مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة أهل البيت (ع)
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥١٦

باستيلاء الربا وأكل المرابي له من دون أن يكون رادع يردعه قد جلب الشقاء والدمار واستولى الفساد على أهل الأرض ويأتي في البحث العلمي تتمة الكلام.

ومن ذلك يظهر أنّ الآية الشريفة لا تختص بحال المرابي في يوم القيامة وأنّ آكلي الربا يقومون كالصريع الذي تخبّطه الشيطان من المس وقد نقل في ذلك أحاديث عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بل يكون ذلك من مصاديق حال المرابي في يوم القيامة وأنّه أثر من آثار هذه المعصية الكبيرة كما عرفت آنفا فيكون للقيام معنى عاما يشمل القيام في الدنيا وهو النهوض بالأمر والقيام من القبر كما في الحديث.

قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا).

أي : إنّ أكلهم للربا واستحلالهم له أو إنّ الدليل على كونهم خابطين خرجوا عن جادة الصواب أنّهم قالوا في قياس باطل : إنّما البيع مثل الربا ولم يقولوا إنّما الربا مثل البيع الذي هو أقرب إلى الذهن فقد أمكن الخبط في نفوسهم وظهر الاختلال على أفكارهم وأقوالهم فكان المعروف والمنكر لديهم سيان وقد شبهوا الربا الذي هو خلاف الفطرة المستقيمة بالبيع الذي هو المعروف بين العقلاء وهما نوعان متباينان ، ولكن الخبط الذي استقر في نفوسهم جعلوا المأمور به كالمنهيّ عنه وهو قياس مع الفارق وهذا مثال لما ذكرناه سابقا من أنّ المراد من التخبط هو الخروج عن الفطرة والعقل سواء كان قوله تعالى مقول قولهم أو حكاية عن حالهم بالقول ، فإنّه يدل على الخبط في كلامهم وعدم استقامة أفكارهم.

وقال بعض المفسرين إنّ المراد بقولهم (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) المبالغة في التشبيه كما في قول الشاعر :

ومهمه مغبرة أرجاؤه

كأنّ لون أرضه سماؤه

ولكن فساد ما ذكره يظهر مما تقدم فإنّ التشبيه إنّما حصل من التخبط الحاصل لهم من مس الشيطان والاختلال الناشئ في أفكارهم وقد ظهر

٤٢١

بطلان هذا القياس الذي هو خلاف المعروف في باب الأقيسة أيضا.

ومما ذكرنا يظهر الوجه فيما ذكره بعض آخر : من أنّ التشبيه بين البيع والربا إنّما هو لأجل أنّهما مشتركان في الكسب والفائدة ولكن في الربا واضح معلوم وفي غيره موهوم.

قوله تعالى : (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا).

جملة مستأنفة أو حالية تدل على رد مزاعمهم الفاسدة. والبيع معلوم عند العرف وقد أحلّه الله لأنّ فيه الحكم والمصالح التي يستفيد منها النوع ، وبه ينتظم الاجتماع لشدة الحاجة إليه ، وفيه تحفظ مالية الأموال ويستفيد المالك ما يقابل ملكه وتتحقق به رغباته فهو قائم بالعدل ، فتكون حلية البيع موافقة للفطرة المستقيمة وسنة الاجتماع.

وإنّما حرم الربا لأنّه مبنيّ على الإجحاف والظلم والابتزاز وسد باب المعروف وكلّ واحد من ذلك يكفي في اعتبار الربا مخالفا للفطرة والاستقامة في الحياة ، فتكون الأحكام الإلهية مبتنية على الحكم والمصالح التي تجلب السعادة للإنسان في الدارين ويدل على ذلك القرآن الكريم والسنة الشريفة بل العقل أيضا وسيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام فيه.

والآية الشريفة غير مسوقة لتشريع حكم ابتدائي في البيع أو الربا بل سياقها يدل على الإخبار عن حكم سابق فيها كما عرفت سابقا ، ولبيان خبط أفكارهم فإنّ الأمر لو كان كما يقولون لما اختلف حكم البيع والربا ، فيلزم إمّا بطلان حكمة الحكيم وهو محال أو بطلان زعمهم وهو معلوم وتوطئة لما يأتي من الأحكام.

قوله تعالى : (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ).

الآية الشريفة تفتح أعظم أبواب رحمة الله جلّ جلاله وأوسعها وهو باب التوبة ، ومفادها بيان حكم كلّي في كلّ معصية وهو أنّ الحكم إذا كان مشروعا وخالفه المكلّف بعمده واختياره يوجب العصيان واستحقاق العقاب ، فتجب

٤٢٢

عليه التوبة. وأما إذا لم يكن الحكم مشروعا فلا موضوع للمخالفة والعصيان ولا مورد للتوبة لفرض عدم الحكم وانطباق مفادها على الربا يكون من انطباق الكلّي على المصاديق.

والموعظة والوعظ : الخبر المقرون بالتخويف ، وعن الخليل : التذكير بما يرقّ له القلب. والمراد به هنا : بلوغ الحكم الذي شرّعه الله تعالى.

