مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة أهل البيت (ع)
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥١٦

وبمراعاتها يحفظ المال عن الضياع ، ويرفع التنازع والاختلاف بين أفراد الإنسان ، ويصل كلّ ذي حق إلى حقه ، والعمل بها يوصل الناس إلى أغراضهم ويحافظون على مالية أموالهم.

وقد أكد سبحانه وتعالى على كثرة الاعتناء والاهتمام بحقوق الناس وبيّن عزوجل أنّ العمل طريق التقوى بل هي والعمل الصحيح متلازمان وأنّ التقوى من موجبات رحمة الله تعالى بالعبد ، وأنّها بمنزلة روح العمل. وقد ذكر سبحانه في الآيات المتقدمة الإنفاق والصّدقات ، وقد وعد الوعد الجميل للمنفقين ثم بيّن حرمة الربا في آيات تنذر بالخطر وتوعد الآكل للربا بالعذاب الشديد ، وفي هاتين الآيتين يبيّن الله عزوجل أصول المعاملات. ففي الأولى بذل وعطاء ، وفي الثانية تحذير عن الابتزار وسلب الأموال من دون عوض والظلم. وفي الثالثة بيان لكيفية حفظ الأموال ونقلها من حال إلى حال.

ومن ذلك يعرف نظام الإسلام بالنسبة إلى الأموال فهو من جانب يرغب إلى الإنفاق والبذل والإعطاء ويذم حفظ المال وجمعه وينهى عن الركون إلى الدنيا وزبرجها. ومن جانب آخر يحفظ الأموال عن الضياع ويحرم الابتزاز ، فكان الحد الوسط بين الإفراط في حب المال وجمعه والتفريط في بذله وعطائه.

ونحن نذكر في التفسير مجموعة الأحكام الشرعية التي تضمنتها الآيتان المباركتان على نحو الإيجاز والتفصيل مذكور في الكتب الفقهية.

٤٦١

التفسير

٢٨٢ ـ قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ).

الدّين ـ بفتح الأول ـ : اشتغال الذمة بما يتعلّق بالغير مالا كان أو حقا ، وله استعمالات كثيرة في القرآن الكريم ، والدّين ـ بالكسر ـ : الطاعة والجزاء ، ويستعمل في الشريعة والملة ، ويمكن فرض الجامع القريب بين اللفظين ، كما لا يخفى ، فيكون اللفظان من المشترك المعنوي دون اللفظي.

والتداين : التعامل بمعاملة فيها دين ، سواء كانت المعاملة بيعا أو قرضا أو نحو ذلك.

وإنّما أتى بصيغة التفاعل لتقوم الدّين باثنين : الدافع والآخذ ، مع أنّه ترغيب إلى المجاراة يعني : أنّه كما احتجت إلى الدّين ودفع إليك غيرك فلتكن أنت أيضا كذلك.

ويمكن أن يكون المراد بالتداين مداينة بعضهم بعضا فيكون قوله تعالى : (بِدَيْنٍ) تأكيدا.

والكتابة : الفرض والثبوت ، قال تعالى : (وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)

٤٦٢

[التوبة ـ ١٢١] ، والكتاب في الأصل مصدر يطلق على المكتوب.

والأجل : المدة المضروبة للشيء تقديرا من الله تعالى كأجل حياة الإنسان ، قال تعالى : (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ) [الحجر ـ ٤] ، ويطلق على الجعل المقرّر في المعاملات والديون. وهو من المفاهيم القابلة للتشكيك قلّة وكثرة.

والأجل المسمّى : هو الأجل المضروب المعلوم للطرفين قال تعالى : (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ) [البقرة ـ ٢٣٥].

ويستفاد من الآية الشريفة : حكمان :

الأول : أنّه لا بد أن يكون أمد الدّين معيّنا لا جهالة فيه بذكر الأجل المعيّن.

والثاني : الأمر بكتابة الدّين والأجل دفعا للضرر وحفظا للحقوق ، لأنّ ذا الأجل يكون معرضا للنزاع والأوهام. والأمر للإرشاد إلى ما ذكر من الحكمة فلا يستفاد منه الوجوب ، ويدل عليه قوله تعالى : (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ) وإجماع الأصحاب وعمل المتشرعة. وإطلاق الآية الشريفة يشمل المباشرة للكتابة والتوكيل فيها.

قوله تعالى : (وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ).

