مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة أهل البيت (ع)
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥١٦

لقيامهنّ بحفظ الولد ورعايته وقد تحملن مشقة الحمل والرضاع فلا بد من رعايتهنّ والإنفاق عليهنّ وكسوتهنّ بحسب المعروف واللائق بحال الوالدين ، والمتعارف يختلف باختلاف الأعصار والأمصار والغنى والفقر والعادة.

وهذه الآية شارحة لقوله تعالى : (وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) وإنّما الفرق بينهما بالإجمال والتفصيل.

قوله تعالى : (لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها).

تأكيد لما سبق من الأحكام أي : لا تكلّف نفس إلا ما تتسع قدرتها وتقدر على تحمله ، وقد شرح سبحانه ذلك في آية أخرى ، قال تعالى : (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) [الطلاق ـ ٧] ، وهذا التعليل عام يشمل جميع التكاليف الإلهية قال تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة ـ ١٨٥] ، فالتكاليف الإلهيّة بأقسامها إنّما تتنجز في حدود طاقة الإنسان ولا تتجاوزها ، وفي سياق ذلك جملة من الآيات المباركة والأخبار المتواترة فعن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في كلمته المباركة : «بعثت بالشريعة السهلة السمحاء».

قوله تعالى : (لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ).

تفريع على الحكم السابق. والضرر مقابل النفع ، والمضارة الضّرار من الجانبين. والكلمة مجزومة ب لا ، الناهية ، وحركت آخر الكلمة بالفتحة لمشاكلتها للحرف الذي قبلها وذلك لرفع التقاء الساكنين.

وقرئ بالرفع ولا يوجب ذلك اختلافا في المعنى ، وهو النّهي الإلزامي.

والمعنى : إنّه يحرم إضرار كلّ واحد من الزوجين الآخر في ولده فلا يستغل الوالد عواطف الأم وحنانها على ولدها الرضيع بإضرارها في منعها عن إرضاع الولد مع قدرتها ومكنتها أو حرمانها من الحضانة أو رؤيته ، أو التضييق عليها برضاعه بلا مقابل أو الامتناع عن إعطائها الولد وسائر أنحاء المضارة. كما

٦١

لا تستغل هي عطف الوالد بإضراره في منعه عن الاستمتاع بها أو طلب النفقة منه فوق وسعه أو تمنع الوالد من المعاشرة مع ولده ونحو ذلك ، ومع الاختلاف لا بد من التراضي والرجوع إلى العشرة بالمعروف.

وإنّما وضع سبحانه الظاهر موضع الضمير فقال تعالى : (وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ) لبيان أنّ الولد لهما ومتكوّن منهما معا فلا بد من مراعاة الجانبين له فإنّه كما يحتاج إلى الرضاع والحضانة يحتاج إلى التربية والرعاية من الوالد والإنفاق عليه وهذا أمر تكويني قرّر في ظاهر الشرع أيضا.

أو لأجل بيان أنّ الولادة تضاف إلى الجانبين فيقال ولد الأب وولد الأم فهما في النسبة سواء ، فلا بد من ملاحظة كلّ منهما الولد والاهتمام به.

قوله تعالى : (وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ).

المراد بالوارث : ورثة كلّ واحد من الأب والأم لو مات أحدهما تنتقل المسؤولية والتكفل إلى وارثه فلا يضار الوارث الطرف الآخر ، فإذا ماتت الأم لا يضار وارث الأم الوالد بسبب الولد ولو مات الوالد فوارثه هو المكلّف في البذل على الأم بالمعروف والحسنى حتى لا يضيع شأن الطفل وتنهار مصلحته ، ففي الجميع لا بد من الإصلاح والمعاشرة بالمعروف ، فإنّ فيه النجاة والفلاح ، وقد وردت روايات عن الأئمة الهداة (عليهم‌السلام) تدل على ما ذكرنا. وقيل في تفسير الآية الشريفة وجوه أخرى مذكورة في كتب الفقه.

قوله تعالى : (فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما).

الفصال : هنا : بمعنى فصل الصّبيّ عن الرضاع أي الفطام ، والفطيم أي المفطوم يقع على الذكر والأنثى فلهذا لم تلحقه الهاء.

