مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٦

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٦

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة أهل البيت (ع)
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٥٨

١

٢

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (٦١) إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٢) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (٦٣))

بعد ما سرد عزوجل جملة من قصص عيسى (عليه‌السلام) وذكر ان مولده وان كان على غرابة لكنه كان امرا عاديا بالنسبة إلى قدرة الخالق ومشيئته كما في خلق آدم (عليه‌السلام) ومنحه النبوة والكتاب واقام الحجة عليه بما لا يدع مجالا الى الشك والارتياب بأن عيسى عبد الله فلا مبرر لتأليهه وعبادته.

ما ذكره سبحانه وتعالى حق لا يرتاب فيه احد لأنه بيان الهي اشتمل على برهان قويم يقبله العقل السليم ويسطع نوره على كل القلوب فيدفع عنها الزيغ والضلال ويستشعر السامع برد العلم واليقين في قلبه فكانت تلك البيانات الإلهية قد أوجدت عند السامعين قوة الاحتجاج مع كل خصم بما لا يدع مجالا للارتياب.

امر سبحانه وتعالى في هذه الآيات الرسول الكريم (صلى الله عليه

٥

وآله) وغيره ممن حصلت له قوة الاحتجاج والكلمة الحاسمة الفاصلة بين الحق والباطل وأحسّ ببرد اليقين في قلبه بالمباهلة ـ في دفع عناد المعاندين وإزهاق الدعاوى الباطلة غير المنصفة ـ قطعا للمعاذير وحسما لكل إصرار على الغي والضلال ، وارشدهم إلى كيفية الاحتجاج ووعدهم النصر والغلبة باذنه عزوجل.

والمباهلة من الأنبياء اظهار لاتصال نفوسهم القدسية بروح القدس وبيان لتأييداته تعالى لهم ، وارشاد الى انفعال عالم الشهادة وتأثره بعالم الغيب.

والمباهلة لا تصدر الا من النفوس الملكوتيّة ولذا كان لها التأثير الكبير على النفوس غير الكاملة وانفعالها بها كما انفعلت نفوس النصارى من نفس الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فتنازلوا عنها بعد قبولها لما استشعرت أنفسهم الخوف ، واحجمت عنها وطلبت الموادعة والمعاهدة خوفا من اللعنة وما يلحقهم من الوزر والوبال كما نصحهم رهبانهم في ذلك الحين.

التفسير

قوله تعالى : (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ).

تفريع على ما تقدم من بيان الحق في عيسى (عليه‌السلام) والضمير في «فيه» يرجع إما الى عيسى (عليه‌السلام) الذي بين سبحانه وتعالى الأمر فيه بيانا شافيا بما لا يدع فيه الشك والارتياب وقد اشتمل على البراهين الساطعة والحجج القويمة. أو الى «الحق» المذكور في الآية السابقة الذي هو اقرب لفظا ويكون عبارة اخرى عن بيان اصل قصة عيسى (عليه‌السلام).

والمحاجة تبادل الاحتجاج وهي تستعمل في الحق وغيره كما حصلت

٦

في المقام من النصارى في عيسى بن مريم (عليه‌السلام) زاعمين انه إله أو ابن الله باعتبار انه ولد من غير أب كما حكى الله تعالى عنهم في مواضع متعددة من القرآن الكريم قال عزوجل : (وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) التوبة ـ ٢٠ وقال تعالى : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) المائدة ـ ٧٢ ، وقال تعالى : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) المائدة ـ ١١٦.

قوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ).

تطييب لنفس الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بانه على العلم المطابق للواقع والحق اليقين ، ووعد منه عزوجل بأنه ناصره وانه لا يخذله في المواطن ، وارشاد الى ان ما عنده من العلم هو الحق الذي لا ارتياب فيه ويقبله العقل السليم ، فلا ينبغي التردد في المحاجة والمجادلة على الحق.

والمراد من العلم الأعم الحاصل من البرهان عن طريق الحس أو عن طريق العقل أو الوحي الالهي فان الجميع يتفق على ان المخلوق الممكن المربوب لا يمكن ان يكون إلها وربا. وان الله واحد لا شريك له وانه لم يلد ولم يولد.