والانتهاء : الانزجار وترك الفعل المنهيّ عنه ، قال تعالى : (فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) [البقرة ـ ١٩٣].

والسلف : المتقدم ، وله ما سلف ، أوله ما قد سلف. أي : يعفى عمّا صدر عنه سابقا فلا شيء عليه.

والمعنى : فمن بلغه نهي وزجر عن الله تعالى في الربا وانزجر وترك الربا فله ما ارتكب منه في زمن الجاهلية فلا عقاب عليه في الدنيا والآخرة ولا ضمان ، كما ذكرنا في باب الربا من كتابنا (مهذب الأحكام).

وإطلاق قوله تعالى : (فَلَهُ ما سَلَفَ) يشمل زمان تشريع الحكم وبعده فيعم كلّ جاهل بالحرمة ثم حصل له العلم بها ولو بعد نشر الإسلام وظهوره.

ولكن الظاهر المنساق منه هو التوبة وسقوط العذاب عنه وأما حلية ما أخذه فيما سلف وجواز التصرف فيه بعد التوبة فلا يمكن استفادته من الآية الشريفة الا باستعانة السنة كما تعرضنا لبعضها في باب الربا ، فالمعنى المستفاد من الآية المباركة سقوط أصل المعصية ومنها الربا وأما التخلص من التبعات كالقضاء والضمان وغيرهما فيحتاج إلى دليل خاص وسيأتي في البحث الفقهي تتمة الكلام.

قوله تعالى : (وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ).

أي : أنّ شأنه بالنسبة إلى التوبة والعذاب الاخروي والضمان في الدنيا موكول إلى مشية الله تعالى فإن شاء قبل منه التوبة وإن شاء لم يقبلها وإن شاء وضع عليه بعض الأحكام وإن شاء عفا عنه فهو العالم بالحقائق وصدق النيات

٤٢٣

يحكم بعدله فيه.

إن قيل : لا وجه لمشية العذاب قبل قيام الحجة.

يقال : الناس قبل قيام الحجة الظاهرية عليهم بإبلاغ الأحكام على قسمين :

الأول : القاصر غير الملتفت مطلقا حتّى بالنسبة إلى احتمال الضرر الاخروي.

الثاني : من احتمل الضرر الاخروي وهذا الاحتمال منجز في حكم العقل وله منشئية استحقاق العقاب بعد تمامية الحجة الظاهرية مع أنّ الربا مما يوجب اختلال النظام فيصير من القبائح العقلية.

قوله تعالى : (وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ).

أي : ومن عاد إلى تعاطي الربا بعد تمام الحجة عليه مستحلّا له يكون من الكافرين بما أنزله الله تعالى وهم من أصحاب النار هم فيها خالدون مع عدم التوبة الماحقة للذنب.

ويستفاد ما ذكرناه من المقابلة بين العود وبين الانتهاء الوارد في الجملة السابقة الذي هو بمعنى التسليم والبناء على عدم المخالفة فإنّها تدل على أنّ العود هو الرجوع إلى الذنب الذي لا ينتهي عنه بعد تمامية الحجة عليه ، فيكون مصرّا عليه وهو في الواقع مستحل له وإن لم يظهره في كلامه الا إذا محقه بالتوبة هذا إذا كان المراد من العود ما ذكرناه.

وأما إذا كان المراد به مطلق الإتيان ثانيا مع عدم الاستحلال فيكون المراد بالخلود غير التأبيد بل بمعنى الركون كما في حديث عليّ (عليه‌السلام) يذم الدنيا : «لمن دان لها وآثرها وأخلد إليها» أي : ركن إليها.

٢٧٦ ـ قوله تعالى : (يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ).

مادة (محق) تأتي بمعنى نقصان الشيء حالا بعد حال حتّى يفنى ومحاق الشهر نقصانه ، وهو مدة ثلاث ليال من آخر الشهر لخفاء نور القمر ونقصانه

٤٢٤

فيها ، وقد يطلق المحق على ذهاب أصل الشيء وفنائه كما في الحديث «الحلف منفقة للسلعة ممحقة للبركة» ولم يرد هذا اللفظ في القرآن الكريم الا في موردين أحدهما المقام والثاني في قوله تعالى : (وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ) [آل عمران ـ ١٤١].

والارباء التنمية والزيادة ، وفي الحديث عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «إنّ صدقة أحدكم تقع في يد الله فيربيها كما يربي أحدكم فلوه ـ أي المهر ـ أو فصيله حتّى يجيء يوم القيامة ، وإنّ اللقمة لعلى قدر أحد».

والمعنى : يذهب الله تعالى الربا ويفنيه ويمحو البركة فيه وينمي الصّدقات ويزيدها على خلاف ما يتوهمه الناس فإنّهم يأخذون الربا طلبا لزيادة المال والله يمحقه ، ولا يتصدقون خوفا من نقصان المال والله يزيده وينميه ، ولا يختص نقصان الربا وزيادة الصدقات في الدنيا والآخرة بل هما عامان فيهما.

