مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة أهل البيت (ع)
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥١٦

سورة البقرة

الآية ٢٥٣

(تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (٢٥٣))

بعد ما ذكر سبحانه وتعالى في الآيات السابقة وجوب الإنفاق والجهاد في سبيل الله وإقامة الحق وقد ضرب عزوجل لذلك مثلا من الأمم الماضية ليعتبر به المؤمنون ولتطيب به نفوسهم بما يلقونه من العنت والمشقة في سبيل الله تعالى وإقامة دينه عزوجل وقد وعد المؤمنين بالنصر وبشرهم بالفوز وختم الكلام بالمرسلين الذين هم واسطة الفيض أرسلهم الله ليخرجوا الناس من الظلمات إلى النور.

ذكر في هذه الآية الشريفة أنّ تلك الرسل ميّزهم الله تعالى في الفضل والدّرجات بعد ما أيدهم بالبينات.

وذكر من أسباب التفضيل ثلاثة : تكليم الله تعالى ، ورفع الدّرجات والتأييد بروح القدس ، وخص سبحانه من الأنبياء الذين بقي لهم أتباع ، فأمرهم بالاتحاد ونبذ الاختلاف اللذين هما من أركان الأديان الإلهية. ولكنّهم اختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات فآل أمرهم إلى الاقتتال ، ولو شاء الله لأزال ما يوجب الاختلاف والاقتتال ولكن قضت حكمة الله المتعالية أن يجري الأمور بالأسباب ولا رادّ لحكمه وهو يفعل ما يريد.

١٨١

التفسير

٢٥٣ ـ قوله تعالى : (تِلْكَ الرُّسُلُ).

تلك إشارة إلى الرسل الذين تضمنهم قوله تعالى : (وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) وأنّثها باعتبار الجماعة ، وإنّما أتى بها بعيدا لبيان فخامة أمرهم وعظم شأنهم كما ذكرنا في قوله تعالى : (ذلِكَ الْكِتابُ) [البقرة ـ ٣].

ومادة رسل من المواد الكثيرة الاستعمال في القرآن الكريم مفردة وجمعا ، تكسيرا وسالما ، مقرونا بالله تعالى كقوله عزوجل : (رَسُولٌ مِنَ اللهِ) [البينة ـ ٢] ، وقوله تعالى : (جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ) [المائدة ـ ٣٢] ، وقوله تعالى : (لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) [المجادلة ـ ٢١] ، وقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِ) [الفتح ـ ٢٨] ، وغير ذلك مما هو كثير.

والرسالة فضيلة إلهية وسفارة ربانية تشتمل على جميع الخيرات والفضائل لها من الرفعة والبهاء والعظمة ما تقصر عن بيانها الألفاظ يمنحها عزوجل لبعض أفراد الإنسان كما قال جلّت عظمته : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) [الأنعام ـ ١٢٤] ، لأنّها ترجع إلى كمال الإنسان غير المحدود بحد المؤيد من عالم الغيب فإنّ آخر قوس الصعود في الممكنات إنّما هو مقام الإنسانية ثم ترتفع في عالم لا حدّ له ولا نهاية له لا سيما إذا زالت الاثنينية بالكلية ، كما في قوله تعالى مخاطبا لحبيبه : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ

١٨٢

رَمى) [الأنفال ـ ١٧] ، وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) [الفتح ـ ١٠] ، فإنّ آخر مقامات الإنسانية الكاملة والدرجات المعنوية الشاملة هي الرسالة الإلهية فهي برزخ بين العالم المحدود بحد الإمكان والعالم الرّبوبي غير المحدود بحد.

وللرسول شأن عظيم في ربط عالم الشهادة بعالم الغيب ، وهو السفير الخاص من العالم الربوبي اختاره الله تعالى لتبليغ الرسالة وهداية العباد إلى ما فيه السعادة.

والسفير لا بد أن يكون مطلعا على أسرار ما يكون سفيرا فيه ويحيط بخصوصيات من يكون سفيرا إليه ، فإنّ عظم المنصب يقتضي ذلك وإنّ بالرسول يعرف المرسل وقد قال عليّ (عليه‌السلام) : «يعرف عقل الرجل من سفيره».

ورسل الله تعالى كلّهم يشتركون في فضيلة الرسالة ويستوون في هذه الموهبة الإلهية والمنحة الربانية ويتفقون في أصل النبوة القابلة للتشكيك إلى مراتب متفاوتة ، وهم حقيقون بالاتباع وجديرون بالاقتداء بهديهم إلّا أنّهم متفاضلون في الدّرجات ويتفاوتون في المقامات ، ففيهم من هو أفضل ومن يكون مفضّلا عليه بما امتاز به الأفضل من الخصائص التي لا يعلمها إلا الله تعالى قال عزوجل : (اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ) [آل عمران ـ ١٧٩].