قوله تعالى : (فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ).

تعال : فعل امر يدل على طلب الإقبال من مكان مرتفع ثم استعمل في مطلق طلب المجيء توسعا اي : اقبلوا بثبات وعزيمة.

والخطاب للرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بالمحاجة لقطع كل عذر ، ودفعا لكل ضلالة ، وحسما لكل فساد. والتباهل الى الله عزوجل لمعرفة المحق من المبطل ، وهو امر لا بد منه لحفظ الحق عن الضياع ، وإتماما للحجة على العباد وصونا للمؤمن ومقامه في الحياة.

٧

والحاق الخزي والعار والهلاك للمبطل ومن هو على الغي والضلال.

والمخاطب في «ندع» هو المتكلم مع الطرف الآخر ممن يراد المحاجة معه وهو في المقام النصارى اي : يدعو كل منا ومنكم ابنائه ونساءه ونفسه.

والمباهلة وان كانت بين الرسول الكريم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وبين النصارى ولكن عممت ليشمل من ذكر في الآية الشريفة من الأبناء والنساء والأنفس لأمور كثيرة أهمها :

أولا : ان للاجتماع خصوصية في الظفر على المطلوب والنيل بالمحبوب ليست هي في غيره وان دعاء الجمع أقرب الى الاستجابة ولذا أمرنا الله تعالى في غالب الآيات المباركة الى الجمع في الدعاء قال تعالى : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها) الأعراف ـ ١٨٠ وفي السنة الشريفة الشيء الكثير قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «يد الله مع الجماعة».

وثانيا : الأعلام بأن الحق إظهاره أعظم من كل ما يرتبط بالإنسان وانه لا غاية اشرف منه وان كل شيء هو دونه سواء كان النفس والشرف والأهل.

فالآية الشريفة ترشد الإنسان الى انه لا بد ان يكون سعيه ومقصده هو احقاق الحق وإظهاره وان لا يثبطه في ذلك الأهل والعشيرة والشرف بل يفدي كل ذلك دونه.

وثالثا : بيان ان مورد المباهلة من الأمور النوعية والاجتماعية فلا بد من الاجتماع فيه لإتمام الحجة وإيضاح المحجة.

ورابعا : اعتماد الداعي والأعلام بانه على الحق وانه يقدم الأبناء والنساء والأنفس للمباهلة ويخاطر بهم في العذاب ويشركهم في الدعاء على الكاذبين لينقطع دابرهم ويبطل مزاعم المبطلين ويظهر إبطالهم.

٨

وخامسا : الأعلام بأن الداعي مطمئن باستجابة الدعاء وصدق دعواه ويقدم من هو اقرب الناس اليه ويذب عنهم في الشدائد والأهوال ويظهر الشفقة عليهم والمحبة بهم ويتحمل الصعاب دونهم ومع ذلك فهو يخاطر بهم في شمول العذاب لهم وليس ذلك الا لكون الداعي على يقين باستجابة دعائه.

وسادسا : الإشارة الى انهم على عظيم من الشرف والكمال وانهم اقرب الناس الى الرسول العظيم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وان دعاؤهم لا يرد ولهم منزلة عظيمة عند الله تبارك وتعالى ولذا أمر سبحانه وتعالى رسوله باشراكهم في الدعاء والمباهلة معهم.

وسابعا : الأعلام بأن المباهلة وان كانت محاجة بين طرفين إلا انه لا بد ان تكون باشراف من الله تعالى على الجميع ولا يعقل ان تكون الرعاية الإلهية لكل فرد في هذا الأمر العظيم ، وتشمل كل من لا يكون مرضيا لديه عزوجل.

والمراد من الأبناء هم أولاد الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) الذكور المنحصرون في الحسن والحسين (عليهما‌السلام) حين نزول الآية الشريفة.

