مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة أهل البيت (ع)
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥١٦

يستعمل فيما إذا كان إكراه أو أسر في البين وهذه الكراهة والنفرة هي التي توجب الخوف بأن لا يقيما حدود الله. وهذا هو طلاق الخلع الذي هو قسم من الطلاق وتجري عليه نفس الأحكام التي تترتب على مطلق الطلاق إلا ما استثني.

٢١

بحث روائي

في الكافي عن أبي جعفر (عليه‌السلام) في صحيح زرارة في قوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) قال (عليه‌السلام) : «الأقراء : هي الأطهار».

وفي تفسير العياشي في قوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) عن زرارة قال : «سمعت ربيعة الرأي يقول : إنّ من رأيي أنّ الأقراء التي سمى الله تعالى في القرآن إنّما هي الطهر فيما بين الحيضتين وليس بالحيض قال : فدخلت على أبي جعفر (عليه‌السلام) فحدثته بما قال ربيعة فقال (عليه‌السلام) : كذب ولم يقل برأيه إنّما بلغه عن عليّ (عليه‌السلام) فقلت : أصلحك الله أكان عليّ (عليه‌السلام) يقول ذلك؟! قال : نعم ، كان يقول : إنّما القرء : الطهر ، تقرأ بما فيه الدم فيجمعه فإذا حاضت قذفته قلت : أصلحك الله رجل طلق امرأته طاهرا من غير جماع بشهادة عدلين قال : إذا دخلت في الحيضة الثالثة فقد انقضت عدتها وحلت للأزواج ـ الحديث».

أقول : الروايات في كون القرء هو الطهر كثيرة وهو المشهور بين الفقهاء. وقول أبي جعفر (عليه‌السلام) : «نعم كان يقول : إنّما القرء الطهر» رد على ما نسب إلى عليّ (عليه‌السلام) من أنّه يقول إنّ القرء : هو الحيض.

٢٢

وفي تفسير القمي في قوله تعالى : (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَ) قال (عليه‌السلام) : «لا يحل للمرأة أن تكتم حملها أو حيضها ، أو طهرها وقد فوّض الله إلى النساء ثلاثة أشياء : الطهر ، والحيض ، والحبل».

أقول : ما ذكر في الحديث بيان لإطلاق ما ورد في الآية الشريفة وتقدم سابقا ما يتعلّق بذلك.

وفي المجمع عن الصادق (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَ) قال (عليه‌السلام) : «الحيض والحبل».

أقول : ليس ذلك في مقام الحصر فلا تنافي غيرها.

وفي تفسير العياشي عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) في الآية المباركة : (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَ) قال (عليه‌السلام) : «يعني لا يحل لها أن تكتم الحمل إذا طلّقت وهي حبلى ، والزوج لا يعلم بالحمل فلا يحلّ لها أن تكتم حملها وهو أحق بها في ذلك الحمل ما لم تضع».

أقول : مرّ في الرواية السابقة أنّها ليست في مقام الحصر فلا تنافي غيرها.

وفي تفسير القمي في قوله تعالى : (وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) قال (عليه‌السلام) : «حق الرجال على النساء أفضل من حق النساء على الرجال».

أقول : إنّ الفضيلة لا تنافي أصل التساوي في الجملة.

وفي التهذيب عن أبي بصير عن الصادق (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) قال (عليه‌السلام) : «التطليقة الثالثة التسريح بإحسان».

وفي تفسير العياشي في قوله تعالى : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ

٢٣

أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) عن أبي جعفر (عليه‌السلام) قال : «التسريح بالإحسان التطليقة الثالثة».

وفي الفقيه عن الحسن بن فضال قال : «سألت أبا الحسن الرضا (عليه‌السلام) عن العلة التي من أجلها لا تحل المطلقة للعدة لزوجها حتى تنكح زوجا غيره فقال (عليه‌السلام) : «إنّ الله عزوجل إنّما أذن في الطلاق مرّتين فقال عزوجل : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) يعني في التطليقة الثالثة ولدخوله فيما كره الله عزوجل من الطلاق الثالث حرّمها عليه فلا تحلّ له حتى تنكح زوجا غيره لئلا يوقع الناس في الاستخفاف بالطلاق ولا يضاروا النساء».

أقول : لا ريب في أنّ التطليقة الثالثة من التسريح بإحسان لعدم تحقق التلاعب والاستخفاف بالمرأة في طلاقها.