والمراد بالرسل جميعهم ولكن خصّ بعضهم بالذكر والوصف تعظيما ، أو لأجل بقاء اتباعهم وهم ثلاثة من أولي العزم : موسى ، وعيسى ، ومحمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله وعليهم).

قوله تعالى : (فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ).

الفضل معروف وهو إما فردي كفضل زيد على عمرو مثلا ، أو صنفي كفضل العالم على الجاهل ، أو نوعي كفضل الإنسان على الحيوان ، أو جنسي كفضل الحيوان على النبات ، وفضل الرسل بالنسبة إلى غيرهم من قبيل الثاني ، وفضل بعضهم على بعض من قبيل الأول.

١٨٣

ثم إنّ تفاضل الرسل بعضهم على بعض يكون من جهات :

الأولى : اختلاف الاستعدادات التي لا يعلمها إلا الله تعالى.

الثانية : اختلاف نفس هذا المقام الإلهيّ والجمال المعنوي ، فإنّه إذا كان للجمال الظاهري مراتب لا تحصى ، فالجمال المعنوي أحق بذلك وأولى.

الثالثة : الاختلاف في العلوم والمفاض عليهم من عالم الغيب.

الرابعة : الاختلاف في مراتب الانقطاع إليه عزوجل التي لا نهاية لها.

الخامسة : الاختلاف في مراتب تحمل الأذى في إبلاغ الرسالة الإلهية.

السادسة : الاختلاف في عدد الأمة والأتباع وفضائلهم المعنوية.

السابعة : الاختلاف في الشريعة في كمالها وتأييدها ونحو ذلك.

الثامنة : الاختلاف في كون كتبهم السماوية شرعة ومنهاجا لعدد من الأنبياء اللاحقين.

التاسعة : الاختلاف في تشعير المشاعر الدّينية وإعلامها.

العاشرة : الاختلاف في البينات والآيات والمعجزات كمية وكيفية.

الحادية عشرة : الاختلاف في التصرف في هذا العالم وهم في عالم البرزخ في كونهم واسطة الفيض والبركات التي تنزل عليهم ثم منهم إلى غيرهم.

الثانية عشرة : الاختلاف في الغرض وهو مراتب الجنان فإنّ الأنبياء (عليهم‌السلام) يختلفون فيها فإنّ بعضهم في جنة الرضا وبعضهم في الرضوان.

وبعض تلك الأمور من الأمور التكوينية الذاتية وبعضها من المجعولة للذات ، والجميع تنتهي إليه عزوجل إمّا بالجعل البسيط أو المركب ولا يسع المقام تفصيل ذلك.

١٨٤

وكيف كان فإنّ جميع تلك الجهات موجودة في نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) الذي جعله خاتما لما سبق وفاتحا لأبواب المعارف على اللاحقين وهو صاحب المعجزة الخالدة.

قوله تعالى : (مَنْ كَلَّمَ اللهُ).

في الآية المباركة التفات عن الضمير إلى الظاهر ، وعن الحضور إلى الغيبة تفخيما لهذه الدرجة والمنقبة وتعظيما لهذه الفضيلة ، ولأنّ التكليم إنّما يكون فضيلة عالية وخصلة سامية إذا كان مع عظيم ، فاكتساب الفضل والسّموّ ـ في المقام ـ بإضافته إلى الله عزوجل.

ومادة (كلم) تأتي بمعنى التأثير المدرك بإحدى الحاستين كالكلام بالسمع ، والجرح بالبصر ، فالكلام إظهار المراد ، ولا يعتبر في التأثير والإظهار أن يكون بالآلات الجسمانية ، لأنّ الألفاظ موضوعة للمعاني الأعم مما يمكن إحاطة العقل بها أو ما لا يمكن ذلك ، ولكن لو فرض أنّه أحاط بها لحكم عليه بالصدق والحقيقة ، وهذا وجداني فإنّه كم كانت من معان غير معقولة في غابر العصور إلا أنّها صارت معقولة ومحسوسة في عصرنا ، وسيأتي في البحث الفلسفي ما يتعلق بالكلام الإلهي.

والآية المباركة مجملة في المقام وتشرحها آية أخرى من أنّه كان مع موسى بن عمران (عليه‌السلام) قال تعالى : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) [النساء ـ ١٦٤] ، وقال تعالى : (قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي) [الأعراف ـ ١٤٤] ، وقد ورد في السنة الشريفة متواترا تكليم الله تعالى نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بدون توسط جبرائيل كما في المعراج وغيره.

وقيل : إنّ المراد مطلق الوحي لأنّه تكليم خفي وقد اطلق عليه التكليم في قوله تعالى : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) [الشورى ـ ٥١].

ولكن هذا الوجه لا يمكن المساعدة عليه فإنّ وحي الله وإن كان عاما

١٨٥

لجميع الرسل والأنبياء ولكن المعهود من التكليم غير الوحي العام مضافا إلى أنّه ينافي التبعيض الوارد في الآية الشريفة.