والآية الشريفة ترشد إلى بعض المصالح والحكم التي من أجلها حرّم الله تعالى الربا وأحلّ البيع وأباح الصّدقات ورغّب إليها فيكون المحق من الآثار اللازمة للربا كما أنّ الإرباء من الآثار اللازمة للصّدقات ، وذلك لأنّ الصّدقات والربا أمران اجتماعيان يخصان الطبقة الفقيرة والمحتاجة من المجتمع ، وهم الكثرة الكاثرة يؤثر فيها كل ما يزيد في عنائها ، ويستفزها كلّ ما يمسّ مشاعرها ، فتهب لنيل حقوقها والدفاع عن حياتها وإن استلزم الفناء والفساد ، وأما إذا أحسن إليها هدأت وقابلتها بالإحسان وأثرت الأثر الجميل فيها وشاع الصلح والوئام وتبتعد عمّا يثير الفساد والإفساد وتكون كنفس واحدة تنتشر فيها الرحمة والمحبة والتعاون ، وتعيش حياة سعيدة آمنة مطمئنة ويكون كلّ ذلك سببا لزيادة المال وإنمائه أضعافا مضاعفة ، كما وعد الله تعالى في الدنيا والأجر الجزيل في العقبى ، ولذا حث سبحانه على الإنفاق والصّدقات وأكد على إشاعتهما وإفشائهما.

وأما إذا أسيء إلى هذه الطبقة بما يزيد في عنائها ومشقتها وعجزها قابلوها بالنكاية والانتقام غافلين عما يترتب من الآثار المهلكة التي توجب

٤٢٥

الفساد والدمار فتشيع العداوة والبغضاء ، ويذهب الأمن والأمان ويستولي على النفوس الانتقام فتزداد الأمراض والآفات ، فيتغيّر خلق الله فلا يسلم فرد أو مال من أن تصيبه آفة أو هلاك ، وهذا هو معنى قوله تعالى : (يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ) وقد شهد التاريخ كثيرا من ذلك وتكفي واحدة من تلك العبر للاعتبار ، وهو من ملاحم القرآن الكريم الذي صدع به ونبه المسلمين إليه.

وإطلاق الآية الشريفة يشمل المحق والإرباء بالنسبة إلى الآثار الدنيوية والآثار الاخروية فلا تختص بعالم دون عالم فإنّ الله تعالى محيط بجميع العوالم.

كما أنّه لا يختص بمحق ثواب الأعمال التي يعرض عنها المرابي باشتغاله بالربا أو التي يبطلها التصرف في مال الربا كأنواع العبادات كما يقول به بعض المفسرين بل يعم ذلك والآثار الدنيوية كما عرفت.

وقال بعض المفسرين : إنّ المراد بقوله تعالى : (يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا) أنّ ما يطلبه المرابي من الربا بزيادة المال إنّما هو لأجل اللذة والبسطة في الجاه والمكانة والعيش الهنيء ولكن يصل إلى عكس هذه النتيجة من الهموم والأحزان والحب الشديد للمال والوله بجمعه ، ومقت الناس له ، والمبارزة مع من يريد صرفه عن ذلك فهو حينئذ قد فقد الانتفاع بما يريد من ماله فيكون كمن محق ماله وهلك.

وما ذكره صحيح ، ولكن ذلك أثر خاص فردي ، والقرآن إنّما يبحث عن هذه المسألة بما أنّها من موجبات هلاك النوع وما يفسد صلاح الاجتماع ، فهو يبيّن حكما عاما يؤثر في سعادة الإنسان نوعه وفروعه ، وهذا هو شأن القرآن الكريم في أحكامه وتكاليفه فيرشد إلى موجبات سعادة الفرد بما أنّه من ضمن الاجتماع كما يسعى إلى سعادة الاجتماع بما أنّه متكوّن من الأفراد فلا هو يتكلّم عن الفرد ولا هو يسكت عنه ، وهذا هو دأب هذا الكتاب العزيز.

ثم إنّه يصح نسبة المحق إلى البركة وإلى أصل المال ، وكذا إرباء

٤٢٦

الصّدقات وتنميتها ، فإنّ الله تعالى قادر على جميع ذلك ، ويستفاد ما ذكرناه من مفهوم قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) [الأعراف ـ ٩٦] ، وفي السنة المقدّسة من ذلك الشيء الكثير.

والتنمية والبركة والمحق مما يدركه الناس ومحسوسة لكلّ فرد فإنّ المسألة اجتماعية أكثر من كونها فردية وعمر الاجتماع يفترق عن عمر الفرد مع أنّ آثار المعاصي وإن كانت خفية على الناس ولكنّها ظاهرة لذوي البصائر ومن انكشفت لديهم السرائر ، يضاف إلى ذلك أنّ من أمعن النظر في الاجتماع الإنساني المعاصر يرى أنّ الآثار اللازمة للربا التي نبه إليها القرآن الكريم قد ظهرت فقد تجمعت الثروة التي جعلها الله تعالى للنوع وتراكمت في جانب وحل الفقر والحرمان في جانب آخر وشاع الفحشاء والمنكر وظهر الانفصال والافتراق بين الطائفتين الموسرين والمعسرين ، وهذا ما ينذر بالخطر إن لم يتداركه عقلاء البشر ولكن أنّى يكون مع استيلاء الفساد وهيمنته على النفوس.

