اللّمعات العرشيّة

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

اللّمعات العرشيّة

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: علي اوجبي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: انتشارات عهد
المطبعة: نگارش
الطبعة: ٠
ISBN: 964-5763-11-8
الصفحات: ٥١٩

وأوصيائهم عليهم‌السلام تكون / B ١١٤ / أعلى وأتمّ وأقوى وأكمل منها بالنسبة إلى غيرهم وتختلف أيضا بحسب مراتبهم العليّة ولكنّهم عليهم‌السلام قد يحتاجون في التجلّيات الغير الذاتية إلى توسّط تلك وإن كان ذواتهم الشريفة وأرواحهم النورية أشرف من ذلك الملك.

ولهذا المقام تفصيل محرّر في موضعه ؛ وبيانه على الإجمال : أنّ الأنبياء عليهم‌السلام لمّا وصلوا إلى مقام جمع الجمع وشاهدوا الكثرة في عين الوحدة وبالعكس وحصلت لهم ملكة العروج والنزول والصعود والهبوط على أكمل وجه بحسب مراتبهم العليّة ودرجاتهم السنيّة صاروا مستعدّين لمنصب النبوّة والولاية وإرشاد الخلائق وهدايتهم.

ثمّ لمّا كان لهم كمال الارتباط والاتّصال بالعالم الإلهي العلوي فهم متنزّهون عن الارتباط بالعالم السفلى والاتّصال بكثرات العالم الدنيوي ؛ إذ قوّة تجرّدهم بلغت حدّا رفع المناسبة بينهم وبين موجودات العالم الجسماني ؛ فلا مناسبة بوجه بينهما كما لا مناسبة أصلا بين هذه الكثرات وبين موجدها الحقّ ؛ فلم يمكن الإفاضة والاستفاضة والإرشاد والاسترشاد لاشتراط المناسبة في الجملة بين المفيض والمستفيض ؛ فلا جرم اقتضت العناية الإلهية والرأفة الربّانية أن ينزّلهم من مراتبهم العليّة ومدارجهم السنيّة إلى العالم السفلى لإرشاد عباده وتنوير بلاده ؛ فإنّ إيجاد الكائنات إنّما هو بمحض الفيض والجود ؛ فلا يليق بالفيّاض الجواد أن يبخل عباده الضالّين في بيداء الجهالة والهلاكة وكان من المحال أن تحصل المناسبة بين الواجب سبحانه وهذه الكثرات وإن يحصل لكلّ عبد بالنسبة إلى خالقه الحقيقي قرب يوجب المناسبة بينهما بحيث يصير هذا العبد مستعدّا لاستفاضة من الله تعالى بلا واسطة ، بل الممكن حصول هذا / A ١١٥ / القرب وهذه المناسبة بينه تعالى وبين بعض الكمّل من عباده.

٢٨١

وبيان ذلك : أنّ قربه سبحانه بالنسبة الى جميع عباده ، بل كلّ مخلوقاته وإن كان على السواء ؛ لأنّ قربه تعالى بالنسبة إليهم إنّما هو من حيث العلّية والإحاطة والوجود والشهود إلّا أنّ قربهم إليه ليس على السواء ؛ إذ قربهم إليه من حيث المعلولية والمخلوقية والارتباط والاستعداد والسلوك وحصول التجرّد والتصفية والكلّ وإن كانوا في القرب المترتّب على المعلولية والمخلوقية والارتباط على السواء إلّا أنّهم مختلفون في القرب بحسب السلوك العرفاني.

فظهر أنّ قرب الحقّ إلى عباده مغاير لقربهم إليه وبينهما بون بعيد ؛ كيف وهو أقرب (١) إليهم من حبل الوريد (٢) وهم من حيث ذواتهم وأنفسهم في غاية البعد من حضرته؟! كيف والقرب الذي من طرق الحقّ سبحانه إليهم على وتيرة واحدة أزلا وأبدا لا يزيد ولا ينقص ولا يتغيّر ، بل هو ثابت واقع من الأزل إلى الأبد وليس مختصّا بزمان ولا مكان والكلّ فيه على السواء وليس لأحد فيه مزيّة على الآخر؟!

وأمّا القرب الذي من طرق العباد فلا يحصل إلّا بعد استعدادهم وسلوكهم ومجاهدتهم وسعيهم في تحصيل العلم والعمل ، وتصقيل نفسهم عن الكدورات والرذائل بمصاقيل الشريعة ، وتطهيرها عن أقذار عالم الطبيعة وتصفيتها عن الهواجس النفسانية بالمجاهدات الشرعية ، وتجريدها عن العلائق البشرية الحسّية ، وتخليصها عن العوائق البدنية الجسمية ، واتّصافهم بصفات الحقّ والتخلّق بأخلاقه ، وتوجّههم بشراشرهم إلى قدس الجبروت ، وانقطاعهم بالكلّية إلى صقع الملكوت ، والإعراض عن اللذّات الجسمانية والمشتهيات النفسانية ، والتعوّد بصدق الأقوال وحسن الأفعال ، وتزكية النفس عن رذائل الأخلاق ونقائص الأعمال ، والتجلّي / B ١١٥ / بشرائف الصفات وفضائل الملكات ، والاجتناب عن الإفراط والتفريط في القول والعمل ، والتزيّن بزينة الكرام الكمّل ،

__________________

(١). س : قرب.

(٢). س : اقتباس من كريمة (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) ق / ١٦.

٢٨٢

والاشتغال بالطاعات الشرعية والوظائف الدينية ، والمواظبة على العبادات ، والاجتهاد في تحصيل السعادات ، والمداومة على الصمت وقلّة الكلام ، وتقليل الأكل والشرب والمنام ، وصرف الأوقات في الذكر والفكر والانس بالله تعالى إلى غير ذلك من أسباب لا تحصى ؛ فإنّ من وفّقه الله لتحصيل هذه الشرائط يحصل من طرفه القرب إلى ربّه تعالى وتحصل له المناسبة بينه وبين الحقّ ؛ وإذا قطع مثله جميع المقامات والمراتب وحصل له الاتّصال التامّ بالعالم العلوي وإن ارتفع المناسبة بينه وبين الكثرات إلّا أنّه تمكّن حصولها بعد إنزاله عن مرتبة العليّة بخلاف حصولها بين الله تعالى وبين الكثرات ؛ فإنّه غير ممكن.

