اللّمعات العرشيّة

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

اللّمعات العرشيّة

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: علي اوجبي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: انتشارات عهد
المطبعة: نگارش
الطبعة: ٠
ISBN: 964-5763-11-8
الصفحات: ٥١٩

يكون لأحدهما كمال لم يكن حاصلا للآخر لزم تركّب هذا (١) الآخر من جهتي الفعل والقوّة وكان ناقصا وإن تساويا في الاتّصاف بما هو كمال للموجود المطلق وكان كلّ كمال حاصل لأحدهما حاصلا بعينه للآخر لم يكن بينهما امتياز ؛ فيلزم ارتفاع الاثنينية.

فإن قيل : كلّ منهما متّصف بما هو كمال للموجود المطلق من دون تفاوت ولكنّهما متميّزان بذاتهما ـ أي ذات كلّ منهما متميّز عن ذات الآخر بنفس ذاته ـ ومع ذلك كلّ منهما يقتضي بذاته الاتّصاف بما هو كمال للموجود المطلق بلا تفاوت نظرا إلى جواز اشتراك المتباينين ذاتا في اقتضاء أمر عرضي واحد وعدم استلزام ما به الاشتراك العرضي لما به الاشتراك الذاتي ؛ فذات كلّ منهما حقيقة كلّ كمال ؛ أي كلّ كمال حقيقي ؛ وهو بذاته منشأ لانتزاع مفهوم كلّ كمال كما يقولون في الواجب تعالى.

قلنا : على فرض تسليم جميع ما ذكر لا ريب في أنّ حقيقة الكمال ذات كلّ منهما ولاختلاف الذاتين وتباينهما من كلّ وجه يكون كلّ منهما فاقدا لكمال حقيقي هو ذات الآخر ؛ فيلزم نقصان كلّ منهما.

[ثامنها :] أنّ واجب الوجود يجب أن يكون تامّا فوق التمام وأن يكون له القاهرية المطلقة والغلبة والاستيلاء والإحاطة على كلّ ما سواه بالغلبة ؛ إذ أشدّ الابتهاجات للذات المجرّد العامّ أن يرى ذاته فوق الكلّ قاهرا عليه محيطا به وكون الجميع تحته بالمعلولية والمغلوبية والصدور والتبعية ؛ فوجود مساويه أو أقوى منه ضعف وفتور في حقّه ؛ إذ المشاركة في الوجود نقص وقصور ، ألا ترى أنّ كمال الشمس في تفرّدها في معني الشمسية ؛ فلو كانت معها شمس اخرى ولم يتفرّد بكمال معنى الشمسية كان ذلك نقصانا في حقّها؟! فلو لم يتفرّد الأوّل

__________________

(١). س : هذ.

٢٦١

سبحانه في وجوب الوجود واشترك معه فيه غيره كان ناقصا ؛ إذ المعيّة يوجب / A ١٠٦ / المساواة في الرتبة [و] النقصان (١) في الكمال.

وهذا الدليل وإن لم يكن من البرهانيات وأمكن أن يناقش فيه بعض المناقشات إلّا أنّه عند الذوق السليم في غاية المتانة ومن وصل إلى مقام التجرّد وشمّ روائح ابتهاجات عالم الأنوار والمجرّدات يراه أقوى من أكثر أدلّة المقام هذا.

[أمّا الثاني :] أعني التوحيد الالوهي المعبّر عنه بالتوحيد الفعلي أي تفرّده بصنع العالم وكون الإله المؤثّر في العالم واحدا ؛ فالدليل عليه أنّه بعد ما ثبت التوحيد الالوهي بمعنى تفرّده بوجوب الوجود يثبت استناد جميع الموجودات الإمكانية إليه وصدورها منه ولا ينافيه تحلّل الوسائط ؛ لأنّها شروط ومعدّات ؛ وأصل الإفاضة والإيجاد منه تعالى ؛ لأنّه لمّا ثبت أنّ الواجب بذاته هو الوجود الحقيقي والموجود في حدّ ذاته وغيره ليس موجودا في نفسه وإنّما يكون موجوديته باعتبار انتسابه إليه وارتباطه به وأنّ التأثير والإيجاد حقيقة إنّما هو إفادة الفاعل ذات المعلول متعلّقة ومرتبطة بنفسه بحيث يصير ارتباطها به مبدأ لانتزاع الوجود منها ومصداقا لحمل الموجود عليها ؛ إذ الشيء ما لم يكن موجودا في نفس حقيقته لا يصير غيرها بارتباطه به موجودا ؛ وقد يثبت أنّ التأثير والإيجاد الحقيقي والفاعلية الحقيقية يختصّ بواجب الوجود الحقيقي (٢) وهو واحد كما قرّرناه ؛ فلا مؤثّر في الوجود إلّا هو ؛ وكما أنّ كونه موجودا حقيقيا لا غير لا يوجب أن لا يكون غيره موجودا أصلا كذلك كونه موجدا حقيقيا لا غير لا يوجب أن لا يكون غيره شرطا في التأثير وإنّما يلزم منه نفي التأثير والفاعلية عن غيره لكون الوجود مطلقا معلولا له تعالى [و] لا ينافي إثبات الوسائط والروابط مثل العقول والنفوس والقوى كما ذهب إليه الحكماء ؛ إذ لا تأثير للوسائط

__________________

(١). س : نقصان.

(٢). س : + يختص به تعالى.

٢٦٢

عندهم إلّا في التصحيح والإعداد دون التأثير والإيجاد كما توهّمه أبو البركات من ظاهر كلامهم وشنّع به عليهم.

وقد صرّح بما ذكرناه المحقّقون من الحكماء.