والآية المباركة ليست في مقام تكثير الإفراد في الأبناء والنساء والأنفس وانه لا بد من تحقق ذلك الجمع خارجا كما هو الشائع بين الناس ، بل هي ظاهرة في مقابلة الجمع بالجمع سواء كان كل جمع مشتملا على الكثرة أولا ، مع انه من مجرد الإنشاء والأمر بالمباهلة وهما لا يستلزمان كون المصداق الخارجي ايضا متحققا في الجمع والكثرة بل المقصود هو الحكم والإنشاء والأمر فقط سواء كان مصداقه واحدا أو متعددا ومثل هذا كثير في الاستعمالات القرآنية وغيرها قال تعالى :

٩

(يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) البقرة ـ ٢١٩ وقال تعالى : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) آل عمران ـ ١٧٣.

وبعبارة اخرى : مصداق النزول والتنزيل لا يكون مقيدا لأصل الحكم وهذا ظاهر.

يضاف الى ذلك ان إتيان لفظ الجمع من الأدب المحاوري الذي يلاحظه القرآن الكريم وهو دائر في المحاورات الفصيحة.

قوله تعالى : (وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ).

النساء جمع لا واحد له من لفظه ومفردة المرأة ، ولفظ النساء يشمل المرأة التي تنسب الى الشخص بسبب أو نسب كالزوجة والام والاخت والبنت وقد ورد استعماله في جميع تلك الموارد في القرآن الكريم قال تعالى : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) البقرة ـ ٢٢٣ وقال تعالى : (فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ) النساء ـ ١١ والمراد بهن الأخوات وقال تعالى : (وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ) النساء ـ ٧ والمراد بهن البنات والمتقين منهن في المباهلة فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) بالإجماع ونصوص متواترة كما سيأتي نقلها.

قوله تعالى : (وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ).

الأنفس جمع النفس وهي تطلق تارة ويراد بها الروح قال تعالى :

(وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) الانعام ـ ٩٣ واخرى : يراد بها الذات والشخص وهو المراد بها في المقام ، وتقدم في قوله تعالى : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) آل عمران ـ ٢٨ بعض الكلام.

والمقصود بها نفس الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) القائم بالدعوة

١٠

إلى الله تعالى ومن هو بمنزلته في العلم والعمل والقضاء بالحق وهو منحصر في علي (عليه‌السلام) نصوصا واجماعا.

وقيل : انه لا يمكن دخول الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في الآية الشريفة لان الداعي لا بد ان يكون غير المدعو ولا يصح دعوة الشخص نفسه.

ويرد عليه : انه لم يقم دليل على بطلان دعوة الشخص نفسه بل الأمر يدور مدار الغرض الصحيح ، وقد ورد في الفصيح ذلك يقال : آليت على نفسي ان لا افعل كذا ونحو ذلك مما هو كثير. مضافا الى ان دخول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) الذي له مقام الجمع في الجمع وبمنزلة الكل ينفي أصل هذا الأشكال.

على ان دخول الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) انما هو لأجل اثبات منزلة علي (عليه‌السلام) والأعلام بأن وجوده (عليه‌السلام) بمنزلة وجوده (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في العلم والعمل والخصال الحميدة.

وفي إتيان النساء والأنفس جمعا ما تقدم ذكره من ان المراد هو وقوع هذا الجمع مقابل الجمع سواء تعددت الإفراد أم لا.

قوله تعالى : (ثُمَّ نَبْتَهِلْ).

مادة (بهل) تدل على شدة الاجتهاد والاسترسال في الأمر المطلوب قال لبيد :

في قروم سادة من قومه

نظر الدهر إليهم فابتهل

اي فاجتهد في إهلاكهم. وقد استعمل في الاجتهاد في الدعاء سواء كان لعنا أو غيره ، ونبتهل افتعال بمعنى المفاعلة اي يدعو بعضنا على بعض ، ويختص هذا الدعاء في المقام باللعنة بقرينة ما يأتي.

١١

قوله تعالى : (فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ).