فالأنبياء عليهم‌السلام بعد طيّهم جميع المقامات وارتباطهم بعالم القدس واتّصالهم بالعلويات والملكوت الأعلى أنزلهم الله سبحانه تفضّلا منه على عباده من معارج القدس إلى مهابط الأكوان ؛ فصاروا متوسّطين بين أوج الوجوب وحضيض الإمكان حتّى يتمكّنوا من الأخذ من العالم العلوي والإيصال إلى سكّان العالم السفلي بإصعادهم من حضيض عالم الناسوت إلى أوج قدس صقع الجبروت وردعهم عن مشاركة سكّان عالم الزور وإيصالهم إلى مرافقة قطّان دار السرور بحسب استعداد كلّ شخص وقابلية كلّ عبد لزمرة الرسل كلتا الملكتين والجنبتين ـ أعني ملكتي الصعود والهبوط وجنبتى العروج والنزول ـ لكنّهم لمّا صاروا بأمر (اهْبِطُوا) (١) وبحكم الحقّ ـ جلّ شأنه ـ مشتغلين بمصالح العباد ومتوغّلين في إصلاح البلاد ومرتبطين بالعالم السفلى ؛ فإذا حصل لهم التوجّه إلى العالم العلوي مع ذلك التقيّد والارتباط والتوغّل والإيصال / A ١١٦ / احتاجوا في التجلّيات غير الذاتية إلى توسّط ملك ليس له كلتا الجنبتين والملكتين ، بل له ملكة الصعود والعروج فقط ولذلك يكون النبيّ محتاجا في صعوده وعروجه إلى ذلك الملك مع

__________________

(١). البقرة / ٣٦ ، ٣٨ ، ٦١ والأعراف / ٢٤.

٢٨٣

كونه أفضل وأشرف منه بمراتب شتّى وكذا إذا حصل لهم التوجّه التامّ إلى العالم العلوي يحتاجون في هبوطهم ونزولهم إلى جذب جاذب من السفليات وقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لبعض أزواجه : «كلّميني» أو «اشغلني» كان لهذا.

وبالجملة : لمّا كان للأنبياء عليهم‌السلام ملكة الاتّصال بكلّ من العالمين ؛ فإذا حصل لهم اتّصال بأحدهما لا يمكنهم الصعود والهبوط منه إلّا بإعانة واحد من أهل العالم الآخر من ملك روحاني يذكّر رؤيته العالم العلوي ويشوّقه إليه ويزيل ميله إلى العالم الدنيا الحسّي أو شخص جسماني يوجب تكلّمه أو رؤيته السقوط عن الروحانيات والركون إلى الجسمانيات.

[في الفرق بين مذهب العرفاء والأشاعرة في التوحيد الأفعالي]

إيّاك أن تتوهّم ممّا قرّرناه لك في توحيد الأفعال أنّه مذهب الأشاعرة ولا تفاوت بينهما إلّا بالعبارة حيث إنّ مبنى التوحيد الوجودي الأفعالي على أنّ جميع الأفعال مستهلكة في فعله تعالى وتأثيره ، ومضمحلّة في جنب فاعليته المطلقة ولا فاعل إلّا هو ولا مؤثّر في الوجود إلّا هو ؛ والأشاعرة أيضا يقولون : «أن لا فاعل ولا مؤثّر في الوجود إلّا هو» واستندوا جميع الأفعال حتّى قبائح أفعال العباد إليه تعالى وقالوا : «إنّ ذوات العباد كالآلات لأفعاله تعالى» وهذان القولان مبناهما واحد ؛ فقول العارفين في التوحيد الوجودي الأفعالي يرجع إلى قول الأشاعرة ؛ وهو باطل لاستلزامه بطلان الثواب والعقاب وكون التكليف وإرسال الرسل وإنزال الكتب عبثا وصدور العبث من الحكيم قبيح ؛ لأنّ بين الكلامين غاية البعد بحسب المعنى والمقصود وإن توهّم في بادئ النظر / B ١١٦ / قرب بينهما بحسب اللفظ ؛ إذ المراد بالتوحيد العياني هو مشاهدة وجود الحقّ وصفاته وأفعاله

٢٨٤

بلا اعتبار وجود الغير وصفاته وأفعاله معه ؛ والموحّدون ما وصلوا إلى مقام هذا التوحيد وما ادّعوا وصولهم إليه إلّا بعد فنائهم من أنفسهم وخلاصهم عن مشاهدة الغير الذي هو وجودهم ووجود ساير الممكنات المعبّر عنه بالشرك الخفيّ.

وأمّا الأشاعرة فأثبتوا للعباد وجودات متحقّقة وذوات مستقلّة ومع ذلك أسندوا أفعالهم إلى الله سبحانه مطلقا ؛ فهم مشركون في توحيد الأفعال بالشرك الخفيّ كما أنّهم مشركون في التوحيد الالوهي بالشرك الخفيّ ؛ فهم ما خلصوا في هذا القول من رؤية الغير الذي هو وجودهم ووجود غيرهم المعبّر عنه بالشرك الخفيّ ؛ وإن أسندوا جميع الأفعال إلى الله سبحانه من دون نسبة شيء منها إلى محلّه الخاصّ الصادر منه ذلك الفعل ؛ وقالوا : هذه أفعال الله تعالى من غير فرق إلّا بالآلية ونحوها.

وأمّا الموحّدون وإن قالوا بعدم فاعل مستقلّ بالتأثير إلّا الله إلّا أنّهم نسبوا كلّ فعل من أفعال العباد إلى محلّه الخاصّ الذي صدر منه ذلك الفعل ؛ فقالوا : هذا فعل آدم وذاك فعل الشيطان وهذا فعل موسى وذاك فعل فرعون.