قال الشيخ الرئيس / B ١٠٦ / في الإشارات : «إنّ الأوّل يبدع (١) جوهرا عقليا هو بالحقيقة مبدع وبتوسّطه جوهرا عقليا وجرما سماويا.» (٢)

وقال الشيخ الإلهي في الهياكل النورية : «ليس أنّ حركات الأفلاك توجد الأشياء ولكنّها تحصل الاستعدادات ويعطي الحقّ الأوّل لكلّ شيء ما يليق باستعداده.» (٣)

وقال أيضا : «والجواهر العقلية وإن كانت فعّالة إلّا أنّها وسائط جود الأوّل وهو الفاعل وكما أنّ النور القويّ لا يمكن النور الضعيف من الاستقلال بالإنارة فالقوّة القاهرة الواجبة لا تمكن الوسائط لوفور فيضه وكمال قوّته.» (٤)

وقال صاحب التحصيل : «وإن سألت الحقّ فلا يصحّ أن تكون علّة الوجود إلّا ما هو بريء من كلّ وجه من معنى ما بالقوّة ؛ وهذا هو صفة الأوّل لا غير ؛ إذ لو كان تفيد الوجود ما فيه معنى بالقوّة سواء كان عقلا أو جسما كان للعدم شركة في إفادة الوجود وكان لما بالقوّة شركة في إخراج الشيء من القوّة إلى الفعل.» (٥)

وقال الفخر الرازي : «الحقّ عندي أنّه لا مانع من استناد كلّ الممكنات إلى الله تعالى لكنّها على ضربين : منها ما إمكانه اللازم لماهيّته كاف في صدوره عن الباري تعالى ؛ فلا جرم أن يكون فائضا عنه من غير شرط ؛ ومنها ما لا يكفي إمكانه ، بل لا بدّ من حدوث أمر قبله لتكون الامور السابقة مقرّبة للعلّة المفيضة إلى الامور

__________________

(١). س : يبدأ.

(٢). الإشارات والتنبيهات ، ج ٣ ، ص ٢٥٤.

(٣). هياكل النور ، صص ٩١ ـ ٩٠.

(٤). مع تفاوت ما في المصدر السابق ، ص ٨٣.

(٥). التحصيل ، صص ٥٢٢ ـ ٥٢١.

٢٦٣

اللاحقة ؛ وذلك إنّما ينتظم بحركة دورية.» (١)

ثمّ إنّ تلك الممكنات متى استعدّت استعدادا ما ما صدرت عن الباري تعالى بلا منع وبخل وحدثت بلا تأثير في الوسائط أصلا في الإيجاد ؛ وبذلك صرّح غيرهم من الحكماء ومحقّقي المتكلّمين.

ثمّ لو سلّم أنّ أصل الإفاضة والإيجاد بين الوسائط فلا يكون ذلك حقيقة ؛ لأنّ المعلول من حيث (٢) هو معلول إنّما تحقّقه بارتباطه بالعلّة وتحقّقه تبعيّ ؛ فكيف (٣) يكون تأثيره تأثيرا حقيقيا؟! بل هو راجع إلى الأوّل تعالى وإنّما يستند التأثير إليها بضرب من المجاز ؛ فالموجودات الإمكانية في الحقيقة صادرة عنه تعالى ومرتقية إليه ؛ فالأشياء كلّها بالقياس إليه تعالى محدثة ونسبته تعالى إلى ما سواه نسبة / A ١٠٧ / ضوء الشمس لو كان قائما بذاته إلى الأجسام المستضيئة عنه المظلمة بحسب ذواتها ؛ فإنّه بذاته مضيء وبسببه يضيء كلّ شيء ؛ وأنت إذا شاهدت إشراق الشمس على موضع وإناريته بنورها ثمّ حصول نور آخر من ذلك النور حكمت بأنّ النور الثاني من الشمس وأسندته إليها ؛ فكذا حال وجودات الأشياء ؛ فالكلّ من عند الله تعالى.

وممّا يدلّ على هذا التوحيد ـ أي تفرّده بصنع العالم ـ ارتباط أجزاء العالم بعضها ببعض على الترصيف الحقيقي والنظم الحكمي ؛ فإنّ من فتح عين بصيرته وشاهد نظام الجملى ونظر إلى أجزائه يعلم أنّ أجزائه مرتبطة بعضها ببعض ويتوقّف بعضها على بعض ومتشابكة كأنّها شيء واحد ؛ ولا ريب [في] أنّ ذلك أقوى دليل على أنّ مبدعها (٤) واحد وكما أنّ كلّ واحد من أجزاء شخص واحد وإن وجد ممتازا عن غيره من الأعضاء بحسب الطبيعة لكنّ كونها مع ذلك مؤتلفة

__________________

(١). انظر : المباحث المشرقية ، ج ٢ ، صص ٥٠٨ ـ ٥٠٧.

(٢). س : حيثيه.

(٣). س : فكنف.

(٤). س : ميدعها.

٢٦٤

تأليفا طبيعيا ، مرتبطة بعضها ببعض ، متوقّفة بعضها على بعض ، منتفعة بعضها من بعض ، منتظمة في رباط واحد تدلّ على أنّ مدبّرها وممسكها عن الانحلال قوّة واحدة ومبدأ واحد ؛ فكذلك الحال في أجسام العالم وقواها ؛ فإنّ كونها مع انفصال بعضها عن بعض وتفرّد كلّ منها لطبيعة خاصّة وفعل خاصّ ، ممتاز به عن غيره ، مرتبطة منتظمة في رباط واحد ، مؤتلفة ايتلافا طبيعيا يدلّ على أنّ مبدعها واحد ؛ فإنّه قد ثبت أنّ بين الأجسام العظام التي في العالم تلازما وكذا بينها وبين أعراضها ، بل بين أكثر الأعراض ومحالّها ؛ فإنّ استحالة الخلأ وامتناع خلوّ الأجسام المستقيمة الحركات عمّا يحدّد جهات حركاتها تدلّ على التلازم بين الأرض والسماء ؛ وامتناع قيام العرض بذاته وخلوّ الجوهر عن الأعراض يوجب التلازم بينهما ؛ ولا ريب في أنّ اللزوم أو التلازم يوجب الانتهاء إلى علّة واحدة ؛ فالمؤثّر في العالم لا يكون إلّا / B ١٠٧ / واحدا ؛ فكلّ جسم وجسماني ينتهي في وجوده إلى ذلك المبدأ الواحد الذي دلّ وجود هذه الأجسام على وجوده ؛ والمجرّدات من العقول والنفوس التي أثبتها الحكماء إمّا علل لهذه الأجسام أو مدبّرة لها ؛ وإثبات مجرّدات لا تكون عللا ولا مدبّرة لا دليل عليه ولم يقل به أحد من الحكماء ؛ فلكلّ جسم أو جسماني أو مجرّد مرتبط بالأجسام والجسمانيات تأثيرا أو تدبيرا منته إلى مبدأ واحد هو الواجب بالذات.