والتشاور : استخراج الرأي بمراجعة البعض مع البعض ومنه المشورة والشورى ومثله المفاوضة في الكلام لظهور الحق ، وقد حبذ الإسلام التشاور

٦٢

والاجتماع على المشورة ، ويأتي في قوله تعالى : (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) [آل عمران ـ ١٥٩] ، ما يتعلّق بالمشورة.

والمعنى : إذا أراد الوالد والمرضعة أو الوارث والوالدة أن يفطما الرضيع عن الرضاع قبل استيفاء الحولين عن مراضاة بينهما وتشاور في مصلحة الرضيع الموكول إليهما رعايته وعدم الإضرار به فلا بأس في ذلك لأنّ الحقّ لا يعدوهما وإنّ الحد المذكور للرضاع ليس من الواجبات التي لا تقبل التغيير والتبديل.

والتحديد إنّما كان لمصلحة الولد فإذا كانت تقتضي الفطام قبل ذلك أو كانت المصلحة تقتضي أن يكون الفصل والفطام بعد الحولين فلا بأس بذلك إذا تراضيا عليه وكان صلاح الطفل في ذلك.

وإنّما قيّد سبحانه الحكم بالتشاور بعد التراضي لبيان أنّه لا بد من مراعاة صلاح الولد الواجب عليهما حمايته ورعايته لا مجرّد تراضيهما مراعاة لرغبتهما وأهوائهما ، ويستفاد منه الترغيب إلى المشورة أيضا في الأمور ونبذ الاستبداد فيها.

قوله تعالى : (وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ).

تفريع على الحكم السابق من أنّ الحق لهما فإذا أراد الوالد أن يسترضع لولده من ترضعه فلا بأس به إذا سلّم لها الأجرة تسليما بالمعروف بحيث لا تكون الإجارة مزاحمة لحق الوالدة ، ولا أن تكون الأجرة مجحفة ، وبها يكون الضمان لتربية الطفل ورعايته أشد إن كان إرضاع غير الأم في مصلحة الولد أو غير ذلك مما يجب أن يكون معروفا غير مزاحم لحق أحد من الأطراف.

قوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).

أمر بالتقوى بعد تشريع تلك الأحكام وربط العمل بها بالتقوى لبيان أنّ المهم هو الإخلاص في النية وتوافق الظاهر مع الباطن لأنّه العالم بما تعملون ، وقد تقدم تفسير ذلك.

٦٣

والبصير من الأسماء الحسنى ويرجع إلى علمه أي لا يخفى عليه المبصرات ، ويستفاد منه الحضور العلمي في الجزئيات فضلا عن الكليات.

وقد ذكرنا أيضا أنّ جملة (وَاعْلَمُوا) أدعى للعمل لأنّه حينئذ يشتد قبح التقصير مع العلم ، وسيأتي في البحث الدلالي ما يرتبط بتكرار هذا التعبير في الآية المباركة المتقدمة مع الاختلاف في الصفة.

٦٤

بحث دلالي

يستفاد من الآية الشريفة أمور :

الأول : أنّ قوله تعالى : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَ) يرشد ـ كما ذكرنا ـ إلى أمر طبيعي ، وهو رضاع الأم ولدها نظرا إلى شفقة الأم ولطفها وحنانها ، واحتياج الطفل إلى عناية تامة قد لا تتوفر في غير الأم ، وأما الوجوب فلا يمكن استفادته من الجملة الخبرية فإنّها إنّما تدل على الوجوب إذا كانت في مقام الإنشاء ولم تكن قرينة على الخلاف ، وهي موجودة في المقام ، كما عرفت.

الثاني : أنّ الآية الشريفة ترشد إلى أهمية لبن الأم وأولويته بالنسبة إلى غيره وترغّب الأم في إرضاع ولدها لما فيه من الأثر الكبير في جسم الطفل وأخلاقه وصحته ونشأته بل وجميع صفاته النفسية والعقلية وأثبتت التجارب العصرية والعلوم الصحية والنفسية أنّ رضاع الام في فترة الحولين ضروري لنمو الطفل نموّا سليما ، ولا يقوم مقامه غيره فهو الغذاء الذي لا يقابله غيره له ، وهذه قرينة أخرى على عدم دلالة الجملة على الوجوب ، فيجوز لغير الأم إرضاع الولد إن كان في إرضاع الأم موانع خلقية أو خلقية أو لجهات أخرى.