وبالجملة : مبنى توحيد الموحّدين على قصر الوجود والصفة والفعل حقيقة على واحد هو علّة الكلّ واستهلاك ما عداه من الممكنات ذاتا وصفة وفعلا بالنسبة إليه نظرا إلى أنّ المعلول من حيث هو معلول لا تحقّق له مع قطع النظر عن العلّة وإن كان له نوع تحقّق بملاحظة علّته ؛ وبهذه الملاحظة اعترفوا بتحقّق الكثرة وإسناد كلّ فعل إلى محلّه الخاصّ ، وإثبات التأثير والتأثّر بين الموجودات الإمكانية ؛ فبالملاحظة الأولى يندفع التفويض وبالثانية الجبر ؛ وبناء جبر الأشعري على إثبات وجودات الممكنات من العباد وغيرهم بالاستقلال وعدم استهلاكها في جنب ذات الله أصلا ؛ فهذا / A ١١٧ / نوع من الشرك الخفيّ وإسناد جميع أفعال العباد المستقلّين بالوجود من خيرها وشرّها وحسنها وقبيحها إلى

٢٨٥

الله سبحانه من دون قدرة وتمكّن للعباد فيها ؛ وهذا جبر صريح يبطل التكليف والثواب والعقاب والجنّة والنار ؛ فالموحّدون تبعوا آدم في قوله : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) (١) والأشاعرة تبعوا الشيطان في قوله : (رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي) (٢) وعلى هذا فما اعتقده العارفون من التوحيد الوجودي الأفعالي يكون أحد التوجيهات للأمر بين الأمرين الوارد عن أمّتنا الراشدين صلوات الله عليهم.

وحاصله : أنّ الأفعال مع كونها بأسرها مستهلكة في جنب فعله تعالى صادرة عن محالّها ؛ فالفعل ثابت للعبد لمباشرته إيّاه وصدوره منه وقيامه به ؛ فلا جبر ؛ ومسلوب عنه من حيث هو هو ومن حيث وجوده في نفسه ؛ إذ لو قطع النظر عن ارتباطه بوجود الحقّ لكان معدوما وكذا فعله ؛ إذ كلّ فعل متقوّم بوجود فاعله ؛ وعلى هذا فلا تفويض أيضا ؛ وإلى هذا يشير قوله سبحانه : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) (٣) حيث أسند الفعل إلى العبد ومع ذلك نفاه عنه وأسنده إلى الله ؛ فإنّ هذا إنّما يصحّ إذا كان الفعل بالاعتبار الظاهري وفي بادئ النظر صادرا عن العبد وبالاعتبار الواقعي وفي دقيق النظر صادرا عنه سبحانه.

وغير خفيّ أنّ هذا التوحيد الصحيح للأمر بين الأمرين وإن كان في نفسه أظهر وأحسن من التوجيهات التي أبداها العلماء الإمامية له ؛ إذ لا ريب في ثبوت الاعتبارين لفعل العبد واستهلاكه وعدميته بأحد الاعتبارين وثبوته وتحقّقه بالاعتبار الآخر إلّا أنّه لا تندفع به شبهة الجبرية ويرد عليه مثل ما يرد على ساير التوجيهات من لزوم الجبر وعدم التمكّن من ترك فعل أو فعل ما ترك أو لزوم الترجيح بلا مرجّح ؛ إذ نقول : صدور الفعل من العبد من حيث هو منسوب إليه وصادر عنه لا من حيث استهلاكه واضمحلاله في فعل الحقّ إن كان واجبا لازما بحيث لا يتمكّن / B ١١٧ / العبد من خلافه لزم الجبر وإن لم يكن واجبا وتمكّن العبد

__________________

(١). الأعراف / ٢٣.

(٢). الحجر / ٣٩.

(٣). الأنفال / ١٧.

٢٨٦

من الترك أيضا حتّى يكون قادرا على كلّ من الطرفين ومتمكّنا منه بلا تفاوت ؛ فاختياره أحد الطرفين وإرادته له دون الآخر لا بدّ له من مرجّح ؛ فإن كان المرجّح تصوّر نفع عاجل أو آجل للطرف المختار وضرر (١) كذلك للطرف الآخر نقول : لم حصل هذا المرجّح لهذا العبد وحصل خلافه لعبد آخر واختار الطرف الآخر ؛ فإن كان ذلك بإرادة الله تعالى لزم الجبر وإن كان باقتضاء ماهيّة العبد أو وجوده الخاصّ لزم الجبر أيضا ؛ إذ العبد مع اقتضاء ذاته ذلك لا يتمكّن خلافه وإن كان المرجّح أوّلا هو إرادة الله تعالى أو اقتضاء ماهيّة العبد أو وجوده الخاصّ لزم الفساد المذكور أيضا.

فظهر أنّ ما ذكره العارفون من التوحيد الوجودي الأفعالي وإن لم يكن في نفسه مذهب الجبرية ولا راجعا إليه إلّا أنّه ليس ممّا يتصحّح به الأمر بين الأمرين بحيث لا ترد عليه شبهة ، بل يرد عليه ما يرد على ما ذكره غيرهم من الحكماء والمتكلّمين.

وهذا إذا فرض الكلام في فعل العبد من حيث إنّه صادر عنه ومنسوب إليه ؛ فإنّ الوارد عليه حينئذ ما يرد على ما ذكره غيرهم من الحكماء والمتكلّمين ؛ ولو لوحظ استهلاكه في فعل الحقّ واسند الكلّ إلى العلّة ـ كما هو مقتضى النظر الأدقّ ـ فيكون لزوم الجبر في بادئ النظر أظهر.

وغاية الجواب الذي ذكره لاندفاع هذه الشبهة أنّ اختيار أحد الطرفين إنّما هو باقتضاء ماهيّة العبد على أصالتها أو باقتضاء وجوده الخاصّ على أصالته كما هو الحقّ ؛ وهذا الاقتضاء وإن كان واجبا إلّا أنّه بالاختيار والوجوب بالاختيار لا ينافي الاختيار ؛ وهو كما ترى يدلّ على عدم تمكّن العبد من الطرف الآخر ؛ فيلزم عدم قدرة العاصي على ترك المعصية والرجوع إلى الطاعة ؛ فلا فائدة في

__________________

(١). س : ضر.

٢٨٧

تكليفه ويصحّ من الحكيم زجره وتعذيبه.