قوله تعالى : (وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ).

فيه التفات عن الحضور إلى الغيبة أيضا تعظيما وتفخيما لهذه الفضيلة السامية حيث نسب الرّفع إلى الله تعالى كما ذكرنا آنفا.

ورفع الدّرجة من الأمور الإضافية النسبية فيصح أن يكون لرسول رفع درجة من جهة ولآخر رفع درجة من جهة أخرى ، ولا ريب في أنّ لسيد الأنبياء (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أرفع الدّرجات على سائر المرسلين (عليهم‌السلام) لما ورد عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «آدم ومن دونه تحت لوائي يوم القيامة» وفي الدنيا أيضا ، يكون العلة الغائية للخليقة مطلقا ، وقد ثبت في محلّه أنّ العلة الغائية علة فاعلية بوجودها العلمي وغائيّة بوجودها الخارجي ، ومع ذلك قال تعالى مخاطبا له (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : (أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) [النحل ـ ١٢٣] ، وفي بعض المأثورات المعتبرة : «أللهم صلّ على محمد كما صلّيت على إبراهيم» ويستفاد من مجموع ذلك رفع درجة إبراهيم (عليه‌السلام) من جهة وإن كان لسيد الأنبياء أرفع الدّرجات من سائر الجهات.

ولا بد من استفادة رفع الدّرجات لكلّ نبيّ من القرآن الكريم والسنة الشريفة لأنّ العقل لا يحيط بذلك ، وقد ورد في القرآن الكريم في بعض الأنبياء (عليهم‌السلام) ما يدل على رفع درجاته من جهة ، قال تعالى في إبراهيم : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) [البقرة ـ ١٢٤] ، وقال تعالى : (سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ) [الصّافات ـ ٧٩] ، وقال تعالى في إدريس (عليه‌السلام) : (وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) [مريم ـ ٧٦] ، وقال تعالى في يوسف (عليه‌السلام) : (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) [يوسف ـ ٧٦] ، وقال تعالى في داود : (وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) [النساء ـ ١٦٣] ، وغير ذلك مما خص به بعض الأنبياء ، وأما نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فقد ورد فيه ما لا يحصى كتابا وسنة قال تعالى : (إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ

١٨٦

عَظِيمٍ) [القلم ـ ٤] ، وقال تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء ـ ١٠٧] ، وقال تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً) [سبأ ـ ٢٨] ، وقال تعالى : (وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) [الأحزاب ـ ٤٠] ، وخص كتابه المنزل عليه بأن جعله المعجزة الخالدة المهيمن على جميع الكتب ، وأنّ فيه تبيان كلّ شيء ، وأنّه محفوظ من التحريف والزيغ والباطل ، فقال تعالى فيه : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) [الإسراء ـ ٨٨] ، إلى غير ذلك من خصائصه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) التي رفع بها درجاته على سائر الأنبياء ومما ذكرنا يظهر الوجه في كثير مما قاله المفسرون في المقام.

قوله تعالى : (وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ).

البينات جمع بينة : وهي الدلالات الواضحة والعلامات الظاهرة لكلّ أحد كإحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص ، وخلق الطير ، ونزول المائدة من السّماء ونحو ذلك من المعجزات والآيات التي تفرّق بين الحق وغيره.

ومادة (قدس) تأتي بمعنى الطهارة المعنوية في كلّ ما لا ينبغي ولا يليق كالتي في قوله تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) [الأحزاب ـ ٣٣] ، فهي نزاهة معنوية توجب الارتباط بعالم الغيب.

ولها استعمالات كثيرة في الكتاب والسنة. وحظيرة القدس فسّرت بالشريعة المقدّسة كما فسّرت بالجنة أيضا ، وهما واحد في الحقيقة وإن اختلفا مفهوما.

وروح القدس هو جبرئيل كما في بعض الأخبار ، وعليه جمع من المفسرين وبعض أهل اللغة. وفي بعض الأخبار أنّ روح القدس أعظم من جبرئيل.

وقيل : إنّ روح القدس عبارة عن الروح الطيبة المقدّسة.

١٨٧

وفيه : أنّه خلاف المنساق من هذه الكلمة التي يستفاد منها أنّها علم لفرد خاص.

والتأييد : النصرة والتقوية ، وتأييد عيسى بروح القدس غير خلقه من نفخة روح القدس كما هو الظاهر ، فإنّ هذه النفخة كالمادة العاقدة في رحم مريم ابنة عمران ، والتأييد إنّما هو بعد الخروج من الرّحم.