الثالث : يدل قوله تعالى : (حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) على أنّ المعتبر هو أربعة وعشرون شهرا فلا يصدق الحولان على الحول الواحد وبعض من الحول

٦٥

الثاني ، ويمكن حمله على التأكيد فإنّ الطفل في هذه المدة أحوج منه في غيرها إلى العناية والرعاية وقد ذكر علماء الطب والتربية أنّ الغذاء في هذه المدّة يعين مصير الطفل من حيث صحته وسقمه وصفاته النفسية والخلقية ، وقد كشف القرآن بهذه الكلمة الوجيزة عن كلّ ما وصل العلم إليه بعد جهدهم الأكيد في قرون ، فعلى المسلمين أن يرجعوا إلى دينهم فإنّه تعرض إلى كلّ ما يرشدهم إلى الهداية والصلاح والسعادة في الدنيا والآخرة.

الرابع : يستفاد من قوله تعالى : (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) أنّ المدة المذكورة إنّما هي لمصلحة الطفل فإذا اقتضت أن تكون الرضاعة أقل منها فلا بأس به وأوكل ذلك إلى اجتهاد الوالدين ، ولهذا عدل عن خطاب الأم إلى خطاب الذكور لبيان أنّها لا بد من الرجوع إلى الوالد في تقرير مصير الطفل في أمر الرضاع والفطام ، وهذا مما يؤكده قوله تعالى : (فَإِنْ أَرادا فِصالاً) في ذيل الآية الشريفة.

الخامس : ذكر بعض المفسرين أنّ قوله تعالى : (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَ) يدل على أنّ الوالدات إنّما ولدن للآباء فقط ، ولذلك ينسبون إليهم لا إلى الأمهات ، واستشهد بقول القائل :

وإنّما أمهات الناس أوعية

مستودعات وللآباء أبناء

والمناقشة في ما ذكره واضحة ، فإنّ الآية الشريفة تدل على أنّ الولد لوالديه فهو بمنزلة الثمرة لهما ، وإنّما يرجع فيه إلى الاعتبارات ، وما عليه المجتمع الإنساني ، وهو يختلف باختلاف الأمم ، كما هو واضح.

وإنّما عبّر سبحانه بالمولود له لبيان الحكمة في الحكم وإثارة العاطفة والحنان فيه ، فما ذكره المستدل مخالف لصريح الآية الشريفة وإنّما هو عادة جاهلية قد أبطلها الإسلام.

السادس : يدل قوله تعالى : (لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ) على أنّ إضرار كلّ واحد من الوالدين بالآخر موجب للإضرار بالولد ، ويؤثر ذلك في تربيته ونشأته وصحته ونفسيته. والنهي عام يشمل جميع أقسام الإضرار.

٦٦

السابع : إطلاق قوله سبحانه وتعالى : (وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ) يشمل جميع الورثة فإنّه يحرّم الإضرار مطلقا من أيّ شخص كان وارث الوالد أو وارث الوالدة أو وارث الولد وإن كان المنصرف من الآية المباركة وارث الوالدين.

الثامن : إنّما عبّر سبحانه وتعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) لأنّه ورد في المقام أحكام كثيرة مرتبطة بالوالد والوالدة والولد ولذلك عقبها بعلمه الإحاطي بالجزئيات وعلمه يستلزم حكمه بما هو الصّلاح.

وأما الآية السابقة فقد ورد فيها : (وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ) وهي تشتمل على مصالح العباد وسبل هدايتهم وسعادتهم فعقبها بقوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ليشعروا بأهمية الإنعام وغزارة الفيض.

٦٧

بحث روائي

في تفسير العياشي في قوله تعالى : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) قال (عليه‌السلام) : «ما دام الولد في الرّضاع فهو بين الأبوين بالسوية فإذا فطم فالأب أحقّ به من الأم فإذا مات الأب فالأم أحق به من العصبة وإن وجد الأب من يرضعه بأربعة دراهم ، وقالت الأم : لا أرضعه إلا بخمسة دراهم فإنّ له أن ينزعه منها إلا أنّ ذلك أخير له وأقدم وأرفق به أن يترك مع أمه».

أقول : يستفاد من هذه الرواية أفضلية لبن الأم من لبن غيرها.