ولو كان للعالم صانعان ليتميّز صنع كلّ واحد منهما عن صنع غيرها وكان ينقطع الارتباط فيختلّ النظام كما في قوله تعالى : (لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) (١) وفي قوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) (٢) أي في مجموع السموات عقولا كانت أو نفوسا أو أجساما ومجموع الأرضيات سواء كانت عنصريات أو طباعا أو نفوسا وكما أنّ حركات الرقص وإن وجدت متباينة

__________________

(١). المؤمنون / ٩١.

(٢). الأنبياء / ٢٢.

٢٦٥

متضادّة كالبسط والقبض في الأعضاء وكالتعويج والتقويم فيها والسرعة والبطء لمّا كانت مجموعة منتظمة متناسبة متناجذة مع ما لها من النظم العجيب والرصف الأنيق الذي سير الناظر إليه يدلّ على أنّ وحدتها التأليفية ظلّ لوحدة طبيعية واحدة ؛ ولو لم يكن كذلك لم يكن ملتئمة متناسبة ، بل كانت مختلّة النظم متبدّدة الوضع ؛ كذلك كون جبلّة العالم مع تفنّن حركاتها وتخالف أشكالها وتغيّر آثارها المتولّدة من الأجسام العالية الأجسام والسافلة مؤسّسة على الايتلاف الطبيعي والرصف الحكمي دالّة بوحدتها الطبيعة الاجتماعية على الوحدة الحقّة الحقيقية.

فإن قلت : لم لا يجوز أن يتعدّد الواجب بأن يكونا اثنين مثلا ويتّفقا على أن يوجد أحدهما هذا العالم المحسوس والمعقول والآخر عالما آخر لا علم لنا به أو يوجد أحدهما السماء والآخر الأرض أو يوجد أحدهما الموجودات بأسرها والآخر لا يوجد / A ١٠٨ / شيئا مع كونه واجبا قديما؟

قلنا : هذه الاحتمالات الثلاثة باطلة :

أمّا الأوّل : فلما ثبت في محلّه من استحالة وجود عالمين في بقعة الإمكان ومن كون العالم بجملته وكثرته عالما واحدا أجزائه مرتبطة بعضها ببعض وليس في الوجود عالم آخر سوى هذا العالم المشاهد المحسوس والمعقول. على أنّه لو سلّم جواز وجود عالمين أو أكثر نقول : إيجاد العالم الآخر إن كان صفة كمال فأحد الواجبين يكون فاقدا لها وهذا نقص لا يليق بواجب الوجود لذاته ؛ وإن لم يكن صفة كمال فالواجب الآخر يجب أن يكون منزّها عنه مع أنّ كلّ واجب فرض يجب أن يكون مساويا لواجب آخر فرض في الذات والصفات الكمالية وعلى اختصاص كلّ من الواجبين بإيجاد عالم يلزم اختلافهما في الصفات والكمالات.

وأمّا الثاني : فلما ذكرناه في الأدلّة.

٢٦٦

وأمّا الثالث : فلامتناع شمول واجب الوجود في مطمورة التعطّل وزاوية الإمكان والفقدان.

وممّا يدلّ على هذا التوحيد برهان التمانع الذي استفاده العلماء من قوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) (١) وقوله : (وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) (٢) وبيّنه الصادق عليه‌السلام في حديث الزنديق وحقّقه بعض المحقّقين على ما ينطبق على القواعد العقلية ؛ وحاصله أنّه لو تعدّد الواجب وكانا اثنين مثلا :

[١.] فإن كان كلّ منهما عاجزا ضعيفا غير مستقلّ بإيجاد العالم لم يكن شيء منهما واجب الوجود ؛ إذ العجز ينافي وجوب الوجود.

[٢.] وإن كان إحداهما قويّا قادرا على إيجاد العالم بالاستقلال والآخر ضعيفا عاجزا عنه لم يكن العاجز واجبا لما ذكر وانحصر واجب الوجود في الأوّل.

[٣.] وإن كان كلّ منهما قويّا قادرا بالاستقلال على إيجاد العالم ؛ فإذا فرضنا أنّ خلق العالم هو مقتضى العناية الأزلية ـ كما ذهب إليه الحكماء ـ أو مقتضى العلم بالأصلح كما هو رأي محقّقي المتكلّمين حتّى يكون العقل واجبا وتركه قبيحا ممتنعا فلا يخلو :/ B ١٠٨ /

[١.] إمّا أن يتعلّق قدرة كلّ منهما ومشيّته على إيجاده

[٢.] أو يتعلّق قدرة كلّ منهما ومشيّته على الإيجاد دون الآخر

[٣.] أو لا يتعلّق قدرة شيء منهما ومشيّته على الإيجاد.

[١.] فإن تعلّق قدرة كلّ منهما ومشيّته على الإيجاد فالفعل إمّا أن يقع ويتحقّق في الخارج أو لا.

فعلى الثاني يلزم تخلّف المعلول عن العلّة التامّة وكذا يلزم أن يكون الممكن آبيا عن قبول الوجود مع كونه مقتضى العناية الأزلية والعلم بالأصلح مع وجود

__________________

(١). الأنبياء / ٢٢.

(٢). المؤمنون / ٩١.

٢٦٧

العلّة التامّة مع أنّه قد تقرّر أنّ جميع الممكنات من حيث إنّها ممكنة ـ سواء كان لوجودها شروط أو لا ـ متساوية النسبة في جواز الصدور عن الواجب الوجود وأنّ الوجود الممكن إذا كان مقتضى العناية الأزلية ـ كما ذهب إليه الحكماء ـ أو مقتضى العلم بالأصلح ـ كما ذهب إليه مشاهير المتكلّمين ـ فهو يجب فعله ويمتنع تركه.

وعلى الأوّل ـ أي وقوع الفعل بقدرة كلّ منهما ومشيّته ـ فلا ريب [في] أنّ هذا الوقوع إنّما هو على الترتيب السببي والمسبّبي دون وقوع الجميع دفعة ؛ إذ ذلك محال ، لما ثبت في محلّه ؛ فيلزم توارد العلّتين المستقلّتين على معلول واحد بالتشخّص وهو أيضا محال.

[٢.] وإن تعلّق قدرة أحدهما ومشيّته على الإيجاد دون الآخر فيلزم في الآخر لزوم تخلّف المعلول عن العلّة التامّة وجواز ترك مقتضى العناية الأزلية أو العلم بالأصلح مع كونه مستلزما للمطلوب أيضا ؛ لأنّ كلّ من تعلّق قدرته ومشيّته على مقتضى العناية أو العلم بالأصلح فهو واجب الوجود دون الآخر وإن فرض وقوع الفعل بقدرة أحدهما دون الآخر مع مشيّة الآخر له ؛ فيلزم الترجيح بلا مرجّح مع تخلّف المعلول عن العلّة التامّة أيضا.

