اللّمعات العرشيّة

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

اللّمعات العرشيّة

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: علي اوجبي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: انتشارات عهد
المطبعة: نگارش
الطبعة: ٠
ISBN: 964-5763-11-8
الصفحات: ٥١٩

إلّا العلم الحضوري بالجواهر المجرّدة من العقول والنفوس ؛ إذ ليس لها علاقة ذاتية بين النفس وبينها حتّى يمكن لها أن تشاهدها بالحضور لذاتها ولا / B ١٥٠ / يمكن أن تشاهدها بقواها ؛ لأنّ قواها لقصورها ومادّتها لا يمكن لها أن تدركها على وجه الارتسام حتّى تصير حاضرة للنفس بتوسّطها ؛ فخرج عن علمها العلم الحضوري بالمجرّدات ـ أي العلم الحضوري الشهودي الإشراقي بوجوداتها ـ نعم يمكن أن يبلغ بعض النفوس في التجرّد والقوّة حدّا (١) يحصل لها ملكة الاتّصال بالعقول والنفوس الفلكية ويشاهدها مشاهدة حضورية شهودية ومثل هذه النفس لا يخرج عن علمها شيء.

فظهر أنّ كلّ واحد من الإحساسات والإدراكات الجزئية والحقيقية علم حضوري انكشافي للنفس إلّا أنّ حصول هذا الظهور والانكشاف لها يتوقّف على أفعال مخصوصة لتلك القوى بأن يصير إلى حدّ من القرب والبعد بالنسبة إلى الأشياء المدركة ويصل منها شيء إليها بالانطباع أو خروج الشعاع مثلا ؛ وقس على ذلك ما في الشرائط المعتبرة في الإحساسات ؛ فبعد حصولها يحصل للنفس علم إشراقي انكشافي بتلك الأشياء ؛ وهذا القسم من العلم الحضوري للنفس يعبّر عنه بالإحساس لتوقّفه على أفعال وحركات لقوى حسّية جسمية ؛ فإذا حصل شرائط الرؤية بين البصر وجسم خاصّ يحصل للنفس علم حضوري انكشافي بهذا الجسم يعبّر عنه بالرؤية والإبصار ؛ وإذا فقدت تلك الشرائط زال هذا العلم عن النفس أيضا إلّا أنّ القوّة الخيالية لمّا حفظت تلك الصورة المبصرة وارتسمت هذه الصورة فيها فيشاهد بعد فقد الإحساس هذه الصورة في لوح الخيال ويطالعها مطالعة حضورية.

فظهر أنّ عدم علم النفس بعوارض البدن مع قطع النظر عن قواها إنّما هو

__________________

(١). س : جدا.

٣٦١

لأجل أنّ المرتبط المتعلّق بها إنّما هو البدن المطلق والعلم الحضوري بعوارضه يتوقّف على توسّط القوى الحسّاسة ؛ وهذا العلم المتوقّف على توسّطها ـ أي أصل انكشاف هذه العوارض وظهورها ـ ليس إلّا العلم الحضوري للنفس وإن توقّف حصول هذا الظهور والانكشاف على أفعال للقوى وحصول شرائط بينها وبين تلك العوارض المدركة حتّى / A ١٥١ / ترتسم المحسوسات في تلك القوى فتشاهدها النفس فيها.

وعلى هذا لا تكون بين الإحساس والعلم الحضوري للنفس مغايرة حتّى يقال باشتمال الإحساس على زيادة لا يوجد في العلم الحضوري.

ثمّ لو سلّم أنّ الإحساس ليس علما حضوريا للنفس ، بل هو إدراك خاصّ لقوّة خاصّة ـ أي علم شهودي انكشافي لتلك القوّة ـ نقول : لا ريب في أنّ ما يشتمل عليه إحساس البدن بالقوّة الباصرة مثلا من الزيادة بالنسبة إلى العلم الحضوري للنفس به إنّما هو لوجود العلاقة والارتباط للنفس بالنسبة إلى البدن المطلق دون عوارضه ولو كان لها ارتباط بالنسبة إلى العوارض أيضا لكان علمه الحضوري بالبدن كالإحساس في التمامية والظهور أو أقوى منه.

وعلى هذا نقول : إنّ بين الواجب وبين جميع الأشياء الخارجية من المجرّدات والمادّيات من جواهرها (١) وأعراضها ولواحقها ومتعلّقاتها ارتباط العلّية والمعلولية ، وهو أقوى الارتباطات والعلاقات ؛ فيكون علمه الحضوري بجميعها في التمامية والظهور والجلاء أقوى من إحساسنا بمراتب ؛ فما يحصل للنفس من الإدراكات الحصولية والحضورية بواسطة قواها النظرية والباطنة والظاهرة يحصل للواجب بذاته لذاته من دون حاجة إلى شيء آخر لكمال قوّته وعلوّ قدرته ؛ فذاته عين العلم بالكلّ من الحقائق المجرّدة والمادّية والوجودات

__________________

(١). س : جوارها.

٣٦٢

العينية من المبصرات والمسموعات والمذوقات والمشمومات والملموسات ؛ [و] هو المبدأ والمنشأ للعلم الحصولي والحضوري بالكلّ ؛ وأمّا النفس فلقصورها ونقصانها وعدم ارتباطها بالأشياء العينية يفتقر في العلم بالأشياء إلى قوى زائدة على ذاتها ؛ فيفتقر إلى بعضها لإدراك الحقائق وإلى بعضها لإدراك المعاني الجزئية وإلى بعضها لإدراك وجودات الأشياء العينية من المبصرات والمسموعات وغير ذلك هو المعبّر عنه بالإحساس ؛ وهذا التفصيل والتوضيح في علم النفس يقرّر ويؤكّد ما قرّرناه من ثبوت العلمين ـ أعني الحصولي والحضوري ـ كليهما للواجب ، كما أشرنا إليه في ما سبق. / B ١٥١ /

[في كلامه تعالى]

قد تواتر من الأنبياء وأطبقت الشرائع كلّها على أنّه تعالى متكلّم ؛ إذ ما [من] شريعة إلّا ورد فيها أنّه سبحانه أمر بكذا ونهى عن كذا وأخبر بكذا ؛ وكلّ ذلك من أقسام الكلام ؛ وقد اختلفوا في معنى كلامه وفي قدمه وحدوثه على أقوال لا حاجة لنا إلى ذكرها ، بل نشير إلى ما هو الحقّ عندنا.