وأما أنّ هذه الآية الشريفة تدل على وقوع الطلقات الثلاث بلفظ واحد أو في مجلس واحد ففيه منع ومذهب أهل البيت (عليهم‌السلام) على خلاف ذلك وقد حرّرنا الكلام في الفقه فمن شاء فليراجع (مهذب الأحكام).

في أسباب النزول عن عروة عن أبيه : «كان الرجل إذا طلق امرأته ثم ارتجعها قبل أن تنقضي عدّتها كان ذلك له وإن طلّقها الف مرة ، فعمد رجل إلى امرأة له فطلقها ثم أمهلها حتى إذا شارفت انقضاء عدتها ارتجعها ثم طلقها ، وقال : والله لا آويك إليّ ولا تحلّين أبدا ، فأنزل الله عزوجل : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ).

وفي تفسير القمي في قوله تعالى : (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) عن الصادق (عليه‌السلام) قال : «الخلع لا يكون إلا أن تقول المرأة لزوجها : «لا ابرّ لك قسما ولأخرجنّ بغير إذنك ، ولأوطئنّ فراشك غيرك ، ولا أغتسل لك من جنابة ، أو تقول : لا أطيع لك أمرا أو تطلّقني ، فإذا قالت ذلك فقد حلّ له أن يأخذ منها جميع ما أعطاها وكلّ ما قدر عليه مما تعطيه من مالها فإذا تراضيا على ذلك طلّقها على

٢٤

طهر بشهود فقد بانت منه بواحدة ، وهو خاطب من الخطاب ، فإن شاءت زوّجته نفسها وإن شاءت لم تفعل فإن تزوجها فهي عنده على اثنتين باقيتين وينبغي له أن يشترط عليها كما اشترط صاحب المباراة فإن ارتجعت في شيء مما أعطيتني فأنا أملك ببضعك ، وقال (عليه‌السلام) : لا خلع ولا مباراة ولا تخيير إلا على طهر من غير جماع بشهادة شاهدين عدلين ، والمختلعة إذا تزوجت زوجا آخر ثم طلّقها يحلّ للأول أن يتزوّج بها وقال : لا رجعة للزوج على المختلعة ولا على المباراة إلا أن يبدو للمرأة فيرد عليها ما أخذ منها».

أقول : قد حرّرنا تفصيل طلاق الخلع في الفقه فمن شاء فليراجع كتابنا (مهذب الأحكام).

وفي الفقيه عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه‌السلام) قال : «إذا قالت المرأة لزوجها جملة لا أطيع لك أمرا مفسرة أو غير مفسرة حلّ له ما يأخذ منها وليس له عليها رجعة».

أقول : المراد بالمفسرة التصريح بالمقصود جملة وغير المفسرة الكناية وغيرها.

في الدر المنثور أخرج أحمد عن سهل بن أبي حثمة قال : «كانت حبيبة ابنة سهل تحت ثابت بن قيس بن شماس فكرهته وكان رجلا دميما فجاءت وقالت يا رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) إنّي لا أراه فلو لا مخافة الله لبزقت في وجهه ، فقال لها : أتردين عليه حديقته التي أصدقك؟ قالت : نعم فردت عليه حديقته وفرق بينهما فكان ذلك أول خلع في الإسلام».

وفي تفسير العياشي عن أبي جعفر (عليه‌السلام) في قول الله تبارك وتعالى : (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها) فقال : إنّ الله غضب على الزاني فجعل له مائة جلدة فمن غضب عليه فزاد فأنا إلى الله منه بريء فذلك قوله تعالى : (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها).

أقول : يريد (عليه‌السلام) بذلك الوقوف عند ما عينه الله تعالى في أحكامه المقدسة وضعية كانت أو غيرها فكلّ من تعدّى عنها فقد تعدّى عن حدّه تعالى والشرع منه بريء.

٢٥

بحث فقهي

يستفاد من الآيات الشريفة الأحكام الشرعية الفقهية التالية :

الأول : يدل قوله تعالى : (ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) أنّ مدة العدة ثلاثة أطهار كما هو الحق وعليه جمع كثير من الجمهور ـ منهم المالكية والشافعية وفي الدر المنثور عن ابن شهاب أنّه قال : «سمعت أبا بكر بن عبد الرحمن يقول ما أدركت أحدا من فقهائنا إلا وهو يقول هذا أي أنّ القرء بمعنى الطهر» فيكفي في الطهر الأول مسماه ولو لحظة فلو طلقها وقد بقيت من الطهر لحظة يحسب ذلك طهرا واحدا ، فإذا رأت طهرين آخرين بينهما حيضة واحدة انقضت أيام التربص (العدة).