وفي الكافي عن الصادق (عليه‌السلام) : «لا تجبر الحرة على إرضاع الولد وتجبر أم الولد».

أقول : أما عدم إجبار الحرة فلعدم ثبوت حق له عليها في هذه الجهة ، والآية الشريفة إنّما تبيّن حكم المرأة لا حكم الرجل. نعم ، لو اقتضت المصلحة الوجوب تجبر على الإرضاع بإذن الحاكم لأنّه حينئذ من موارد الأمر بالمعروف. وأما إجبار المملوكة فلفرض كونها ولبنها ملكا للوالد.

في الكافي أيضا عن الحلبي عن الصادق (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ) قال (عليه‌السلام) : «كانت امرأة منا ترفع يدها إلى زوجها إذا أراد مجامعتها تقول : لا أدعك أنا أخاف أن أحمل على ولدي ، ويقول الرجل لا أجامعك إنّي أخاف أن تعلقي فأقتل ولدي فنهى الله عزّ

٦٨

وجل أن تضارّ المرأة الرجل وأن يضارّ الرجل المرأة».

أقول : هذا بيان بعض مصاديق الإضرار والآية المباركة عامة لجميع أنحاء الإضرار.

وفي تفسير العياشي في قوله تعالى : (لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ) قال الصادق (عليه‌السلام) : «الجماع».

أقول : تقدم ما يتعلق به لو كان مضرّا.

وفيه أيضا عن أحدهما (عليهما‌السلام) في قوله تعالى : (وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ) قال (عليه‌السلام) : «هو في النفقة على الوارث مثل ما على الوالد».

أقول : الآية الشريفة عامة ، وما ورد في هذه الرواية بيان بعض المصاديق.

وفي تفسير العياشي أيضا في قوله تعالى : (وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ) عن الصادق (عليه‌السلام) : «لا ينبغي للوارث أن يضارّ المرأة فيقول : لا أدع ولدها يأتيها ويضارّ ولدها إن كان لهم عنده شيء فلا ينبغي له أن يقتر عليه».

أقول : تقدم ما يدل على ذلك في التفسير.

في الكافي في قوله تعالى : (وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ) ، عن الصادق (عليه‌السلام) : «نهى أن يضارّ بالصبيّ أو يضارّ أمه في رضاعه وليس لها أن تأخذ في رضاعه فوق حولين كاملين فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور قبل ذلك كان حسنا والفصال : هو الفطام».

أقول : هذا بيان لبعض المصاديق والآية المباركة عامة شاملة للجميع.

في الدر المنثور عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : «قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : لا يتم بعد حلم ، ولا رضاع بعد فطام ، ولا صمت يوم إلى الليل ، ولا وصال في الصيام ، ولا نذر في معصية ، ولا نفقة في معصية ، ولا يمين في قطيعة رحم ، ولا تعرّب بعد الهجرة ، ولا هجرة بعد الفتح ، ولا

٦٩

يمين لزوجة مع زوج ، ولا يمين لولد مع والد ، ولا يمين لمملوك مع سيده ، ولا طلاق قبل نكاح ، ولا عتق قبل ملك».

أقول : المراد من قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : لا رضاع بعد فصال أي : بعد فطام ، وهو بعد الحولين ، كما يدل عليه ما رواه حماد في الكافي عن الصادق (عليه‌السلام) قال : «لا رضاع بعد فطام قلت له : جعلت فداك وما الفطام؟ قال (عليه‌السلام) : الحولان اللذان قال الله عزوجل».

أقول : هذا بحسب الحكم الأولي ، وأما العناوين الثانوية فقد توجب الرضاع ولو كان بعد الفطام.

٧٠

سورة البقرة

الآية ٢٣٤ ـ ٢٣٥

(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٣٤) وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٣٥))

بعد ما بيّن سبحانه وتعالى جملة من أحكام الطلاق وما يتبعه كالعدة بيّن هنا حكم المتوفى عنها زوجها وعدتها وبعض ما يتعلّق بها حين العدة مثل خطبتها في أثنائها أو بعدها وأنّ مدّة عدتها أربعة أشهر وعشرا وبذلك يرفع توهم اتحاد عدّة الوفاة والطلاق.

ويضع حدّا لما كان عليه أهل الجاهلية في المتوفّى عنها زوجها التي كانت تلقى العنت والمشقة الكثيرة.

