الموجودات وأنّ قدرته على إيجاد الروح تستلزم قدرته على جميع ما دون ذلك كما يظهر من قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [المؤمنون ـ ١٤] ، فيكون السّير التكاملي منطويا تحت الغاية وهي مقهورة تحت إرادته الكاملة فيكون الكلّ له ومنه وإليه لانطواء المشروط على الشرائط والكلّ على الأجزاء.

والآية تدل على وقوع الاستحالات والتبدلات على العظام فإنّه يظهر منها أنّ الجمع كان بعد الاندراس ، والتجدد بعد الانعدام والانطماس.

الثالث عشر : يصح أن يكون المراد من العظام في قوله تعالى : (وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ) جنس العظام الشامل لعظام الموتى وعظام الحمار وعظام نفسه فيكون تعلّق الرّوح ببدنه متدرجا وليس ذلك من قدرة الله جلّت عظمته ببعيد. كما كان عدم تغيّر الطعام والشراب من قدرته تعالى فليس ذلك من المحال الذاتي حتّى تقتضي حكمته تعالى أن لا تتعلّق به قدرته عزوجل.

الرابع عشر : أنّ هذه الآية المباركة والتي بعدها تصوير خارجي لحقيقة المعاد التي صعب على الأفهام قبولها وأتعبت الأمم أنبياءها في الإذعان بها

٣٢٣

وستأتي آيات أخرى دالة على المعاد الجسماني إن شاء الله تعالى.

الخامس عشر : تدل هذه الآية الشريفة وأمثالها على صحة الرجوع إلى هذه الدنيا بعد الموت ويدل عليه ما يدل على صحة المعاد وقد ورد في السنة المقدّسة ما يدل على صحة الرجعة أيضا.

ويصح الاستدلال بدليل عقلي واضح وهو أنّ أصل وجود هذا النحو من الحياة ـ أي الرجعة في العالم ـ خير محض وتعطيل الخير المحض قبيح وهو محال على الله تعالى لكن الأمور مرهونة بأوقاتها وأنّ العالم لم يبلغ بعد إلى مرتبة الكمال المطلوب حتّى يليق بهذه العناية الخاصة من ذي الجلال.

السادس عشر : يصح أن يستدل بهذه الآية المباركة الدالة على تجدد القرية وبعث أهلها على صحة القاعدة العقلية التي أذعن بها الكلّ من أنّ «حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد» فجرى ذلك بالنسبة إلى كلّ قرية في هذه الدنيا وكذا بالنسبة إلى الآخرة.

السابع عشر : يستفاد من قوله تعالى : (أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) استمرار علمه من أول الأمر بقدرة الله تعالى ، ولكن تأكد علمه بما شاهده من الحوادث.

٣٢٤

بحث روائي

في تفسير العياشي عن الصادق (عليه‌السلام) قال : «خالف إبراهيم قومه وعاب آلهتهم حتّى ادخل على نمرود فخاصمهم ـ الحديث».

وفي الدر المنثور في قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ) أخرج الطيالسي وابن أبي حاتم عن عليّ بن أبي طالب (عليه‌السلام) قال : «الذي حاج إبراهيم في ربه وهو نمرود بن كنعان».

أقول : اتفقت الروايات على أنّ الذي حاج إبراهيم في ربّه هو نمرود بن كنعان وهو وإن كان علما شخصيا لأول جبار ادعى الربوبية ولكن يصح لحاظه وصفا نوعيا لكلّ من تجبّر على الله سبحانه وتعالى بادعاء الربوبية.

وفي المجمع : «اختلف في وقت هذه المحاجة فقيل : عند كسر الأصنام قبل إلقائه في النار كما عن مقاتل. وقيل : بعد إلقائه في النار وجعلها بردا وسلاما عن الصادق (عليه‌السلام).

أقول : تقدم ما يتعلّق بذلك وذكرنا أنّ ظاهر الآية الشريفة يدل على أنّ المحاجة كانت بعد تشرف الخليل بمقام الخلة وكسر الأصنام وإراءته ملكوت السموات والأرض فتكون بعد إلقائه في النار والشواهد العقلية تؤيد ذلك.

في تفسير القمي عن هارون بن خارجة عن الصادق (عليه‌السلام) في حديث طويل : «فخرج أرميا على حماره ومعه تين قد تزوده وشيء من عصير

٣٢٥

فنظر إلى سباع الطير وسباع البحر وسباع الجو تأكل تلك الجيف ففكر في نفسه ساعة ثم قال : أنّى يحيي هذه الله بعد موتها وقد أكلتهم السباع؟ فأماته الله مكانه ، وهو قول الله تعالى : (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ) أي أحياه ـ الحديث ـ».