بيان للابتهال. والمراد من اللعنة النكال والعذاب مطلقا ومنه البعد عن رحمته تعالى وتوفيقاته ، كما ان المراد بالكاذبين هم الذين كذبوا وافتعلوا الباطل في شأن عيسى (عليه‌السلام) فيكون اللام للعهد اي : الكاذبين من احد طرفي المباهلة الواقعة بين الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وبين النصارى ويستفاد من ذلك ان احد الطرفين كان كاذبا والآخر كان صادقا ، وقد ذكرنا ان الآية الشريفة تجعل هذا الجمع مقابل الجمع فتكون الإفراد في كل طرف شركاء في الدعوى فلو كان أحد الجمعين كاذبا كان الإفراد يشتركون فيه ويلزمه اشتراك الإفراد في الجمع الآخر في الصدق ، وفي ذلك فضل عظيم لمن اشترك في دعوة الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله).

وفي إتيان الكاذبين جمعا الدلالة على ان في كل طرف افرادا متصفين بالدعوى سواء كانت صادقة أم كاذبة وهذا بخلاف ما ذكرنا في الأبناء والنساء والأنفس حيث انه لا يعتبر تعددا في كل عنوان ، إذ المنساق هو جعل هذا الجمع مقابل الجمع سواء تعددت الإفراد أم لا.

قوله تعالى : (إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُ).

إشارة إلى ما قصه الله تعالى في امر عيسى (عليه‌السلام) من ولادته إلى حين رفعه من عالم الأرض ، والقصص جمع القصة وهي مجموعة من المعاني يتابع بعضها بعضا من يقص فلان اثره اي يتبع اثره ومنه قوله تعالى : (وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ) القصص ـ ١١ وقال تعالى : (فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً) الكهف ـ ٦٤.

وفي تأكيد الجملة ب إن واللام وضمير المنفصل دلالة على ان هذا

١٢

هو الحق فقط دون غيره مما تدعيه النصارى في عيسى بن مريم (عليه‌السلام) الذي هو خلاف الحق ، وتطييب لنفس رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) واعلامه بانه على الحق واليقين وتشجيعه على المباهلة والمحاجة مع المبطلين.

قوله تعالى : (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ).

حصر الألوهية في الله تبارك وتعالى ، وابطال لما ادعاه النصارى من التثليث والحلول في عيسى ابن مريم (عليهما‌السلام). والجملة كالنتيجة للآيات الشريفة المتقدمة.

قوله تعالى : (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

تطييب لنفس رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بانه عزوجل ناصره وانه لا يخذله في نصرة الحق فهو الذي لا يعجزه شيء ، الحكيم في أفعاله وتقديره وتدبيره في خلقه فليس احد يضاهيه في عزته وحكمته ولا يساويه في ألوهيته وجميع ما سواه مخلوق ومربوب له فما قاله الخصماء اوهام باطلة.

والجملة تفيد قصر الألوهية في الله عزوجل وتنفي ما سواه مما يدعيه المشركون ، فالآيتان تفيدان القصر والحصر وان أحدهما تفيد توحيد الذات وتنفي الشرك في العبودية وفي مقام الذات. والثانية تفيد توحيد الأفعال ، وتنفي التشريك في الفعل.

قوله تعالى : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ).

اي : فان تولوا عن اظهار الحق والاعتقاد به فان الله تعالى عليم بفسادهم ويقضي بالحق وهو الذي يجزيهم جزاء التولي عن الحق.

ولما كانت المباهلة طريقا لإظهار الحق وابطال الباطل فيكون التولي

١٣

عنها توليا عن الحق وإظهاره واعراضا عن السعادة ويكون البقاء على اهوائهم الباطلة وافكارهم المزيفة فسادا والله عليم بأنهم مفسدون لا يريدون الا الفساد والشقاء ، ولا فساد أعظم من البقاء على الباطل وترويجه وإفساد عقائد الناس واضلالهم والاعراض عن التوحيد والحق وليس ذلك إلا إفسادا للفطرة وجلب الشقاء للناس وان الله تعالى عليم يجزيهم جزاؤهم الذي يستحقونه.

ويستفاد من قوله تعالى : (عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ) ان الله تبارك وتعالى عليم بأنهم يعرضون عن المباهلة لان الفساد استولى عليهم فلا يذعنون للحق ، وقد تحقق ذلك منهم وصدق ما أخبره الله تعالى.