بيان لكيفية الكتابة ، وشروطها ، ومن يتولاها. فبيّن سبحانه أنّه يشترط في الكاتب أمران : الأول : العدالة. الثاني : العلم بالأحكام كما يأتي.

والعدل بمعنى الاستقامة والاستواء في الدّين للدّين ، واحترزنا بالقيد الأخير بما إذا كانت الاستقامة في الدّين لا للدّين ، فإنّها حينئذ نفاق وليست بعدل ، بل قد يكون شركا وكفرا ، كما في المرائي الذي يدعى يوم القيامة بأربعة أسماء منها : يا مشرك ، يا كافر.

والمعنى : وليكن الكاتب بين المتعاملين بالدّين عادلا سويا بالنسبة إلى المتعاملين ، وحقيقة المعاملة ، والأجل ، والشروط ونحو ذلك ، ولا غرض له

٤٦٣

إلا بيان الحق.

والأمر للإرشاد كما ذكرنا وهو أعم من أن يكون الكاتب أحد المتعاملين أو غيرهما.

وإنّما ذكر سبحانه (بَيْنَكُمْ) لأنّ الغالب أنّ الكاتب من غير المتعاملين لندرة الكتابة في عصر النزول.

وإنّما قدم صفة العدالة على غيرها لأنّ بالعدل تقوم السّماوات والأرض ولأنّ غيرها مع فقدها لا ثمرة فيه.

قوله تعالى : (وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ).

هذا هو الأمر الثاني أي : العلم بالأحكام وشؤون المعاملة ، وما يعتبر فيها لتخلو الكتابة عن الوهم والتقصير ، لأنّها حجة معتبرة ، وهي سند بينهما لحفظ حقوقهما.

وما علّمه الله أعم من أن يكون بواسطة أنبيائه ، ورسله ، أو ما أرشد العقل إليه ، والنّهي فيها للتنزيه والكراهة.

ويستفاد من الآية الشريفة : التشديد في تثبيت الدّين وأنّ صنعة الكتابة من الواجبات الكفائية التي يتقوّم نظام العالم بها.

وقوله تعالى : (وَلا يَأْبَ كاتِبٌ) يدل على النّهي عن رد الدّعوة إلى أمر من الأمور التي تكون فيها مصلحة النوع ، واستحباب تلبيتها.

قوله تعالى : (فَلْيَكْتُبْ).

أي : فليكتب للناس شكرا لما أنعم الله تعالى عليه ، ومراعاة لحقوق الناس ، أو هو تأكيد في تثبيت الدّين ، وسياق الجملة يفيد أنّ الأمر للندب لا الوجوب.

قوله تعالى : (وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُ).

والإملاء يأتي بمعنى الإظهار والبيان على المستفيد ، والإملال : الكتابة ،

٤٦٤

ويمكن أن يرجع اللفظان إلى جامع قريب ، وهو الإثبات فإن كان على شخص فهو إملاء وإن كان في مكتوب فهو إملال.

أي : وليظهر المدين ويلق ما عليه من الدّين وخصوصياته على الكاتب ليكتب ما يذكره فيكون حجة بينهما.

قوله تعالى : (وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً).

البخس : هو النقص على سبيل الظلم ، وله استعمالات كثيرة في القرآن الكريم ، قال تعالى : (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) [هود ـ ٨٥] ، وقال تعالى : (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) [الأعراف ـ ٨٥].

أي : وليتّق ـ الذي عليه الحق وهو الذي يملي ـ الله ربه في إملائه ويلقيه كاملا ، ولا ينقص من الحق شيئا.

وإنّما أمر سبحانه بالتقوى للترهيب ، فإنّ الله عليم بالأمور وقادر عليه وبيده عقابه ، ونهى عن البخس والظلم لأنّ الإنسان مجبول على دفع الضرر والطمع في جلب النفع إليه.

والأمر للاستحباب ، وهو وإن كان متوجها لمن عليه الحق لأنّه عارف به وبسائر خصوصياته فيكون إملاؤه حجة للدائن يرجع إلى المكتوب عند المجادلة والمماراة. ولكن يجوز لغيره الإملاء ، أو يكتب الكاتب نفسه ما يعرفه من الحق وشؤونه بعد إلقائه على المديون واعترافه به.

قوله تعالى : (فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ).