وقد كرّر سبحانه وتعالى تأييد عيسى (عليه‌السلام) بروح القدس في القرآن الكريم ثلاث مرات إحداها في آية (٨٧) من هذه السورة والثانية هنا ، والثالثة في قوله تعالى : (إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ) [المائدة ـ ١١٠] ، ولم يذكره تعالى في سائر الأنبياء حتّى في شأن إبراهيم (عليه‌السلام) الذي هو مؤسس الملّة الحنيفية وصاحبها ، ولعلّ الوجه في ذلك أنّه تعالى حيث خلق عيسى من غير أب ، وهو خرق لنظام التكوين كرّر تعالى ذلك وصرّح باسمه لتثبيت القلوب وعدم المبادرة إلى جحود الواقع المحجوب ، كما كرّر عزوجل قصة خلق آدم (عليه‌السلام) في موارد من القرآن الكريم ، فيكون التصريح باسمه (عليه‌السلام) في المقام مع عدم ذكر غيره من الرسل ردا لما كان يفعله اليهود في تحقيره وما يعتقده النصارى في ألوهيته.

ثم إنّ التأييد بروح القدس أو غيره من الملائكة المدبرة لهذا العالم بإذن الله تعالى لا يلزم أن يكون بنحو الاتحاد أو الحلول ، بل يكفي فيه نزول شارقة من شوارق عالم الغيب على من أراد الله تعالى تأييده وهذه الإشراقات الغيبية مسخرات بأمر الله عزوجل وإرادته الكاملة التامة فلا تختص بحال أو زمان بل هي تدور مدار مشيئته عزوجل.

قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ).

فيه التفات من الإضمار إلى الإظهار ، لأنّه تعالى في مقام إظهار القدرة الأزلية ، وبيان أنّ الإرادة والمشيئة لا يغلبها شيء فهو عزوجل المهيمن على جميع الحوادث كلياتها وجزئياتها يحكم ما يريد ويقضي ما يشاء وفق الحكمة

١٨٨

المتعالية فهو الإله الذي لا يعجزه شيء ، ولذا أظهر في مقام الإضمار ، وعدل إلى الغيبة.

والمشيئة الإلهية تارة تكون حتمية وأخرى اقتضائية ، والأولى هي المراد في قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا) ، والثانية هي المراد في قوله تعالى : (وَلكِنِ اخْتَلَفُوا) وبذلك يرفع الجبر.

والمعنى : ولو شاء الله أن يلجئ عباده على عدم الكفر والعصيان وترك الاقتتال فهو المهيمن على جميع عباده القادر القاهر الذي لا يعجزه أحد ولكن اقتضت حكمته المتعالية أن لا يلجئهم على ذلك فقد خلقهم وأنعم عليهم بأنواع النعم ظاهرة وباطنة وميزهم عن سائر خلقه بالعقل وجعلهم أحرارا وأنزل عليهم البيّنات الواضحات ولكنّهم اختلفوا بعد وضوح الحق وبيان الرسل سبل الهداية لهم وإتمام الحجة عليهم فهم باختيارهم نبذوا الاتحاد الذي أراده الله تعالى وطرحوا السعادة التي كتبها عزوجل لهم.

قوله تعالى : (وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ).

أي : أنّ سبب الاختلاف كان من أنفسهم فمنهم من آمن إيمانا صحيحا. ومنهم من اتبع هواه وكفر بما جاء به النبيون وهذا الاختلاف إنّما هو لأجل اختلاف الاستعدادات اقتضاء كما هو سنته في خلق الأسباب في هذا العالم.

قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ).

أي : ولو شاء الله لخلقهم على فطرة واحدة وجبلهم على الاتحاد والمحبة ونبذ الاختلاف والاقتتال ، ولكن الله يفعل ما يريد حسب الحكمة البالغة التامة.

ويمكن التفرقة بين هذه الجملة وسابقتها بالاختلاف بحسب الحدوث والبقاء ، أو بحسب دفع الاختلاف قبل الفطرة بأن يجبرهم على الاتحاد أو بعد جعل الفطرة فيرفع عنهم الاختلاف ويلجئهم على الاتحاد.

١٨٩

بحوث المقام

بحث دلالي

يستفاد من الآية الشريفة أمور :

الأول : الآية الشريفة تنص على تفضيل الله الرسل بعضهم على بعض ، وهو لا يكون على حد الإلجاء والاضطرار بل ينتهي إلى الاختيار لترتفع الدّرجات وتزداد المثوبات وليس ذلك من قبيل تفضيل الأحجار الكريمة على سائر الأحجار ، فقد شاء الله تعالى أن يكون بين رسله تفاضل حاصل من اختيارهم ليكون لهم الجزاء الأوفى والدّرجات العالية.

إن قلت : إنّه ذكرتم أنّ التفاضل قد يكون بحسب الذوات الشريفة فربما يكون بعض الأنبياء أكثر استعدادا من غيره وهو خارج عن الاختيار ، كما ورد عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «الناس معادن كمعادن الذهب والفضة».