وإذا كان المراد من القرء الحيض فإنّ أقل الحيض ثلاثة أيام ولا يكون أقل منها ، وأكثره عشرة أيام لا يكون أكثر منها ، وأقل الطهر عشرة أيام لا يكون أقل منها وأكثره لا حدّ له والتفصيل يطلب من (مهذب الأحكام) أحكام العدد.

الثاني : إنّ المراد من قوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ) هو الصنف الخاص منهنّ ، أي : المدخول بها وغير اليائسة ، وغيرهما لا تشملهنّ الآية الشريفة فإنّ غير المدخول بها لا عدّة لها حتى يجب عليها التربص ثلاثة قروء.

والحامل عدتها وضع الحمل كما يأتي في قوله تعالى : (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) [الطلاق ـ ٤].

٢٦

الثالث : يدل قوله تعالى : (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَ) على قبول قولهنّ في إخبارهنّ بما في أرحامهنّ من الحمل ، والحيض ، والطهر. ولا يختص الحكم بخصوص الحمل كما ذكره بعض الفقهاء لأنّ هذا الزجر الشديد يناسب أن يكون على كتمان الحمل ولكن إطلاق اللفظ يشمل جميع ما ذكر.

الرابع : يدل قوله تعالى : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ) أنّ الزوج إذا طلب الرجوع لا حق للمرأة في معارضة البعل في ردها.

الخامس : يستفاد من قوله تعالى : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) أنّ طبيعي الطلاق على نوعين نوع يجوز للزّوج المراجعة في العدة ورد الزوجة إلى العصمة الأولى ، والنوع الآخر لا يجوز للزوج رد الزوجة حتى تنقضي العدة فلا بد من عقد جديد حينئذ.

السادس : يدل قوله تعالى : (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً) عدم جواز استرداد المهر من الزوجة لأنّها تملك صداقها بمجرد العقد الصحيح الجامع للشرائط وإن استقرت ملكية التمام بالدخول.

وبالجملة : إنّ التصرف في صداقها بدون رضاها يكون تصرفا في حق الغير بدون الإذن وهو حرام بالأدلة الأربعة كما قرّرناه في كتاب الغصب من (مهذب الأحكام) وأما مع الرضا وطيب النفس فلا بأس به لكونه حلالا كما في قوله تعالى : (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) [النساء ـ ٤].

السابع : يدل قوله تعالى : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) على مشروعية طلاق الخلع ويفترق عن غيره من أقسام الطلاق بأنّ الأول إنّما يشرع إذا كان نفرة من الزوجة للزوج وبذلها الفداء عوضا عن الطلاق ، ويدل على كلا الأمرين قوله تعالى : (فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) ويصح الفداء بكلّ ما يتموّل قليلا كان أو كثيرا ، كان بقدر المهر أو أنقص أو أزيد.

٢٧

وطلاق الخلع بائن لا يصح فيه الرجوع من الزوج ما لم ترجع المرأة فيما بذلت ، ولها الرجوع في الفدية ما دامت في العدة فإذا رجعت كان له الرجوع.

ولو طلّقها مع عدم الكراهة وكون الأخلاق ملتئمة لم يملك العوض وحرم عليه التصرف ولكن يصح أصل الطلاق وإن بطل الخلع.

الثامن : لا بد في الكراهة الموجبة لجواز الخلع من الزوجة أن تكون بحيث يخاف منها الوقوع في المعصية ، وعدم إقامة حدود الله وهي أحكامه المقدسة.

٢٨

بحث علمي

الآيات المباركة المتقدمة تدل على مشروعية الطلاق في الإسلام وهي من جملة المؤاخذات التي أخذها أعداء الإسلام عليه باعتبار أنّ الطلاق تفريق بين الزوجين وإلغاء العصمة بينهما.

والزواج حاجة إنسانية شرّعه الله تعالى لمصلحة الفرد والمجتمع ، وبقاء النوع الإنساني كما قلنا ذلك سابقا.

والطلاق إبطال لهذه المصلحة فإنّه سبب للفراق الذي هو مبغوض لكل ذي شعور وهو يجلب جملة من المفاسد التي هي أساس كلّ محظور ، ولذا حرمته بعض الشرائع السماوية كشريعة عيسى (عليه‌السلام) وبعض القوانين الوضعية.