أقول : وروى قريبا منه العياشي وغيره.

وفي تفسير العياشي «أنّ ابن الكوا قال لعليّ (عليه‌السلام) : يا أمير المؤمنين ما ولد أكبر من أبيه من أهل الدنيا؟ قال (عليه‌السلام) : نعم أولئك ولد عزير حيث مرّ على قرية خربة وقد جاء من ضيعة له ، تحته حمار ومعه شنة فيها تين وكوز فيه عصير فمرّ على قرية خربة فقال : أنّى يحيي هذه الله بعد موتها؟! فأماته الله مائة عام فتوالد ولده وتناسلوا ثم بعث الله إليه فأحياه في المولد الذي أماته فأولئك ولده أكبر من أبيهم».

وفي المجمع عن أمير المؤمنين (عليه‌السلام) : «أنّ عزيرا خرج من أهله وامرأته حامل وله خمسون سنة فأماته الله مائة سنة ثم بعثه فرجع إلى أهله ابن خمسين وله ابن له مائة سنة فكان ابنه أكبر منه فذلك من آيات الله».

قال الطبرسي في المجمع : «الذي مرّ على قرية هو عزير وهو المروي عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) ـ إلى أن قال ـ وقيل : هو أرميا وهو المروي عن أبي جعفر (عليه‌السلام).

وقال : وروى سعد بن عبد الله القمي في بصائر الدّرجات عن أمير المؤمنين (عليه‌السلام) : «أنّ الآية في عزير وعزره».

أقول : وعن ابن عباس أنّه عزير ولكن لا جدوى في تعيين النبي الذي مر على القرية أنّه عزير أو أرميا ولعلّ إهماله تبارك وتعالى ذكره لأنّ المقصود تحقق أصل الموضوع ليستدل به على كلية المعاد ، كما لا جدوى في تعيين القرية هل أنّها إيليا (بيت المقدس) أو القرية التي خرج منها الألوف حذر الموت على ما تقدم.

٣٢٦

سورة البقرة

الآية ٢٦٠

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٦٠))

الآية الشريفة تؤكد ولاية الله تعالى على المؤمنين ورعايته لهم بإخراجهم من الظلمات إلى النور وفيها إرشاد إلى أنّ إبراهيم وسائر الأنبياء العظام (صلوات الله عليهم) من العروة الوثقى التي لا بد من الاستمساك بها.

وتبيّن أنّ من الهداية ما تكون عن رؤية الحقيقة وشهود الواقعة وهي من أعلى مراتب الهداية.

ومضمونها يثبت البعث والنشور الذي يصعب على الأفهام فهمه ، ومن ثمّ كثر المنكرون له ، وإثبات المعاد يلازم إثبات المبدإ ، ولذلك ضرب الله تعالى في هذه الآيات مثالين له ، ومثال لثبوت المبدإ ووجوده.

٣٢٧

التفسير

قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى).

عطف على الجملة المتقدمة باعتبار تضمنها معنى التذكير والإنذار فيكون مفاد الجملتين واحدا من حيث إنّهما مشتملتان على آية لا بد من بيانها وتذكيرها للناس.

وكيف تستعمل في السؤال عن حالات الشيء لغة وعرفا.

وتختلف هذه الجملة عن السابقة في أنّ السابقة كان السؤال فيها عن أصل المعاد ، وقد بيّن سبحانه وتعالى ذلك بإراءة نموذج للنشر والبعث ، وقد أهمل سبحانه اسم القرية واسم النبي الذي مرّ عليها لاستيفاء الغرض بدونهما ، وأما المقام فهو لإثبات كيفية المعاد بعد مسلمية أصله وقد بينها بشهود الحقيقة وإراءة خصوصياتها وقد ذكر اسم إبراهيم (عليه‌السلام) تشريفا فإنّ لله تعالى معه عنايات وله مع الله تعالى حالات.

وقد تحمل الأواه الحليم والمؤمن الخليل من المصاعب والمتاعب في سبيل الله تعالى وإثبات وحدانيته وإبطال دعوى ربوبية أول من ادعى الربوبية ما لم يتحمله غيره من الأنبياء (عليهم‌السلام) حتّى كليم الله في إزالة ربوبية فرعون إلا نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فإنّه ما اوذي نبي بمثل ما أوذي به.