فنقول : الكلام يطلق على ثلاثة معان :

أحدها : القدرة على إحداث الأصوات والحروف في جسم من الأجسام وقوّة إلقائها إلى الغير.

وثانيها : نفس هذا الإحداث والإلقاء ؛ وهو المعنى المصدري.

والغالب اختصاص كلّ من هذين المعنيين باسم التكلّم دون الكلام سيّما المعنى الأوّل.

وثالثها : ما به التكلّم ؛ أي نفس الحروف والأصوات.

ثمّ لا ريب في أنّ تكلّمه سبحانه بالمعنى الأوّل هو بعينه قدرته على خلق

٣٦٣

الأصوات والحروف في بعض الأجسام ؛ فكونه متكلّما بهذا المعنى هو كونه قادرا على إحداث الكلام في جسم من الأجسام ، كما أن إطلاق المتكلّم بهذا المعنى علينا باعتبار قوّتنا على إحداث الكلام في بعض الأجسام التي لنا قدرة على تحريكها ، كالهواء وغيره.

ثمّ هذه (١) القدرة والقوّة وهو التكلّم بالمعنى الأوّل هي منشأ التكلّم بالمعني الثاني ؛ إذ إحداث الحروف والأصوات فرع القدرة عليه ؛ وهذه القدرة فينا ملكة قائمة بذواتنا نتمكّن بها من إلقاء ما في روعنا إلى الغير بإحداث الحروف والأصوات في الهواء ؛ وفي الواجب عين ذاته ، بمعنى أنّ ذاته بذاته هو منشأ إحداث الأصوات والحروف ومناط إيجادها من دون افتقار إلى صفة زائدة وملكة قائمة ، فيخلّفها في أىّ جسم يريد لإفادة ما في قضائه السابق على من يشاء من عباده.

وعلى هذا يكون التكلّم بهذا المعنى عين ذاته سبحانه ؛ أي ذاته بذاته هو منشأ الإلقاء الفعلي ؛ أي إحداث الحروف والأصوات في جسم من الأجسام لإعلام الغير.

وبما ذكر ظهر أنّ المتكلّم من قام به التكلّم ؛ وهذا أحد المعنيين الأوّلين ، لا من قام به الكلام ـ أي ما به التكلّم ـ أعني الحروف والأصوات.

ثمّ لا ريب في أنّ التكلّم بالمعنى الأوّل ـ أي / A ١٥٢ / القدرة على إيجاد الأصوات والحروف في جسم من الأجسام لإعلام الغير ـ ثابت له بالشرع والعقل ، لدلالة أدلّة عموم القدرة عليه ؛ وهو قديم ؛ لأنّه عين ذاته ؛ إذ معنى قدرته على إيجاد الأصوات والحروف أنّ ذاته بذاته منشأ لإيجادهما ، كما أنّ معنى قدرتنا عليه أنّ فينا ملكة قائمة بذواتنا بها نمكّن (٢) من إفادة مخزوناتنا العلمية إلى غيرنا.

__________________

(١). س : هذا.

(٢). س : يتمكن.

٣٦٤

وأمّا التكلّم بالمعني الثاني ـ أي إحداث الصوت والحروف بالفعل لإعلام الغير ـ فلا ريب في حدوثه وثبوته بالشرع دون العقل ؛ إذ لا طريق للعقل إلى إثبات تحقّق الإلقاء الفعلي عنه سبحانه وإنّما عرف من الشريعة النبوية بما ورد فيها بالتواتر القطعي المؤكّد بالمعجزات من أنّ الواجب تعالى أنزل ما أنزل من الكتب إلى أنبيائه وأوجد الكلام في ما أوجد لإعلام بعض أصفيائه.

وبعد ثبوت التكلّم بالمعني الثاني يثبت الكلام بالمعني الثالث أيضا ؛ لأنّ (١) التكلّم الفعلي لا ينفكّ عمّا به التكلّم من الأصوات والحروف ؛ فهو أيضا حادث.

وبما ذكر ظهر أنّ قول العلّامة الطوسي : «وعمومية قدرته يدلّ على ثبوت الكلام» إشارة إلى إثبات الكلام بالمعنى الأوّل ؛ يعني أنّ قدرته شاملة لجميع الممكنات ومن جملتها إلقاء الكلام ـ بمعنى الحروف والأصوات ـ الدالّ على المعنى المراد إلى الغير ، لأنّ إعلامه (٢) بعموم قدرته يدلّ على الكلام بمعنى قوّة الإلقاء ، والثابت من عبارته إنّما هو هذا المعنى فقط وأمّا التكلّم بمعنى نفس الإلقاء المستلزم لما به التكلّم إنّما يثبت من الشرع.

فبالعقل والشرع يثبت الكلام بمعانيه الثلاثة ؛ أعني قوّة الإلقاء الثابت بالفعل ونفس الإلقاء وما به التكلّم اللازم له ، وهما ثابتان بالشرع.

[في ابتهاجه تعالى وحبّه]

أجلّ مبتهج بشيء هو الواجب تعالى ؛ أي هو مبتهج بذاته وصفاته وأفعاله من حيث إنّها صادرة منه ومترشّحة عنه ابتهاجا لا يمكن حصول شبهه وما يدانيه ، بل ما له نسبة متناهية إليه لأحد من الذوات النورية والجوهر القدسية والعقول القادسة والنفوس الكاملة ؛ والمراد بابتهاجه نظير ما يعبّر عنه في حقّنا باللذّة

__________________

(١). ن : ان.

(٢). س : الغير لا علامه.

٣٦٥

/ B ١٥٢ / والفرح ؛ فإنّ ابتهاجه بهذا المعنى بجمال ذاته وكمالاته وأفعاله من حيث إنّها بصفاته ورشحات جوده ولوازم وجوده بحيث لا يدخل تحت وصف.

ثمّ المعروف من تعريف الابتهاج أو اللذّة أو مثلهما من الألفاظ أنّه إدراك الملائم ومقابله ـ أعني الألم ـ هو إدراك المنافر.