والجواب عن ذلك : أنّ الإسلام دين الرحمة والألفة والتعاطف ، وقد حث على الاجتماع والتواصل والاتحاد بين الأفراد وحرّم كلّ ما يوجب الفرقة والاختلاف ، ويدل على ذلك القرآن الكريم والسنة المقدسة ، ومن مظاهر ذلك : الزواج ، فإنّه حرض عليه في مواضع متعددة من القرآن الكريم بأساليب مختلفة قال تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) [الروم ـ ٢١] ، ويستفاد منه كمال العناية بهذه الحياة التي جعلها سبحانه حياة سكن وراحة وفيها المودة والرحمة التي

٢٩

هي سبب السعادة في الحياة.

واهتم الإسلام بجميع جوانب هذه الحياة وبيّن كلّ ما يرتبط بسعادتها وشقاوتها شرحا وافيا قلّما يوجد في أمر من الأمور مثل ذلك ومن مجموع ما ورد في ذلك يستفاد أنّ الزواج هو المحبوب لدى الشارع الأقدس والطلاق مرغوب عنه فإنّه حاجة موقتة يرجع إليه فيما إذا طرأ على الحياة الزوجية ما يهدّد كيانها وهذا مما أكد عليه الإسلام في مواضع متعددة من القرآن الكريم والسنة الشريفة ففي الحديث عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «أبغض الحلال إلى الله تعالى الطلاق» وفي حديث آخر : «أبغض الأشياء إلى الله تعالى الطلاق» ويمكن استفادة ما ذكرناه من أمور :

الأول : أنّه لم يرد في القرآن الكريم الأمر بالطلاق بخلاف الزواج والمعاشرة الزوجية قال تعالى : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً) [النساء ـ ٣] وقال تعالى : (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) [النور ـ ٣٢] ، فقد حث عليه الإسلام بأساليب مختلفة كما ذكرنا وهو يكشف عن أنّ الطلاق أمر ثانوي يرجع إليه في حالات خاصة.

الثاني : أنّ الإسلام جعل أمر الطلاق بيد شخص واحد وهو الزوج وتحت سلطته الخاصة ففي الحديث المتواتر بين المسلمين «الطلاق بيد من أخذ بالساق» بخلاف الزواج فإنّ لكلّ واحد من الطرفين السلطة فيه. وهذا هو تحديد آخر في الطلاق يخرجه عن تلاعب الأهواء والعواطف ويبعده عن النزوات الشخصية.

الثالث : أنّه جعل في الطلاق حدودا وقيودا لم يكن مثلها في الزواج مما يقلل أفراده في الخارج.

الرابع : يستفاد من الآيات المباركة الواردة في الطلاق في هذه السورة وغيرها أنّ الطلاق آخر ما يمكن الرجوع إليه ، فقد جعل سبحانه وتعالى لحلّ

٣٠

ما يطرأ من المشكلات على الحياة الزوجية طرقا متعددة منها الرجوع إلى العرف ، أو التحكيم ، أو أهل الزوجين ، أو الهجر في المضاجع ، أو الضرب بحدود وقيود وغير ذلك ، فلو كان الطلاق هو الحل الوحيد في نظر الإسلام لما كان لهذه الطرق المختلفة وجه معتبر فهو آخر الطرق ومع ذلك هو أبغض الحلال إلى الله تعالى.

وهو الطريق الأمثل لحل المشكلات إذا طرأ على الحياة الزوجية ما يهددها ، فإنّ الحل الذي يمكن تصوره في هذه الحالة إما وجوب التحفظ على الحياة الزوجية مهما بلغ الأمر ولو رجع إلى الفرقة إلى آخر عمر الزوجين كما يقول به بعض مذاهب النصارى. وهذا تعطيل لحقوق الأفراد وتحديد في حريتهما من دون مبرّر وإبقاء للمشكلات من دون حلّ لها. مع أنّه يرجع إلى الفرقة العملية بينهما وهو من أعقد المشاكل وأصعبها.

وإما الرجوع إلى قطع العلاقة بين الزوجين بعد استنفاذ جميع الحلول الملائمة فتنتهي الحياة الزوجية بالطلاق والتفرقة بين الزوجين لئلا يقعا في الحرام وتخرج الحياة الزوجية عن الكمال المطلوب منها فتجلب الشقاء للزوجين والأولاد وهذا أمر لا يرتضيه أحد ، فالطلاق هو آخر ما يتصوّر في حلّ المشكلات وإرجاع كلّ واحد من الزوجين إلى حياته الخاصة.