قلت : إنّ ذلك لم يكن على نحو العلية التامة المنحصرة بل هو من مجرد الاقتضاء فقط وإلا لزم فيه مفاسد كثيرة لا يمكن الالتزام بها فيكون المقام مثل قوله تعالى : (وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً)

١٩٠

[النساء ـ ٩٥] وليس مثل قوله تعالى : (وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) [الرعد ـ ٤] الذي يكون غير اختياري.

الثاني : أنّ تفضيل الله تعالى بعض الرسل على بعض يتضمّن رفع الدّرجات أيضا وعليه ربما يتوهم أن يكون ذكر الأخير ـ وهو قوله تعالى : (وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ) ـ مستدركا. وهو مردود بأنّ التفضيل إنّما هو باعتبار بعض الجهات ، ورفع الدّرجات إما عام أو مختص بالمقامات الاخروية.

الثالث : يستفاد من نسبة الاختلاف إلى الإنسان وعدم نسبته إلى الله تعالى أنّ الاختلاف في الإيمان والكفر وجميع المعارف الإلهية إنّما يكون من الإنسان وهو يحصل بالبغي والجحود والظلم ، ويدل على ذلك قوله تعالى : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [البقرة ـ ٢١٣] ، وقد تقدّم في تفسيرها ما يرتبط بالمقام.

الرابع : يستفاد من الآية الشريفة أنّ الأنبياء (عليهم‌السلام) إنّما بعثوا بالرسالة الإلهية وأيدوا بالبينات الواضحة التي تبين الحق وتدحض الباطل ، والغرض من ذلك هداية الإنسان وإيصاله إلى الكمال اللايق به ولكن ذلك لا يزيل العناد واللجاج بل هما من غرائز الإنسان التي لا يصلحهما الا القتال ، ويدل عليه قوله تعالى : (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) [الحديد ـ ٢٥] ، حيث قرن سبحانه إنزال الحديد مع إنزال الكتاب والميزان وبهما يفصل بين الحق والباطل فيكون الحديد كذلك فالجهاد في سبيله تعالى مما لا بد منه في كلّ تشريع إلهيّ لإقامته وإبطال زيغ المبطلين ورفع عناد المعاندين. ولكن لو شاء الله لرفع الجهاد في سبيله وما اقتتلوا ولكنّ الله يفعل ما يريده فإنّ الحكمة اقتضت أن يرسل الرسل ويأمر بالجهاد في سبيله ، لإقامة دينه ونشر الحق

١٩١

ويستفيد الإنسان من الرسالة الإلهية والمعارف الربوبية حتّى يصل إلى الكمال المطلوب.

الخامس : ذكر بعض المفسرين إشكالا على تفسير هذه الآية المباركة بما ورد عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بطرق مختلفة : «لا تخيّروا بين الأنبياء فإنّ الناس يصعقون ـ أي يغشى عليهم ـ يوم القيامة» ، وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «لا تفضلوا بين أنبياء الله» وفي بعض الأخبار عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «لا تخيّروني على موسى» أو «لا ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس ابن متى».

وهو مردود لأنّ النّهي راجع إلى الترجيح من عند أنفسهم لا التفضيل والترجيح الذي أثبته الله تعالى لهم ، وقد ذكرنا أنّ التفضيل بما فضّله الله تعالى أمر لا بد منه.

ويمكن أن يحمل على أصل النبوة والرسالة الإلهية كما أمرنا بذلك قال تعالى : (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) [البقرة ـ ٢٨٥] ، والتفضيل في غير ذلك كما بينه الله تعالى في آيات متعددة من القرآن الكريم.

١٩٢

بحث روائي

في العيون عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «ما خلق الله خلقا أفضل منّي ولا أكرم عليه منّي قال عليّ (عليه‌السلام) : يا رسول الله أفأنت أفضل أم جبرائيل؟ فقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : إنّ الله تعالى فضّل أنبياءه المرسلين على ملائكته المقرّبين وفضلني على جميع النبيين والمرسلين ـ الحديث ـ».

أقول : ما ورد في هذا الحديث تشهد له جملة من الأخبار ، ويستفاد ذلك من الآيات الشريفة تلويحا وتصريحا ، كما يأتي في محلّه إن شاء الله تعالى. وتؤيده الأدلة العقلية أيضا ، وقد تقدم ذلك في التفسير غير مرة.

في الكافي عن الباقر (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) ـ الآية ـ في هذا ما يستدل به على أنّ أصحاب محمد قد اختلفوا من بعده ـ الحديث ـ».

أقول : يدل على ذلك بعض الآيات المباركة مثل قوله تعالى : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) [آل عمران ـ ١٤٤].