[٣.] وإن لم يتعلّق قدرة شيء منهما ولا مشيّته على الإيجاد ؛ فيلزم تخلّف المعلول عن العلّة التامّة وعدم تعلّق مشيّة الواجب وقدرته على الفعل الذي هو مقتضى العناية والعلم بالأصلح ؛ وهذا أيضا محال.

[المقام الرابع]

في بيان التوحيد الوجودى ؛ أي كون وجود الحقّ واحدا هو الله تعالى

وما عداه شئونات واعتبارات وتجلّيات له

فكما أنّ التوحيد الالوهي مبناه على نفي أشياء / A ١٠٩ / غير موجودة في الأعيان ؛

٢٦٨

أعني الآلهة المفروضة في الأذهان (١) وإثبات إله واحد كذلك التوحيد الوجودي مبناه على نفي أشياء موجودة في الأعيان ـ أعني الكثرات المتحقّقة في حيّز الإمكان ـ والانتهاء إلى وحدة حقّة حقيقية متقدّسة عن النقصان.

وبعبارة اخرى : كما أنّ التوحيد الالوهي مبناه على إثبات الأشياء ـ أعني الممكنات وصفاتها وأفعالها ـ والقول بأنّها لإمكانها محتاجة إلى مؤثّر واجب بالذات واحد في الصفات ومن جميع الجهات وكون الجميع في الحقيقة والواقع مستندة إليه صادرة عنه كذلك معنى التوحيد الوجودي على نفي الوجودات الفاقدة بذواتها وسلب الصفات الناقصة في كمالاتها ؛ أعني وجودات الممكنات وصفاتهم شيئا فشيئا إلى أن ينتهي إلى وجود عيني قائم بالذات كامل في الصفات وفي جميع الجهات.

وبعبارة اخرى : كما أنّ مبنى القسم الأوّل من التوحيد الالوهي على نفي واجب الوجود غير الله وإثبات انحصار وجوب الوجود فيه (٢) والثاني على إثبات ذوات الممكنات وصفاتهم ، وسلب التأثير والإيجاد عنهما إثبات (٣) انحصارهما في الله سبحانه ، فكذلك مبنى التوحيد الوجودي على نفي وجودات الممكنات وصفاتهم وأفعالهم واستهلاكها في وجود الواجب وصفاته وأفعاله ؛ وغير خفيّ أنّ هذا التوحيد يختلف باختلاف الأقوال في تصحيح وحدة الوجود ؛ فكلّ من أثبت (٤) الوحدة بنحو أثبت (٥) هذا التوحيد بذلك النحو ؛ وقد عرفت أنّ الحقّ الجامع بين أقوال العارفين والحكماء أنّ الوجود الأصيل القائم بذاته هو الوجود الواجبي والممكنات موجودات بوجودات ظلّية تبعية ؛ أي أنّها بملاحظة العلّة وتحقّقها لها وجودات ظلّية تبعية ومع قطع النظر عن العلّة معدومات صرفة ؛ إذ البداهة حاكمة

__________________

(١). س : الازهان.

(٢). س : به.

(٣). س : + و.

(٤). س : ثبت.

(٥). س : ثبت.

٢٦٩

بأنّ ما به تحقّقها وحقيقتها هو علّتها ـ أعني الواجب سبحانه ـ / B ١٠٩ / فهي مع ملاحظة العلّة وتحقّقها متحقّقة إلّا أنّ تحقّقها في الحقيقة يرجع إلى تحقّق العلّة ؛ إذ لو لا تحقّقها لم تكن متحقّقة.

وعلى هذا فيصحّ ما ذكره الصوفية من أنّ الوجودات الإمكانية شئونات واعتبارات وتجلّيات وارتباطات للوجود الحقّ الواجبي ولا تحقّق لها وإنّما التحقّق والتحصّل (١) هو للوجود الواجبي ؛ لأنّ مرادهم أنّها بالنظر إلى أنفسها مع قطع النظر عن العلّة اعتبارات محضة ، بل معدومات صرفة ؛ وهذا الكلام حقّ لا ينكره أحد من العقلاء وأرباب الشرائع ؛ وليس مرادهم أنّها مع ملاحظة العلّة وتحقّقها لا تحقّق لها ؛ إذ هذا خلاف البديهة والنظر ؛ إذ ذلك يؤدّي إلى سلب التحقّق عن العلّة.

وكذا ما ذكره العقلاء وأرباب النظر من إثبات الوجودات الخاصّة المتحقّقة المتكثّرة للممكنات أيضا حقّ ؛ إذ مرادهم أنّ التحقّق لتلك الوجودات إنّما هو مع ملاحظة العلّة وتحقّقها لا بدونه ؛ إذ عدم التحقّق لها ومعدوميتها مع عدم اعتبار العلّة ـ كما عرفت ـ ممّا لم ينكره أحد من العقلاء وأرباب الشرائع ؛ فمرادهم هو ما ذكرناه من أنّ تحقّقها إنّما هو مع ملاحظة العلّة.

وعلى هذا فالتوحيد الوجودي عبارة عن كون الوجود الأصيل القائم بذاته المتحقّق بنفسه مع قطع النظر عن جميع ما سواه واحدا وكون ما سواه امورا ظلّية ارتباطية تبعية متحقّقة بغيرها معدومة بالنظر إلى أنفسها.

فالجاهل بحقيقة الحال لا يرى إلّا الكثرة ؛ والجهلة بحقيقة العلّية والمعلولية يرى هذه الكثرة كثرة متحقّقة بنفسها.

وأمّا البارقون الواقفون على حقيقة الحال فيرون الوحدة والكثرة معا ولكن كلّ منهما باعتبار ويرى كلّا منها مرآة للآخر.

__________________

(١). س : + انما.