وقال (١) الشيخ : «اللذّة هي إدراك ونيل لوصول ما هو عند المدرك كمال وخير من حيث هو كذلك ؛ والألم هو إدراك ونيل لوصول ما هو عند المدرك آفة وشرّ.» (٢)

وقال المحقّق الطوسي في شرح هذا الكلام : «وكأنّه لم يقتصر على الإدراك واعتبر معه النيل ـ أعني الإصابة والوجدان ـ أيضا ؛ لأنّ إدراك الشيء قد يكون بحصول صورة تساويه ، ونيله لا يكون إلّا بحصول ذاته ؛ واللذّة لا تتمّ بحصول ما يساوي اللذيذ ، بل إنّما تتمّ بحصول ذاته ؛ وإنّما لم يقتصر على النيل لأنّه لا يدلّ على الإدراك إلّا بالمجاز ؛ وإنّما قال : «لوصول ما هو عند المدرك» ولم يقل : «لما هو عند المدرك» لأنّ اللذّة ليست هي إدراك اللذيذ فقط ، بل هي إدراك حصول اللذيذ للملتذّ ووصوله إليه ؛ وإنّما قال : «ما هو عند المدرك كمال وخير» لأنّ الشيء قد يكون كمالا وخيرا بالقياس إلى الشيء وهو لا يعتقد كماليته وخيريته ؛ فلا يلتذّ به ؛ وقد لا يكون كذلك وهو يعتقده ؛ فيلتذّ به ؛ فالمعتبر كماليته وخيريته عند المدرك لا في نفس الأمر.» (٣)

وكأنّ ما ذكره الشيخ لا يخلو عن مناقشات وتكلّفات. فما هو المشهور في تعريفهما من إدراك الملائم أو الكمال أو الخير والمؤثر من حيث هو كذلك وإدراك المنافر أو النقص أو الشرّ أقرب إلى التحصيل.

__________________

(١). س : قا.

(٢). الإشارات والتنبيهات ، ج ٣ ، ص ٣٣٧.

(٣). المصدر السابق ، ص ٣٣٨.

٣٦٦

ثمّ الظاهر من التعريف ـ كما ترى ـ أنّ اللذّة أو البهجة هو مجرّد إدراك الملائم والكمال ، والألم مجرّد إدراك المقابل لا ما يتبع هذا الإدراك من الصفة والحالة التي تشاهد فينا بعد إدراك الملائم والمنافر من الهيئة والحالة الانفعالية المعبّر عنها بالاهتزاز والفرح أو السرور أو الغبطة أو أمثال ذلك ؛ فإنّ ما يتصوّر زيادته على نفس الإدراك في كلّ واحد من الإدراكات الحسّية والوهمية والعقلية ليس إلّا هذا المعنى المعبّر عنه بالسرور ومثله كاهتزاز النفس و/ A ١٥٣ / نشاطها وغير ذلك ؛ وربّما تبعت بعض الإدراكات العقلية حالات ملذّة وابتهاجات نورية لم يكن نفس الفرح والسرور ، بل هي حالات لا يمكن أن يخبر عنها بالاسم والتعريف ، بل يتوقّف إدراكها على الوصول إليها بالوجدان ؛ والمستفاد من التعريف أنّ المناط في حقيقة اللذّة والألم هو إدراك الملائم والمنافر سواء تبع هذا (١) الإدراك حالة اخرى أم لا ومع المباينة يسمّى هذا (٢) الإدراك مع ما لا ينفكّ عنه من الحالة لذّة دائما ولا يختصّ اسم اللذّة والألم بتلك الحالة فقط دون متبوعه ؛ وعلى أىّ تقدير لا ريب في أنّ ما يزيد على الإدراك فينا ـ أىّ معنى كان ـ هيئة انفعالية مكملة (٣) لنا والواجب سبحانه منزّه عن مثله. فالابتهاج فيه تعالى نفس الإدراك الأتمّ (٤) مدركا وإدراكا وهو أجلّ الابتهاجات ، وليس هو مجرّد الإدراك ، بل الملائم من حيث هو كذلك. فالبهجة في حقّه تعالى نفس تعقّله ما هو ملائمه وكماله ؛ أعني ذاته وما يصدر عنه من حيث إنّه صادر عنه.

وبالجملة : ابتهاجه تعالى إمّا مجرّد تعقّله المذكور أو مع ما يتبعه ممّا يليق بشأنه تعالى من صفة إضافية ناشية من تعقّله الناشي من محض ذاته بأن لا يكون ممّا يوجب الانفعال والاستكمال ويعبّر عنه بالبهجة والرضاء والبهاء وأمثالها.

__________________

(١). س : هذ.

(٢). س : هذ.

(٣). س : مكلمة.

(٤). س : الادتم.

٣٦٧

والتحقيق : أنّ مفهوم الابتهاج في حقّه المغاير لمفهوم الإدراك ويترتّب عليه ترتّب اللازم على الملزوم وإن كان المصداق واحدا ؛ ويعبّر عن ابتهاجه بالرضاء والمحبّة والعشق والإرادة ؛ فكلّ هذه الامور في حقّه تعالى يرجع إلى ابتهاجه بذاته وبما يصدر عنه من حيث إنّه فعله ومعلوله ورشحة جوده وفيض وجوده ؛ وإطلاق هذه الأسامي عليه تعالى وان كان إطلاقا حقيقيا بحسب وضع اللغة إلّا أنّها إذا اطلقت على الله وعلى غيره لم يطلق عليهما بمعنى واحد في درجة واحدة حتّى أنّ اسم الوجود الذي هو أعمّ الأشياء اشتراكا لا يشتمل الواجب والممكن على نهج واحد ؛ إذ الوجودات الإمكانية أظلال وأشباح للوجود الحقّ ، ومع ذلك ليس إطلاق الوجود على ما سوى الله مجازا لغويا ، بل مجازا عرفانيا ؛ وهكذا الحكم / B ١٥٣ / في ساير الأسماء والصفات ، كالعلم والقدرة والإرادة وغيرها ؛ فإنّ كلّ ذلك لا يشبه فيه الخلق بالخالق ؛ والواضع إنّما وضع هذه الأسامي أوّلا للخلق ثمّ وقع الانتقال منها إليه تعالى ؛ فالبهجة واللذّة والرضاء والمحبّة والعشق في حقّ الخلق يصحبها نقص وقصور وشين وفتور ؛ وأمّا في حقّ الخالق فهي مقدّسة عن النقائص الإمكانية ، بل على نحو لا يوجب انفعالا وتغيّرا وحدوثا وتبدّلا.

ثمّ لبيان أنّ ابتهاجه سبحانه أجلّ الابتهاجات وأشدّها ، بل لا نسبة لأجل بهجة متصوّرة (١) لشيء من عوالى الموجودات الإمكانية إلى بهجته نقول : إنّ الابتهاج ـ كما عرفت ـ هو إدراك الكمال الذي هو الملائم ؛ وهو حسّي وخيالي وعقلي.