٣٢٨

وبالمقارنة بين السؤالين في الجملتين يظهر الفرق بينهما فإنّ في سؤال إبراهيم (عليه‌السلام) من الأدب والثناء والإقرار بأصل المعاد وطلب الزيادة في العلم والمعرفة ما لا يخفى ولذا كان في هذا السؤال شؤون ومخاطبة بين الخليلين بخلاف السؤال السابق.

كما يستفاد الفرق بين النبيّ الذي مرّ على القرية وإبراهيم من ذيل الآية الشريفة ، فإنّ في الأول قال : (أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). ولكن في الثاني قال الله تعالى لإبراهيم : (وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي يفعل الأتم الأصلح ، فالأول اعتراف بأصل قدرة الله تعالى وفي الثاني يعلمه الله عزوجل بأنّ الذات الأقدس قويّ وفاعل للأصلح فوق ما نتعقله من معنى القوة والأصلحية ، فالخليل يربي خليله بأمتن أسرار الخلّة وأدق لطائف الارتباط والصّلة وهو تفاني جميع شؤونه في مرضاة العزيز الحكيم.

والظاهر أنّ هذا السؤال كان قبل إراءة الله تعالى لخليله ملكوت السموات والأرض فإنّها غاية الكمال الممكن ، فتكون هذه القضية من مبادئ تلك الإراءة التفصيلية الإحاطية ، فتكون إراءة إجمالية لتحقق الإراءة الكلية ، فلا بد وأن يحمل قوله : (وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) على بعض المعاني كما سيأتي. مع أنّ إراءة الملكوت سفر من الحق إلى الحق بالحق ، وأما القضية فهي تشرح السفر من الخلق إلى الحق وبينهما بون بعيد فيكون المراد بقوله : (أَرِنِي) الوصول إلى حق اليقين بعد طيّ مراحل أصل العلم وعلم اليقين. وكيف كان فهو سؤال استعطاف وفيه لطف وعناية ومثله بين الخليلين كثير لا يفهمه إلا من كان من أهله.

وبدأ السؤال بكلمة : (رَبِ) لأنّ فيه اعترافا بالعبودية ، ولبيان تمام العناية بعبده وتربيته العظمى له وفيه كمال الثناء عليه جلّ وعلا ، ولأنّ الدعاء المبدو بهذا الاسم الشريف أقرب إلى الاستجابة ، ويستفاد منه أدب الدعاء أيضا ، ولأجل ذلك وغيره غلب هذا الاسم الشريف في دعوات إبراهيم (عليه‌السلام) وقد ذكرنا في سورة الحمد ما يتعلّق بكلمة الرب فراجع.

٣٢٩

قوله تعالى : (قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ).

أي قال الله عزوجل أو لم تؤمن بي وبقدرتي على الإحياء؟ والاستفهام تقريري لإظهار مقارنة السؤال مع عدم الإيمان ولم يكن استفهاما عن حكمة السؤال ووجهه حتّى يكون فيه الردع والعتاب ، والوجه في ذلك دخول همزة الاستفهام على الواو الدال على الجمع ولو قيل : ألم تؤمن لدل الكلام على أنّ السؤال نشأ عن عدم الإيمان ودل على الردع والعتاب.

وإنّما حذف متعلّق الإيمان للدلالة على أنّ الإيمان بالمبدإ يلازم الإيمان بالمعاد فلا يتحقق أحدهما بدون الآخر. وخصوص المورد ـ وهو الإحياء ـ لا يوجب تخصيص العموم أو تقييد الإطلاق كما هو معروف بين الأدباء.

قوله تعالى : (قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي).

بلى كلمة تستعمل في مقام النفي ، فينقلب بها النفي إلى الإثبات والاطمينان والطمأنينة سكون النفس بعد الانزعاج. واطمأنّ وتطامن متقاربان لفظا ومعنى.

أي : قال إبراهيم : بلى إنّي مؤمن بذلك ولكنّ المشاهدة والعيان يؤثران في استقرار النفس ورسوخ العلم في القلب ويزداد بهما اليقين والوقوف على سرّ الإحياء وهذا ما لا يمكن دركه إلا بالمشاهدة والرؤية.

وإنّما حذف المتعلّق أيضا لأنّ قلب الخليل مضطرب دائما خصوصا إذا كان أحد الخليلين متناهيا والآخر غير متناه ، وقد نسب إلى نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «أللهم زدني فيك تحيّرا» وعن أكابر الفلاسفة : إنّ الاعتراف بالقصور عن درك الذات إدراك.