٢٧٠

فالعارف الواقف بأنّ الواجب تعالى بحت الوجود وصرف الموجود وبأنّ ذوات الممكنات وحقائقها ـ أي وجوداتهم الفاقدة بذواتهما ـ وكذا / A ١١٠ / صفاتهم وأفعالهم الناقصة في كمالاتها من أنحاء تجلّيات ذاته وشئون صفاته وأفعاله يرى ويشاهد بعين العيان أنّ كلّ وجود وموجود وكلّ صفة وموصوف وكلّ فعل وفاعل ومفعول من الممكنات باطلة دون وجهه الكريم وهالكة مع قطع النظر عن الارتباط به تعالى ومستهلكة في حبّ ذاته ومستغرقة في علوّ أسمائه وصفاته وفانية في سموّ أفعاله وآثاره.

فهو يشاهد في الكلّ ذاتا ؛ أي وجودا صرفا مطلقا كاملا متقدّسا عن العدم والنقص متجلّيا على الكلّ ؛ وكذا يشاهد صفات مطلقة واجبة منبسطة في صفات الممكنات وفعلا مطلقا لا مدخل لتأثير الغير فيه ولا تقارنه شائبة من القوّة والنقص كما في أفعال الممكنات ؛ فإنّها ناقصة مقارنة للقوّة ومرتبطة بفعل الواجب على وجه التقويم بحيث لو لا ارتباطها به وانبساطه عليها وتأثيره فيها لم يكن لها اسم ولا أثر ؛ فكلّ فعل وأثر في سلسلة العرض الإمكانية فانية ومستهلكة في فعله تعالى وكذا في السلسلة الطولية وإن توقّف تأثيره فيها في بعض وتجلّيه عليه على بعض آخر كتوقّف الأفعال الطبيعية مثل الحرارة والبرودة على النار والماء والأفعال الاختيارية كأفعال العباد وآثارهم على ذواتهم وساير الأسباب المنتهية إلى مسبّب الأسباب الذي هو ناظم سلك الوجود ومبدأ كلّ فيض وجود.

وكان هذا العارف السالك جعل في قوله واعتقاده ومشاهدته العيانية الحقائق المتكثّرة (١) ـ أعني الوجودات المتكثّرة الإمكانية ـ حقيقة واحدة ـ أي وجودا واحدا ـ والصفات المتكثّرة الإمكانية صفة واحدة مطلقة والأفعال المتكثّرة فعلا واحدا. فهو :

__________________

(١). س : حقائق متكثرة.

٢٧١

[١.] نظر أوّلا إلى حقيقة كلّ شيء ورجع قهقرى إلى أصله الصادر منه حتّى وصل إلى صرف الوجود القديم القائم بذاته الذي ليس في الخارج موجود بوجود أصيل ثابت / B ١١٠ / إلّا هو وصفاته وكمالاته.

[٢.] ونظر (١) إلى كلّ شيء غير الواجب حتّى عرف حقيقته وعرف أنّ الوجود فيه زائد على ذاته متقوّم لغيره متفرّع على أصله وهو الوجود الحقّ القيّوم وأنّ وجود كلّ شيء هالك بالنظر إلى ذاته وثابت بقيّوميّته ؛ فمن حيث ذاته فان باطل ومن حيث ارتباطه بموجده الحقّ باق ثابت.

[٣.] ونظر (٢) إلى حقيقة كلّ وجود وموجود وعرف أنّه بأيّ وجه حقّ ثابت وبأيّ وجه خلق باطل ومن أيّ جهة واحد ومن أيّ جهة متكثّر ؛ فيرى الوجود الحقّ في كلّ شيء ومعه ويرى رجوع الكلّ إليه ويشاهد الحقّ باقيا والخلق زائلا أزلا وأبدا (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) (٣) فيرى الممكنات بأسرها وذرّات الوجود برمّتها بذواتها وصفاتها وأفعالها هالكة زائلة مع قطع النظر عنه بحيث لو فرض انقطاع ارتباطها بمبدعها الحقّ لا نطوى (٤) بساط الممكنات وصارت بقعة الإمكان قاعا صفصفا.

هذا هو البيان الإجمالى في هذا التوحيد ـ أي التوحيد الوجودي ـ وإن شئت توضيح المقام فاعلم أنّه كما أنّ للواجب تعالى ذاتا هو صرف الوجود وصفات هي عين ذاته تعالى وأفعالا صادرة عن ذاته بذاته من غير مدخلية لتأثير الغير فيه أصلا وآثارا هي مظاهر صفاته تعالى ؛ وهي ذوات الممكنات ووجوداتهم واصول صفاتهم كذلك للممكنات ذوات هي وجوداتهم وصفات زائده على ذواتهم وأفعال ذات جهتين ؛ فمن جهة منتهية إلى مسبّب الأسباب ومتقوّمة بالفاعل

__________________

(١). س : نظرا.

(٢). س : نظرا.

(٣). القصص / ٨٨.

(٤). س : لا يطوى.

٢٧٢

المطلق في الكلّ ومن جهة اخرى مستندة إلى ذواتهم وآثار مترتّبة على أفعالهم هي إمّا الذوات الاعتبارية أو الصفات الغير الأصلية أو الأفعال كذلك. ففي بادئ النظر للتوحيد الوجودي أربع مراتب :

[١.] توحيد الذات ؛ وهو أن يرى ذوات الممكنات هالكة في ذاته تعالى.

[٢.] وتوحيد الصفات ؛ وهو أن يرى صفات الممكنات مستهلكة في صفاته تعالى.

[٣.] وتوحيد الأفعال ؛ و/ A ١١١ / هو أن يرى أفعالهم مستغرقة في أفعاله تعالى.

[٤.] وتوحيد الآثار ؛ وهو أن يرى آثارهم مضمحلّة في آثاره تعالى.

وفي دقيق النظر للتوحيد الوجودي ثلاث مراتب :

[١.] توحيد الذات

[٢.] وتوحيد الصفات

[٣.] وتوحيد الأفعال

إذ توحيد الآثار ساقط عن درجة الاعتبار ؛ لأنّه على قياس ساير التوحيدات مرجعه إلى توحيد آثار الممكنات واصول صفاتهم ؛ فيرجع هذا التوحيد إلى ملاحظة فناء آثار الممكنات في ذواتهم وصفاتهم ؛ وظاهر أنّه لا فائدة في مثله ولا يحصل معرفة الله سبحانه بحصول مثل هذا التوحيد. فالمعتبر من مراتبه هي الثلاث الاول ـ أعني توحيد الذات وتوحيد الصفات وتوحيد الأفعال ـ والأصل والعمدة هو توحيد الذات وبإيضاح حاله يتّضح حال الأخيرين ـ أعني توحيد الصفات وتوحيد الأفعال ـ فنقول في بيانه : إنّ العارف السالك إذا صار موحّدا بالتوحيد الالوهي حصل له نوع قرب إلى جهات الحقّ وكلّما قوى هذا التوحيد اشتدّ القرب حتّى يستعدّ لفيضان بعض المعارف الحقيقية والمواهب الغيبية والابتهاجات الروحية على نفسه ويشرق نور الحقّ من جانب القدس على مرآة

٢٧٣

قلبه وورد وارد (١) عليه من عالم القدس إن لم يصر ملكة له ، بل زال بظهور صفات نفسه سمّي ذلك في عرف الصوفية حالا وإن صار ملكة ورسخت فيه سمّيت مقاما ؛ والمقامات كلّها حجب نورانية إلّا مقام الجمع وجمع الجمع.