فاللذّة الحسّية هي ما يصل إلى النفس بوساطة الحواسّ الظاهرة من الحالة الانفعالية الملذّة عند الإبصار والاستماع والشمّ والذوق واللمس.

والخيالية والوهمية ما يصل إليها بتوسّط الخيال والوهم من الهيئة الملذّة عند

__________________

(١). س : متصور.

٣٦٨

تخيّل الصور الملائمة وتوهّم المعاني الجزئية الموافقة الموجبة للرجاء.

ثمّ الملائم المحسوس أو المتوهّم أو المتخيّل إن كان ملائم القوّة الغضبية كالغلبة أو توهّمها (١) كان التذاذ النفس به لأجل قوّتها الغضبية ؛ وإن كان ملائم القوّة الشهوية كأكل ما تشهيه ومباشرة ذات جمال أو توهّمهما كان التذاذها به لأجل قوّتها الشهوية.

والعقلية ما يصل إليها من الابتهاج عند تعقّل المعاني الكلّية النورية أو ملاحظة الذوات المجرّدة بالمشاهدة الحضورية بتوسّط قوّتها النظرية من دون افتقارها إلى ساير القوى.

ثمّ كلّ واحد من هذه اللذّات الثلاث ومقابلاتها من الآلام يختلف بحسب اختلاف الإدراك والقوى المدركة والمعنى المدرك (٢). فلذّة الطعام والجماع يختلف بحسب اختلاف قوّة شهوتهما وبحسب اختلاف الطعام والموطوء طيبا وجمالا وبحسب اختلاف الإدراك شدّة وضعفا ؛ فلذّة النظر إلى الوجه الجميل على قرب وفي موضع مضيء أتمّ من لذّته عنه على بعد وفي موضع مظلم ؛ لأنّ إدراك الشيء على قرب وفي الضوء أتمّ من إدراكه على بعد وفي الظلمة ؛ / A ١٥٤ / وقس على ذلك حال اللذّة الوهمية والعقلية والآلام الثلاثة ؛ فكلّما كان القوّتان ـ أي الوهمية والعاقلة ـ أقوى وإدراكهما أشدّ ظهورا وجلاء بالنظر إلى عدم الشاغل ورفع المانع ، والمعنى المتوهّم أو المعقول أشرف وأحسن كان لذّتهما أقوى ؛ وكذا حال آلامهما.

ثمّ هذه اللذّات الثلاثة ومقابلاتها مختلفة بحسب الجنس أيضا ؛ إذ لا ريب في أنّ القوّة كلّما كانت أقوى في نفسها وأشرف في جنسها كان لذّتها أقوى ؛ وعلى هذا فلذّة العقليات أقوى من لذّة الوهميات والمتخيّلات ، ولذّتهما أقوى من لذّة

__________________

(١). س : توهمهما.

(٢). س : الدرك.

٣٦٩

الحسّيات ؛ إذ القوّة العقلية أشرف من الوهمية والوهمية من الحسّية ؛ وكذا لذّة درك الحقائق الكلّية والذوات النورية والتفرّد بمناجات الله والتجرّد (١) إلى جناب قدسه والوصول إلى لقائه والاستغراق في لجّة انسه أحبّ عند كلّ كامل بهيّ النفس رزين العقل (٢) من لذّة الرئاسة والجاه والغلبة على الأعداء وهو من لذّة الهريسة (٣) والحلواء والجماع بالمليحة الحسناء والجميلة العذراء.

وبالجملة : كلّ من أدرك حقائق اللذّات الثلاث يستحقر لديه الحسّية عند الوهمية والوهمية عند العقلية ؛ ولذا يرى أنّ لذّة الغلبة المتوهّمة ولو في أمر خسيس كالنرد والشطرنج ربّما يؤثر على لذّة مطعوم أو منكوح يظنّ أنّها أقوى اللذّات الحسّية ولذّة نيل الحشمة والجاه يؤثر عليها أيضا والكريم يؤثر لذّة إيثار الغير على نفسه في ما يحتاج إليه ضرورة على لذّة التمتّع به وكبير النفس يؤثر لذّة الكرامة المتوقّعة من محافظة ماء الوجه أو من الإقدام على الأهوال مع عدم العلم بنيلها على اللذّات الحسّية إلى حدّ يتحمّل آلام الجوع والعطش ويقاسي أهوال الموت والهلاك معها ؛ ولا يختصّ ذلك بالإنسان ، بل في الحيوانات ما يشاركه في ذلك ؛ فإنّ كلب الصيد يؤثر اللذّة الوهمية التي ينالها من توقّع إكرام صاحبه إيّاه على لذّة أكل الصيد والراضعة من الحيوانات يؤثر اللذّة الوهمية التي تجدها من توهّم سلامة ولدها على لذّة سلامة نفسها ؛ (٤) وربّما كان وقوعها في المخاطرات والأهوال لحماية ولدها أعظم كثيرا من وقوعها فيها / B ١٥٤ / لحماية نفسها.

فظهر أنّ اللذّات الحسّية الباطنة أعظم وأقوى من الحسّية الظاهرة ؛ فتكون العقلية أقوى من الباطنة بمراتب أولى وأظهر.

وممّا يدلّ على أنّ اللذّة العقلية أقوى من الحسّية وقسيمها (٥) أنّ الحسّية

__________________

(١). س : تجليه إليه.

(٢). رزين العقل : أصيل الرأي.

(٣). الهريسة : طعام يعمل من الحبّ المدقوق واللحم.

(٤). انظر : الإشارات والتنبيهات ، ج ٣ ، صص ٣٣٦ ـ ٣٣٤.

(٥). س : الحسية بقسيمها.

٣٧٠

لا تكون إلّا في آلة جسمية وهي قد يفسد بإدراك مدركاتها القويّة ؛ فإنّ لذّة العين في الضوء وألمها في الظلمة ؛ والضوء القويّ يفسدها وكذا الصوت القويّ يفسد السمع ؛ وأمّا القوّة العقلية فلقيامها بنفسها وبرائتها عن التغيّر والاستحالة يتقوّى ويزداد نورا بإدراك مدركاتها القويّة وكلّما أدركت معنى عقليا أجلى وأقوى صارت قوّته أكثر ؛ وهي أقرب الموجودات الأرضية إلى الحقّ الأوّل وأشدّها مناسبة له.