قوله تعالى : (وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ).

الكفّار فعال من الكفر ، أي : المقيم عليه المتمادي فيه. والأثيم المبالغة في الإثم ، أي : المنهمك في ارتكاب الآثام.

يعني : أنّ المتعاطي للربا والتارك للصّدقات قد كفر بما أنعم الله عليه من نعمة المال الحلال ، ونعمة الأحكام الإلهية التي نزلت لسعادته فإنّ ترك الواجب وفعل الحرام كفران للنعمة والمداومة عليه قد يوجب الكفر ، وكفره بالإعراض عن الفطرة المستقيمة في المعاملات ، وكفره بإبطال عباداته ومعاملاته بأخذه الربا ، وكفره بالابتعاد عن مكارم الأخلاق ومزاولة سفاسفها ، كالحرص والطمع ، فلأجل كفران هذه النّعم الكثيرة التي أنعمها عليه ، فقد استقر في نفسه ارتكاب الآثام فهو كفّار أثيم والله تعالى لا يحبه. ويستفاد من الآية الشريفة التعليل لمحق الربا وتحريمه.

٢٧٧ ـ قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ

٤٢٧

وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).

يعني : إنّ الذين صدّقوا بالله جلّ شأنه ورسوله وما انزل عليه وعملوا الأعمال الصالحة التي تهذب نفوسهم وتهديهم إلى سبيل الرشاد وأقاموا الصلاة التي تذكرهم بالله تعالى وتزيد في مراقبتهم لربهم وآتوا الزكاة التي تطهّر نفوسهم من رذائل الأخلاق وتحلّيها بفضائلها أولئك لهم أجرهم الذي لا يعلم مقداره وخصوصياته الا الله تعالى محفوظ عنده يرعاه ويزيده ويضاعفه أضعافا مضاعفة ولا خوف عليهم من المتوقع ولا هم يحزنون على ما وقع فهم آمنون في جميع ما يرد عليهم من العوالم.

وإنّما خص سبحانه وتعالى الصلاة والزكاة بالذكر مع أنّهما بعض الأعمال الصالحة تعظيما لشأنهما فإنّهما من أعظم العبادات البدنية والمالية والنفسية.

وفي الآية المباركة بشارة للمحسنين المتصدّقين ، وتعريض بآكلي الربا ، ومضمونها حكم عام ينطبق على المورد انطباق الكلّي على الفرد كما أنّه قضية عقلية مقدم الآية علّة لمؤخرها ، وبينهما الملازمة العقلية والشرعية.

وتخلل هذه الآية المباركة بين الآيات الواردة في شأن الربا للإشارة إلى أنّ التكاليف الإلهية كلّها واحدة في استكمال النفس ، فالمناط كلّه إقامتها وإتيانها بالشروط المقرّرة ، وأنّ ترك المحرمات ومنها الربا من أهمّ شرائط القبول.

٢٧٨ ـ قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

خطاب آخر فيه التأكيد الأكيد على ترك الربا ، ووصف المخاطبين بالإيمان ، لأنّه الداعي إلى التصديق بالله ورسوله والالتزام بتنفيذ التكاليف الإلهية ، وأنّ المؤمنين بشرف إيمانهم تشرّفوا بالمخاطبة فكانت لهم قابلية الخطاب وبذلك تتم الحجة على الناس ، مع أنّ العقل بعد التأمل والتفكر

٤٢٨

كاف في الداعوية إلى إتيان الطّاعات وترك المعاصي ، فتكون الخطابات الشرعية الإلهية إرشادا إلى الأحكام العقلية ، ومنشئا لصحة العقوبة على المخالفة والمثوبة على الطاعة.

ثم أمرهم بالتقوى لأنّ بها تتم حقيقة الإيمان فلا يكفي مجرد الالتزام والتصديق القلبي إن لم يقترن بالعمل ، ولعظم المعصية حدوثا وبقاء.

وعقب سبحانه وتعالى ذلك بالأمر بترك ما بقي من الربا. ومنه يستفاد أنّه كان في عهد نزول الآية المباركة من يتعاطى الربا وله بقايا عند الناس ، ولذا قيد الكلام بأنّ ثبوت الإيمان وتماميته وحقيقته تقتضي ترك الربا حتّى ما بقي منه. ففيه التأكيد على ما تقدم ، وإيماء إلى أنّ ترك الربا من لوازم الإيمان.

٢٧٩ ـ قوله تعالى : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ).

الإذن كالعلم وزنا ومعنى ولتضمنه معنى اليقين عدّي بالباء ، وقرئ آذنوا (بالمد) من الإيذان بمعنى الإعلام أي : ليعلم بعضكم البعض بالمحاربة.

والحرب مع الله ورسوله : هي الخروج عن طاعتهما ومخالفتهما ، ويشتد عظم المحاربة حسب عظم المعصية ، ولعل التنكير في الحرب لأجل ذلك.