وفي تفسير العياشي عن الأصبغ بن نباتة قال : «كنت واقفا مع أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه‌السلام) يوم الجمل فجاء رجل حتّى وقف بين يديه فقال : يا أمير المؤمنين! كبّر القوم وكبّرنا وهلّل القوم وهلّلنا ، وصلّى

١٩٣

القوم وصلّينا فعلى م نقاتلهم؟! فقال عليّ (عليه‌السلام) : على هذه الآية : (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) فنحن الذين من بعدهم (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) فنحن الذين آمنّا وهم الذين كفروا. فقال الرجل : كفر القوم وربّ الكعبة ثم حمل فقاتل حتّى قتل رحمه‌الله».

أقول : يظهر من انتهاء كلّ هذا الاختلاف والمقاتلة من بعد الرسل إلى اختيار الناس باستعداداتهم وإدراكاتهم المقتضية للاختلاف طبعا الموجب للبغي والظلم قهرا ، كما تقدم في التفسير.

وما وقع بعد سيد الأنبياء يكون كما وقع بعد سائر الأنبياء (عليهم‌السلام) ويمكن استناد ذلك إلى اختلاف الاستعدادات كما مرّ ، أو إلى الاجتهاد مثلا أو إلى أسرار القضاء والقدر كلّ ذلك على نحو الاقتضاء. وقد مرّ أقسام الكفر في آية (٧) من هذه السورة.

وفي الاحتجاج عن صفوان بن يحيى قال سأل أبو قرة المحدّث الرضا (عليه‌السلام) فقال : «أخبرني (جعلني الله فداك) عن كلام الله لموسى فقال (عليه‌السلام) : الله أعلم بأيّ لسان كلّمه بالسريانية أم بالعبرانية فأخذ أبو قرة بلسانه فقال : إنّما أسألك عن هذا اللسان فقال أبو الحسن (عليه‌السلام) : سبحان الله عما تقول ومعاذ الله أن يشبه خلقه أو يتكلّم بمثل ما هم به متكلّمون ولكنّه سبحانه ليس كمثله شيء ولا كمثله قائل فاعل قال : كيف ذلك؟ قال (عليه‌السلام) : كلام الخالق لمخلوق ليس ككلام المخلوق لمخلوق ، ولا يلفظ بشق فم ولسان ، ولكن يقول له كن فكان بمشيته ما خاطب به موسى من الأمر والنّهي من غير تردد في نفس ـ الخبر ـ».

أقول : من هذا الحديث وأمثاله يظهر أنّ الكلام من صفات الفعل لا أن يكون من صفات الذات ، كما يأتي في البحث الفلسفي.

١٩٤

في أمالي المفيد عن أبي بصير قال : «سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام) يقول : «لم يزل الله جل اسمه عالما بذاته ولا معلوم ولم يزل قادرا بذاته ولا مقدور ، قلت : جعلت فداك فلم يزل متكلما؟ قال (عليه‌السلام) الكلام محدث كان الله عزوجل وليس بمتكلم ثم أحدث الكلام».

أقول : هذا الحديث ينص على ما ذكرناه من أنّ التكلم من صفات الفعل كما سيأتي أيضا.

في نهج البلاغة في خطبة له (عليه‌السلام) : «متكلّم لا بروية مريد لا بهمة». وفيه أيضا في خطبة له (عليه‌السلام) : «الذي كلّم موسى تكليما ، وأراه من آياته عظيما ، بلا جوارح ولا أدوات ولا نطق ولا لهوات».

أقول : الروايات في ذلك كثيرة واللهوات جمع لهات وهي لحمات في سقف أقصى الفم.

في تفسير العسكري : «أنّ روح القدس هو جبرائيل».

وفي الكافي عن الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين (عليه‌السلام) في حديث قال : «فأما ما ذكر من أمر السابقين فإنّهم أنبياء مرسلون وغير مرسلين جعل فيهم خمسة أرواح : روح القدس ، وروح الإيمان ، وروح الشهوة ، وروح القوة ، وروح البدن ، فبروح القدس بعثوا أنبياء مرسلين وغير مرسلين ، وبها علموا الأشياء».

وفي رواية أخرى : «أنّ روح القدس ملك أعظم من جبرئيل».

أقول : لا ريب في أنّ روح القدس من عالم المجرّدات التي أثبته الفلاسفة بالأدلة الكثيرة العقلية والنقلية. وقد اختلفت تعبيراتهم فيه فبعض عبّر عنه بالعالم المحيط ، وآخر بعالم الأملاك والرّوحانيين ، وثالث بعالم النور. ولا مشاحة في الاصطلاح ، إذ لا يمكن حصر موجودات ذلك العالم ولا دليل على انحصارها من عقل أو نقل ، بل إرادة الله قاهرة غالبة والمحلّ ممكن غير ممتنع فلا وجه للحصر أبدا ، فما ورد في السنة المقدّسة في تفسير روح القدس من أنّه جبرائيل أو أنّه ملك أعظم منه ، أو روح يؤيد الأنبياء والمرسلين يمكن

١٩٥

إرجاع جميع ذلك إلى شيء واحد لأنّ لجبرائيل الذي هو مدير عالم الإمكان أعوانا وجنودا يمكن أن يكون ما يؤيد الأنبياء والمرسلين من بعض أعوانه.