وممّا يدلّ أيضا على المطلوب أنّ العقل يدرك الشيء على ما هو عليه وينال حاقّ جوهرة ولبّ ذاته مجرّدا عن القشور والمقرّبات ؛ وأمّا الحسّ فلا يدرك جوهر الشيء مجرّدا عن قرائبها القريبة ، بل إنّما يدرك الأشياء مختلطة مشوبة بغيرها ؛ فلا يحسّ باللون ما لم يحسّ معه الطول والعرض والوضع والأين وامور اخرى خارجة عن حقيقة اللون.

وأيضا إدراك العقل يطابق ما عليه المدرك في الواقع ولا يتفاوت ، وإدراك الحسّ يتفاوت ؛ فيرى الشيء الواحد مختلفا في العظم والصّغر لأجل اختلاف القرب والبعد ؛ وقد يغلط بحيث يرى العظيم (١) في غاية العظمة صغيرا في غاية الصغر ؛ فإنّه يرى الشمس بقدر اترجّة (٢) مع أنّه يقرب مائة وسبعين مثلا لمقدار كرة الأرض والعقل إذا راعى القوانين المرآتية وخلص عن القوّة الوهمية لا يقربه الغلط والخطأ ؛ وقد تقدّم أيضا أنّ مدركات العقل الذوات المجرّدة النورية وذات الحقّ الأوّل الذي يصدر عنه كلّ كمال وجمال وبهاء وجلال والماهيّات الكلّية الأزلية ، ومدركات الحسّ الأجسام وعوارضها ولواحقها ؛ ولا ريب في أنّ المدرك كلّما كان أشرف وأكمل كان اللذّة أقوى وأتمّ ؛ فإذن لا قياس للذّات الحسّية إلى العقلية.

__________________

(١). س : العظيمة.

(٢). أترجة : ثمر شجر معروف ، ذو رائحة طيّبة.

٣٧١

فإن قيل : لذّة أكثر الناس بالحسّيات من المطاعم والمناكح وبالرئاسات الوهمية وآلامهم / A ١٥٥ / بفقدها أشدّ من لذّتهم بالعلوم وألمهم بالجهل.

قلنا : قد يحصل للإنسان موجب اللذّة ولا يشعر بها لغفلته عنه أو اشتغاله بغيره ، كالمتوغّل في الكفر ؛ فإنّه لا يشعر بما يذكر عنده ويسمعه من الألحان والنغمات الطيّبة ؛ فلا يلتذّ بها أو لآفة غيّرت مزاجه ؛ فلا يحسّ لشهوة الطعام كالذي عرض له بوليموس أو لضعف القوّة المدركة كالبصر الضعيف ، فإنّه لا يلتذّ بالضوء ، بل يتأذّى به وإن كان موافقا لذيذا بالنسبة إلى البصر السليم.

وعلى هذا نقول : سبب كون اللذّة الحسّية في الأكثر أقوى وأشدّ من العقلية خروج أنفسهم عن مقتضى الأصل ، لأجل الإلف بالمحسوسات والمادّيات وعروض ما أخرجها عن جبلّتها وحقيقتها من العادات الرديّة والآفات العظيمة والعوارض المنافية لجوهرها وصحّتها ؛ فهذه الآفات والعوارض لها بمنزلة المرض والخدر (١) للعضو ؛ فكما أنّ العضو الخدر لا يحسّ بالنار المحرقة وإذا زال الخدر أحسّ بها فكذلك عوارض البدن وعوائق المحسوسات أوجبت للنفس مرضا يمنعه عن الالتذاذ بما هو ملائم لأصلها وموافق لجوهرها ، وإذا زالت (٢) تلك العوارض بمفارقة النفس عن البدن أدرك لذّة العلم إن كان عالما حسن الخلق وألم الجهل إن كان جاهلا رديّ الخلق.

وإذ ظهر أنّ اللذّة العقلية أقوى من اللذّتين الاخريين وأنّ مراتب العقلية مختلفة باختلاف العقل والعاقل والمعقول ؛ فكلّما كان العاقل أقوى وتعقّله أشدّ وأجلى ومعقوله أشرف وأجلّ كان لذّته أقوى وأتمّ ؛ فيظهر من ذلك أنّ الواجب تعالى أجلّ مبتهج بشيء ؛ لأنّه عاقل لذاته على ما هو عليه من البهاء والجمال ولما ينشأ من ذاته ـ أي النظام الأعلى ـ من حيث إنّه ينشأ منها ؛ فهو من حيث كونه

__________________

(١). الخدر : التشنّج ، والكسل والفتور.

(٢). س : ازال.

٣٧٢

عاقلا أجلّ الأشياء وأعلاها وأشدّها قدرة وأقواها ، ومن حيث كونه عقلا أشدّ التعقّلات وأعلاها وأظهرها وأجلاها ، ومن حيث كونه معقولا أشرف المعقولات وأبهاها وأرفعها وأسناها (١) ؛ فهو إذن أقوى عاقل لأجلّ معقول بأتمّ تعقّل بما هو عليه من الكمال والجلال.

ثمّ قياس ابتهاجه / B ١٥٥ / أيضا إلى ابتهاج غيره من الملائكة والعقول والنفوس الفلكية والإنسانية كقياس كماله إلى كمالهم ؛ فزيادة ابتهاجه تعالى بجمال ذاته وباستيلائه على الكلّ علما وعينا على ابتهاج غيره بقدر أشرفية ذاته وزيادة استيلائه العلمي والعيني على ذاته واستيلائه ؛ وأنت تعلم أنّ هذه الزيادة تزيد على الغير المتناهي بقدر الغير المتناهي ، إذ لا نسبة للذات الممكن المعلول مع استيلائه العلمي المفاض عن علّته والعيني المستفاد مع تعلّقه بالبعض دون الكلّ مع الذات الواجب الموجد للكلّ المستولي على الكلّ علما (٢) وعينا بالاستيلاء الذاتي.

كيف وقد يعاضد البرهان والعيان على أنّ ابتهاج المجرّدين ـ من الملائكة المقرّبين والعقول القادسة ـ والنفوس ـ من الفلكية والإنسانية ـ بملاحظة جمال الحضرة الربوبية ومطالعة جلال جناب الألوهية أزيد وأشدّ كثيرا من ابتهاجهم بأنفسهم؟!