وربّما يقال : إنّ الوجودات الخاصّة هي علل الأفعال / A ١١٨ / ومقتضياتها إلّا أنّ بعضها ممّا هو يقتضي في نفسه اختيار الطاعة والثواب من دون حاجة إلى إرشاد ووعظ وبعضها ممّا يقتضي في نفسه اختيار المعصية والعقاب من دون تأثير لإرشاده ووعظه وبعضها ممّا لو اهمل ولم يصل إليه إرشاد أو موعظة ونصيحة يقتضي ارتكاب المعاصي ولو ضمّ إليه نصح ناصح وإرشاد مسترشد يرجع إلى الحقّ والطاعة ؛ فالباعث من التكليف وإرسال الرّسل وإنزال الكتب إصلاح القسم الأخير وإبراز حقائق القسم الثاني وأصلحية القسم الأوّل ؛ لأنّ ما هو صالح وحسن في نفسه يصير بالإرشاد والموعظة والنصيحة أصلح وأحسن.

[في أقسام الوحدة ووجوه المناسبة والمباينة بين الوحدة الصّرفة والوحدات الإمكانية]

قد عرفت أنّ التوحيد جعل شيئين أو أكثر شيئا واحدا ؛ و (١) في الشرع الإقرار بكون الإله وواجب الوجود واحدا ؛ وبعبارة اخرى : إثبات وحدانية الواجب وإله العالم ؛ والمراد بالوحدة هو الوحدة الحقيقية لا الأعمّ منها ومن غير الحقيقية (٢).

وتوضيح ذلك : أنّك قد عرفت في كلماتنا السالفة أنّ الوحدة تساوق الوجود ، بل هو عينه ؛ بمعنى أنّهما متّحدان في المصداق والخارج ومتغايران في المفهوم الاعتباري ؛ ولذا يساوقه في القوّة والضعف ؛ فكلّ ما وجوده أقوى وأتمّ يكون وحدته أيضا كذلك.

والوحدة :

[١.] إمّا حقيقية والموصوف بها الواحد الحقيقي وهو ما لا ينقسم بوجه لا في

__________________

(١). س : او.

(٢). س : الحقيقة.

٢٨٨

الخارج ولا في الذهن ولا في الحدّ ولا في الكمّ ولا بالقوّة ولا بالفعل ولا إلى ماهيّة ووجود بالتحليل الفعلي ولا إلى ذات وصفة بالتفصيل الوهمي ؛ وهذا ما لا سبب له إلّا ذات ذلك الواحد بذاته وما هو إلّا صرف الوجود الحقّ القائم بذاته.

[٢.] أو اعتبارية غير حقيقية ؛ وهي / B ١١٨ / أن تكون أشياء متعدّدة مشتركة في أمر واحد هو جهة وحدتها ؛ وهذه الجهة إمّا اتّحاد في الجنس وهو المجانسة أو في النوع وهو المماثلة أو في الكمّ وهو المساواة أو في الكيف وهو المشابهة أو في الوضع وهو المطابقة ؛ وهذه الامور كالتناسب والهويّة من جملة أحوال الوحدة بمعنى أنّها جهة وحدة الاعتبارية وفي كلّ منها شائبة الكثرة ، كما أنّ في مقابلاتها كالخلاف والتناقض والتضادّ والغيرية وأمثالها شائبة وحدة.

فالواحد إمّا واحد بالجنس أو بالنوع أو بالشخص ؛ وهو إمّا منقسم في العقل والخارج أو في العقل فقط ؛ والأوّل ينقسم إلى واحد بالاتّصال وإلى واحد بالتركيب ؛ والثاني إمّا ذو وضع وهو النقطة أو غير ذي وضع كالمفارقات من العقول والنفوس.

وشرافة كلّ موجود إنّما هو بقربه من الوحدة الحقيقية وبعده عن الكثرة ؛ ولمساوقة الوحدة للوجود لا يخلو موجود عن وحدة ما ، كما أنّه لا يخلو عن وجود ما حتّى أنّ العشرة في عشرتها وكثرتها لا يخلو عن اعتبار وحدة كما أنّها لا يخلو عن اعتبار وجود.

ثمّ إنّ الوحدة الاعتبارية المتحقّقة في الطبائع الإمكانية ظلّ للوحدة الحقّة الصّرفة فائضة منها مباينة عنها بوجه ومناسبة لها بوجه ؛ كما أنّ وجوداتها ظلّ للوجود الصّرف الحقّ القائم بذاته ومباينة عنه بوجه ومناسبة له بوجه ؛ والمباينة بينهما بوجوه :

٢٨٩

منها : أنّ الوحدة في الطبائع (١) الإمكانية وعوارضها ومعروضاتها ليست وحدة حقيقية ، بل هي اعتبارية ؛ إذ فيها تركيب من الأجزاء الخارجية أو الوهمية ؛ وأقلّ التركيب فيها أن يمكن تحليلها إلى جنس وفصل وماهيّة ووجود حتّى أنّ الأجناس العالية والفصول البسيطة يمكن تحليلها إلى ذات وصفة في الوهم ؛ وأمّا الوحدة الصّرفة الحقّة الحقيقية الواجبة فليست عارضة ولا معروضة لشيء ولا تركيب (٢) فيها لا من الأجزاء الخارجية ولا الذهنية ؛ ولا يمكن للعقل تحليلها إلى جنس وفصل ولا للوهم تفصيلها إلى ماهيّة و/ A ٩١١ / وجود ولا إلى ذات وصفة ، بل هي عين صرف الوجود الذي هو عين ذاته البسيطة من كلّ وجه.

ومنها : أنّ الوحدة في الطبائع الإمكانية غير قائمة بذاتها ، بل وجودها قائم بغيره ؛ وليست مجهولة الكنه ؛ ووحدة عددية ؛ أي يمكن أن تحصل بتكرّرها الكثرة ؛ إذ حقيقة الكثرة ليست إلّا الوحدات المتكرّرة ؛ فكلّ واحد من أقسام الواحد المحقّق (٣) في الطبائع الإمكانية من الواحد بالشخص لشخص واحد والواحد بالنوع لنوع واحد والواحد بالجنس لجنس واحد والواحد بالاتّصال لخطّ (٤) واحد (٥) يمكن أن يتكرّر وتحصل من تكرّره الكثرة ؛ فتحصل مثلا عشرة أشخاص وعشرة أنواع وعشرة أجناس وعشرة خطوط.