وما ورد أنّه أعظم يراد العظمة من بعض الجهات لا من جميع الجهات فترجع جميع الروايات إلى شيء واحد ، ويشهد لذلك ما عن بعض قدماء الفلاسفة في شأن جبرائيل أنّه «رباني العقول».

١٩٦

بحث فلسفي

ذكرنا أنّ قوله تعالى : (مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ) يدل على ثبوت صفة التكليم له تعالى مع بعض الأفراد ، وقد ورد ما يدل على وقوعه منه عزوجل في القرآن الكريم في موارد أربعة : أحدها المقام ، والثاني في قوله تعالى : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) [النساء ـ ١٦٤] ، والثالث في قوله تعالى : (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ) [الأعراف ـ ١٤٣] ، والرابع في قوله تعالى : (اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي) [الأعراف ـ ١٤٤].

ولقد حظي موسى (عليه‌السلام) بهذه الفضيلة السامية والموهبة العظمى في جميع تلك الموارد.

والمستفاد منها أنّها تثبت صفة من الصفات الربوبية وحقيقة من الحقائق الواقعية وهي من الوضوح بمكان بحيث لا يحتاج إلى تأويل أو ارتكاب مجاز.

والبحث في الكلام مذكور في علوم متعدّدة كعلوم اللغة والآداب وعلمي الفلسفة والكلام الذي أخذ اسمه منه والبحث فيه يقع في أمور :

حقيقة الكلام :

خلق الله تعالى الإنسان مدنيّا بالطبع اجتماعيا بالفطرة يحتاج هذا الاجتماع الإنساني إلى التعاون بين الأفراد والترابط بينهم وقد ولد هذا الترابط

١٩٧

بين المجتمع والأفراد بعض الأمور التي لا يمكن التخلّي عنها ومن أهمّها الكلام والتكلّم بين الأفراد وهو الوسيلة التي يتحقق بها التفاهم بين أفراد الإنسان وإذا رجعنا إلى السّير الطبيعي التكاملي في هذا الأمر الاجتماعي نرى أنّ أقدم وسيلة لإبراز ما في الضمير هي الإشارة ثم تطوّرت وقرنت الإشارة بالصّوت للدلالة على المعنى المشار إليه ، ثم استقر التفاهم بالأصوات للدلالة على المعاني ونبذت الإشارة واستغني بالصّوت عنها ووضع لكلّ شيء صوتا معيّنا والكلام هو الأصوات الحلقية التي يتحقق بها التفاهم بين أفراد الإنسان ووسيلة للتعبير عمّا في الضّمير وضعا وكان لذكاء الإنسان الأثر الكبير في تنضيد الألفاظ وتنسيقها ووضعها بهذه الكيفية المعهودة ولأجل ذلك تعتبر اللغة أول مظهر من مظاهر الذكاء البشري ، ولا يمكن للإنسان الاستغناء عن الكلام وهو نتيجة تفاعل الأفراد المجتمعين للتفاهم فيما بينهم وكلّما اتسعت دائرة تفاهمه صارت عنده ألفاظ تدل على المعاني ، ولا تزال تزيد تلك الألفاظ واللغات تبعا لتقدم الاجتماع والاحتياج الإنساني.

ولأجل ذلك صار الإنسان يشعر بالحاجة إلى التفاهم عن بعد ، فوضع الخط والكتابة وهي أيضا مرّت بمراحل من الخط بالرسوم ثم الخط بالرموز ثم الخط بالحروف ثم اتسعت دائرة تفاهمه واحتياجه فوضع أنظمة أخرى كما في هذه الأعصار تبعا لكثرة احتياجاته الاجتماعية.

ومن ذلك يعرف : أنّ الكلام وليد التعاون الاجتماعي وهو الأصوات الحلقية المؤتلفة الدالة على المعاني بالوضع لأجل التفهيم بين أفراد الإنسان المجتمعين ، ولذلك يختص بالإنسان ، لأنّه اجتماعيّ كما تقدم وفي غيره الذي لا يحتاج في وجوده إلى التعاون الاجتماعي لا يعهد فيه الكلام الا على نحو المحاكاة التي هي فارغة عن الذكاء الخاص ولا يمكن التفاهم به وقد تقدم في قوله تعالى : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) [البقرة ـ ٣١] بعض القول.