السفيه : هو الذي ليست له حالة باعثة على حفظ ماله والاعتناء بحاله ولا يتحفظ عن المغابنة ، ولا يبالي بالانخداع ، وهي قد تكون لكثرة الانقلاع عن دار الغرور والاقتراب إلى عالم النور والسرور ، فهي حالة ممدوحة ، وفيها ورد قول بعض الأكابر : «نرجو شفاعة من لا تقبل شهادته». وقد تكون لغير

٤٦٥

ذلك وهي حالة مذمومة ، وقد ورد لها أحكام خاصة في الكتاب والسنة.

والمراد بالضعيف أي : الضعيف في عقله وهو المجنون والصغير والأبله والخرف.

والمراد بمن لا يستطيع أن يملّ هو من لم يقدر على الإملاء ، أو بيان الخصوصيات التي جرت عليها المعاملة كالأخرس ونحوه.

والولي من يتولى الأمر ويديره وهو إما تكوينيّ ـ كولاية الله تعالى على ما سواه ، وولاية الأب على أولاده القاصرين ، أو شرعي ، أو عرفي ، وعموم الآية الشريفة يشمل الأقسام الأخيرة مترتبة فيملي بالعدل بلا زيادة ونقيصة ، ويبيّن جميع الخصوصيات المطلوبة.

وإنّما وضع الظاهر موضع المضمر في قوله تعالى : (فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُ) لرفع الإبهام في رجوع الضمير إلى الكاتب المذكور سابقا.

كما أنّ ذكر الضمير في قوله تعالى : (أَنْ يُمِلَّ هُوَ) لبيان أنّ الأخير يخالف المتقدمين فإنّه يشترك مع وليه بخلاف الفردين المتقدمين فإنّ الوليّ فيهما مستقل في الولاية.

قوله تعالى : (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ).

الاستشهاد : طلب الشهادة والشهيد صفة دالة على الثبوت ، والشاهد من الشهود والحضور ، لأنّ المشهود به لا بد أن يكون حاضرا لدى الشاهد ، قال نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) مشيرا إلى الشمس : «على مثلها فاشهد أودع» ، وبسط الصادق (عليه‌السلام) كفه ونظر إليها فقال : «على مثل هذا فاشهد» ، وسمي الشهيد به لحضور رحمة الله وحضور ملائكة الرحمة لديه.

وإنّما أمر سبحانه بالشهادة على الأموال والحقوق والديون للاستيثاق ولدفع الخصومة والنزاع.

ويستفاد من الآية الشريفة : اشتراط الذكورة فلا تقبل شهادة النساء الا على ما يأتي من التفصيل ، والرجولة فلا تقبل شهادة الصبيان ، والإسلام فلا

٤٦٦

تقبل شهادة الكفار ، ويدل على كلّ ذلك قوله تعالى : (مِنْ رِجالِكُمْ).

وأما اشتراط الوثاقة فيدل عليه قوله تعالى : (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ).

قوله تعالى : (فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ).

أي : وإن لم يتمكن أحد من إتيان الشاهدين الرجلين فليستشهد ، رجلين وامرأتين ، ويشترط في هذه الثلاثة ما يشترط في الشاهدين الرجلين ، لمكان البدلية. ممن يرضاهم النوع في شهادتهم ويعتمد الناس على شهادتهم بأن يكون الشهداء من أهل الصّلاح والعدالة.

قوله تعالى : (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى).

الضلال هنا : بمعنى التيه والخطأ ، والآية الشريفة تبيّن حكمة جعل شهادة امرأتين مكان رجل واحد. أي : لئلا تضل إحداهما فتذكر الأخرى بعد التشاور والتحاور بينهما لبعد النساء عن أمور المعاملة وقلة ضبطهنّ لها من نوع الرجال.

وإنّما وضع سبحانه الظاهر في موضع المضمر في قوله تعالى : (إِحْداهُمَا الْأُخْرى) لاختلاف معنى اللفظ في الموضعين فإنّ المراد من الثانية إحداهما بعد ضلال الاخرى ، والمراد من الأولى ضلال إحداهما لا على التعيين.

قوله تعالى : (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا).

الإباء : الامتناع. أي : لا يمتنع الشهداء إذا ما دعوا إلى تحمل الشهادة ، ويحتمل أن يكون النهي عن الامتناع عن أداء الشهادة بعد تحملها ، ويمكن حمل الآية المباركة على المعنيين التحمل والأداء بعد وجود الجامع القريب بينهما.