وأما ما نسب إلى عليّ (عليه‌السلام) : «لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا» أي : ما ازددت يقينا أنّي على الحق وعلى الصراط المستقيم لا أن يكون مراده بالنسبة إلى درك الذات الأقدس الربوبي كما تشهد به جملة من كلماته الشريفة ، مع أنّ مراتب الاطمينان بالله تعالى واليقين به عزوجل كثيرة غير محدودة.

٣٣٠

قوله تعالى : (قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ).

صرهنّ ـ بضم الصاد وسكون الراء ـ وقرئ بكسر الصاد. ومادة (صرر) تأتي بمعنى الشد والضم والقطع ، وهذه الثلاثة متقاربة ومتلازمة ويصح أن يجعل الجامع الضم ، وقد يستلزم القطع الضم كما إذا قطعت أجزاء الحيوان فيضم بعضها إلى بعض وتجعل في موضع واحد ، وسميت الصرّة صرّة لجمع الدراهم فيها.

والمعنى : خذ أربعة من الطير فضمّهنّ إليك بأن تجمعها في مكان للمؤانسة والمؤالفة ، وأن يستشرقن بشوارق النفس القدسية وتستعد للموهبة الإلهية وهي الإيجاد بعد الإفناء والسعي في الإتيان بدعاء أبي الأنبياء.

وعلى هذا يكون الجار متعلقا بصرهنّ من دون محذور ولا نحتاج إلى تضمين الكلام. وقيل : إنّ الجار متعلّق ب (خذ) ولكنّه بعيد ومخالف لفصيح الكلام.

ومن هذه الجملة يستفاد أنّ الغرض المقصود من السؤال هو مشاهدة كيفية إحياء الأموات المدلول عليها بقوله : (تُحْيِ الْمَوْتى) فإنّ الكلمة الأولى تدل على كيفية إحياء الله الأموات والثانية تدل على أنّ إحياء الجمع الكثير من الأموات بعد تلاشي أجزائها واستحالتها وتبدلها إلى صورة أخرى ، فإنّ إحياء هذا الجمع أمر يستبعده الذهن بادئ الأمر ، ولأجل ذلك كان الجواب مشتملا على قيود خاصة دخيلة في استيفاء الغرض المقصود ، فلو كان السؤال عن مجرد إظهار القدرة الأزلية لكان الجواب يتم بإحياء ميت أو أموات كما في القصة الأولى ولا يحتاج إلى هذا التطويل في الجواب وتكثير القيود. ومن وجوب المطابقة بين السؤال والجواب يستفاد أنّ السؤال إنّما كان عن كيفية الإحياء ومشاهدته من حيث إنّه فعل الله تعالى لا مجرد ترتيب الأجزاء المادية وإحيائها لا سيّما في إحياء الأموات.

والقيود التي أخذها عزوجل في الجواب هي : أن تكون مورد الإحياء طيورا ، وأن تكون أربعة ، وأن تكون إحياء الأموات ، وأن يجعلها مأنوسة به ،

٣٣١

وأن يقتلها ويقطّعها ويمزج أجزاءها ، وأن يفرّق الأجزاء على الجبال المتباعدة ، وأن يدعوهنّ باجتماعهنّ عنده. وأن يكون كلّ ذلك بيد إبراهيم (عليه‌السلام) وبمباشرة من نفس السائل ، فهذه القيود كلّها دخيلة في الغرض ومنها يستفاد عظم السؤال والسائل.

ومن ذلك يعلم المناقشة في كثير مما ذكره المفسرون في المقام كما سيأتي في البحث الدّلالي ما يرتبط به.

ولعل ذكر الطيور بالخصوص واختيارها لأنّ فيها دقائق من صنع الله جلّ جلاله لا تكون في سائر الحيوانات ، فتكون الإعادة نظير قوله تعالى : (بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) [القيامة ـ ٤].

أو لكون الطير أقرب إلى الإنسان فيصح أن يكون مثالا للحشر الأكبر ونفخة الإحياء ، وفي الطير خصال حسنة حثنا الشرع الأقدس بتعلّمها منهنّ فعن عليّ (عليه‌السلام) : «لو توكلتم على الله تعالى حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وترجع بطانا».

أو لأنّ الطير أخف وأسهل انتقالا ويكون قتله وتقطيعه وجعله أجزاء متفرقة في زمان أقل من غيره.

ولا ريب في أنّ الطيور الأربعة من أنواع مختلفة لأنّ ذلك أتم وأكمل في إظهار قدرة الله تعالى وأدل على صنعه عزوجل.

قوله تعالى : (ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً).

أي : اذبحهنّ وصيرهنّ أجزاء وامزج تلك الأجزاء لئلا تتميز ثم فرق تلك الأجزاء واجعل على كلّ جبل جزءا.