ولكن هذا الكلام المبحوث عنه عند الإنسان لا يمكن صدوره عن الله تعالى ولا يصلح الانتساب إليه من جميع جوانبه لا من حيث أصله وحقيقته ولا من حيث صدوره ولا من جهة غايته فهو منزّه عن خروج الأصوات الحلقية

١٩٨

المعتمدة على مقاطع النفس المبتنية على الدلالة الوضعية ، ومنزّه عن احتياجه إلى التفاهم فإنّه تعالى أجلّ ، وأنزه من أن ينسب إليه جميع ذلك فهو الغنيّ المطلق (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى ـ ١١] ، وسيأتي المراد من كلامه عزوجل الذي أثبته لنفسه الأقدس نعم حقيقة كلّ كلام ـ سواء كان من الخالق أو من المخلوق ـ أنّه إبراز للحقائق والمعاني ، وهذا هو الأصل والبقية فرع عليه ، بل يمكن أن نقول إنّ النظام الأحسن الأكمل الذي اتفق العقل والشرع على حسنه وكماله يبتني على هذا الأصل الأصيل. ولكن هذا الإبراز إما أن يكون بالوحي ، أو الإلهام ، أو الكلام ، أو القول ، أو الإشارة ، أو الكتابة والخط ، وغير ذلك فإنّ جميعها تشترك في حقيقة واحدة والاختلاف إنّما هو بالاعتبار.

دلالة الكلام :

ذكرنا أنّ اللغة إنّما هي ألفاظ دالة على المعاني ينتقل الذهن إليها بمجرّد سماعها وقد مرّ الوضع اللغوي بمراحله المتعدّدة ، فقد كان استعمال الألفاظ في المعاني المحسوسة أولا ثم استعملت في المعاني الأقرب إلى الحس ثم إلى المعنويات وكانت المرحلة الأخيرة هي التجريد الذي هو أعلى درجات الذكاء والقوى العقلية ومن مميزات المرحلة الأولى أنّ الألفاظ كانت معدودة وهي مجموعة من بعض الأفعال والأسماء.

وقيل : إنّ استعمال الألفاظ الموضوعة للمعاني المحسوسة في غيرها من المعاني المعقولة يكون مجازا حتّى يستقر الاستعمال ويحصل التبادر.

ولكنّه مردود بأنّ الألفاظ موضوعة للحقائق الواقعية غير المقيّدة بعالم دون آخر فالاستعمال يكون حقيقة كما يظهر ذلك من بعض أعاظم العلماء من الفلاسفة وغيرهم فلا مجاز في البين مع هذا الاتساع كاتساع المدنية والحضارة التي أوجبت التغيير في الوسائل مع بقاء أصل الفائدة والأثر المطلوب في جميع موارد الاستعمال والتفصيل حرّرناه في (تهذيب الأصول).

الفرق بين الكلام وغيره :

تقدم معنى الكلام الذي هو الأصوات الحلقية المعتمدة على مقاطع

١٩٩

النّفس الدالة على المعاني بالدلالة الوضعية وبهذا المعنى يرادف اللغة وهو يختص بالإنسان فقط ولم يرد في القرآن الكريم استعماله في غير مورد الإنسان. وأما قوله تعالى : (أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ) [النمل ـ ٨٢]. فالمراد به الإنسان أيضا كما في ورد في السنة المقدّسة ، ولو شاء الله لأظهر التكلم من يد الإنسان كما في قوله تعالى : (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ) [يس ـ ٦٥] هذا وقد استعمل لفظ «كلمة» أو «كلمات» في غير مورده مثل القضاء والخلق ، وذات الإنسان ونفسه مثل قوله تعالى : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً) [الأنعام ـ ١١٥] ، وقوله تعالى : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ) [هود ـ ١١٩] ، وقوله تعالى : (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ) [النساء ـ ١٧١] ، إلى غير ذلك من الآيات المباركة وليس البحث في ذلك.

وقد يطلق ويراد به القول ولكنّه أعم موردا من الأول فإنّ الأخير استعمل في الكتاب الكريم في الإنسان وغيره ففي الإنسان قال تعالى حكاية عن الحواريين : (إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ) [المائدة ـ ١١٣] ، وغيره من الآيات المباركة. كما اطلق منه تعالى على الإنسان وغيره قال تعالى : (وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) [البقرة ـ ٣٥] ، وفي مورد الملائكة قال تعالى : (وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ) [آل عمران ـ ٤٢] ، وقد اطلق عليه جلّ شأنه في قوله تعالى : (إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ) [ص ـ ٧١] ، وغيره من الآيات الشريفة. وفي مورد الشيطان أو الجن قال تعالى : (وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ) [إبراهيم ـ ٢٢] ، وقال تعالى في قصة سليمان : (قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِ) [النمل ـ ٣٩] ، وفي مورد غير ذوي العقول قال تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) [فصلت ـ ١١] ، وفي جميع ما سواه تعالى من الممكنات قال تعالى : (إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [مريم ـ ٣٥].

ومن المعلوم أنّ القول بالمعنى الوضعي الذي هو دائر في الإنسان لا

٢٠٠