وهو حكم اجتماعي أدبيّ يحفظ به نظام الأسرة بعد فقد قيّمها واهتماما بحقوق الزوجية بأسلوب رفيع يخفف لوعة المصاب.

ثم بيّن سبحانه وتعالى كيفية المعاشرة والتحدث مع المعتدّة بعدة الوفاة واعتبر أن يكون الكلام معها بالتعريض مشتملا على المعروف والحشمة.

٧١

التفسير

٢٣٤ ـ قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً).

مادة (وفي) تأتي بمعنى التمام والإتمام في جميع استعمالاتها الكثيرة في القرآن الكريم ، والوفاة هي تمام مدة الحياة قال تعالى : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) [الآية ـ ٤٢] ، أي يتم قضاؤه عليها في الحياة أو الموت وقال تعالى : (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) [النجم ـ ٣٧] ، أي أتم عهد الله عليه بالكمال ، وقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) [المائدة ـ ١] ، أي أتموها ، وقال تعالى : (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ) [الأنعام ـ ١٥٢] ، أي أتمّوهما ولا تنقصوا منهما شيئا.

وقد استعملت في القرآن بهيئات مختلفة متفاوتة وفي الحديث عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في ليلة المعراج : «فمررت بقوم تقرض شفاههم كلّما قرضت وفت» أي تمّت وطالت.

ويذرون أي : يتركون والفعل مضارع ليس له ماض من لفظه وإنّ ماضيه ترك ـ بالفتحات الثلاث ـ. وتقدم في قوله تعالى : (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) [البقرة ـ ٢٢٨] ، ما يتعلّق بهذه العبارة الفصيحة.

والمعنى : والذين يتمّون مدة حياتهم ويموتون ويتركون زوجات يجب

٧٢

عليهنّ الانتظار وحبس أنفسهنّ من الازدواج والزينة وغيرهما مدة أربعة أشهر وعشرا ، والمراد بالعشر الأيام مع لياليها ، وحذفت لدلالة السياق عليه ، لأنّ المراد اتصال هذا المقدار من الزمان ، كما في أصل العدة مطلقا.

قوله تعالى : (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَ).

أي : إذا أتممن عدّتهنّ فلهنّ الاختيار ولا سبيل لأحد عليهنّ ، فلا إثم عليهنّ في أن يخترن الأزواج ويفعلن ما وجب عليهنّ تركه في أثناء العدة ، فيجوز لهنّ استعمال الزينة بما هو المتعارف بالنسبة إليهنّ ولا يستنكر من أمثالهنّ وكذا التعرض للخطبة ، والخروج من البيوت فإنّ جميع ذلك جائز لهنّ بالمعروف والاستقامة والعفة.

وفي قوله تعالى : (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) إبطال للعادات السيئة التي كانت المتوفى عنها زوجها تعانيها من أهلها وقرابة الزوج بل من المجتمع الجاهلي ، كما أنّ فيه إشعارا بإلزام الأقارب بعدم التدخل في شؤون الزوجات.

والحداد : عبارة عن إظهار الحزن على فقد عزيز بعلامات خاصة وهو من الأمور الاجتماعية التي لا تخلو عنه أمة من الأمم والتي تتفاوت في هذه العادة فبعض الأمم تشرك الذكور والإناث فيها في حين أنّ امة أخرى تخص هذه العادات بالإناث ، كما أنّ مدّة الحداد لم تكن متساوية لدى الجميع ، وقد اختلطت بكثير من الأوهام والخرافات حتّى أنّ بعض الأمم كانت تقضي بإحراق الزوجة الحية ، أو دفنها مع الزوج وهي حية ، أو الاغتراب من بلد الزوج ، أو عدم تزويجها إلى آخر العمر ، أو سنة واحدة ، أو تسعة أشهر ، أو من دون مدة معينة ، وهذه العادات وإن كانت قاسية في بعض الحالات ويشمئز منها الضمير الإنساني إلا أنّ أصل الحداد في الجملة أمر يقبله الطبع لأنّه يرجع إلى حفظ حقوق الزوجية واحترام مشاعر أسرة البيت ورعاية الحب الذي كان متبادلا بين الزوجين.