والنهي للتنزيه كما في سائر أوامر ونواهي هذه الآية الكريمة ، ولدلالة

٤٦٧

السنة الشريفة عليه ، الا أن يدل دليل على الحرمة.

قوله تعالى : (وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ).

السأم : الملالة ، قال تعالى : (لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ) [فصلت ـ ٤٩] ، والآية تؤكد على التثبت في الديون وحقوق الناس ، وعدم التهاون فيها فإنّها مظنة النزاع والضياع.

والمعنى : ولا تملّوا عن كتابة الدّين صغيرا كان أو كبيرا ذاكرين أجله وشؤونه. وإنّما قدم الصغير للاهتمام به أي : لا تكون القلة مانعة عن الكتابة.

قوله تعالى : (ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا).

بيان للحكمة في الأحكام المتقدمة وقد ذكر سبحانه ثلاثة منها ، ومادة قسط تأتي بمعنى العدل ، وقد وردت هذه المادة في القرآن كثيرا ، قال تعالى : (قائِماً بِالْقِسْطِ) [آل عمران ـ ١٨] ، وقال تعالى : (وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [الحجرات ـ ٩] ، ويأتي القسط بمعنى الجور أيضا ، قال تعالى : (وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً) [الجن ـ ١٥] ، فهو من الأضداد. ولو جعلنا القسط بمعنى مطلق الميل لم يكن من الأضداد ، ولا من المشترك اللفظي ، وحينئذ فإن كان إلى الحق فهو العدل والإنصاف ، وإن كان إلى الباطل فهو الجور والاعتساف.

والمعنى : أنّ ما تقدم من الأحكام في الكتابة والإشهاد وغيرهما أعدل طريق للتقوى وهو المحبوب عند الله تعالى ، وأحفظ للشهادة وأعون على إقامتها على وجهها الصحيح ، وأقرب إلى نفي الشك والريب فإنّها تدفع ارتياب بعضكم من بعض. وهذه الأمور مطلوبة للناس مرغوب فيها.

ويستفاد من هذه الآية الشريفة : أنّ جميع تلك الأحكام إنّما تكون لأجل هذه الغايات الحميدة ، فتكون الأوامر والنواهي فيها للإرشاد لا للوجوب والإلزام.

٤٦٨

قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها).

أي : إلا أن تكون المعاملة والتجارة نقدا ليس فيها دين وتتناقلون العوضين فيها بينكم فيأخذ كلّ واحد عوض ماله من الآخر ، ففي هذه الحالة لا بأس في ترك الكتابة فيها.

قوله تعالى : (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ).

أي : واستشهدوا في التبايع في التجارة الحاضرة ، والأمر إرشادي للتأكيد على شدة الحيطة في الأموال.

قوله تعالى : (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ).

يضار هو المضارة بين اثنين ، وأصله يضارر بفتح الراء الأولى إن كان الفعل مبنيا للمفعول ، وبكسر الراء إن كان غيره.

وكيف كان فالآية الشريفة تنهى عن الضرر والمضارة بين الطرفين سواء كان أحد الطرفين الكاتب أو الشاهد ، والآخر المتعاملين.

أي : لا يوقع الكاتب المتعاملين في الضرر بالتحريف في الكتابة ولا يوقع الشاهد الضرر على المتعاملين بشهادة الزور.

أو يكون المعنى : النهي عن الكتابة الضررية والشهادة كذلك فليس على الكاتب والشاهد إلا أداء الوظيفة بلا ضرر ، فلا يدخل الضرر على الكاتب والشاهد بسبب الكتابة والشهادة.

وإن تفعلوا المضارة وتوقعوا الأطراف في الضرر فإنّ ذلك خروج عن الطاعة ، وهو كائن بكم ومتحقّق فيكم ما لم تتوبوا وترفعوا الضرر والحيف عمن وقع الضرر عليه.

قوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ).