والمعنى : وإن لم تتركوا الربا وتصرّوا على فعله فاعلموا أنّكم محاربون لله ورسوله. والحرب من الله تعالى غضبه وانتقامه وإذلال المحارب له ، وتهييج ناموس الفطرة العامة عليه. كما أنّ الحرب من الرسول هي الإيذان بقتال الكافرين وإعلان العداوة مع المحاربين لله وإرغامهم إلى الطاعة.

وإنّما ذكر سبحانه وتعالى الرسول تعظيما لشأنه ، ولإثبات رسالته وسفارته الكبرى ، ولبيان وحدة أصل الدعوة وأنّه لا فرق فيها بين كونها من الله أو من الرسول والتفرقة اعتبارية لأنّه الأصل في تبليغ الأحكام الإلهية ، ولأنّ كون الحرب مع الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أقرب إلى حصول الخوف في أنفسهم لترك الربا لأنّهم رأوا منه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) القتل والإهلاك والإفناء

٤٢٩

فربما يكون سفير الملك أهيب عند بعض القاصرين من الملك نفسه.

قوله تعالى : (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ).

أي : وإن تبتم عن أخذ الربا ورجعتم عن الإصرار على فعله ، فلكم رؤوس الأموال التي دفعتموها إلى الغرماء كاملة بلا زيادة عليها ولا نقيصة فلا تظلمون بأخذ الزيادة ولا تظلمون بالنقص من رؤوس الأموال ، وهذا هو قانون العدل والإنصاف ، فلا يبقى موضوع للحرب والاعتساف ، وفي الآية المباركة التأكيد على ترك الربا الذي لم يقبض.

ويستفاد من الآية الشريفة : ثبوت المطالبة لصاحب الدّين على الغريم وأنّ الأخير لا يجوز له تأخير الدّين وإن امتنع كان ظالما.

٢٨٠ ـ قوله تعالى : (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ).

العسر خلاف اليسر ، وهما من الأمور الإضافية المختلفة باختلاف الأفراد والجهات والخصوصيات.

والنّظرة : التأخير والإمهال والآية تدل على الوجوب.

والميسرة : مصدر بمعنى اليسر. أي : وإن كان الغريم ذا عسرة ولم يجد ما يفي به دينه فيؤخر من له الحق مطالبة حقه ويمهل الغريم إلى زمان اليسار ليتمكن من أداء الدّين ولا إثم على الغريم في التأخير مع تحقق العسر.

والآية الشريفة لا تحدّد العسر واليسار ، ولكن السنة الشريفة فسّرت العسرة بما إذا لم يجد ما يوفي به دينه غير ما استثني له في الشريعة كالخادم والبيت والدابة ونحوهما مما هو مفصّل في كتب الفقه.

كما فسرت الميسرة فيها بما : إذا وجد ما يوفي دينه ، ومنه وصول خبره إلى الإمام فيفي عنه من سهم الغارمين. كما فصّلناه في كتابنا (مهذب الأحكام).

ومن سياق الآية الشريفة يستفاد : أنّه كانت عادة جاهلية في إعسار

٤٣٠

المديون فنزلت الآية الكريمة تحدّد ذلك وتبيّن الحكم الشرعي فيه ، ومضمونها من القواعد الشرعية الامتنانية في كثير من أبواب المعاملات والديون.

قوله تعالى : (وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ).

أي : وإن تصدق من له الحق وأبرأ المديون عن الدّين كلّا أو بعضا فهو خير له لتضاعف الثواب والأجر ، وفيه الحث على الصدقة.

والآية مطلقة لا يختص حكمها بمن ذكر في الجملة السابقة.

وعن بعض : أنّ المراد بالتصدق الإمهال والإنظار لما عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «لا يحل دين رجل مسلم فيؤخره الا كان له بكل يوم صدقة».

ولكنّه بعيد ، لأنّ الإنظار واجب ، كما تقدم في الآية السابقة ، وسياق هذه الآية يدل على التصدق بالإبراء ، والحديث أجنبي عن المقام.

قوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ).

أي : إن كنتم تعلمون ما هو الخير لكم وما في الصّدقة من الخير العظيم والفوائد الجليلة فإنّ فيها التعاطف والتراحم والصلة بين الأفراد ، وفيه من الترغيب والتأكيد على الصدقة ما لا يخفى. وفيه إيماء إلى أنّ ما ذكر في الآية هو العلم الذي يهدي الإنسان إلى الخير والرشد والسعادة.

٢٨١ ـ قوله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ).

أعظم آية لمن التفت إليها من أفراد الإنسان تأخذ بمجامع القلوب وتحرّض الناس نحو الغرض المطلوب ، تهيج القلوب بزواجر المعنى ، وتقرع الأسماع بجواهر اللفظ ، تتضمّن من العظة البالغة ما تكفي في الزجر إلى العمل بما جاء به سيد المرسلين ، وتهوّن على المكلّف جميع الصعاب رجاء أن يلقى الله تعالى بأفضل حال.

وهي آخر آية نزلت من القرآن الكريم ولم؟؟؟؟؟؟؟؟ بعدها ثم

٤٣١

مسرورا حتّى وصل إلى رحمة ربه وصار فيها مغمورا ، ومضمونها عام.