وأمّا الوحدة الحقّة الحقيقية الصّرفة الواجبية فهي مجهولة الكنه وقائم بذاتها ، وتشخّصها عين ذاتها ، وتكرّرها ممتنع بالذات في الخارج والذهن ؛ فلا يمكن أن تتكرّر هذه الوحدة وتحصل عدّة منها ؛ فتحصل وجودات صرفة وواجبات متعدّدة ؛ ولا يتصوّر تألّف كثرة عددية منها ، لما تقدّم من أنّ كلّ ما يفرض أنّه ثان لها فهو هي بعينها ولذا (كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) (٦) لأنّ هذا القول وإن

__________________

(١). س : الصبايع.

(٢). س : + لا.

(٣). س : المحققة.

(٤). س : كخط.

(٥). س : + و.

(٦). المائدة / ٧٣.

٢٩٠

صدر منهم لاعتقادهم بتعدّد (١) الواجب وكونه ثلاثة وهذا كفر إلّا أنّه كفر من جهة اخرى أيضا وهو أنّ هذا القول يشعر باعتقادهم كون الله تعالى ثالث ثلاثة ؛ أي جاعل الاثنين ثلاثة بدخوله فيهم وانضمامه معهم ؛ فتحصل بذلك كثرة عددية ؛ وهذا (٢) الاعتقاد أيضا باطل وإن لم يكن كلّ واحد من تلك الكثرة واجبا ، بل كان الاثنان اللذان حصل منهما بانضمام الواجب إليها كثرة ممكنين ؛ إذ كلّ واحد يحصل بانضمامه إلى غيره كثرة هو واحد عددي وهو من خواصّ الممكن ؛ ولا يؤخذ في الواجب ، بل هذا الاعتقاد ـ أي اعتقاد تكرّر وحدته وكون وحدته عددية ـ يستلزم / B١١٩ / الاعتقاد بتعدّد الواجب قطعا ؛ لأنّ وحدته تعالى إذا تكرّرت لا يكون هذا التكرّر إلّا بتعدّد الواجب ؛ ولو قالوا : «إنّ الله تعالى ثالث اثنين» كانوا حينئذ كافرين بالاعتبار الأوّل ؛ أي باعتبار اعتقادهم تعدّد الواجب دون الثاني ؛ أي اعتقادهم تألّف الكثرة من وحدته ؛ إذ حينئذ لا يلزم تألّف الكثرة من تكرّر وحدته وكون وحدته عددية ؛ إذ المراد من كونه تعالى ثالث اثنين أنّه تعالى باعتبار الشهود الوجودي والحضور العلمي ثالث كلّ اثنين ؛ ولا ريب في كونه تعالى بهذا الاعتبار ثاني كلّ واحد وثالث كلّ اثنين ورابع كلّ ثلاثة وهكذا ، كما يدلّ عليه قوله تعالى : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ) (٣).

ثمّ على ما ذكرنا إنّ الوحدة الحقّة الحقيقية الصّرفة حقيقة قائمة بذاتها مستلزمة لنفي الكثرة مطلقا ولا يتصوّر تكرّرها لكونها مساوقة للوجود وكون وجوده سبحانه عين ذاته ؛ وقال الشيخ : إنّها معنى سلبي يستلزمه نفي الكثرة.

وعلى التقديرين ليس معني وجوديا قائما بغيره يستلزم نفي الكثرة ، كما هو شأن الوحدة في الطبائع الإمكانية.

__________________

(١). س : بقدر.

(٢). س : هذ.

(٣). المجادلة / ٧.

٢٩١

قال في التعليقات : «إنّ وحدة الأوّل تعالى» إلى قوله : «هو من لوازم نفي الكثرة.»

وأمّا المناسبة بين الوحدة الحقّة الواجبية وبين الوحدات الإمكانية فمن حيث إنّ كلّ واحد يساوق الوجود ، بل هو عينه. فالوحدة الواجبية (١) عين الوجود الحقّ الواجبي والوحدات الإمكانية عين الوجودات الخاصّة الممكنة ؛ وكما أنّ الوجودات الإمكانية كلّما كانت أقرب إلى حضرة الوجود الحقّ من حيث الصّرافة والعقلية والكمال يكون أكمل وأشرف فكذلك حال الوحدات الإمكانية بالقياس إلى حضرة الوحدة الحقّة الواجبية ؛ ولذا ترى أنّ الواحد بالشخص (٢) أكمل أفعالا وآثارا من / A ١٢٠ / الواحد بالنوع وهو من الواحد بالجنس وكذا ما ليس فيه تركيب خارجي كالمجرّدات لكونه أقرب إلى الوحدة الحقّة من المركّبات أشرف وأعلى منها وما فيه تركيب خارجي ومزاجه أقرب إلى الاعتدال الحقيقي وأنسب بالوحدة أكمل وأقوى أفعالا وآثارا ممّا ليس كذلك.

ومن وجوه المناسبة بين الوحدة الحقيقية والوحدة العددية : أنّ الوحدة الحقيقية كما أنّها مبدأ الكثرات الإمكانية بمعني أنّها موجدها ومفيضها وجاعلها ومبدعها ـ أي مبدأها الفاعلي ـ كذلك الوحدة العددية مبدأ الكثرات العددية بمعني أنّها ممّا يحصل بتكرّره العدد وتتألّف منه الكثرة ـ أي كالمبدإ الفاعلي لها ـ فإفادة الواحد العددي للعدد مثال وظلّ لإفادة الواحد الحقّ للكثرات الإمكانية ؛ وكون الأعداد مراتب الواحد وظهوره فيها مثال لكون الموجودات الإمكانية مظاهر ومجالي لوجود الواحد الحقّ وصفاته وأسمائه (٣) ؛ وظهور الواحد الحقّ بالأعداد الظاهرة بالمعدودات مثال لظهور الواحد الحقّ بالوجودات الخاصّة الإمكانية الظاهرة بالماهيّات.

__________________

(١). س : الوجبه.

(٢). س : الشخص.

(٣). س : سمائه.

٢٩٢

وكما أنّ العدد مع غاية تباينه مع الوحدة لا يخلو عنها ؛ فإنّ الواحد ليس بعدد والعدد ليس بواحد مع أنّ العدد ليس سوى الوحدة المتكرّرة ؛ فينفي ما يثبته بعينه كذا الحقّ ليس بخلق والخلق ليس بحقّ مع أنّ الخلق لا يخلو عن فيض الحقّ ؛ فسبحان الذي خارج عن كلّ شيء لا بمزايلة وداخل فيه لا بمقارنة (١).