وهذه الآية تدل دلالة واضحة في المحاورات العرفية على سبق الذبح والتقطيع والخلط ، فلا وجه لما عن بعض المفسرين من إنكار الدلالة.

والوجه في العطف ب (ثم) الدال على التعقيب مع التراخي لأنّ هذه العملية إنّما تكون بعد إمالة الطيور وتأنيسها ومعرفة خصوصياتها وطباعها ثم

٣٣٢

ذبحها وتقطيعها وخلطها كلّ ذلك يحتاج إلى مدة.

وإنّما أمر سبحانه بالجعل على الجبل دون سائر المواضع إما لكونه أبين في إظهار القدرة ، أو لكونه أظهر في الفصل بين الأجزاء ، أو لكونه مثالا لبعث الموتى من مشارق الأرض ومغاربها بإذن الله تعالى ، أو لأنّ الطيور إنّما توكر في الأماكن المرتفعة دون غيرها.

والآية الشريفة مطلقة لا يستفاد منها أنّ الجبال كانت في منطقة واحدة ، بل يمكن أن تكون بينها مسافات بعيدة بأن كان بعضها في بابل وبعضها في الشام وبعضها في بيت المقدس وآخر في الحجاز لأنّ ذلك أبين في إظهار قدرة الله تعالى.

كما لا يستفاد من الآية الشريفة أنّ هذه القضية كانت في زمان واحد بل يمكن أن تكون في أزمنة متعدّدة.

قوله تعالى : (ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً).

السعي في المقام : سرعة السير في الطيران. ونسب إلى الخليل أنّ المراد به سعي إبراهيم (عليه‌السلام) لا الطير ولا وجه له.

والمعنى : ثم نادهنّ بأسمائهنّ تأتيك الطيور بكامل هيئتها وخصوصياتها مسرعات ، ويمكن أن يكون الدعاء بلسان الطير فإنّه (عليه‌السلام) ممن علم منطق الطير لأنّه تعالى أراه ملكوت السّماوات والأرض.

وقد اكتفى سبحانه وتعالى بذكر الوعد عن الوقوع لأنّ الله لا يخلف الميعاد ، ولما هو المعلوم من قدرة الله تبارك وتعالى.

وإنّما ذكر سبحانه (ادْعُهُنَ) دون الصياح والنداء ، لأنّ الدعاء هو التكلم مع الغير مع ذكر اسمه ، ويستعمل في القريب أيضا وهو مع تقارب الجبال واضح ، وأما التباعد فيمكن أن يكون قد نقل الهواء صوت الخليل (عليه‌السلام) كما ينقل الأصوات من مشارق الأرض إلى مغاربها عبر الأثير بواسطة المذياع والتلغراف ونحوهما.

٣٣٣

ويمكن أن يكون الدعاء هو التسخيري التكويني منه كما في قوله تعالى : (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) [الحج ـ ٢٧] ، وقوله تعالى : (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) [فصلت ـ ١١].

ويحتمل أن يكون هذا الدعاء بمنزلة نفخة الإحياء بإذن الله تعالى كما في نفخة إسرافيل التي بها تحيا الأموات ويبعثون كأنّهم (جَرادٌ مُنْتَشِرٌ مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ) [القمر ـ ٨] ، فتكون هذه القضية الحشر الأصغر يستدل به على الحشر الأكبر.

وكيف كان فإنّ بدعوة إبراهيم (عليه‌السلام) تعلّق الروح بالجسد فأتت الطيور مسرعات وبذلك شاهد (عليه‌السلام) كيفية تعلق الروح بالجسد والبعث والنشور.

قوله تعالى : (وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).

أي : وليتأكد علمك أنّ الله عزيز لا يغلبه شيء ولا يعجزه أمر ، حكيم في أفعاله لا يفعل إلا بمقتضى الحكمة.

وإنّما خص عزوجل هذين الاسمين بالذكر لبيان كمال قدرته وعدم عجزه حتّى إعادة الموتى ولو كانوا كثيرين لا يحصيهم الا الله تعالى ، وأنّه يفعل ذلك وفق الحكمة المتعالية فمن الحكمة أنّه جعل لكلّ أمر طريقا لائقا به ، وأنّه أبى أن يجري الأمور إلا بأسبابها.