ولعل تذييل آيات الرّبا بها لأجل إعداد النفوس لتقوى الله ، وتحريضها على الورع عن محارمه ، والانتهاء عن انتهاك حرماته والتحرّج عن التعرض إلى حقوق الناس.

ولا بد أن تفعل هذه الآية بالامة نظير ما فعلت بالرسول الكريم ، بل بالأولى لأنّه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) عصم عن الخطإ والعصيان وهم مبتلون بهما.

ومادة (رجع) تأتي بمعنى العود إلى ما كان منه ، وهي متضمنة لقوله. (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) [البقرة ـ ١٥٦] ، كما في قوله تعالى : (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ) [هود ـ ٤]. والرجوع هنا هو المعاد.

أي : اتقوا ذلك اليوم وأهواله الذي ترجعون فيه إلى الله ، وفيه تمثيل الغائب المفقود بمثل الحاضر المشهود. يعني : لا بد أن يكون ذلك اليوم حاضرا في البال وظاهرا في الحال فلا يشغل الإنسان شيء من الشواغل الدنيوية حتّى يصير ذلك من الملكات الراسخة في النفس فيسعد كلّ شخص بأعماله وينتظم النظام.

قوله تعالى : (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ).

الوفاء والتوفية والإيفاء : بمعنى الإتمام ، وتوفية الأعمال باعتبار توفية الجزاء.

والكسب : العمل ، وهو عام يشمل ما ورد فيه ثواب وجزاء خاص في الشرع أولا ، لأنّ ما يصدر عن العبد إما أن يكون له ثواب أو فيه عقاب أو لا شيء فيه ، وفي الأول سروره ، وفي الثاني مساءته ، وفي الأخير حسرته.

والمعنى : ثم تجازى كلّ نفس ما عملت من خير أو شر جزاء وافيا ويصح أن يكون (ثم) لمطلق الترتب ، كما في ترتب النتيجة على المقدمات ، لأنّ يوم الرجوع إلى الله يوم أخذ نتائج مقدمات حصلت في الدنيا ، وهي

٤٣٢

حاضرة لديه تعالى وذلك اليوم هو يوم ظهور عمل العاملين وشهودهم له.

قوله تعالى : (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ).

الضمير يرجع إلى الناس المدلول عليه جملة «كلّ نفس» أي : وهم لا ينقصون من جزائهم شيئا وفيه تأكيد على وفاء الجزاء كما تدل عليه آيات كثيرة ، قال تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة ـ ٨] ، وقال تعالى : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) [الأنبياء ـ ٤٧].

ويستفاد من هذه الآية المباركة أمور :

الأول : الإشارة إلى قاعدة دفع الضرر المحتمل إذا كان الضرر أخرويا فيستقل العقل بوجوب دفعه بالأدلة الأربعة وهو يتحقق بطاعة الله تعالى والانزجار عن معاصيه.

الثاني : أنّها تدل على قاعدة احترام العمل التي هي من القواعد النظامية فلا بد من الجزاء والعوض على كلّ عمل وأنّ تركه قبيح وهو محال بالنسبة إليه جلّ جلاله.

الثالث : أنّ هذه الآية الشريفة أصل الآيات الواردة في إيجاد الداعي إلى الطاعة والانتهاء عن المعصية وتذكر الإنسان بفعل المعروف وترك المنكر وهما مما يقوم به النظام الأحسن في هذا العالم.

٤٣٣

بحوث المقام

بحث أدبي

قوله تعالى : (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا) مبتدأ وقوله تعالى : (لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ) خبره.

والمشهور بين الأدباء : أنّ الربا من ذوات الواو لأنّ تثنيته ربوان وقال الكوفيون : يكتب بالياء وتثنيته بالياء لأجل الكسرة التي في أوله وهو القاعدة في ذوات الثلاثة إذا انكسر الأول أو انضم نحو ضحى وإن انفتح الأول كتبوه بالألف وثنّوه بالواو نحو صفا.

وقال الزجاج : ما رأيت خطأ أقبح من هذا ولا أشنع لا يكفيهم الخطأ في الخط حتّى يخطئوا في التثنية.

وقال محمد بن يزيد : كتبت الربا في المصحف بالواو فرقا بينه وبين الزنا وكان الربا أولى منه بالواو لأنّه من ربا يربو.

التخبط من التفعل أي : من كثر خبطه بسبب مس الشيطان واستولى عليه ذلك.

٤٣٤

قوله تعالى : (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) يحتمل فيه وجهان :

الأول : أن تكون جملة حالية يعني : والحال أنّ الله أحلّ البيع وحرّم الربا فيكون ردا لقولهم في القياس الفاسد.

الثاني : أن تكون جملة مستأنفة لأنّ الجملة الفعلية المصدّرة بالماضي يجب تصديرها ب (قد) إذا كانت حالا.

والألف واللام في البيع والربا للعهد أي : المعهودان عند الناس والمتعارف بينهم.