فهو معنى قائم بالطرفين إلا أنّه آكد في الزوجة وألزم ، فالحداد من تلك

٧٣

الأمور الاجتماعية التي يجتمع فيه الجانب الأخلاقي والأدبي ، ويحفظ فيه حق الحاضر والمتوفّى لكن بشرط خلوه عن العادات السيئة والأوهام والخرافات ولا يتحقق ذلك إلا بالرجوع إلى الوحي السماوي والشرايع الإلهية.

وقد قبله الإسلام وعيّن له مدة محدودة وهي أربعة أشهر وعشرا وألزم المرأة ترك الزواج والزينة ، والخروج عن المنزل فيها إلا في موارد يدعو الإلزام والضرورة إليها.

ولعلّ الحكمة في اعتبار هذه المدة المعينة ظاهرة فإنّ ثلاثة أشهر منها العدة الغالبية التي تجب في كلّ فراق سواء كان اختياريا ـ كالطلاق ـ أو قهريّا كالموت والأربعون الاخرى هي مدة الحداد على الميت واحترامه كما هو المعتاد في كلّ ميت ، وقد تقدم في قوله تعالى : (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [البقرة ـ ٢٢٦] ، بعض الكلام.

قوله تعالى : (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ).

أي : والله عليم بالأعمال رقيب عليها ، وهو مطلع عليكم اطلاع ذي الخبرة بالنسبة إلى ما يكون خبيرا فيه إلا أنّه خبير بما يؤدي إليه الظاهر ، والله جل شأنه خبير بالباطن والحقيقة والسرائر.

وقد ختمت الآية المباركة بهذا الخطاب اهتماما بالموضوع لأنّ الغريزة الجنسية داعية لكل فساد إلا إذا أمسك زمامها بما يرتضيه الرحمن فإنّه الخبير بالحقائق والأعمال وعالم بالمصالح فيحكم وفق المصلحة فيجب إطاعته ويحرم مخالفته.

٢٣٥ ـ قوله تعالى : (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ).

مادة (جنح) تأتي بمعنى الإثم المائل عن الحق ، واستعير لفظ الجناح لكلّ إثم ومعنى (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) : لا إثم عليكم وقد استعمل هذا اللفظ

٧٤

في مواضع كثيرة من القرآن الكريم تقدم بعضها ويأتي الآخر منها.

و (التعريض) : قسم من الكناية التي هي أبلغ من التصريح ولكنّه خلافها فالكلام إما ظاهر في المعنى المقصود ، أو صريح فيه ، أو تعريض به ، والجميع معتبر في المحاورات العرفية ويترتب الأثر عند المتعارف فقول : إنّي أريد أن أنكحك ، صريح في المطلوب. وقول : إنّي أريد معاشرتك ـ مثلا ـ ظاهر فيه. وقول : كم راغب فيك تعريض ، ففي التعريض يكون المعنى المقصود غير ما عرّض به كالمثال الأخير ، وفي الكناية لا يقصد من اللفظ غير المكنى عنه.

والخطبة ـ بكسر الخاء ـ من الخطب والمخاطبة. والتخاطب بمعنى المراجعة في الكلام ، وتستعمل في طلب المرأة للنكاح من هذه الجهة ويصح استعمالها في الحالة الخاصة الكلامية مطلقا ، والفارق القرائن الخاصة ، فيقال : خطب الخطيب على المنبر كما يقال خطب المرأة بمهر كذا إلا أنّ في الخطبة ـ بالضم ـ يأتي الخطيب وفي الخطبة ـ بالكسر ـ يأتي الخاطب.

والإكنان من الكن ـ بالكسر ـ وهو ما يحفظ به الشيء ، قال تعالى : (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ) [الصافات ـ ٤٩] ، وقال تعالى : (كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ) [الطور ـ ٢٤] ، وما يستر في النفس يسمّى كنّا أيضا ، قال تعالى : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ) [النحل ـ ٧٤].

والمعنى : لا إثم على الرجل في التعريض بخطبة المرأة المتوفّى عنها زوجها أي : بالإشارة التي تفيد المرأة أنّ الرجل يريدها زوجة له أو يخفي في نفسه الرغبة في الزّواج بها ولا يظهرها إلا بعد انتهاء العدة.

وظاهر الآية الشريفة وإن كان يشمل جميع المعتدات لكن سياقها يدل على اختصاصها بعدة الوفاة.