والجمع مقابل الفرق والفرق هو الاحتجاب عن الحقّ بالحقّ بأن يرى في كلّ الأشياء الخلق ويرى الحقّ مغايرا لها من كلّ الوجوه ويرى بقاء الرسوم الخلقية بحالها ؛ وفي هذا المقام أخطار كالخوف من الوقوع في مفسدة تعطيل الفاعل المطلق وأمثاله ؛ والجمع في عرفهم مشاهدة الحقّ في كلّ الأشياء مع الغفلة عن الأشياء / B ١١١ / أنفسها بأن تفني في نظره الرسوم الخلقية ولا يرى إلّا الحقّ ويسمّى هذا المقام مقام المحو والفناء ؛ إذ لو كان أيّية السالك وتعيّنه باقيا ـ أي مشاهدا ملحوظا له ـ لما حصل له هذا المقام ـ أي شهود الحقّ بدون الخلق ـ وفي هذا المقام أيضا أخطار كالوقوع في مهلكة الكفر والزندقة (٢) والإلحاد والحلول والاتّحاد.

وأمّا جمع الجمع فهو مشاهدة الخلق قائما بالحقّ بأن يشاهد في جميع الموجودات الحقّ ويلاحظ الاثنينية والغيرية ولا يحتجب برؤية الوحدة عن الكثرة ولا برؤية الكثرة عن الوحدة ويرى الأشياء كما هي وكما ينبغي. فعند صاحب هذا المقام تكون الكثرة مرآة للوحدة [والوحدة] مجلاة للكثرة ؛ وهو أعلى مقامات العارفين وأرفع درجات السالكين وليس فيه خوف الوقوع في مفسدة ؛ ولذا ورد في كلام هذه الطائفة : «عليكم بهذا (٣) المقام ؛ فإنّ جامعه الموجد الحقيقي وإيّاكم والجمع والتفرقة ؛ فإنّ الأوّل يورث الزندقة والإلحاد والثاني تعطيل الفاعل المطلق.»

ثمّ هذا المقام ـ أي مقام جمع الجمع ـ يسمّى بجامع الجمع أيضا وبمقام البقاء بالله ويسمّى أيضا الصحو والفرق الثاني والفرق بعد الجمع ؛ لأنّ السالك يتنزّل

__________________

(١). س : قلبه وارد ورد.

(٢). س : الزنديق.

(٣). س : هذه.

٢٧٤

بعد مقام الجمع المحض والفناء المطلق والوحدة الصّرفة إلى هذا المقام الذي هو محو وفرق باعتبار.

وهذا المقام وإن كان في بادئ النظر مقاما واحدا لكنّه في الحقيقة مقامان :

أحدهما : أن يكون فيه الكثرة مرآتا للوحدة ويرى فيه الحقّ ظاهرا والخلق باطنا ، كما أنّ الصور المنطبعة في المرآة يشاهد أوّلا ثمّ المرآة ثانيا ؛ ولهذا الاعتبار يسمّى في عرفهم بقرب النوافل ، كما ورد في الخبر : «لا يزال العبد يتقرّب إلى بالنوافل حتّى أحببته ؛ فكنت (١) سمعه الذي يسمع بي وبصره الذي يبصر بي» (٢) الحديث.

وحاصله : أنّ العبد إذا رأى كلّ كمال مستهلكا و/ A ١١٢ / مستغرقا في كماله تعالى الذي هو عين ذاته لم يكن في نظره كمال إلّا هو ؛ فصار الحقّ في جميع كمالاته من الوجود والسمع والبصر واليد والعلم والقدرة وغيرها لرجوع كلّها في نظره إلى كمال الحقّ الذي هو عين ذاته ؛ فيصير العبد متخلّقا بأخلاق الله تعالى بالحقيقة وينظر في كلّ شيء إلى الحقّ أوّلا وإلى الخلق ثانيا.

[ثانيهما :] أن تكون الوحدة فيه مرآة للكثرة ويرى فيه الخلق ظاهرا والحقّ باطنا ، كما أنّ أمر المرآة والمرئي كذلك ؛ وبهذا الاعتبار يسمّى عند بعضهم بقرب الفرائض لما ورد في الخبر أنّه تعالى يقول على لسان عبده : «سمع الله لمن حمده» (٣) وعلى هذا فيرى الوحدة في الكثرة والخلق ظاهرا والحقّ باطنا ؛ وعلى هذا فالمقامات الحاصلة في التوحيد الوجودي الذاتي بحسب جليل النظر ثلاثة :

__________________

(١). س : كنت.

(٢). انظر : بحار الأنوار ، ج ٦٧ ، ص ٢٢ ؛ ج ٧٢ ، ص ١٥٥ ؛ ج ٨١ ، ص ٢٥٧ ؛ ج ٨٤ ، ص ٣١ ؛ الجواهر السنيّة ، ص ١٢٠ ، ١٢١ ، ١٦٣ ؛ شرح اصول الكافي (للمولى محمّد صالح المازندراني) ، ج ١ ، ص ٨٩ ، ١٨٨ ؛ ج ٩ ، ص ٤٢٤ ، ٤٢٥ ، ٤٢٨ ؛ عوالي اللئالي ، ج ٤ ، ص ١٠٣ ؛ الغدير ، ج ١ ، ص ٤٠٨ ؛ الكافي ، ج ٢ ، ص ٣٥٢ ؛ المحاسن ، ج ١ ، ص ٢٩١ ؛ مستدرك الوسائل ، ج ٣ ، ص ٥٨ ، ٤٤٦ ؛ مشكاة الأنوار ، ص ٢٥٦ ووسائل الشيعة ، ج ٣ ، ص ٥٣.