ومن ذلك يعلم : أنّ الطلاق إنّما يصح إذا استجمع جميع الشروط المقررة في الشرع ومنها أن لا يكون اقتراحيا من قبل الزوج من دون أيّ موجب مع كمال الملائمة بين الزوجين فإنّ صحة مثل هذا الطلاق موضع بحث لدى الفقهاء.

٣١

بحث عرفاني

تقدم بعض ما يرتبط بطلاق الزوج لزوجته وهو أمر مبغوض عند الخالق والمخلوق. وهناك طلاق آخر هو مجمع الكمالات الإنسانية وأهم طرق السّير والسلوك إلى الله تعالى وتتجلّى أهميته في اجتماع التخلية عن الرذائل ، والتحلية بالفضائل ، والتجلية بصفات الباري عزوجل فيه ، وهو طلاق الدنيا وما سوى الله جلّت عظمته وهو أيضا مرتان (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) وإنّ له درجات :

الأولى : ما إذا كانت الدنيا سببا للانغمار في عالم الغرور وحجابا عن عالم النور. فترتع النفس في الجهالات والظلمات فلا يفيدها منع مانع ولا ترتدع بأيّ رادع. وطلاق مثل هذه الحالة واجب على كلّ نفس تريد الاستكمال والترفع عن دار الوهم والخيال والارتقاء إلى عالم الحقائق التي لم تزل ولا تزال.

الثانية : ما إذا أمسك نفسه عن الانغمار في عالم الغرور طلبا للاستكمال ، فتشرق على النفس من عالم الأنوار فترفض الدنيا وما يبعدها عن ساحة قدسه تعالى ، ولا ريب في حسن هذا الطلاق بالشرائط المقرّرة في الشريعة المقدّسة وبعد ذلك تصل النوبة إلى الإمساك بالمعروف فيعمل بما يرتضيه الرّحمن ويرتقي بذلك إلى درجات الجنان.

٣٢

الثالثة : وهي آخر المراتب وأعلاها وهي قطع العلاقة والإضافة القلبية مطلقا عملا بما يقال : «إنّ التوحيد إسقاط الإضافات» وهذا هو التسريح بالإحسان.

وطلاق الدنيا في أيّ مرتبة حصل لا ينافي بقاء الدنيا تحت سلطته وإرادته كما في طلاق أولياء الله تعالى للدنيا فقد تمثلت الدنيا في صورة خارجية ـ وهي صورة أجمل النساء ـ لسيد الأنبياء في ليلة المعراج ، وفي صورة بثينة التي كانت أجمل نساء عصرها لعليّ (عليه‌السلام) فقال لها : «غرّي غيري لا حاجة لي فيك قد طلّقتك ثلاثا لا رجعة فيها» فطلاق الدنيا بالشرائط المقرّرة في الشرع من أفضل الدّرجات وأعلى المقامات واجب عند المخلصين والصدّيقين المتفانين في حبّ الله تعالى.

وهو أول منزل من منازل السّير إلى ربّ العالمين ، ومن جهة الاستقامة والبقاء عليه تجتمع فيه سائر المقامات من التخلية والتحلية والتجلية بل الفناء ، والثبات عليه ثبات في الرحمة الواسعة التي لم تزل ولا تزال ويشتد مقام التوحيد فيعبد الله جلّت عظمته حبّا له لا لشوق الوعد ولا خوف الوعيد.

٣٣

سورة البقرة

الآية ٢٣٠

(فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٢٣٠))

الآية الشريفة في غاية إيجازها واشتمالها على أربعة عشر ضميرا هي في منتهى الفصاحة خالية عن التعقيد ، فيها جملة من الكنايات مما زادت في بلاغتها. وهي تبيّن حكما آخر من أحكام الطّلاق وهو عدم حليّة المطلّقة ثلاثا على الزوج حتى تنكح زوجا غيره فإن طلّقها بعد العقد والتزويج يجوز لهما أن يتراجعا بشرط اطمينانهما أن يقيما حدود الله تعالى. وهذا الحكم يعتبر تحديدا لعدد الطلقات الواقع من الزوج وردعا له لئلا يقدم على تكرار الطلاق وإعادته.