وإذ عرفت ذلك فاعلم أنّه ينبغي للعارف السالك أن ينفي عنه سبحانه جميع أنحاء الوحدات الإمكانية ويثبت له مفهوم الوحدة الحقّة الحقيقية وإن لم يعرف مصداقها وحقيقتها (٢) ؛ إذ حقيقته الوحدة ومصداقها مجهولة الكنه لا يمكن معرفتها كمعرفة أصل ذاته و (٣) وجوده.

وما ذكرناه من نفي الوحدة العددية عنه تعالى قد تكرّر في كلام المعصومين عليهم‌السلام كقولهم : «واحد لا بتأويل العدد» (٤) وعلى هذا ينبغي أن يؤوّل قول سيّد الساجدين عليه‌السلام في الصحيفة : «لك يا إلهى! وحدانية / B ١٢٠ / العدد» (٥) لما ذكرناه من أنّ الوحدة العددية لمّا كانت ظلّا للوحدة الحقّة الحقيقية ومناسبة لها بوجه صحّ نسبتها إليه تعالى وإن كانت مباينة عنها بوجوه شتّى كما ذكرناه. على أنّه يمكن أن تكون هذه النسبة نسبة المعلولية والصدور وكونها مفاضة عنه.

ثمّ الظاهر أنّ الواحدية والأحدية بمعني واحد وهو نفي التركيب بحسب الوجود العيني من الأجزاء الخارجية وبحسب التحليل العقلي من الجنس والفصل وبحسب التفصيل الوهمي من الماهيّة والوجود ومن الذات والصفة ؛ وفي بعض الأخبار المرويّة عن الباقر : «أنّ الواحد والأحد بمعني واحد وهو المنفرد الذي لا نظير له» وقال بعض العارفين : «إنّ الحضرة الأحدية لا نعت لها وكلّ ما

__________________

(١). قد مرّ أنّ هذه العبارة مقتبسة من الكلام العلوي في نهج البلاغة ، خطبة ١.

(٢). س : حقيقها.

(٣). س : ـ و.

(٤). انظر : الأمالى (للشيخ الطوسى) ، ص ٢٣ ؛ الأمالى (للشيخ المفيد) ، ص ٢٥٥ ونور البراهين ، ج ١ ، ص ١٠٦.

(٥). الصحيفة السجّادية ، الدعاء ٢٨.

٢٩٣

ينعت به فهو من الحضرة الواحدية. فعلى هذا يكون (١) الفرق بينهما أنّ الأحد ما هو مجهول الكنه من كلّ وجه ولا يمكن نعته ووصفه ولا توصيفه بشيء من الصفات ؛ والواحد ما يمكن أن يوصف بالصفات الكمالية» وقال بعض آخر : «إنّ الحضرة الأحدية مرتبة الذات والحضرة الواحدية مرتبة الأسماء والصفات» وقال بعض آخر : «إنّ الوجود الحقّ القائم بذاته وحدة غير زائدة على ذاته وهي اعتباره من حيث هو هو وهي بهذا الاعتبار ليست نعتا للواحد ، بل عينه ؛ وهي المراد عند المحقّقين بالأحدية الذاتية ؛ وهي إذا اعتبرت مع انتفاء جميع الاعتبارات سمّيت أحدية وإذا اعتبرت مع ثبوتها سمّيت واحدية.»

وإذ عرفت جليّة الحال في التوحيد الالوهي وفي التوحيد الوجودي فكذا عرفت سابقا التوحيد الذاتي والتوحيد الصفاتي فأعلم أنّ التحقيق أنّ كلمة التهليل المشهورة بكلمة التوحيد ـ أعني لا إله إلّا الله ـ تفيد هذه الأقسام الأربعة من التوحيد ومنطبقة على جميعها ؛ وأمّا انطباقها على التوحيد الالوهي فظاهر ؛ إذ لو اريد بالإله معناه المتبادر الوارد في الشرع ـ أعني المعبود بالحقّ ـ فإفادته للتوحيد الالوهي ـ أعني انحصار واجب / A ١٢١ / الوجود وصانع العالم فيه (٢) سبحانه ـ ظاهر ؛ ولو اريد به المطلوب والمحبوب من كلّ وجه فأفادت التوحيد الوجودي ؛ إذ المطلوب والمحبوب من كلّ وجه ليس إلّا الله سبحانه ؛ فينبغي للعارف (٣) المتكلّم بهذه الكلمة أن يريد بالإله المعنيين حتّى يفيد التوحيدين.

ثمّ لمّا كان المراد بلفظ الجلالة هو الذات المستجمع لجميع الصفات الكمالية والمنزّه عن جميع النقائص الإمكانية فثبت التوحيدين (٤) الأوّلين ـ أعني التوحيد الذاتي والتوحيد الصفاتي ـ إذ زيادة الوجود على ذاته تعالى وكذا زيادة صفاته

__________________

(١). س : + ان.

(٢). س : به.

(٣). س : المعارف.

(٤). س : توحيدين.

٢٩٤

على ذاته نقص وعينيتها له كمال. فيثبت من هذه الكلمة الطيّبة المباركة جميع التوحيدات الأربعة ؛ ولذلك قال بعض الأكابر : «إنّ هذه الكلمة أعلى كلمة وأشرف لفظة نطق بها في الإسلام ، منطبقة على جميع مراتب التوحيد» رزقنا الله الوصول إليها والعروج إلى معارجها.

[في أنّ واجب الوجود عالم بذاته وبجميع الموجودات]

وتدلّ عليه وجوه من القواطع :

[الأوّل :] أنّ العلم كمال مطلق للموجود من حيث إنّه موجود ؛ وكلّ كمال للواجب يجب أن يكون حاصلا له بالفعل ؛ لأنّه كامل باعتبار ذاته ؛ فواجب الوجود عالم بالفعل بذاته وبجميع الموجودات.

[الثاني :] لو كان جاهلا بذاته وبالأشياء كان ناقصا ؛ إذ الجهل نقصان ؛ كيف وغير العالم لا فرق في الحقيقة بالنظر إلى ذاته بين وجوده وعدمه وكأنّه معدوم ؛ إذ غير المدرك لا يكون حيّا ؛ إذ الحيّ هو الفعّال الدرّاك ؛ فغير العالم الدرّاك بمثابة الميّت والميّت بمنزلة المعدوم ؛ فيكون غير العالم المدرك حين وجوده بالنظر إلى ذاته كحين عدمه من دون فرق.