(٣). الكافي ، ج ٢ ، ص ٥٠٣ ؛ ج ٣ ، ص ٣١١ ، ٣٢٠ ، ٤٦٤ ، ٤٨٦ ؛ من لا يحضره الفقيه ، ج ١ ، ص ٣١ ، ٣١٢ و...

٢٧٥

الفرق والجمع وجمع الجمع ؛ وبحسب الدقيق منه أربعة نظرا إلى كون الثالث مقامين ؛ وهذه الأقسام إنّما هي بحسب المراتب الطولية وكلّ منها له عرض عريض ومراتب متنازلة ومتصاعدة ويختلف بحسب اختلاف أحوال السلّاك وفي كلّ منها يرى السالك وجودات الممكنات وذواتهم بأسرها مستغرقة في جنب ذاته سبحانه.

وبتقرير آخر : نقول (١) أنّ العارف السالك إذا ترقّى في السلوك والسير ، وتدرّج في مراتب القرب ونفى الغير ، يرى بعين العيان أنّ محقّق الحقائق ومذوّت الذوات هو الوجود الواحد الحقّ ، ووجودات الممكنات أظلاله وفروعه وتجلّياته وشئونه ؛ ولو لا ارتباطها بأصلها لكانت كلّها باطلة هالكة زائلة ؛ وإذا عبر عن مراتب الكثرات الصورية والمعنوية يصل إلى مقام التوحيد الذاتي العياني ويشاهد الحقّ في الكلّ ولاحظ الكلّ قائما بالحقّ وارتفع الحجب عن عين بصيرته ؛ فيشاهد في جميع الأشياء بالنظر الأوّل نور الوجود الواحد المطلق ؛ ويرى الحقّ في الكلّ ظاهرا والخلق باطنا ؛ ويكون الخلق عنده / B ٢١١ / مرآة للحقّ كما هو شأن المرآة والمرئي في الظهور والبطون ؛ ولذا إذا لوحظ شبح من بعيد يلاحظ أوّلا موجوديته ثمّ ساير أحواله ؛ وهذا هو مقام جمع الجمع بالمعنى الأوّل من المعنيين المذكورين ويقول صاحبه : «ما رأيت شيئا إلّا ورأيت الله قبله» ويسمّى صاحبه بذي العين.

وقد يشاهد هذا السالك أوّلا الخلق ثمّ الحقّ ويكون الحقّ عنده مرآة للخلق والخلق ظاهرا والحقّ باطنا عكس المقام الأوّل ويقول صاحبه : «ما رأيت شيئا إلّا ورأيت الله بعده» لأنّ الوجود الحقيقي لمّا احتجب ظهوره في حجب التعيّنات واستتر لغاية جلاله صار التعيّنات كالحجاب (٢) له ؛ ولذا يقع النظر الأوّل إلى الحجاب

__________________

(١). س : يقول.

(٢). س : ما كالحجاب.

٢٧٦

ثمّ إلى ما ورائه ؛ وهذا هو مقام جمع الجمع بالمعنى الثاني ويسمّى صاحبه بذي العقل ؛ لأنّ مشاهدته مقتضى العقل ، كما أنّ مشاهدة صاحب المقام الأوّل مقتضى عين البصرة والعيان.

وقد يكون العارف السالك بحيث لا يشاهد إلّا الحقّ ؛ ويسمّى هذا المقام ـ كما سبق ـ مقام الجمع ومقام المحو ومقام الفناء ؛ وقد عرفت أنّ فيه بعض الأخطار ولذا كان المقام الأوّل أعلى منه ؛ وقد يشاهد الخلق في كلّ الأشياء ويرى الحقّ مغايرا لها من كلّ الوجوه ويرى بقاء الرسوم الخلقية بحالها ؛ وهذا هو مقام الفرق وهو أنزل المقامات.

وقد يندرج العارف السالك في مراتب القرب ويحصل له المقامان الأوّلان ويصير ذا العين وذا العقل ، ويشاهد الحقّ وأعيان الممكنات من غير احتجاب بأحدهما عن الآخر ؛ فكلّ منهما عنده ظاهر وباطن باعتبار آخر ويصير كلّ منهما عنده مرآة للآخر ؛ فهو قد يقول : «ما رأيت شيئا إلّا ورأيت (١) الله فيه» وقد يقول : «ما رأيت شيئا إلّا ورأيت الله معه» ويسمّى صاحب هذا المقام بذي العين والعقل ؛ ويسمّى هذا المقام مقام السير في الله والسير مع الله ومقام جمع الجمع أيضا ، كما سبق. / A ١١٣ /

وتختلف أحوال تلك المقامات كلّها سيّما المقام الأوّل الذي هو أعلى المقامات بحسب اختلاف أحوال السالكين وبحسب اختلاف حالات شخص واحد في أوقات مختلفة ؛ ولعلّ قول سيّد الرسل صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ لي مع الله وقت لا يسعه ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل» (٢) إشارة إلى أقصى مراتب مقام جمع الجمع ؛ وفي كلّ من تلك المقامات ومراتبها يلاحظ توحيد الذات واضمحلال ذوات الممكنات و

__________________

(١). س : ايت.

(٢). انظر : بحار الأنوار ، ج ١٨ ، ص ٣٦٠ وج ٨٣ ، ص ٣٦٥ وشرح اصول الكافي (للمولى صالح المازندراني) ، ج ٣ ، ص ٨٢ و ١٦٣.

٢٧٧

وجوداتهم في جنب ذاته تعالى ووجوده : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) (١).

وما ذكره جماعة من مراتب السير والسلوك ـ أعني السير إلى الله والسير مع الله والسير في الله ـ راجعة إلى هذه المقامات بأن يكون السير إلى الله إشارة إلى مقام الفرق والسير مع الله وفي الله إشارة إلى مقام جمع الجمع بقسميه ومقام الجمع أيضا راجع إلى أحد الآخرين.