ولذا قال بعض العارفين : لو لم يكن له تعالى من الابتهاج بإدراك جماله إلّا ما لنا من اللذّة بعرفانه مهما قطعنا النظر عن غيره وتوجّهنا شراشرنا إلى جناب قدسه (٣) واستشعرنا ما يمكننا أن ندركه من عظمته وجلاله وبهائه وجماله وصدور الكلّ منه على أحسن ترتيب وانتظام وانقياد الجميع على طريق التسخير الجعلي ودوام ذلك أزلا وأبدا من غير إمكان تبدّل وتغيّر لكان لا يقاس بها لذّة مع

__________________

(١). س : اشياها.

(٢). س : علماء.

(٣). س : قدسيه.

٣٧٣

أنّ إدراكه لذاته لا يناسب بوجه إدراكنا ؛ لأنّا لا ندرك من ذاته وصفاته إلّا امور جميلة يسيرة.

ثمّ لمّا عرفت أنّ الابتهاج والعشق والحبّ والرضاء والسرور وأمثالها ألفاظ متقاربة متّحدة المدلول وهو العلم بكمال الشيء وجماله مع ما يلزمه من الحالة البهيّة النورية ؛ وتلك الحالة في الحقيقة راجعة إلى العلم بحيثية كونه كمالا وخيرا ومؤثرا ؛ فحقيقة العشق والحبّ والابتهاج ومثلها هو إدراك المؤثر من حيث إنّه مؤثر ؛ فإدراك الكمال يوجب حبّه ، لكون الكمال مؤثرا.

فعلم أنّ الأوّل تعالى عاشق ومحبّ لذاته ولما صدر عنه من النظام الجملي من حيث إنّه تابعة ولازمة ورشح ذاته وفيض / A ١٥٦ / وجوده على وجه واحد ثابت مستمرّ ؛ لأنّه تعالى مبتهج بهما ولكن على نحو مقدّس عن الانفعال والتغيّر والتجدّد كما يليق بذاته الواجبة وصفاته الكمالية ؛ فالعشق والحبّ في حقّه بمعناهما الحقيقي وليس بمجاز عن إيصال الثواب للطاعات كما زعمه الزمخشرى وجماعة من المتكلّمين.

نعم ـ كما أشرنا إليه ـ إطلاق الأسماء والصفات على الواجب وغيره مع كونه حقيقة فيهما ليس بمعنى واحد في درجة واحدة ؛ فالوجود والعلم والقدرة والإرادة ليس إطلاقها على الواجب والممكن على نهج واحد وإن كان حقيقتا فيهما ؛ لأنّها في الواجب قائمة بذاتها ؛ لأنّها عينه تعالى وفي غاية التمامية والكمال ، ولا يشوبه نقص وقصور وزوال ولا تغيّر وتجدّد وتبدّل الحال ؛ وفي الممكن أظلال وأشباح لوجود الحقّ وصفاته ، ومشوبة بالقصور والنقائص والتجدّد والتغيّر والأعدام. فالمحبّة في حقّ الخلق يصحبها نقص وقصور ؛ وأمّا في حقّ الخالق سبحانه فمنزّهة عن التغيّر والقصور والتجدّد والفتور.

٣٧٤

فحاصل معنى محبّة الله سبحانه لخلقه (١) ـ كما أشير إليه سابقا ـ أنّ من أحبّ ذاتا تامّة فوق التمام في جميع الكمالات لا بدّ أن يحبّ ما ينشأ من هذه الذات بذاته من اللوازم والآثار المنبعثة عنه من دون مدخلية للغير. فإن كان لتلك اللوازم والآثار حيثية اخرى سوى كونها لوازما وآثارا لهذه (٢) الذات يمكن أن تتعلّق بها محبّة استعلائية لأجل تلك الحيثية الاخرى التي هي غير جهة كونها لازمة وتابعة ؛ وأمّا إذا لم تكن لهذه اللوازم والتوابع حيثية سوى كونها توابع ولوازم كما هو الشأن في حقائق الممكنات بالقياس إلى الوجود الحقّ الأوّل ؛ فلا يمكن تعلّق الابتهاج بها إلّا من جهة الابتهاج بالذات ؛ فابتهاجه سبحانه بمخلوقاته يرجع إلى الابتهاج بذاته ، بل ابتهاج كلّ أحد بلوازم الحقّ الأوّل وتوابعه وآثاره هو الابتهاج بذاته. ألا ترى أنّ من أحبّ عالما أحبّ تصنيفه من حيث إنّه تصنيفه ، وجميع العالم بأجزائه وجزئياته ووجوداته وحقائقه وصوره وهيئاته وعوارضه تصنيف الله / B ١٥٦ / تعالى بلا حيثية اخرى.

ولمّا ثبتت محبّته تعالى لذاته وهي عين علمه بذاته المستجمعة لجميع الكمالات من حيث إنّها مستجمعة فتثبت محبّته للوازمه وتوابعه التي هي الموجودات الإمكانية بأسرها ؛ ولمّا كان وجود الممكن في نفسه وكونه أثرا من آثار قدرته تعالى أمرا واحدا بلا اختلاف ؛ إذ الوجودات الإمكانية هي ارتباطات وجود الحقّ وتجلّياته وجهات كمال جوده وحيثيات فيض وجوده ؛ فابتهاجه بذاته ينطوي فيه ابتهاجه بجميع لوازمه وآثاره ، (٣) كما أنّ علمه بها ينطوي في علمه بذاته.

ثمّ لمّا كانت الوجودات الإمكانية متفاوتة في الكمال والنقص والشرافة والخسّة والقرب والبعد بدوا وعودا من الوجود الحقّ ؛ فتكون محبّته تعالى بالنسبة

__________________

(١). س : + انه.

(٢). س : لهذا.

(٣). س : + و.

٣٧٥

إليها متفاوتة ؛ فأحقّها بها أشرف الممكنات وأقربها إليه في إحدى السلسلتين. ثمّ يتلوه في المحبّة ما يتلوه في درجات الشرافة والكمال والقرب [إلى] الحقّ المبدأ الفعّال وهكذا إلى أن ينتهى إلى أخسّ الموجودات وأضعفها وأبعدها من الحقّ الأوّل في سلسلة البدو وهو الهيولى الأولى أو إلى أشقى الأشقياء وأرذل المخلوقات في سلسلة العود وهو الشيطان ؛ ولا يلزم من التفاوت في محبّة الله سبحانه بالنسبة إلى خلقه اختلاف وتغيّر ونقص في ذاته ؛ إذ معنى محبّته للشيء ـ كما عرفته ـ إدراكه له من حيث إنّه مؤثر ؛ فإدراك كلّ كامل وكمال محبّته ؛ لأنّه مؤثر. فمعنى كون أحد الشيئين أحبّ إليه من الآخر أنّه مدرك له بعنوان أنّه أكمل وأخير وآثر من الآخر لا يلزم في ذلك اختلاف وتعيّن في علمه أو ذاته. نعم لو كان محبّته هو الإدراك المذكور مع ما يترتّب عليه ممّا يشاهد فينا من الهيئة الانفعالية لزم التغيّر والاختلاف في ذاته وكونه محلّا لانفعالات مختلفة.