٣٣٤

بحوث المقام

بحث دلالي

تدل الآية الشريفة على أمور :

الأول. أنّها تدل على إعادة حياة الإنسان والحيوان وغيرهما ، والمعاد في الشرايع السّماوية والمعارف الربوبية عدل المبدإ ونظيره فلا أثر لمبدإ بلا معاد ، ولا وجود لمعاد بلا مبدإ فهما متلازمان في قانون النظام الأحسن المبني عليه نظم العالم وخلق بني آدم ، وهو من مظاهر قدرته عزوجل وقهاريته ، وليس هو من المحالات الذاتية في فطرة العقول حتّى لا تتعلّق قدرة الله تعالى به.

وإنّما استبعد ذلك ، لحصول شبهات في الخواطر وهو أعم من الامتناع الواقعي ، وقد اختلط في الأذهان بين الاستبعاد الاعتقادي والامتناع الواقعي ، وجعل الأول كالثاني مغالطة.

وبالجملة : إنّ مصير التكوين طبعا إلى المعاد كما يكون مصير الشجرة إلى الثمرة إلا أنّ بعضها حلوة وبعضها مرّة ، فهو من طريق الوصول إلى الغاية لا بد أن يتحقق في النظام الأحسن ، إذ لا يمكن تصوّر نظام بدون غاية كما لا

٣٣٥

يمكن تعقّل تكوين بلا مبدأ وهو مما لا بد منه في جملة الأصناف والأنواع فضلا عن النوع الأتم الذي هو الإنسان.

والموت إنّما هو قطع ارتباط بين الروح والجسد فيقع كلّ واحد منهما في المسير الذي لا يعلم حدوده وخصوصياته وسائر جهاته إلا الله تعالى المهيمن على الجميع ، ويستحيل أن يحيط المحدود بما هو غير محدود فردا وصنفا ونوعا وإن شرقت شارقة من عالم الغيب على قلب من يختاره الله تعالى لذلك ، فهو محدود تكوينا بقدر استعداده وليس الكتاب التكويني إلا مثل الكتاب التدويني الذي أنزله الله تعالى على قلب حبيبه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وقال عزوجل فيه : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) [الإسراء ـ ٨٨] ، فكذلك الكتاب التكويني الذي أهم أوراقه بل جميعها المعاد وإنّما جعلت الدنيا مقدمة لشرح نظمه وصحائفه ، فكلّ من العالمين متلازمان تلازم الحاكي والمحكي فهو أصل الحقيقة التي يتفرّع عنها المجاز الذي هو الدنيا ـ بكلّ معنى المجازية ـ فهي مجاز باعتبار كونها معبرا ، ومجاز أي لا حقيقة لها. ومجاز أي لا بد من إيجاد وجه تناسب بينها وبين الآخرة كما هو واضح لذوي الفطرة المستقيمة والأذهان السليمة ، ولو نزّل الناس الدنيا من الآخرة منزلة اللفظ من المعنى لنالوا الحظ الأوفى والدرجة الأرقى ، ومن نزّلها منزلة القشر من اللب فقد حاز الدّرجات العليا.

ومن ذلك كلّه يعلم أنّ إنكار المعاد ليس إلا كإنكار الشمس التي هي وراء السحاب. وسيأتي في مستقبل الكلام تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى.

الثاني : يستفاد من ظاهر الآية الكريمة أنّ طلب إبراهيم (عليه‌السلام) كان لمشاهدة كيفية إحياء الله تعالى الموتى الذي هو من فعله عزوجل بجميع خصوصياته التي منها قبول الأجزاء المادية لإفاضة الحياة ويدل على ذلك أمور :

منها : السؤال عن الرؤية والمشاهدة وهي لا تتحقق بمجرد الاستدلال

٣٣٦

وبيان الحجة فقط كما هو واضح فإنّ الظاهر من قوله (أَرِنِي) إرادة الوصول إلى حق اليقين بعد طيّ مراحل أصل العلم وعلم اليقين.

ومنها : إتيان الفعل المضارع (تُحْيِ) بضم التاء من الإحياء دون غيره الدال على كيفية تأثيره عزوجل وإظهار فعله تعالى.

ومنها : ذيل الآية الكريمة (وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) الدال على وجدان الذات المقدسة بكلّ ما تتطلبه مخلوقاته وما تستحقه الأشياء فلو كان السؤال لمجرد معرفة تأثر الأجزاء وحياتها لكان في إظهار القدرة وبيانها كفاية في المطلوب كما في الآية السابقة.

ومنها : أنّه تعالى أراد بيان أنّ إبراهيم (عليه‌السلام) مظهر حقيقة المعاد كما أنّه مظهر مبادئ التشريع في القوانين السّماوية للعباد أيضا للتلازم بين مبدئية التشريع وبيان المعاد.