امتنان منه عزوجل بتعليم الأحكام الشرعية والمعارف الإلهية إذا تحققت

٤٦٩

التقوى. ووعد منه تعالى بتعليم من اتقاه ، والآية الشريفة قضية عقلية فإنّ النفس الناطقة الإنسانية ليست من الماديات المحضة ، كما هو ثابت بالوجدان والبرهان. ولها نحو تجرد فكلّ ما يفاض عليها لا بد أن يكون من عالم الغيب وأعظم أبواب عالم الغيب إنّما هو باب التقوى وهي الارتباط الخاص مع ذلك العالم ، ولم يبلغ الأنبياء والأوصياء والصالحون إلى ما بلغوا من العلوم والمعارف الإلهيّة إلا بالتقوى ، وتحمّل المصاعب والمتاعب في جنب الله تعالى ، والحرمان عن جملة من الشهوات والمستلذات ، وليست التقوى سببا تاما في إفاضة العلم بل لا بد من تسبيب سائر الأسباب ، ولكن التقوى بمنزلة الروح لها.

ولعلّ إلى ذلك يشير تخلّل واو العطف وتكرار اسم الجلالة (وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ).

والتقوى تصفي القلب من الكدورات المادية ، فيستعد لإفاضة النور عليه.

وعن جمع من الإشراقيين أنّ العلم إنّما يكون بتصفية النفس وتطهير القلب عن كلّ دنس وريب ، وقد ورد في الحديث : «ليس العلم بكثرة التعليم والتعلم وإنّما هو نور يقذفه الله في قلب من يشاء» وفيه أيضا : «من عمل بما علم ورّثه الله علم ما لا يعلم» وفي ذلك أحاديث كثيرة ، والتجربة أكبر شاهد عليه.

وفي الآية المباركة الموعظة الحسنة والتحريض إلى التقوى والعمل بما أنزله الله من الأحكام فإنّه طريق إلى العلم الصحيح النافع.

قوله تعالى : (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).

أي : إنّ الله عليم بحالكم وما هو الأصلح لكم في الدنيا والآخرة فاتقوه ليرشدكم إليه.

والآية الشريفة بمنزلة التعليل لما تقدم ، وقد وضع الظاهر موضع المضمر لبيان أنّه المطلوب وهو الله العالم بكلّ شيء.

٤٧٠

٢٨٣ ـ قوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ).

بيان للأعذار المانعة من الكتابة فيكون استثناء من الأحكام السابقة ويستفاد منه أهمية الاستيثاق على الأموال عن الضياع.

ومادة (رهن) تأتي بمعنى الدوام والاحتباس ومنه احتباس العين وثيقة على الدّين ، ولم تستعمل في القرآن الكريم إلا في موارد ثلاثة أحدها المقام ، والثاني قوله تعالى : (كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) [الطور ـ ٢١] ، وقوله تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) [المدثر ـ ٣٨] ، وهي كثيرة الاستعمال في غيره ففي الحديث عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «إنّ أنفسكم مرهونة بأعمالكم» يعني إنّه لا خلاص للنفس وأنّها محبوسة لا يمكن فكها إلا بالعمل الصالح ، كما أنّه لا خلاص للمال المرهون الا بأداء الدّين وقال الشاعر :

إن يقتلوني فرهن ذمتي لهم

بذات ودقين لا يعفو لها أثر

والرهن : مصدر رهنت الشيء وأرهنته وربما يطلق على المال المرهون وهو كثير كما في الآية الشريفة.

والقبض : هو الاستيلاء على الشيء وهو من الأمور الإضافية تختلف باختلاف الجهات والخصوصيات والقابض من أسمائه المباركة أي : إنّ جميع ما سواه تحت إرادته الكاملة جلت عظمته قال تعالى : (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) [الزمر ـ ٦٧].

والمعنى : وإن كنتم مسافرين ولم تجدوا كاتبا يكتب الدّين بالكيفية المطلوبة وأردتم الاستيثاق على دينكم فاستوثقوا برهن تقبضونه وقوله تعالى : (فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ) أي : أنّ التوثيق رهان مقبوضة كما كان في الكتابة والشهادة.

٤٧١

والمستفاد من الآية الشريفة : أنّ السفر عذر من الأعذار المانعة من الكتابة والإشهاد فلا يكون شرطا لصحة الرهن ، وإنّما ذكره تعالى بالخصوص ، لأنّه الغالب في الأعذار لقلة الكتابة والكاتب في الأعصار القديمة لا سيما في السفر. كما أنّ عدم الكاتب والإشهاد ليس شرطا لصحة الرّهن فهو مشروع وصحيح مع تحققهما وثبوتهما فإنّ الاستيثاق مرغوب إليه وحسن ولا يختص بحال دون أخرى.