وهاهنا مقام آخر أرفع وأعلى من الكلّ ويشتمل على الجميع مع الزيادة ويسمّى مقام السير من الله وهو مخصوص بالأنبياء وأوصيائهم عليهم‌السلام وهو أن يصير العارف كاملا في جميع المقامات ويصل إلى أقصاها ويبلغ في الكمال إلى حدّ يستعدّ لأن يرسله الله إلى إرشاد عباده وهدايتهم (٢) ويكون واسطة بينه وبينهم في إيصال فيضه إليهم ويكون برزخا بين عالمى الأمر والخلق وعالمى الغيب والشهادة ويكون له جنبتان إحداهما في عالم التجرّد والاخرى في عالم الحسّ ، يستفيض بالأولى من العالم الأعلى ويفيض بالاخرى على سكّان العالم السفلى ؛ ولهذا المقام كسائر المقامات عرض عريض ودرجات ومراتب تختلف بحسب اختلاف مراتب الأنبياء والأولياء.

وحاصل جميع المقامات المذكورة في التوحيد الوجودي الذاتي أن يشاهد العارف في كلّ الأشياء وجودا بحتا حقّا ونورا صرفا محضا وذاتا قائما بذاته حقّا ويكون عنده وجودات الممكنات وذواتهم بأسرها مرتفعة مضمحلّة في جنب هذا الوجود الحقّ والذات / B ١١٣ / الواحد المطلق.

وإذا عرفت جليّة الحال في التوحيد الوجودي الذاتي فقس عليه حال التوحيد الوجودي الصفاتي والتوحيد الوجودي الأفعالي ؛ فإنّ العارف السالك كما يشاهد جميع ذوات الممكنات فانية مضمحلّة في ذاته تعالى كذلك يشاهد

__________________

(١). القصص / ٨٨.

(٢). س : هذا ايتهم.

٢٧٨

جميع صفاتهم فانية مضمحلّة في صفاته تعالى ولا يرى لغيره صفة كمالية أصلا ، بل يرى صفات كلّ الأشياء كذواتهم ووجوداتهم مظاهر ومجالي لصفاته تعالى ويرى صفاته تعالى في الأشياء ظاهرة ؛ وهذا هو التوحيد الصفاتي وهو في أقسام المقامات والمراتب وكون كلّ منها ذا عرض عريض بحسب اختلاف أحوال السالكين كالتوحيد الذاتي بعينه ؛ ويسمّى هذا التوحيد في عرف الطائفة بالطمس وكذا يشاهد السالك جميع أفعال الأشياء فانية في أفعال الحقّ ومضمحلّة [في] جنب فعل الفاعل المطلق ويشاهد في كلّ فعل وتأثير فعل الحقّ وتأثيره وقدرته وقوّته ؛ ولا يرى مؤثّرا في الوجود ولا فاعلا مستقلّا إلّا هو ؛ وهذا هو التوحيد الأفعالي.

[في ما حصل للعارف السالك بعد الوصول إلى مراتب التوحيد وتصفية النفس تحليتها واستغراق الوقت بذكر الله]

وأعلم أنّ العارف السالك إذا وصل إلى هذه المقامات ـ نعني التوحيدات ـ وصفّى نفسه عن رذائل الصفات وحلّيها بفضائل الأخلاق واستغرق وقته بذكر الله تعالى حصل له مرتبة العروج إلى الأفلاك والكواكب والارتباط مع روحانيات ملأ الأعلى وملائكة الملكوت وسكّان عالم القدس ويشرق قلبه بالأنوار الإلهية والابتهاجات العقلانية ويشاهد ذاته وصفاته وأفعاله فانية في تجلّيات أنوار اللاهوت ويبقى بعد الضياء في الله باقيا بالبقاء بالله ويرى بعين العيان ونور البصيرة وجه الحقّ بالحقّ.

وبالجملة : يحصل له بسبب ارتباطه بذلك العالم وتوجّهه إلى مبدأ الحقّ وبسبب تصفية مرآة قلبه الذي هو مرآة حقائق الأشياء ومجلاة لصورها مناسبة للعالم المعنوي بحيث يتمثّل في سرّه صور جميع الأشياء من المادّيات و

٢٧٩

المجرّدات وإن لم / A ١١٤ / يكن لتلك المجرّدات بحيث ذواتها وجود حسّي ولا صورة حسّية لكنّها يظهر وينكشف بروحها متشكّلة بأشكال المحسوسات متمثّلا بمثل المادّيات ويصير متجلّية عليه بالصور المناسبة لمقام ذلك العارف وحاله.

فإن لم تقدر يا أخي! أن تدرك أمثال ذلك وتصل إلى حقيقته ؛ فلا تبادرنّ إلى إنكاره ؛ فإنّه واقع في حيّز الإمكان ، كما ورد في الأخبار المعتبرة أنّ روح الأمين ظهر بصورة دحية الكلبي وساير الصور الحسّية على خير البشر وورد في الأخبار المتفرّقة أنّ بعض الملائكة ظهر بصورة شخص على بعض الكمّل من الأولياء ، بل على بعض الزهّاد والعبّاد ؛ وإذا وصل العارف إلى هذا المقام تتجلّى عليه من مبدئه وموجده تجلّيات ذاتية وصفاتية وأفعالية وآثارية مناسبة لحاله ومقامه ؛ والغالب أن يكون التجلّي الآثاري أثرا متلبّسا بملابس الأكوان وعالم الشهادة ؛ فيتمثّل بمثل عالم الحسّ من الصور الحسّية والجسمانية ، وأكثره أن يكون بصورة إنسان كامل ؛ ويسمّى هذا التجلّي باصطلاح القوم بالتجلّي الصوري وبالتباس أيضا ؛ وأكثر التجلّيات الأفعالية إنّما تكون بالأنوار المتلوّنة كالنور الأبيض والأخضر والأحمر ؛ وأكثر التجلّيات الصفاتية تكون بالتجلّي بالصفات الكمالية ، مثل العلم والقدرة والإرادة أمثالها ؛ وأمّا في التجلّي الذاتي فيتجلّى من حضرة القدس ذات من الذوات النورية أو آية من الآيات البهيّة مصوّرة بالصور الحسّية ولا سيّما الصور المألوفة ؛ فيصير العارف فيه فانيا مطلقا بحيث لا يبقى له علم وشعور بذاته ولا بصفاته ولا بشيء آخر أصلا ، كما قال سبحانه (لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي) (١).

وهذه التجلّيات تختلف بحسب قوّتها وضعفها وصفاتها وكدورتها وزيادتها ونقصانها وأوقاتها وحالاتها المختلفة بأحوال السالكين ؛ فهذه التجلّيات للأنبياء

__________________

(١). الأعراف / ١٤٣.

٢٨٠