ومنها : بيان قيود خاصة وشروط معينة في الجواب الدالة على كونها مرتبطة بالسؤال ودخيلة في المعنى المقصود كما ذكرنا في التفسير والظاهر أيضا أنّ إبراهيم (عليه‌السلام) فعل ما أمره الله تعالى وكان ذلك مقدمة لإراءته ملكوت السّماوات والأرض ووصل إبراهيم بذلك إلى مرتبة حق اليقين.

ولكن ذكر بعض المفسرين : أنّ المراد من الآية الشريفة مجرد التمثيل الظاهري والغرض منه ذكر مثال محسوس في عود الأرواح إلى الأجساد على سبيل السهولة ولا دلالة في الكلام على أنّ إبراهيم (عليه‌السلام) فعل ما أمر به ، وليس كلّ أمر يقصد به الامتثال فإنّ من الخبر ما يأتي بصورة الأمر لا سيّما إذا أريد به مزيد بيان وذكر وجوها لتأييد ما ذكره.

منها : أنّ معنى «صرهنّ» أملهنّ وهو المناسب لتعدي الفعل ب (إلى) ، ولو كان المراد ب «صرهنّ» قطعهنّ لما كان وجه لقوله (إِلَيْكَ) كما أنّه المناسب للتراخي في قوله تعالى : (ثُمَّ اجْعَلْ) بخلاف ما ذكره المفسرون ، وأما الذبح والتقطيع فليس في الآية المباركة ما يدل عليهما.

ومنها : أنّ الضمائر في قوله تعالى : (فَصُرْهُنَ) و (مِنْهُنَ) و (ثُمَ

٣٣٧

ادْعُهُنَ) راجعة إلى الطيور وليست إلى الأجزاء فلو كان المراد تقطيعها وتفريق الأجزاء على الجبال يلزم منه التفرقة بين الضمائر فيعود بعضها وهو «صرهن» و «منهن» إلى الطيور وبعضها الآخر إلى الأجزاء وهو خلاف الظاهر.

ومنها : أنّ إراءة كيفية الخلقة إما أن تكون بمعنى مشاهدة كيفية قبول الأجزاء للحياة وتغيّر صورها إلى الصورة الأولى الحيّة فهي لا تحصل بما ذكره مشهور المفسرين من الذبح وتقطيع الأجزاء وتفريقها على الجبال إذ كيف يتصور مشاهدة ما يعرض على الذات من الحركات والتغيّرات والحال هذه.

وإما أن تكون بمعنى الإحاطة بكنه كلمة «كن» التي هي الإرادة الإلهية فظاهر القرآن وإجماع المسلمين على عدم الإحاطة بها وصفات الله تعالى منزّهة عن الكيفية.

ومنها : أنّ المناسب كما ذكره المشهور أن يختم الكلام باسم القدير دون الاسمين الشريفين العزيز الحكيم.

ولكن فساد ما ذكره واضح بعد التأمل في الآية الشريفة وما ذكرناه في تفسيرها فإنّ ذلك لا يناسب سياقها ولا المحاورات الصحيحة وقد ذكرنا في قوله تعالى : (فَصُرْهُنَ) ما بوضح المعنى والتعدي ب (إلى) لمكان التضمين وبيان شدة الإيناس والاستيناس بالطيور.

وأما الضمائر فهي راجعة إلى الطيور وهذا العنوان موجود في جميع التقلبات والاستحالات الواردة عليهنّ كما يأتي تفصيله إن شاء الله تعالى.

وأما معرفة فعل الله تعالى فلا مانع من ذلك عقلا ونقلا إذا أضيفت إلى الممكن والكيفية المنفية إنّما هي المضافة إلى الذات الأقدس فإنّه تعالى لا كيف له والأولى هي المراد بملكوت السموات والأرض التي رآها ابراهيم (عليه‌السلام) بإرادة من الله تعالى.

وأما أنّ المناسب أن يختم الكلام باسم القدير فقد عرفت أنّ الأمر ليس كذلك بل الختم بالاسمين الشريفين فيه الدلالة على ما ذكرناه بخلاف الختم باسم القدير ، مع انطواء الاسمين الشريفين على القدير وشيء زائد عليه كما

٣٣٨

هو معلوم.

الثالث : يدل قوله تعالى : (كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) على أنّ لكثرة الأموات دخلا في السؤال فإنّ إحياء الأجساد الميتة التي تغيّرت صورها واستحالت أجزاؤها وفني الارتباط بينها له الأهمية الكبرى وفيه تمام القدرة ويدل على ذلك أيضا قوله تعالى حكاية عن فرعون : (قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى) [طه ـ ٥٢] ، حيث خص العلم بذلك في الله عزوجل فكان الجواب بما يفي المطلوب كما عرفت.