ثم إنّه وقع الكلام في أنّ القبض شرط في صحة الرهن أو في لزومه أو لا يشترط فيه القبض والظاهر من الآية المباركة هو الأول ويدل عليه بعض الروايات وقد ذكرنا تفصيل الكلام في كتاب الرهن من (مهذب الأحكام).

والرهن لا يخرج بالرهانة عن ملك الراهن بل هو باق على ملكه وللمرتهن استيفاء حقه منه عند حلول الأجل وعدم وفاء الراهن للدّين فتكون منافع العين المرهونة للراهن دون المرتهن ولا يجوز لكلّ من الراهن والمرتهن التصرف في العين المرهونة الا بإذن الآخر كما نسب إلى نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «الراهن والمرتهن ممنوعان من التصرف» والتفصيل موكول إلى الفقه.

قوله تعالى : (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ).

أي : وإن اعتمد بعضكم على بعض وكان من عليه الحق أمينا عند الدائن ولم يطلب منه وثيقة فإنّه يجب أن يؤدي المدين دينه كاملا ولا يجحده ولا يغيّر منه شيئا ، ويستفاد من قوله تعالى : (أَمانَتَهُ) عموم الحكم لكلّ أمانة ومنها الدّين فتشمل الوديعة والقرض ونحوهما ، فيكون المورد من تطبيق الكبرى على أحد المصاديق نظرا لعموم العلّة.

قوله تعالى : (وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ).

أي : وليتق المدين الله ربّه في أمر حقوق الناس ويتنزه عن مخالفة أحكامه فلا يخوننّ في الأمانة ولا يجحدها بعد فقدان الوثيقة بينهما فإنّ الله تعالى به عليم وهو مالك أمره في الدنيا والآخرة.

٤٧٢

قوله تعالى : (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ).

«آثم» خبر إنّ «وقلبه» فاعل ، أو «آثم» مبتدأ و «قلبه» فاعل سد مسد الخبر والجملة خبر (إنّ).

وكيف كان ففي قوله عزوجل من الفصاحة والبلاغة ما لا يخفى وهو من بديع البيان يكشف عن الضمير الإنساني بعد ارتكابه الآثام والموبقات ، فإنّ القلب بمنزلة القوة المدبرة للإنسان وهو مبدأ الشعور والتعقل ترجع إليه أحاسيسه ومنه تصدر إرادته وحركاته ، إذ ليس المراد من القلب اللحم الصنوبري الموجود في كلّ متنفس. ويصلح الجسد بصلاح القلب كما يفسد بفساده فإذا كان خاليا عن ظلمات الآثام ومصفّى من كدورات المادة كان الإنسان صالحا مراقبا لنفسه متبعا لأوامر الله تعالى ومنتهيا بنواهيه متزنا في أفعاله وأقواله ، وأما إذا كان فاسدا فلا يرجى منه الخير وقد طبع عليه وحينئذ لا يشعر بالحسن والقبح فيكون أصل الشر ومبعثا على الفساد فلا تصدر أفعاله عن فكر وروية صالحة تنفعه في الدنيا والآخرة.

ومن ذلك يعلم الوجه في نسبة الإثم إلى القلب فإنّ فساد المبدإ والأصل موجب لفساد غيره ، ويستفاد منه تغليظ الإثم أيضا وإنّما قال تعالى : «آثم» دون الفعل للدلالة على أنّ الإثم متمكن في القلب ودائم بدوام الإثم وكتمان الشهادة من الكباير ، وقبحه العقلي ثابت عند كلّ أحد فإنّ في كتمان الشهادة وقوع الظلم والضرر على الناس وتضييع لحقوقهم وهدر لكرامتهم ، والجملة فيه خيانة على مصلحة النوع.

قوله تعالى : (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ).

أي : والله عليم بنواياكم وأعمالكم يجازيكم عليها فلا بد من مراقبة النفس والأعمال.

٤٧٣

بحوث المقام

بحث دلالي

يستفاد من الآية الشريفة أمور :

الأول : تدل الآية المباركة على أهميّة حقوق الناس ووجوب مراعاتها والتحفظ عليها ، وقد ذكر سبحانه وتعالى أمورا ثلاثة على تثبيتها : الكتابة ، والشهادة ، والرهن ، ولعلّ تأخير الرهن وتقييده بالسفر للإشارة إلى أنّه لا ينبغي للمؤمن أن يرتهن من أخيه المؤمن فإنّ شرف الإيمان وعزّه يحملانه على الوفاء بالعهد وأداء حق الناس.