بحوث المقام

بحث دلالي :

تدل الآيات الشريفة على امور :

الاول : يدل قوله تعالى : (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) ان ما اوحي إلى الرسول الكريم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) هو العلم المطابق للواقع الذي يلزم قبوله وان غيره من مجرد الظن وهو لا يغنى من الحق شيئا.

ويستفاد منه أيضا ان ما مع الرسول الكريم يشتمل على البرهان الساطع الذي لا يشك فيه احد ، ولعل ارتداع النصارى عن المباهلة لأجل اقتناعهم بذلك.

الثاني : يدل قوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) ان

١٤

الذي جاء مع الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) هو الحق المطابق للعقل السليم الذي يتقبله كل فرد فلا فرق حينئذ بين ان يكون مع الرسول أو مع غيره.

وبعبارة اخرى : ان المورد لا يكون مورد تعبد شرعي مختص به فان ما انزل الله تعالى عليه هو من الاحكام المستقلة العقلية التي يقبله الطبع المستقيم فيكون مع كل احد وان الرسول الكريم هو واسطة الفيض.

الثالث : ذكرنا ان إتيان هيئة الجمع في قوله تعالى : (أَبْناءَنا) ـ و (نِساءَنا) ـ و (أَنْفُسَنا) لا تدل على لزوم تعدد الإفراد في كل عنوان من العناوين الواردة في الآية الشريفة بل المقصود هو جعل هذا الجمع مقابل ذلك الجمع وان القضية ليست من قبيل القضايا الخارجية التي يطلب فيها وجود الإفراد وتعددها بل هي من قبيل القضايا الحقيقية سواء تعددت الإفراد أولا وقد ذكرنا الوجه في إدراج الأبناء والنساء مع شخص الرسول الأمين (صلى‌الله‌عليه‌وآله) مع ان المباهلة انما كانت بينه وبين النصارى.

الرابع : يدل قوله تعالى : (فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ) على ان اللعنة موجودة ومقررة وامر مفروغ عنه لان بها يمتاز الحق عن الباطل ولذا كانت دعوة طلبها غير مردودة فالتعبير ب (نجعل) كان ادل على المطلوب من غيره.

الخامس : تدل آية المباهلة على الفضل العظيم والمنزلة الكبرى ، والمنقبة العظمى لأهل بيت النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) من وجوه عديدة :

منها : اختصاصهم باسم النفس والنساء والأبناء للرسول الكريم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) دون سائر الامة رجالا ونساء وأبناء.

١٥

ومنها : دلالة الآية الشريفة على ان مع رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) شركاء معه في الدعوة والدعاء والصدق مقابل الطرف الآخر الذين وصفوا بالكذب كما عرفت في التفسير.

ومنها : ان الدعوى لما كانت مختصة بالرسول الكريم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وقائمة به وقد عرض نفسه الأقدس للبلاء واللعن والطرد والعذاب على تقدير الكذب ولا يتعدى إلى غيره لو لم يكن معه شخص ولكن إتيانه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بمن كان معه يدل على انهم في المنزلة كنفسه الشريفة وانحصار من هو قائم بدعواه من الأبناء والنساء والأنفس بمن أتى بهم ، وغير ذلك من الوجوه المستفادة من لحن الآية الشريفة وسياقها الدالين على فضل اهل البيت ومنزلتهم.

ونوقش في الاستدلال على ذلك بوجوه :

الاول : ان إحضار الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بمن أحضرهم انما كان على سبيل الا نموذج لان جميع الامة من غير اختصاص بأحد تعتقد بأن الله واحد لا شريك له وان عيسى بن مريم (عليه‌السلام) عبده ورسوله في مقابل النصارى الذين يعتقدون بخلاف ذلك فكانت المقابلة بين دعويين بلا فرق بين رجال كل طرف وأبنائهم ونسائهم فان الجميع في ذلك سواء ، فلا يكون لمن أحضره الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فضل على غيره.