قوله تعالى : (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَ).

بيان للسبب في الحكم السابق أي : أنّ ذكركم لهنّ أمر غريزي قهري

٧٥

والله تعالى أصلح هذا الأمر الفطري بما هو صلاح لكم فإنّ الشرايع الإلهية تراعي الميول الفطرية ولا تحطمها وإنّما تضبطها وتهذبها حتى تستقيم معها الحياة السعيدة الصالحة للبشرية ، فرخص لكم التعريض بهنّ وإخفاء الرغبة في نكاحهنّ دون ذكرهنّ باللسان حفظا للآداب وصونا لجرح المشاعر لأنّ الدين دين الفطرة.

قوله تعالى : (وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا).

السر معروف وهو مقابل الإعلان أو الجهر قال تعالى : (لا جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) [النحل ـ ٢٣] ، وإنّه من صفات ذات الإضافة وله مراتب كثيرة حتّى إنّه يمكن أن يكون شيء واحد سرّا من جهة وجهرا من جهة أخرى.

وهو عام يشمل الجماع والزواج ، وقيل : إنّ المراد به الجماع واستشهد بقول امرئ القيس :

ألا زعمت بسباسة اليوم أنّني

كبرت وأن لا يشهد السر أمثالي

وقول الأعشى :

ولا تقربن جارة إنّ سرها

عليك حرام فانكحن أو تأبدا

ولكن تقدم مرارا أنّ غالب هذه الإطلاقات ، بل جميعها من باب اشتباه المصداق بالمفهوم وليس من متكثر المعنى في شيء.

والمعنى : لا تواعدوهنّ على الزواج أو الرّفث وما يرجع إليهما وعدا صريحا في السّر ، فإنّ ذلك خلاف الحشمة ، ومظنة للفتنة بخلاف التعريض بالخطبة فإنّه لا بأس به.

قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً).

أي : إلّا أن يكون ما وعدتموهنّ في السّر موافقا للمعروف والحياء والحشمة والأدب بحيث لو كان ذلك في العلن لما كان فيه عيب ولا يستحيى منه.

٧٦

والآية المباركة بمجموعها تدل على كيفية المعاشرة مع المرأة المعتدة بعدة الوفاة والتحدث معها في أمر الزواج فاعتبر الشارع أن يكون التحدث معها موافقا مع الحشمة والحياء ولا ينافي الآداب العامة ويخدشها ، فرخص التعريض وكريم الخطاب ، فإنّ المرأة في هذه الحالة لم تكن مسلوبة الحقوق والأحكام سوى أنّها تعمل ببعض الواجبات احتراما للزوج المتوفّى.

وفي الآية الشريفة رد لعادات كانت سائدة في عصر النزول من منع التحدث معهنّ واعتباره من الأمور المستهجنة جدّا لا سيّما إذا كان في أمر الزواج. ومن المؤسف جدّا أنّ بعض تلك العادات السيئة الجاهلية متبعة عند بعض المجتمعات الإسلامية ، ولا بد من الرجوع إلى تعاليم الإسلام فإنّ فيها الهداية والسعادة.

وهذه الآية وما بعدها قرينة على أنّ موردها هو المعتدات بعدة الوفاة لا مطلق العدة فتكون اللام في قوله تعالى : (مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ) للعهد دون جنس العدة ، كما لا يخفى.

قوله تعالى : (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ).

العزم والعزيمة بمعنى عقد القلب على إمضاء الشيء وهذه المادة كثيرة الاستعمال في القرآن الكريم قال تعالى : (فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) [آل عمران ـ ١٥٩] ، وقال تعالى : (إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [لقمان ـ ١٧] ، وقال تعالى : (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) [الأحقاف ـ ٣٥] ، أي الذين لهم قدم ثابت وراسخ في هذا المقام الذي تزل فيه الأقدام حتّى من الأنبياء العظام. وفي السنة المقدسة : «خير الأمور عوازمها» أي ما وكدت نفسك عليه في مرضاة الله تعالى.

والعقدة من العقد بمعنى الشدّ وهما والعهد بمعنى واحد ، وفي الآية استعارة بليغة حيث شبه عقد النّكاح بالعقدة التي يعقد بها أحد الحبلين بالآخر ، وجعلها أمرا قلبيا لبيان أنّ هذه الأمور من الاعتبارات العقلائية التي يقوم عليها نظام المجتمع.