[الثالث :] قد ظهر من التفتيش عن النفوس وإدراكاتها أنّ مناط العلم ومصحّحه هو التجرّد والاستقلال بالذات وموجبه بالفعل حضور الشيء (١) عنده. فكلّ مجرّد مستقلّ بالذات عاقل وواجب الوجود لكونه صرف الوجود يكون له غاية التجرّد ؛ / B ١٢١ / فهو عالم بذاته وبجميع ما عداه من الموجودات ؛ إذ العلم بالعلّة يستلزم العلم بالمعلول نظرا إلى ثبوت غاية الارتباط بينهما.

[الرابع :] أنّه تعالى مبدأ لجميع الموجودات التي منها العلماء بذواتهم ومنها

__________________

(١). س : + و.

٢٩٥

الصور العلمية ؛ فيكون عالما بذاته ؛ إذ العلّة أشرف من المعلول والعالم من الجاهل ؛ وفيّاض العلوم وملهمها عالم بالضرورة العقلية ؛ ومن علمه بذاته وكونه مبدأ لجميع الموجودات يثبت عموم علمه ؛ أي كونه عالما بجميع الموجودات معقولة كانت أو محسوسة ، كلّية كانت أو جزئية ؛ إذ العلم بالعلّة يستلزم العلم بالمعلول.

[الخامس :] الحكم والمصالح المودعة في الموجودات على ما يخبر عنه قوّة التفكّر يدلّ على كون موجدها عالما بها ؛ وهذا أمر في غاية الظهور ؛ فيكون واجب الوجود عالما بجميع الموجودات.

[في كيفية علمه تعالى]

اعلم أنّه لا خلاف بين العقلاء في كونه تعالى عالما بذاته وبجميع الموجودات وإنّما اختلفوا في كيفية علمه تعالى ؛ وتحقيق ذلك مع ساير ما يتعلّق بمبحث علمه (١) تعالى إنّما يتمّ ببيان امور :

[الأوّل :] العلم إمّا حصولي [و] هو ما يكون بارتسام صور المعلومات ، كعلمنا بمهيّة الإنسان وحقيقة السماء والكواكب وغيرها أو حضوري وهو ما يكون بحضور ذوات المعلومات وانكشافها عند العالم ، كعلمنا بأنفسنا وقوانا وما ارتسم فيها.

ولا بدّ في الحضوري بعد تجرّد المدرك من وجود المعلوم في الخارج وثبوت ربط بينه وبين العالم ليصحّ انكشافه لديه ؛ ولو لا اشتراط الارتباط بينهما لكان كلّ مجرّد عالما بجميع الأعيان الخارجية ، وهو باطل ، لعدم انكشاف أكثرها عند أكثر النفوس المجرّدة ؛ والربط المصحّح إمّا كون المدرك نفس المدرك أو آلة له أو معلولا له.

__________________

(١). س : بعلمه.

٢٩٦

وأمّا الحصولي فلا يشترط فيه وجود المعلوم في الخارج ؛ لأنّه إمّا فعلي أو انفعالي ؛ والفعلي إمّا حقيقي أو غير حقيقي.

والحقيقي ما يتمثّل في ذات العلّة الحقيقية من صور معلولاتها قبل وجودها في الخارج ويصير هذا التمثّل منشأ لإيجادها في الخارج ؛ فإنّ العلّة الحقيقية ـ أي الفاعل / A ١٢٢ / التامّ ـ بعد تعقّل ذاتها بذاتها يتقرّر في ذاتها ما يصدر عنها من المعلولات بصورها وحقائقها وما يترتّب عليها من اللوازم والآثار والتناسب والتخالف وما ينتزع عنها من المعاني الكلّية على وجه كلّي متقدّس عن التغيّر والتبدّل.

وغير الحقيقي ما يرتسم في ذوات العلل المعدّة من الصور المخترعة للأشياء بعد ملاحظة أشباهها ونظائرها في الخارج ؛ وذلك كارتسام صور الأبنية الخاصّة المخترعة في نفس البناء بعد ما شاهد في الخارج ما يشابهها من أنواع الأبنية وموادّها وصورها ؛ وهذا الفعلي كأنّه مأخوذ من الانفعالي.

والانفعالي ما ينتزع عن الأشياء الخارجية من صورها وحقائقها ولوازمها وآثارها وما بينها من التخالف والتناسب وما يتعلّق بها من المعاني الكلّية ؛ وذلك كعلومنا بالأعيان الخارجية ؛ فإنّا لمّا شاهدناها ارتسم في نفوسنا صورها ثمّ أدركنا حقائقها وما يترتّب عليها من الخواصّ والآثار والمناسبات وأسباب الاتّفاقات والاختلافات.

فالفعلي (١) الحقيقي لا يتوقّف على وجود المعلوم مطلقا وغير الحقيقي لا يتوقّف على وجود شخصه وإن توقّف على وجود نوعه وشبهه ؛ والانفعالي يتوقّف على وجود شخص المعلوم في الخارج.

ثمّ الحصولي الفعلي لا يكون إلّا على وجه كلّي والانفعالي ما يأخذه الحواسّ

__________________

(١). س : فالفعلى.

٢٩٧

من صور الأشياء المحسوسة وأحوالها الجزئية يكون على وجه جزئي وما يأخذه العقل من الأحوال والمعاني الكلّية يكون على وجه كلّي.

وأمّا الحضوري فلا يكون إلّا جزئيا وإن كان متعلّقا بالكلّيات المرتسمة في بعض المدارك ؛ فإنّ صورة الإنسان الكلّي الحاصلة في النفس علم حصولي كلّي بالقياس إلى الإنسان (١) الخارجي وعلم النفس بهذه الصورة المرتسمة ـ أي انكشافها لديها ـ علم حضوري جزئي ؛ وكذا ظهور جميع الصور الجزئية والكلّية المرتسمة في المدارك العالية والسافلة لتلك المدارك أو لما فوقها من مدارك اخر علم حضوري جزئي.