الثاني : قد ذكر سبحانه في الآية المباركة قواعد نظامية لا تختص بعصر دون آخر ولا ملّة دون أخرى فهي صالحة في جميع الأعصار والشعوب تحفظ بها الأموال عن الضياع ، ويسلم الإنسان عن التشاجر والتنازع ويرتضيها العقل السليم ويوافق عليها الطبع المستقيم وقد نبّه إليها القرآن الكريم قبل أن يصل الإنسان إلى المدنية الحاضرة ويقنن قوانين لتنظيم المعاملات وحفظ الأموال وتحسين النظام الاجتماعي الاقتصادي.

الثالث : أمر سبحانه وتعالى فيما تقدم من الآيات المباركة ـ مضافا إلى ما ورد فيها من لزوم التحفظ على أموال الناس ـ تنزيه النفس فيما بينها وبين الله تعالى عن الخيانة في الأمانة وهي التقوى التي حرّض القرآن عليها بأساليب مختلفة. وهي الأصل في جميع التشريعات السماوية كما أنّها روح

٤٧٤

العمل وقوام الدّين والأصل في كلّ تشريع.

الرابع : يحتمل في قوله تعالى : (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) وجهان :

أحدهما : أن يكون المراد الشهادة المتعارفة كما مر في قوله تعالى بالنسبة إلى الدّين : (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ).

الثاني : شهود العوضين وملاحظة الجهات التي تختلف باختلافها الأغراض العقلائية فتكون الآية في مقام نفي الغرر والجهالة ، ويكون مفادها مطابق للحكم الفطري ، ويستفاد الوجوب الشرطي والحكم الوضعي أي بطلان البيع مع الغرر والجهالة ويكون ما نسب إلى نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «نهي النبي عن الغرر» مقتبسا من هذه الآية الكريمة.

ويبعد الاحتمال الأول أولا : أنّه لا بد من حملها على مطلق الرجحان لظهور الإجماع والسيرة العملية بين المسلمين من حيث نزول الآية الشريفة على عدم الوجوب.

وثانيا : استنكار المتشرعة الإشهاد عند ابتياع شيء لو كان يسيرا الا أن تحمل الآية المباركة على الأشياء الخطيرة وهو يحتاج إلى دليل.

وثالثا : أنّه لو كان المراد بها ذلك لكان ينبغي أن يأتي بلفظ الاستشهاد كما في صدر الآية المباركة.

الخامس : يمكن أن يستفاد من إطلاق قوله تعالى : (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) صحة إنشاء عقد البيع من المشتري بلفظ البيع أيضا كما هو المشهور بين أهل اللغة من أنّ هيئة التفاعل متقومة بالطرفين خصوصا في الاعتباريات التي أخف مؤنة من غيرها ما لم يرد ردع من الشارع.

كما أنّه يمكن أن يستفاد منه صحة إنشاء عقد البيع بلفظ (تبايعنا) من أحد الطرفين بعد رضائهما وتحقق سائر الشرائط وبذلك يسقط جملة كثيرة مما أطنب فيه الفقهاء في المقام ، فيكون هذا اللفظ قائما مقام الإيجاب والقبول الذي أطيل فيه الكلام.

السادس : يستفاد من قوله تعالى : (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) أنّه لا بد

٤٧٥

من علم اليقين بالعمل وسائر خصوصياته والاستيلاء على الجزاء ثوابا وعقابا وهذا هو الذي تطابقت عليه الكتب السّماوية ، والعقل يحكم به حكما بتيا لا ارتياب فيه.

ويستفاد من الآية الشريفة : أحكام فقهية مذكورة في كتب الفقه وقد ذكرنا ما يمكن استفادته منها في ضمن التفسير وفي (مهذب الأحكام) جملة أخرى منها.

٤٧٦

بحث روائي

في تفسير القمي في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ) قال : «روي في الخبر أنّ في سورة البقرة خمسمائة حكما ، وفي هذه الآية خمسة عشر حكما وهو قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ) ثلاثة أحكام (فَلْيَكْتُبْ) أربعة أحكام (وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُ) خمسة أحكام ، وهو إقراره إذا أملاه (وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً) ولا يخونه ستة أحكام (فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ) يعني ولي المال سبعة أحكام. (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ) ثمانية أحكام. (فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) ـ إلى قوله تعالى ـ (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا) عشرة أحكام : (وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ) أحد عشر حكما. (ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ) ـ إلى قوله تعالى ـ (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها) اثنا عشر حكما. (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) ثلاثة عشر حكما. (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ) أربعة عشر حكما. (وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ) خمسة عشر حكما.