وقد عرفت أنّ ما يسند إليه سبحانه من البهجة والرضاء والحبّ والعشق والإرادة وغيرها من الألفاظ المختلفة الراجعة إلى معنى واحد متقدّس عن ذلك ؛ فله سبحانه حبّ عامّ لجميع ما صدر عنه وهو كونه مدركا من حيث كونه لازما / A ١٥٧ / له صادرا عنه ؛ فإنّه من هذه الحيثية ـ أي حيثية تابعيته (١) له تعالى وترشّحه منه وكونه مبدأ له خير وكمال ؛ فإدراكه من حيث اللزوم والتابعية إدراك للمؤثر من حيث إنّه مؤثر ؛ وحبّ خاصّ لبعض عباده وهو كونه مدركا له من حيث إنّه أكمل وفي مراتب الوجود إليه أقرب ؛ ولا ريب في أنّ أكمليته وأقربيته إليه سبحانه يوجب زيادة كشف الحجاب عن قلبه حتّى يراه بباطنه وزيادة الإفاضات الملكوتية والابتهاجات الروحية عينه ، بل زيادة يمكّنه من التصرّف في موادّ الكائنات. فحبّه الخاصّ لبعض عباده يرجع إلى كشف الحجاب عن قلبه

__________________

(١). س : مانعيته.

٣٧٦

والفوز بلقائه والوصول إلى رؤيته ومشاهدته لا إلى ميله تعالى إليه ليستريح بمشاهدته أو يزيل توحشّه بأنّه (١).

ثمّ الباعث لحبّه الخاصّ بالنسبة إلى بعض عباده ؛ أي كشف الحجاب عن قلبه وتمكينه من القرب إليه إن كان قوّة استعداده ؛ فيكون حبّه تعالى له أزليا ؛ بمعنى أنّه يستند إلى إرادته الأزلية وعلمه بنظام الخير ؛ ويسمّى ذلك بالفيض الأقدس وإليه اشير بقوله عليه‌السلام : «السعيد سعيد في الأزل» وإلى مقابله بقوله : «الشقىّ شقيّ لم يزل» (٢) وان كان فعل العبد الصادر عن توفيق الله وهدايته وتسهيله فسبيل الحقّ الذي يكشف به الحجاب عن قلبه كان حبّه تعالى له حادثا بحدوث السبب المقتضي له المسمّى بالفيض المقدّس وإليه اشير بقوله تعالى : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) (٣) ؛ فيكون اشتغال العبد بالنوافل وتوفيقه تعالى إيّاه له سببا لصفاء باطنه وارتفاع الحجاب عن قلبه ووصوله إلى مرتبة قربه ؛ وكلّ ذلك من محبّة الله ولطفه.

وإيّاك أن تفهم ممّا (٤) ذكرنا من كون هذا القسم من المحبّة حادثا أنّ ما هو صفته تعالى محدث ؛ فيلزم أن يكون محلّا للحوادث ، تعالى عن ذلك ، بل المراد منه أنّ سبب هذه المحبّة الخاصّة لمّا كان حادثا في وقت خاصّ فيكون تعلّق المحبّة ـ أي تعلّق العلم ـ بكون (٥) هذا العبد خيرا كاملا في هذا الوقت لا بمعني حدوث هذا العلم للواجب في هذا الوقت ، بل بمعنى كونه عالما في / B ١٥٧ / الأزل بأنّ هذا العبد يصير خيرا مستحقّا للقرب والوصول إلى درجة اللقاء في وقت كذا بسبب كذا من دون تغيّر وتجدّد في علمه هذا أزلا وأبدا ، كما في علمه بسائر الحوادث الجزئية ؛ هذا.

__________________

(١). كذا في الأساس.

(٢). شرح الأسماء الحسنى ، ج ٢ ، ص ٨٤ ومع تفاوت ما في : شرح اصول الكافي (للمولى محمّد صالح المازندراني) ، ج ١ ، ص ٢٣٥ ؛ ج ٩ ، ص ٣٧٥ ؛ ج ١١ ، ص ٤٥٥ وشرح الأسماء الحسنى ، ج ١ ، ص ٢٦٢.

(٣). الرعد / ٣٩.

(٤). س : فا.

(٥). س : يكون.

٣٧٧

وقد أورد أبو حامد الغزالي مثالا يظهر به الفرق بين المحبّة التي بحسب تنزيه الله تعالى عنه وبين المحبّة الخالية عن النقص التي نصف الله تعالى بها وهو أنّ الملك قد يقرب عبده من نفسه ويأذن له في كلّ وقت أن يحضر بساطه ويحاوره لميل الملك ورغبته إليه إمّا ليستريح برؤيته أو يستشيره في بعض اموره أو يلتذّ بمكالمته ومحاورته أو يهيّئ له أسباب شرابه وطعامه أو غير ذلك ؛ فيقال الملك : «يحبّ هذا العبد» ومعنى حبّه له حينئذ ميله إليه وهذه هي المحبّة التي منشأها قصور المحبّ عن الكمال الأتمّ والله تعالى منزّه عن ذلك ؛ وقد يقرب عبدا ولا يمنعه من الدخول عليه ، بل يأذن له أن يحضر بساطه ويتصرّف في مملكته لا لاحتياجه إليه في جلب نفع أو دفع ضرّ لكون العبد في نفسه متّصفا بالكمالات النفسية والأخلاق الفاضلة المرضيّة بحيث يستحقّ مرتبة القرب من حضرة الملوك بحسب ذاته وصفاته ، لا يكون الملك محتاجا إلى قربه ؛ فإذا رفع الملك الحجاب عنه يقال : «قد أحبّه» وإذا اكتسب بعض الأخلاق الفاضلة الموجبة لزيادة كشف الحجاب يقال : «قد حبّب نفسه إلى الملك» وهذا المعنى من المحبّة يليق بالأوّل تعالى لا المعنى الأوّل بشرط أن لا يفهم منه عروض تغيّر له تعالى عند تجدّد القرب ؛ فإنّ الحبيب هو القريب من الله والقرب منه تعالى بالبعد من الرذائل والتخلّق بأخلاق الله تعالى ؛ فهو قرب بالمعنى والصفة لا بالمكان ؛ وحصول قرب للعبد بعد ما لم يكن له وإن اقتضى تغيّر وصف وحال له إلّا أنّه لا يوجب تبدّل صفة له تعالى ؛ لأنّه سبحانه لا يزال على ما كان من أزل الآزال على ما تقدّمت الإشارة إليه.