٣٤

التفسير

٢٣٠ ـ قوله تعالى : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ).

المراد من الطلاق هو التطليقة الثالثة ، ونفي الحلية عن نفس الزوجة لبيان أنّها لا تحلّ لا بالعقد ولا بالمراجعة فالحرمة متعلّقة بهما معا.

والمعنى : فإن طلق زوجته بعد مرّتين من الطلاق فلا تحلّ له بعد الطلاق الثالث مهما طال الزمن وتقادم العهد حتى تنكح زوجا غيره.

قوله تعالى : (حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ).

يستفاد من هذه الآية المباركة أنّ الحرمة في هذه المرأة غير دائمية أي : فلا تحلّ له حتى تنكح زوجا آخر نكاحا صحيحا مشتملا على العقد الصحيح والمباشرة ـ وقد كنّى سبحانه وتعالى عنهما بكناية لطيفة مؤدبة ـ فتكون زوجة له.

وتدل هذه الآية على أنّ النكاح لا بد أن يكون صحيحا مصاحبا للمباشرة والغشيان لا مجرد العقد فقط ، فيختص بخصوص العقد الدائم الصادر عن البالغ العاقل.

وقد استدل بعض المفسرين وجمع من فقهاء الجمهور بهذه الآية المباركة على أنّ النكاح الذي تحلّ به المطلّقة ثلاثا لا بد أن يكون زواجا

٣٥

صحيحا عن رغبة مقصودة لذاتها ، فلو نوى بالتزويج التحليل أي : إحلال الزوجة للزوج الأول كان زواجه غير صحيح ولا تحلّ به المرأة إذا هو طلقها بل هو معصية لقول نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «لعن الله المحلل والمحلل له».

ويمكن المناقشة في ذلك : بأنّ الآية المباركة لا تدل على ما ذكروه بل هي أجنبية عنه ، والحديث ـ على فرض اعتباره ـ إرشاد إلى ترك ذلك منهما لا أن يكون النّهي عنه نهيا تحريميا وعلى فرض كونه كذلك فإنّهم لا يقولون بأنّ النّهي في غير العبادات يوجب الفساد والنّكاح ليس بعبادة محضة ، فلا فرق في النكاح بين أن يكون بنية التحليل إذا حصل قصد النكاح الدّائم الصحيح الجامع للشرائط. نعم ، إذا لم يحصل قصد أصل النكاح الدائم يبطل من هذه الجهة.

قوله تعالى : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا).

المراد بالتراجع : هو العقد وقد كنّى به عنه ، وهو يختلف عن الرجوع الذي كان حقا للزوج في التطليقتين الأولتين بأنّ التراجع إنّما يكون بين اثنين فلا بد من التوافق بينهما بخلاف الرجوع.

والمعنى : فإن طلّقها الزّوج الثاني طلاقا صحيحا يوجب انقطاع العصمة بينهما فلا جناح أن يتراجع الزّوجان إلى الحياة الزوجية بعقد شرعي ويستأنفا تلك الحياة الجديدة برغبة منهما مع حسن المعاشرة بينهما وإلغاء الحزازات السابقة ، فالتراجع مشروط بذلك. ويلحق بطلاق الزّوج الثاني موته ، لأنّه يوجب انقطاع العصمة بينهما كالطلاق.

قوله تعالى : (إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ).

أي : أنّ التراجع بينهما والرجوع إلى الحياة الجديدة مشروط بما إذا ظنّ كلّ واحد من الزوجين أن يقوم بحقوق الآخر وهي حسن المعاشرة والإخلاص وسلامة النية ونحوها التي هي حدود الله تعالى التي كتبها في مثل هذه الحياة والا فالرجوع مرجوح وإن كان العقد صحيحا إن وقع جامعا للشرائط.

٣٦

قوله تعالى : (وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ).

وضع الظاهر موضع المضمر لبيان أنّ الحدود في المقام غير الحدود السابقة.

وخص العالمين بالذّكر تشريفا للعلم وتعظيما لحدود الله تعالى ، ولأنّ أهل العلم هم الذين يدركون مصالح تلك الحدود وآثارها وخصوصياتها وغيرهم عاجزون عن ذلك.