الرابع : يستفاد من قوله تعالى : (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) كمال اللطف والعناية ، والخلة بين الخليلين ، وهو يدل على عتاب الخليل لخليله أيضا في مقام الخلة ، ولا يعقل لذة فوق ذلك ، ولا يصل أحد إلى هذه المرتبة إلا بعد فناء الاثنينية وانتفاء المغايرة من البين غاية الانتفاء.

الخامس : إنّما حذف المتعلّق في قوله تعالى : (وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) ليشمل جميع ما يمكن تصوره في طمأنينة القلب التي منها الثبات عند الخطرات ، ومنها التحمل لنزول الإفاضات والبركات ، ومنها الاستقامة لدى التجليات ، ومنها الرجوع إلى الخلق لافاضة المعارف والخيرات وغير ذلك مما لا يحيط به الا مثل الخليل ، ولعل آخرها ما أشار إليه عزوجل بقوله : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً) [الفجر ـ ٢٨].

وبالجملة : فكما أنّ القلب منشأ الحياة الحيوانية ، كذلك يكون محور جميع الواردات الغيبية والمعارف الربوبية وله شأن عظيم.

السادس : يمكن أن تكون الأربعة في قوله تعالى : (فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ) فردية ، ويحتمل أن تكون الأربعة نوعية أي : خذ من أربعة أنواع أصنافا وأفرادا ويحتمل أن تكون إشارة إلى الطبائع الأربعة وهي الشهوة ، والغضب ، والكبر ، والحرص وكلّ واحدة منها تشير إلى طبيعة خاصة.

السابع : يستفاد من قوله تعالى : (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً) أنّ للأنس مع أولياء الله تعالى ثم دعاؤهم دخلا في حياة الموتى وهو

٣٣٩

يدل على أنّ القلوب الميتة إذا آنست مع الأنبياء العظام ومن يتلو تلوهم من أولياء الله تعالى تحيا حياة حقيقية طيبة ، ولعل ذلك أهم الأسرار في هذه الآية الشريفة فالمأنوسون مع خليل الرحمن مأنوسون مع الرحيم الحنان إذ لا واسطة في مقام الخلة.

الثامن : أنّ في قوله تعالى : (يَأْتِينَكَ سَعْياً) إشارة إلى أنّ التسخير التكويني الذي يكون بين المخلوق والخالق موجود بالنسبة إلى الخليل أيضا وهو إنّما يكون فوق الزمان ، والوارد في الآية الشريفة إنّما هو بلحاظ حال المخاطبين وحدود فهمهم والا فمقام الخلّة أجلّ من أن يحيط به الزمان.

ويستفاد منه أيضا ، أنّ الموجودات تسعى إلى امتثال أوامر وسائط الفيض الأقدس الإلهي ، فإنّ الجميع تسبّح بحمد ربّها ومسخرة تحت أمره.

ومن ذلك يظهر الفرق بين إحياء خليل الرّحمن (عليه‌السلام) وإحياء عيسى (عليه‌السلام) فإنّه لم يرد لفظ (بِإِذْنِي) في مخاطبة الله تعالى مع خليله تجليلا لمقام الخلّة وهو مقام صرف الفناء والوحدة فلا وجه لحظور جهة الاثنينية وإن كان في الواقع هو بإذنه بخلاف مقام عيسى (عليه‌السلام) فإنّه ورد فيه لفظ (بِإِذْنِي) كثيرا وللكلام تتمة تأتي إن شاء الله تعالى.

التاسع : دعاء إبراهيم (عليه‌السلام) للطيور إلى البروز إلى عالم الحياة بعد الممات في الواقع إنّما هو دعاء الرّب الجليل صدر على لسان عبده الخليل كما في قوله تعالى : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) [الأنفال ـ ١٧] ، فيكون خليل الله تعالى وحبيبه محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) من مظاهر تجلّي الله جلّت عظمته قولا وعملا في النشأة الإنسانية ، وأقوى الروابط بين العباد وربّ البرية ، وأهم الأسباب في عالم الكون والفساد ، ولكن هناك فرق بين التجليين يأتي في الموضع المناسب إن شاء الله تعالى ذكره.

العاشر : يدل قوله تعالى : (ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً) على تجرد النفس وبقائها بعد فناء الجسم وتلاشي أجزائه وتبدّد أوصاله وقد تقدم في أحد المباحث السابقة الاستدلال على تجرد النفس فراجع.

٣٤٠