قوله تعالى : (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ) سقطت علامة التأنيث من جاءه لأنّ تأنيث الموعظة غير حقيقي وهو بمعنى الوعظ.

وكان في قوله تعالى : (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) تامة بمعنى وجد. وارتفع (ذو) بها.

والتعبير عن المصدر بالفعل في قوله تعالى : (وَأَنْ تَصَدَّقُوا) لكونه أظهر في الإقدام على فعل الصّدقة واختيارها ويوجب الرغبة إلى التصدق بالدّين على المعسر.

ويوما في قوله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً) منصوب على المفعول لا على الظرفية ، وجملة (تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) نعت له.

٤٣٥

بحث دلالي

تدل الآيات الشريفة على امور :

الأول : يستفاد من هذه الآيات التشديد في أمر الرّبا والتأكيد على تركه ولم يشدد سبحانه في المعاصي الكبيرة بما شدد في الربا لما فيه من سوء التأثير في الفرد والأمة ، وما فيه من طمس الفطرة ومحو نورها وما يجلب من الشقاء على أفراد الإنسان وانعدام الفضائل بينهم.

الثاني : يدل قوله تعالى : (لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ) على أنّ الإنسان يخرج عن الحالة الطبيعية بفعل المعاصي والموبقات والجرائم وذلك لأنّ الإنسان في حالته الطبيعية يكون على استقامة وتوازن في أفكاره وأعماله ذو نظام صحيح في أقواله وأفعاله ، فإذا أصيب بحالة مرضية كالجنون خرج عن ذلك التوازن والنظام ، وكذا إذا فعل المعصية وأصرّ عليها واستولت على قلبه خرج عن تلك الاستقامة في الأفعال وانطمس نور الفطرة في نفسه ، وهذه الحالة يعبّر عنها في علم النفس الحديث بتعبيرات مختلفة كالشذوذ ، أو الانفصام والصرع ونحو ذلك تبعا لاختلاف درجات اختلال التوازن الفكري عنده وهي من أشدّ حالات الإنسان وما نزلت الكتب الإلهية ولم ترسل الرسل والأنبياء الا لمعالجة هذه الحالات التي يعبّر عنها القرآن الكريم بتعبيرات مختلفة منها قوله تعالى : (كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ) وأمثالها من الآيات الشريفة التي ترشد

٤٣٦

الإنسان إلى حقائق واقعية يجب دراستها ومعالجتها وليست هي أمورا وهمية كما يدعيها بعض المفسرين. وقد تقدم في التفسير ما يرتبط بذلك وسيأتي في الآيات المناسبة تفصيل الكلام.

الثالث : يدل قوله تعالى : (كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ) على أنّ بعض الحوادث في الإنسان تستند إلى امور خارجة عن إدراكه كالملك مثلا ، ففي مورد الآية الشريفة يستند الجنون والصرع إلى مس الشيطان وفعله وبما أنّه من الجن وفرد من أفراده فيكون للجن ضرب في بعض الأمراض التي تصيب الإنسان ويدل على ذلك بعض الآيات الشريفة قال تعالى حكاية عن أيوب (عليه‌السلام) : (نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ) [ص ـ ٤١] ، والمراد من النصب والعذاب هو المرض بقرينة قوله تعالى : (رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) [الأنبياء ـ ٨٣].

والمرض تارة : يكون له أسباب طبيعية وتكوينية معروفة واخرى أسباب غير مدركة للحس كالشيطان والجن ونحو ذلك من الأسباب فلا يمكن إنكار ذلك بمجرد عدم إمكان إدراك السبب كما يدعيه الماديون ، وقد ذكرنا مرارا أنّ الأسباب جميعها ترجع إلى الله تعالى فهو مسبب الأسباب وإن جرت عادته عزوجل على أن لا يجري الأمور الا بأسبابها وإنكار هذا الأمر ممن ينكر وراء الطبيعة ليس ببعيد. ولكن لا ينقضي العجب من بعض المفسرين الذي ينكر هذا التشبيه في الآية الشريفة ويعتبره من قبيل المجاراة مع عامة الناس في بعض اعتقاداتهم الفاسدة ولا ضير في ذلك فإنّه تشبيه خال عن الحكم وقال : بأنّ استناد الجنون إلى الشيطان وتسليطه على الإنسان يخالف عدله عزوجل. ولكن بعد الإحاطة بما ذكرناه يظهر فساد ما ذكره فإنّ الله تعالى أجل من أن يذكر الباطل في كلامه من دون أن يظهر بطلانه ويبيّن فساده.

واعتبار كونه مخالفا لعدله عزوجل مردود فإنّ حكمته اقتضت أن يمتحن عباده بأمثال ذلك ويجري في الامتحان بالأسباب الطبيعية كالأمراض والجنون بسبب طبيعي فما يقوله فيه يجري في المقام أيضا.

الرابع : يدل قوله تعالى : (لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ

٤٣٧

الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ) على أنّ للمعاصي آثارا لا يعلمها الا الله تعالى أو من يعلّمه وما ورد في الآية الشريفة أثر من تلك الآثار وهي لا تختص بجهة خاصة من الإنسان فتشمل الروح والجسد وسائر أموره وهذا ما تبينه آيات اخرى أيضا والعلم بها لا يحصل الا بالوحي فلا يمكن تحصيلها بالتجربة.