٣٧

بحث دلالي

تكرر في هذه الآيات المباركة جملة (حُدُودَ اللهِ) وذلك لإزالة ما شاع في الجاهلية من أقسام التفرقة والطلاق وانحصارها في الإسلام بما قرّره الشارع بحدوده وقيوده والتجاوز عنها تجاوز عن حدود الله تعالى ولذا كرّرت تلك الجملة للتأكيد كما كرّر التوجه إلى القبلة في الآيات السابقة لأجل إزالة ما سبق وإثبات قبلة أخرى.

ويستفاد من قوله تعالى : (أَنْ يَتَراجَعا) أنّه لا بد من رضاء الطرفين في الرجوع ولا يتحقق ذلك إلّا بعقد جديد جامع للشرائط كما عرفت آنفا بخلاف الرجوع في الطلاق الأول أو الثاني فقد عبّر سبحانه وتعالى بالرد وقال : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ) وفي السنة المقدسة وكلمات الفقهاء عبّر بالرجوع وهو عبارة أخرى عن الرد.

ثم إنّه ربما يستدل بقوله تعالى : (حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) على صحة استقلالها في النكاح من دون مراجعة الوليّ لأنّه أضاف النكاح إلى نفسها فقط.

وهذا صحيح بالنسبة إلى البالغة الرشيدة الكاملة ، وأما بالنسبة إلى غيرها فالدّليل لا يشملها ، وإنّ التمسك بالآية المباركة فيها من التمسك بالدليل في الموضوع المشكوك وهو باطل عند الجميع وقد فصلنا البحث في الفقه ومن شاء فليراجع النكاح من المهذب.

٣٨

بحث روائي

في الكافي عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) : «المرأة التي لا تحل لزوجها حتى تنكح زوجا غيره؟ قال (عليه‌السلام) : هي التي تطلق ثم تراجع ثم تطلق ثم تراجع ثم تطلق الثالثة فهي التي لا تحل لزوجها حتى تنكح زوجا غيره ويذوق عسيلتها».

وفي الكافي أيضا : «في الرجل يطلق امرأته الطلاق الذي لا تحل له حتّى تنكح زوجا غيره ثم تتزوج رجلا ولم يدخل بها قال (عليه‌السلام) «لا حتّى يذوق عسيلتها».

أقول : العسيلة تصغير العسلة : وهي القطعة من العسل شبه لذة الجماع بذوق العسل ، وفي الحديث «إذا أراد الله بعبد خيرا عسّله في الناس» أي طيّب ثناءه فيهم.

واحتمل بعض اعتبار الإنزال فيه مضافا إلى لذة الجماع لكنّه مردود بالأصل والإطلاق كما ذكرنا في كتاب الطلاق من (مهذب الأحكام).

وفي الدر المنثور عن البزار والطبراني والبيهقي «أنّ امرأة رفاعة أتت النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وقالت : «كنت عند رفاعة فبتّ طلاقي فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير وما معه إلّا مثل هدبة الثوب فتبسّم النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وقال لها : لعلّك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا ، حتّى تذوقي

٣٩

عسيلته ويذوق عسيلتك».

أقول : إنّما صغره إشارة إلى القدر القليل أو المسمّى الذي يحصل به الحل.

في الكافي عن الصادق (عليه‌السلام) : «أنّه سئل عن رجل طلّق امرأته طلاقا لا تحلّ له حتّى تنكح زوجا غيره وتزوجها رجل متعة أيحل له أن ينكحها؟ قال (عليه‌السلام) : لا ، حتّى يدخل في مثل ما خرجت منه».

أقول : الروايات في أن المتعة لا توجب التحليل كثيرة تعرضنا لبعضها في كتاب الطلاق من (مهذب الأحكام).

وفي التهذيب عن محمد بن مضارب قال : «سألت أبا الحسن الرضا (عليه‌السلام) عن الخصيّ يحلّل؟ قال (عليه‌السلام) : لا يحلّل».

أقول : هذا في الخصيّ الذي لا يقدر على الجماع كما هو الغالب وأما إذا قدر فتشمله العمومات والإطلاقات.

وفي المجمع عن أبي جعفر (عليه‌السلام) : «بيّن سبحانه وتعالى حكم التطليقة الثالثة فقال تعالى : (فَإِنْ طَلَّقَها) يعني التطليقة الثالثة».

وفي تفسير القمي في قوله تعالى : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا) قال : «في الطلاق الأول والثاني».

أقول : لو فرض هذا من كلام المعصوم فلا بد فيه من التأويل أو الحمل والا فالإشكال فيه ظاهر.

٤٠