ثمّ الواجب سبحانه كما هو معشوق لذاته من ذاته كذلك هو معشوق من غيره وهو جميع الموجودات الصادرة منه المعلولة له المفتقرة إليه ؛ فإنّ جميعها عاشقة له مبتهجة به وأجلّ / A ١٥٨ / لذّاتها هو ابتهاجها به واستغراقها في ملاحظة جمال وجهه ومشاهدة عظمته ؛ فما من موجود إلّا وله عشق طبيعي وشوق غريزي إلى

٣٧٨

صرف الوجود وبحت النور والأوّل الحقّ والخير المطلق ؛ وعلى هذا فلابتهاج الموجودات وعشقها مراتب متفاوتة ؛ فأجلّ الابتهاجات وأقوى مراتب العشق هو عشق الواجب وابتهاجه بذاته وبما يصدر عنه من حيث إنّه يصدر عنه ويتلوه عشق المبتهجين به وبذواتهم لا من حيث هم هم ، بل من حيث كونهم مبتهجين به وهم الملائكة القدسية والجواهر العقلية ؛ فإنّهم يعرفون أنفسهم بالأوّل ومن الأوّل وهم على الدوام في مطالعة جماله وملاحظة عظمته وكبريائه ؛ وأمّا لذّتهم بأنفسهم فإنّما هي من حيث كونهم معلولين له ، مرتبطين إليه ، مترشّحين من فيضه وجوده ، تابعين لذاته ووجوده.

وبالجملة : لذّتهم بأنفسهم وتغيّرها من الموجودات الإمكانية من حيث إنّهم يرونها عبيدا وخدمة للأوّل سبحانه ؛ فإنّ من عشق ملكا فهو كما يكون مبتهجا به (١) يكون أيضا مبتهجا بحشمه وخدمه وقومه وجنده إلّا أنّ هذا الابتهاج يرجع حقيقة إلى الابتهاج بالملك وإلى هذا المعنى يشير قول أمير المؤمنين عليه‌السلام : «إلهي كفى بي فخرا أن يكون لي ربّا وكفى لي عزّا أن أكون لك عبدا.» (٢)

فظهر أنّ لذّة المجرّدات القادسة أيضا بذاته تعالى وبمخلوقاته من حيث إنّه مخلوقاته ولكنّها أدون بمراتب غير متناهية من ابتهاج الحقّ سبحانه.

وبعد المرتبتين في العشق والابتهاج مرتبة العشّاق المشتاقين المتحرّكين إلى طلب جمال الله تعالى وهم النفوس الفلكية.

وبعد هذه المراتب في العشق مرتبة النفوس الإنسانية التي وصلت إلى غاية كمالها وفازت إلى مرتبة الوصول والاستغراق في لجّة عظمة الله بحيث لا يرى في عظمة الله العقلية غير الله ولا يرى في الوجود مؤثّرا سوى الله ووصلت إلى

__________________

(١). س : + يكون أيضا مبتهجا.

(٢). انظر : بحار الأنوار ، ج ٧٤ ، ص ٤٠٠ ؛ ج ٩١ ، ص ٩٢ ، ٩٤ ؛ الخصال ، ص ٤٢٠ ؛ كنز الفوائد ، ص ١٨١ ؛ مسند الرضاء (داود بن سليمان الغازي) ، ص ٨٤ ومعدن الجواهر ، ص ٦٧.

٣٧٩

مقام الفناء المسمّى عند العرفاء بالولاية وفازت بمرتبة السابقين المقرّبين ووصلت إلى مشاهدة جمال ربّ العالمين وهم الذين أخرجوا أوّلا قوّتهم العقلية من القوّة إلى الفعل ؛ فانتقشت بالوجود / B ١٥٨ / كلّه على ترتيبه وأدركت الأوّل تعالى وما يتلوه من الملائكة القدسية والجواهر العقلية وما بعده من الموجودات الفلكية والعنصرية هذه النفوس وإن لم يحصل لهم وصول تامّ ما دامت متعلّقة بالبدن ؛ فلا يحصل لهم ما يمكن في حقّهم من العشق والابتهاج في الدنيا لابتلائهم بالبدن وعوائقها إلّا أنّها إذا فارقت البدن بالموت أو حصل له ما يحصل للمتمرّدين من جلباب البشرية ـ أعني ملكة خلع البدن ـ حيث ما شاء يحصل له غاية الابتهاج ؛ فيلحق بالملإ الأعلى ويصير من المقرّبين إلى زلفى وهنا لجّة الوصول وغاية سفر السالكين ونهاية مقصد المسافرين ، وهو معنى السعادة الحقيقية في حقّ الإنسان.

وبعد تلك المراتب الأربع مرتبة النفوس الناطقة الإنسانية المتوسّطة ؛ وهي مختلفة بحسب القرب والبعد من الكمال ، فعشق كلّ منها بالحقّ وابتهاجه بحسب كماله وفعليته في العلم والعمل.

وبعدها مرتبة النفوس الإنسانية الناقصة وهي القريبة بالنفوس الحيوانية وهي النفوس المنغمتة في عالم الطبيعة والمنغمرة في الشهوات واللذّات الحسّية والمنقلبة في المنقلبات الحيوانية وهي التي كفرت بأنعم الله وصرفت قواها الشهوية والغضبية في غير ما خلقت لأجله ؛ فضلّت ضلالا بعيدا وخسرت خسرانا مبينا.

ثمّ لا يخفى أنّ الفرق بين الحبّ والعشق أنّ العشق إنّما هو إفراط الحبّ ؛ فالحبّ ـ كما سبق ـ هو إدراك المؤثر من حيث هو مؤثر ؛ فإفراط هذا الإدراك هو العشق ؛ وكلّما كان الإدراك أتمّ والمدرك أشدّ خيرية كان العشق أشدّ ؛ وظاهر أنّ

٣٨٠