وفي التهذيب عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ) قال : «ذلك في الدّين إذا لم يكن رجلان ، فرجل وامرأتان ، ورجل

٤٧٧

واحد ويمين المدعي إذا لم تكن امرأتان قضى بذلك رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وأمير المؤمنين (عليه‌السلام) بعده عندكم».

أقول : الحديث يدل على ثبوت أمر آخر في إثبات الأموال وهو رجل ويمين المدعي فيكون بمنزلة الشرح للآية الشريفة.

وفي الكافي عن الصادق (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا) قال (عليه‌السلام) : «لا ينبغي لأحد إذا دعي إلى الشهادة أن يقول : لا أشهد لكم».

أقول : ورد في مضمون ذلك روايات أخرى كثيرة.

وفي تفسير العياشي عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ) قال : «قبل الشهادة».

وفي الكافي عن الصادق (عليه‌السلام) : «لا رهن إلا مقبوضا» وفي تفسير العياشي مثله عن أبي جعفر (عليه‌السلام).

أقول : ذكرنا أنّ ظاهر الآية يدل على أنّ القبض شرط لصحة الرهن ولكن يمكن أن يقال : إنّه طريق لتحقق الاستيثاق ولو حصل بلا قبض يكفي ذلك كما في المصارف المتداولة في هذه الأعصار وبذلك يمكن أن يجمع بين كلمات الأعلام في الفقه فمن اعتبر القبض فإنّما هو لأجل حصول الاستيثاق ومن لم يعتبره أي بعد حصوله.

وفي الكافي أيضا عن الصادق (عليه‌السلام) في قوله عزوجل : (وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) قال : «بعد الشهادة».

أقول : أي بعد التخمل.

وفي الفقيه عن الباقر (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) قال : «كافر قلبه».

أقول : هذا محمول على بعض مراتب الكفر.

٤٧٨

سورة البقرة

الآية ٢٨٤

(لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٨٤))

الآية الشريفة تثبت ملكية الله تعالى لجميع ما سواه وهيمنته على خلقه وتدبيره لهم وعلمه بالجزئيات فلا يخفى عليه شيء من أمور الناس حتّى خطرات القلوب وما تخفيه النفوس وقد أثبت لنفسه محاسبة العباد والجزاء على الأعمال فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء لقدرته على كلّ شيء وهو دليل على وحدانيته وانحصار الأمر فيه عزوجل. وفي تعقيب آية الدّين بهذه الآية الشريفة إرشاد إلى أنّ مخالفة الله تعالى أمر عظيم تترتب عليها آثار خاصة في الدنيا والآخر.

٤٧٩

التفسير

٢٨٤ ـ قوله تعالى : (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ).

إثبات لملكيته تعالى لمخلوقاته ملكية حقيقية إيجادا وإبقاء وإفناء وتربيبا ومثل هذه الملكية مختصة به لا يمكن أن توجد لغيره كما ثبت بالبراهين العقلية المفصلة في علم الفلسفة الإلهية وهو تمهيد لقوله تعالى : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ) وبمنزلة العلة الفاعلية والغائية له فيصير مجموع الآية المباركة من القضايا العقلية التي ذكرت فيها العلتان المزبورتان وهي من أمتن القضايا وأشرفها كما هو ثابت في علم الميزان.

ولعل في تخلل كلمة العطف (وَإِنْ تُبْدُوا) إشارة إلى أنّ المعطوف من متممات المعطوف عليه فتكون المحاسبة على مضمرات القلوب وما يبدو ، وجزاؤه بالغفران أو العقاب من صغريات إحاطته القيومية على ما سواه فوق ما نتعقله من معنى الإحاطة فيكون تمام الآية بجميع أجزائها من أدلة سعة إحاطته.

قوله تعالى : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ).

البداء والإبداء : بمعنى الظهور والإظهار ، وهو خلاف الخفاء والإخفاء ، وكلّ منهما مورد علمه تعالى ، وكلّ ما كان مورد علمه في عباده من جوانحهم

٤٨٠