وفيه : أولا : ان الأمر لو كان كذلك لكان في إحضار رجل واحد أو امرأة واحدة أو غيرهما الكفاية ، ولم يحتج الى إحضار رجل وامرأة وابنين إلا لأن فيهم سرا الهيا لم يكن في غيرهم.

وثانيا : ان الدعوة في عيسى بن مريم كانت قائمة بالرسول الكريم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كما يستفاد من الآيات السابقة وأما سائر الامة

١٦

الذين اتبعوه فلم يكن للنصارى الذين وفدوا على رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بهم ارتباط ونسبة فيكون إتيان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لأهل بيته ليس الا انهم كانوا مشتركين في الدعوة والدعاء.

الثاني : ان الآية المباركة لا تدل على اكثر من ان إتيان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لأهل بيته في المباهلة كان لأجل وثوقه بالسلامة والعافية واستجابة دعائه واما انهم كانوا شركاء في الدعوة وغيرها فهي بمعزل عن ذلك.

وفيه : ان الآية الشريفة بمجموعها ـ كما عرفت ـ تدل على ان كل طرف من طرفي الدعوة في المباهلة شركاء في الدعوة وهي إما صادقة أو كاذبة ولذا احجمت صاحبة الدعوة الكاذبة عن المباهلة لما علمت صدق الطرف الآخر.

الثالث : ان الأمر لو كان كذلك ـ وكانت الآية المباركة تدل على فضلهم وكرامتهم ـ لاشتركوا مع الرسول في النبوة لان الدعوة التي كانت مختصة به انما كانت كذلك لان الله اوحى اليه.

وفيه ان الاشتراك في الدعوة لا يستلزم اشتراكهم في النبوة فإنها غير الدعوة بل هي من شئونها ولوازمها.

الرابع : ان الآية الشريفة تأمر الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ان يدعو المحاجين والمجادلين في عيسى من اهل الكتاب إلى الاجتماع رجالا ونساء وأطفالا ، ويجمع هو المؤمنين رجالا ونساء وأطفالا ويبتهلوا إلى الله تعالى بأن يلعن الكاذب ، ولا تدل الآية الشريفة على اجتماع الفريقين في مكان واحد بحيث يشتمل على النساء والأولاد والأنفس مع ان الآية المباركة نزلت في النصارى ولم يكن معهم نساؤهم ولا أولادهم.

١٧

وفيه : ان ما ذكر خلاف ظاهر الآية الشريفة فإنها تدل على دعوة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) إلى اجتماع المتخاصمين والمجادلين من الفريقين إلى المباهلة مع الأولاد والنساء والأنفس فكأنه قد جمع اهل بيته مع وفد النصارى الموجودين حين الابتهال واما ان النصارى لم يكن معهم الأولاد والنساء فهذا مطلب آخر وقد ذكرنا ان المفهوم من الآية المباركة شيء والمصداق شيء والخلط بينهما أوجب الالتباس.

السادس : ذكرنا ان الآيات الشريفة والاستعمال الفصيح يدلان على صحة استعمال النساء في البنات ، ولكن استبعد بعض المفسرين ذلك وذكر في معرض كلامه : «ان كلمة نسائنا لا يقولها العربي ويريد بها بنته لا سيما إذا كان له ازواج ولا يفهم هذا من لغتهم».

والمناقشة في ما ذكره واضحة بعد الاحاطة بما ذكرناه في تفسير الآية الشريفة والشواهد القرآنية والشعر العربي الفصيح تدلان على صحة استعمال الكلمة في البنات ولم يستشكل احد من فرسان البلاغة والفصاحة على القرآن الكريم في استعماله هذا لا سيما إذا كان قصد المتكلم الاحتشام من التصريح بابنته ، مع ان الروايات الكثيرة المتواترة التي تدل على ان المراد من النساء ابنته (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فاطمة الزهراء (عليه‌السلام) كافية في رده. وأحسب ان الأمر أوضح من ان يخفى إلا ان يراد عدم صحة استعمال الجمع في الواحد. ولكنه مردود بما ذكرناه من ان الآية المباركة تدل على استعمال الجمع مقابل الجمع من دون النظر إلى الإفراد. والاشتباه انما حصل من خلط المفهوم بالمصداق.