الخامس : يدل قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) على ظهور التخبط على الأقوال بعد ثبوته في الأفكار لشدة انغمارهم في المعصية وإصرارهم على ارتكاب الكبيرة فإنّ للتخبط درجات متفاوتة حسب مراتب المعصية والمداومة عليها.

السادس : يدل قوله تعالى : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) على ارتباط الأحكام بالمصالح والمفاسد وهي معلولة لها ولا فرق بين كونها مصالح ومفاسد عامة أو خاصة فلا يتحقق تشريع حكم جزافا من دون مصلحة أو مفسدة وقد ذكر علماء الفقه والأخلاق وغيرهما علل الأحكام ومصالحها ومفاسدها في مواضع متعددة بل قد ألّفوا فيها كتبا خاصة ولكن علمها منحصر بالله تعالى وما ألهمه إلى أوليائه وقد ورد عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) والأئمة الهداة (عليهم‌السلام) بعض منها.

السابع : استدل المعتزلة على خلود مرتكب الكبيرة في النار بقوله تعالى : (وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) ولكن عرفت أنّ الآية الشريفة وإن كانت مطلقة في خلود مرتكب الكبيرة إلا أنّ سياقها يدل على أنّ الخلود في النار كان بسبب ارتكاب الكبيرة والإصرار عليها ، والاستهزاء بالأحكام الإلهية وهو يدل على كفره بما أنزله الله تعالى ومثله يخلد في النار إن لم يتب.

الثامن : يدل قوله تعالى : (يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ) على أنّ المحق من لوازم الرّبا كما أنّ الإرباء من لوازم الصدقة لا ينفكان عنهما ، والمحق لا يختص بخصوص زوال المال بل يشمل حدوث النقمة وزوال البركة وإيجاد آفات وبلايا تعجز دونها النفوس وتذهب المال هدرا فتكون

٤٣٨

الأموال الحاصلة من الربا كأن لم تكن فإنّ لله تعالى جنودا من أنواع البلايا والمحن.

كما أنّ محاربة الله مع المرابين لا تختص بخصوص المقاتلة وإزهاق النفوس بل تشمل الجميع ، وكذا إرباء الصّدقات لا يختص بزيادة الأموال بل تشمل البركة وكلّ ما فيه الخير والنفع ، فالصدقة ربا في الواقع وإن لم يصطلح عليها الربا وإنّ الربا ممحوق لا محالة وإن سمي ربا في الظاهر.

التاسع : يدل قوله تعالى : (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ) على ثبوت أصل الملكية وتقريرها بين الناس وإمضاء جميع المعاملات والتكسب بالأموال ما لم يكن منهيّا عنه شرعا فإنّ المال إنّما يكون رأسا إذا صرف في وجوه المعاملات.

كما أنّ قوله تعالى : (لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ) يدل على أنّ الرّبا ظلم يجب الابتعاد عنه بفطرة العقول.

العاشر : يدل قوله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) على إيجاد المراقبة في النفس وعلى الأعمال التي هي أساس الإيمان وأصل التقوى فإنّ الإنسان لا يبلغ العبودية الحقيقية الا بالمعية الانقيادية لله تعالى والانقطاع عما سواه وبها تتم الإنسانية الكاملة التي هي السعادة الأبدية وهي التي يدعو إليها الله تعالى وجميع الأنبياء والعقل المجرد عن شوائب الأوهام ، فالآية الشريفة بمضمونها الرفيع واسلوبها الجذاب تدعو إلى الكمال المطلق وحقيقة العبودية وهي المراقبة والانقياد وبهما تتحقق التقوى التي ينادي بها القرآن الكريم.

الحادي عشر : يدل قوله تعالى : (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) على العدل الإلهي الذي أثبتوه بالأدلة الأربعة.

الثاني عشر : لم يبدأ الله تعالى الخطاب في قوله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) بمثل يا أيّها الذين آمنوا ، أو يا أيّها الناس لأنّ الخطاب فيه إنّما هو لبيان انقلاب العوالم والترتب الواقعي بين العلل والمعلولات وكلّ

٤٣٩

ذلك من قبيل القضايا الطبيعية التي لا بد من وقوعها في السير التكاملي الذي هو أساس النظام الأحسن كقوله تعالى : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ) [إبراهيم ـ ٤٨] ، وقوله تعالى : (يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً) [لقمان ـ ٣٣] ، ونحو ذلك من الآيات الشريفة.

وإنّما قدم سبحانه وتعالى التقوى لأنّها الركيزة الاولى والركن الركين في هذا المسير الاستكمالي بل هي المركب الهنيء والباقي ليس الا موانع وعوائق عن الوصول إلى هذا الغرض ، فالغاية لخلق هذا العالم ليس الا استكمال العقل وهو لا يحصل الا بالتقوى فهي العلة الغائية والفاعلية والصورية والمادية وقلّما يتفق مثل ذلك في شيء آخر.

٤٤٠