٧٧

والمعنى : لا توقعوا عقد النكاح بالإرادة الجدية بحيث يترتب عليه الأثر حتى تنقضي مدّة العدة ، فمن أوجد العقد عليها في العدة مع العلم بها يكون العقد باطلا وتحرم عليه المرأة أبدا كما فصل في السنة المقدسة.

قوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ).

ربط بين ما شرعه سبحانه وتعالى والخشية منه لأنّه العالم بالسرائر وتأكيد بليغ لسوق الناس إلى إتيان أوامره جلّت عظمته والتحذير عن مخالفته.

وإنّما ذكر تعالى : (وَاعْلَمُوا) لأنّه آكد في الترغيب والتحذير ويستفاد من قوله تعالى : (يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ) إحاطته الفعلية بضمائر القلوب وسرائرها ، ولبيان أنّ مخالفته تعالى فيما ذكر في الآية الشريفة وارتكابه من المهلكات ، ولكن باب التوبة في جميع الخطايا مفتوح ولذا عقبه ب :

قوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ).

ترغيب في التوبة والرجوع إليه تعالى وأنّه لا يعجّل بالعقوبة.

و «حليم» من أسماء الله الحسنى وجميع أسمائه المقدّسة حسنى والتوصيف إضافي لا أن يكون حقيقيا.

وهو بمعنى عدم العجلة في عقوبة العصاة. كما أنّ «صابر» من أسمائه الحسنى يرجع إليه أيضا ، وقد علّل ذلك في بعض الآثار «وإنّما يعجل من يخاف الفوت ، وإنّما يحتاج إلى الظلم الضعيف وقد تعاليت عن ذلك علوّا كبيرا». وهذا مطابق للأدلة العقلية فإنّ قهاريته على جميع ما سواه ، وحكمته المتعالية على الإطلاق كيف يعقل فيهما العجلة ، فيصح أن يجعل الحليم من شؤون حكمته تعالى فيرجع معناه إلى الحكيم بتوسعة في معناه في الجملة ، فيكون الإمهال وترك التعجيل على الأخذ بالمعاصي من شؤون العلم والحكمة علما إحاطيا مطلقا بما مضى وما يأتي ، وحكمته بالغة يراعى فيها كليات الأمور وجزئياتها.

ثم إنّ الغفور من الأسماء الحسنى الذي لم يرد في القرآن الكريم إلا مقرونا باسم آخر كالرّحيم والحليم ونحو ذلك ، كما مرّ في آية (٢٢٦) ما يرتبط بالمقام.

٧٨

بحث أدبي

الفاعل للوفاة في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ) هو الله تعالى أي : والذين يأخذهم الله تعالى وافين ويستوفون مدة حياتهم.

(وَالَّذِينَ) مرفوع بالابتداء وجملة : (يَتَرَبَّصْنَ) خبره وجملة : (يُتَوَفَّوْنَ) صلة وجملة : (يَذَرُونَ) عطف عليها.

ثم إنّه إذا جعلنا المبتدأ قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ) والخبر جملة : (يَتَرَبَّصْنَ) تكون المطابقة بين المبتدإ والخبر خفية وقد قيل في ذلك وجوه منها ما قاله الكسائي والأخفش أنّ الرابط بينهما هو الضمير العائد إلى الأزواج الذي هو من متعلّقات المبتدإ.

وهذا من الموارد التي لا بد من التكلف فيها لتطابق قول النحويين.

والصحيح أن يقال : إنّه يراعى في الأخبار صحة المعنى سواء تطابق المبتدأ والخبر أم لا ، والمعنى في المقام واضح وجلي بل المستفاد من هذه الجملة الاتحاد بين الزوجين وكمال التقارب بينهما بحيث يعدان في نظر الإسلام واحدا ، وتدل عليه آيات كثيرة منها قوله تعالى : (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ) [البقرة ـ ١٨٧].

و (يَذَرُونَ) مثل (يدعون) لفظا ومعنى ، ولا ماضي لهما من مادتهما وماضيهما (ترك).

٧٩

واللام في قوله تعالى : (مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ) للعهد دون الجنس كما تقدم.

٨٠