والحاصل : أنّ ما يعلم / B ١٢٢ / بارتسام صورته حصولي إمّا كلّي أو جزئي ؛ وما يعلم بالمشاهدة الإشراقية حضوري جزئي ؛ وعلى ما ذكر فالنسبة بين العلم الحصولي والعلم الكلّي بالعموم مطلقا ؛ إذ كلّ علم كلّي حصولي وبعض الحصولي ليس كلّيا كالصور والمعاني الجزئية المرتسمة في بعض القوى ؛ وبين الحصولي والعلم الجزئي بالعموم من وجه وهو ظاهر ؛ وبين العلم الحضوري والعلم الكلّي بالمبائنة ، لعدم صدق كلّ منهما على الآخر ؛ وبين الحضوري والعلم الجزئي بالعموم والخصوص مطلقا ؛ إذ كلّ حضوري جزئي وبعض الجزئي ليس حضوريا كما علم.

[الثاني :] الحضوري لا يتعلّق إلّا بإنّية المدرك ووجوده ولا يعلم به ماهيّته وحقيقته ؛ والعلم بالحقيقة إنّما هو الحصولي ؛ إذ العلم بالحقيقة إنّما يكون بمعرفة الأجناس والفصول وهو علم صوري كلّي ؛ والحضوري الإشراقي إنّما هو بظهور الشيء وانكشافه عند المدرِك ؛ وما هو إلّا معلومية وجوده. نعم لو ارتسم حقائق الأشياء بالعلم الحصولي في بعض المدارك وانكشف هذا المدرك بما ارتسم فيه

__________________

(١). س : + و.

٢٩٨

عند مجرّد آخر بالعلم الحضوري كانت الحقائق معلومة لهذا المجرّد بالعلم الحضوري للارتسام المذكور.

وعلى هذا فلو انحصر علم الواجب سبحانه بالحضوري لزم أن تخرج من علمه معرفة المعاني الكلّية وحقائق الأشياء وكنهها ، لقضاء الضرورة بأنّ العلم بعدم اجتماع النقيضين وبحقيقة السماء والعقل مثلا ليس حضوريا ، بل ما هو إلّا الحصولي الكلّي ؛ فلو لم يكن له علم حصولي لم يمكن تعقّله الحقائق والمعاني الكلّية إلّا بارتسامها في بعض المدارك.

[الثالث :] العلم يطلق على معاني :

الأوّل : ما له الانكشاف ومنشأه ؛ وهو العلم الحقيقي.

الثاني : نفس الانكشاف والظهور ؛ وهو العلم الحضوري.

الثالث : ما يقتدر به على استحضار المنكشفات بالذات ، كالقوّة والملكة التي للعالم.

وما به الانكشاف في العلم الحضوري ذات العالم والمعلوم ؛ وفي الحصولي الصور العقلية (١) المرتسمة في ذات العالم. ففي العلم الحضوري للمجرّد بذاته يتّحد العلم الحقيقي والعالم والمعلوم / A ١٢٣ / ولغيره يتّحد العلم والعالم باعتبار ، بل العلم والمعلوم أيضا باعتبار ولا يتّحد العالم والمعلوم ؛ وفي الحصولي يتّحد العلم والمعلوم ؛ إذ الصور العقلية التي هي معلومة بالذات عين العلم. فمن حيث منشئيتها للانكشاف ـ أي انكشاف ذاتها للنفس ـ علم حقيقي ؛ إذ من حيث كونها منكشفة عندها معلومة.

[الرابع :] لا ريب في أنّ العلم الكمالي للواجب تعالى إنّما هو نفس ذاته ؛ إذ الكمال له سبحانه ينحصر بذاته ومبدئيته لإيجاد الأشياء وانكشافها لديه وغير

__________________

(١). س : العقل.

٢٩٩

ذلك ممّا يتصوّر حتّى نفس الإيجاد والانكشاف من فعله تعالى ؛ وفعل الشيء لا يكون كمالا له ؛ فذاته بذاته منشأ لانكشافها ولا مدخل (١) لغير ذاته في ذلك شرطا كان الغير أو فاعلا أو غاية أو معدّا أو غير ذلك ؛ إذ مجرّد ذاته المقدّسة هو الموجد للأشياء والمنشأ لانكشافها بمجرّد إيجادها ؛ ومنشئية غيره في ذلك يفضي إلى افتقاره وإمكانه ، تعالى عن ذلك. فذاته بذاته نفس العلم الحقيقي الكمالي بالأشياء الثابتة الدائمة والمتغيّرة الكائنة والفاسدة التي (٢) في الوجود كلّياتها وجزئياتها من حيث إنّها جزئية ومتغيّرة وكائنة وفاسدة بحيث لا يعزب عنه مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء. (٣)

وبالجملة : ذاته بذاته لذاته منشأ لحضور جميع الأشياء الكلّية والجزئية والثابتة والمتغيّرة ، وظهورها وانكشافها على ما هي عليه من الكلّية والجزئية والثبوت والتغيّر على وجه لا يلزم تغيّر في ذاته المتقدّسة وإن لزم من وجود الأشياء وعدمها وكونها وفسادها حدوث إضافة وانعدام اخرى ؛ فهي راجعة بنحو ما إلى الجزئيات المتغيّرة لا إلى ذاته ؛ إذ كونه عالما هو عين كونه مبدأ وخالقا ؛ وكما لا يوجب حدوث الخلق ولا عدمه تغيّرا في ذات الخالق كذلك لا يقتضي تغيّر المعلومات تغيّرا في ذات العالم.

[الخامس :] لا ريب في ثبوت العلم بالمعني الثاني ـ أي الانكشافي الإشراقي ـ للواجب بالنسبة إلى الأشياء الموجودة بأسرها ـ أي المجرّدة والمادّية والعينية والظلّية ـ فإنّ جميعها / B ١٢٣ / بعد وجودها منكشفة على الوجه الجزئى لا يشذّ عن علمه مثقال ذرّة من عوارضها وتشخّصاتها ؛ وهذا (٤) العلم ـ كما علمت ـ إنّما يتعلّق بوجوداتها الخارجية من حيث مشاهدته لها بالحضور الإشراقي دون حقائقها و

__________________

(١). س : يدخل.

(٢). س : هي.

(٣). اقتباس من : سبأ / ٣ ويونس / ٦١.

(٤). س : هذ.

٣٠٠