السابع : انما ذكر سبحانه وتعالى النساء مع ان بناء القرآن على الكناية عنهن والتحفظ عليهن مهما أمكن لأمور :

١٨

منها : الأعلام باشتراك النساء في امور الدين اصولا وفروعا إلا ما خرج بالدليل.

ومنها : الاهتمام بالدين والاعتناء بشريعة سيد المرسلين (صلى‌الله‌عليه‌وآله).

ومنها : جعلهن في سياق المتدينين بتعلمهن الأعمال الصالحة وتلبسهن بالمعارف الحقة. وغير ذلك من المصالح.

الثامن : انما أخر سبحانه وتعالى «أنفسنا» وذكرها بعد تفدية الأبناء والنساء لبيان اهمية المباهلة والتفدية لله جلت عظمته لإثبات الحق وإظهاره بتفدية جميع العلائق حتى علاقة الأهل.

التاسع : ان كلمة «أنفسنا» تدل على شمولها لعلي بن أبي طالب (عليه‌السلام) تنزيلا له منزلة نفس رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لا لأجل ان الداعي لا بد ان يكون غير المدعو كما ذكره بعض المفسرين بل لان وجود علي (عليه‌السلام) في الأثر والمزايا والفضيلة والصفات بمنزلة وجود رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لا سيما إذا كان التنزيل بأمر من الله تعالى ولم يوجد احد غير علي (عليه‌السلام) يكون واجدا لتلك المزايا التي تؤهله لهذه المنحة الإلهية ويكون كنفس رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ولا يمكن ان يكون احد نفس شخص آخر إلا إذا كان مشتملا على مزايا كبيرة يكون ثانيا في مزاياه أو الوجود المكرر له في الخصال ونحوها.

ويستفاد من الآية المباركة المنزلة الجليلة والمنقبة العظمى لعلي بن أبي طالب (عليه‌السلام) ، وهذا ما يستفاد من سيرة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بالنسبة إلى علي (عليه‌السلام) في مواطن كثيرة تكون مبنية لمعنى «أنفسنا» في هذه الآية المباركة ومع ذلك

١٩

فقد أشكل على دلالة الآية الشريفة بوجوه :

الاول : ان المراد بالأنفس في الآية المباركة من يتصل بالقرابة والقومية واستشهد لذلك بقوله تعالى : (فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) البقرة ـ ٥٤ وقوله تعالى : (وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ) البقرة ـ ٨٤ وقوله تعالى : (هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ) البقرة ـ ٨٥.

وفيه : ان اطلاق الأنفس باعتبار رابطة القرابة والقومية صحيح ولا بأس به ولكن هذا الاستعمال في الآية الشريفة بعيد فان جعل الأنفس مقابل الأقرباء مثل النساء والأبناء لا يراد منها إلا المعنى الحقيقي الواقعي والادعائي التنزيلي ونظير ذلك في القرآن كثير قال تعالى : (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) الشورى ـ ٤٥ وقال تعالى : (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً) التحريم ـ ٦.

الثاني : إن المراد من النفس القريب وقد عبر عن علي (عليه‌السلام) بالنفس لما كان له (ع) اتصال بالنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في النسب والمصاهرة واتحاد في الدين.

وفيه : ان التنظير لو كان في القرابة فقط لما كان في علي (عليه‌السلام) خصوصية فان العباس عم الرسول وأولاده وبني هاشم كانوا من قرابته (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ومن المسلمين والمهاجرين.

مع انا ذكرنا انه ليس المراد من هذه الكلمة على (عليه‌السلام) بل المراد انه بمنزلة الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ولذا لم يأت في مقام الامتثال غير علي (عليه‌السلام) وانه المصداق الوحيد لأنفسنا فلعل الاشتباه نشأ من الخلط بين المفهوم والمصداق.

الثالث : انه لو كانت الآية الشريفة دالة على المساواة بين علي (عليه‌السلام) وبين النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لزم كون علي (عليه‌السلام)

٢٠