اللّمعات العرشيّة

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

اللّمعات العرشيّة

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: علي اوجبي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: انتشارات عهد
المطبعة: نگارش
الطبعة: ٠
ISBN: 964-5763-11-8
الصفحات: ٥١٩

الإدراك لا يكون إلّا بالوصول ؛ ففي الإدراك الناقص يتحقّق الوصول الناقص وفي التامّ يتحقّق التامّ ؛ والمراد بالوصول هو حضور تلك المعاني بعينها عنده بارتسامها في ذاته وللذوات المجرّدة النورية والجواهر العقلية القدسية بحضورها لديه وانكشافها بين يديه ؛ فيشاهدها بالعلم الحضوري ؛ فهذه المشاهدة هي وصول الفعل إلى ذواتها ووجوداتها ؛ وإدراك الخيال والوهم للصور (١) الخيالية والمعاني الجزئية هو حضورهما لديهما بالارتسام / A ١٥٩ / فإنّ ذات المدرك لتلك القوّتين وحقيقته هو نفس الصور والمعاني الجزئية دون الامور الخارجية ؛ فالوصول في إدراكهما إنّما هو بوصولهما إليهما ؛ وإدراك الحواسّ للمحسوسات إنّما هو بحضور ذواتها العينية وحقائقها الخارجية عندها بالارتسام أو بنحو آخر ووصولها إليها ؛ فالوصول في إدراكها إنّما يكون بالوصول إلى وجوداتها العينية ؛ فلذا ما لم يصل الجسم المذوق إلى الذائقة لا يحصل الإدراك المسمّى بالذوق ؛ وما لم يصل الشيء الملموس (٢) الخارجي إلى اللامسة لم يتحقّق الإدراك المسمّى باللمس ؛ وقس على هذا غيرهما ؛ واذا لم ينفكّ الوصول عن الإدراك ولم يتحقّق الإدراك التامّ إلّا مع الوصول التامّ فالعشق التامّ لا يكون إلّا مع الوصول التامّ ويكون ذلك ـ كما مرّ ـ ابتهاجا تامّا ولذّة تامّة ؛ فإذن العشق الحقيقي هو الابتهاج بتصوّر حضور ذات ما هي المعشوقة.

ثمّ لا يخفى أنّ الشوق من لوازم العشق ؛ لأنّه الحركة إلى تتميم هذا الابتهاج بحصول ما هو التامّ من الحضور والوصول ؛ فإنّ مراتب الحضور متفاوتة ؛ إذ التمثيل الخيالي حضور ضعيف والحسّي أقوى منه والشهود الإشراقي أتمّ منه إلّا أنّ اللازم بالنظر إلى تعريفه وحقيقته لزومه للعشق الناقص ؛ إذ الحقيقي الكامل لا ينفكّ عمّا هو الأتمّ من الابتهاج والحضور والوصول ؛ وعلى هذا فالعشق

__________________

(١). س : المصور.

(٢). س : الملموسى.

٣٨١

الحقيقي الكامل لا يلحقه الشوق ؛ إذ المعشوق فيه حاضر في كلّ وقت من كلّ وجه ؛ والشوق لا يتصوّر إلّا إذا كان المعشوق حاضرا من وجه غائبا من وجه ولذلك يتقدّس عشقه سبحانه عن الشوق ؛ لأنّه تعالى نال معشوقه من كلّ وجه دائما ، وكلّ مشتاق إلى مرغوب فإنّه قد نال منه شيئا وفاته شيء ؛ وكذا يتقدّس عشق الملائكة القدسية والعقول النورية أيضا من الشوق لبراءتهم عن القوّة ؛ فالشوق إنّما يكون في ساير مراتب العشق ؛ أعني عشق النفوس الفلكية والإنسانية ؛ فإنّ النفوس الفلكية من حيث هم عشّاق قد نالوا نيلا ومن حيث هم مشتاقون قد فقدوا فقدا لعدم وصولهم إلى الغاية القصوى من / B ١٥٩ / الوصول في حقّهم ولذا يصحبها قوّة وهجران أبدا ؛ فهم واجدون في عين الحرمان وواصلون حين الفرقان ؛ ولا محالة يغشيهم نوع دهشة وحيرة وأذى لذيذ ؛ لأنّه من قبل المعشوق والأذي الذي يصل من المعشوق إلى العاشق يكون لعبده (١) لذيذ ؛ لأنّه يتصوّر وصول أثر المعشوق به إليه ووصول الأثر أثر الوصول وهاتان الجهتان ـ أي جهتا اللذّة والأذي ـ في النفوس الفلكية بإزاء الرجاء والخوف في النفوس الإنسانية الفاضلية الصالحة.

وأمّا النفوس الإنسانية فإن كانت كاملة في العلم والعمل واصلة إلى الغبطة العليا والسعادة العظمى في حياتها الدنيا وبه كان أجلّ أحوالها أن تكون عاشقة مشتاقة ؛ فشبوقها يؤدّي إلى الطلب ؛ فإن أدّى الطلب إلى النيل بطل الطلب وخفّت البهجة ووصلت إلى مرتبة الفناء المسمّاة في عرف العرفاء بالولاية ؛ ففازت بمرتبة المقرّبين ولحقت بالملإ الأعلى ؛ فإنّ الإنسان له سبيل إلى الوصول إلى هذه المرتبة ـ كما تقدّمت الإشارة إليه ـ وإن لم يؤدّ طلبها إلى النيل لا يخلص عن علاقة الشوق في الحياة الدنيا وربّما خلصت عنها في الحياة الاخرى ؛ والنفوس الناقصة المنكوسة المغموسة في عالم الطبيعة غير خالية بحسب جبلّتها وفطرتها عن

__________________

(١). س : عبده.

٣٨٢

الشوق إلى الخير الأقصى إلّا أنّها لانتكاسها في عالم الطبيعة وتقيّدها بقيودات الأجسام لا تمكنها الوصول بوجه ؛ فيكون شوقها سبب تأذّيها في المعاد.

[في سرّ كون إدراكه تعالى أتمّ الإدراكات]

السرّ في كون إدراكه تعالى أتمّ الإدراكات حتّى يلزم منه كون ابتهاجه أجلّ الابتهاجات وكذا عشقه وحبّه أنّ مطلق الإدراك يتوقّف على نورية المدرك والمدرك ؛ وكلّما كانت النورية أشدّ كان الإدراك أجلى وأتمّ ؛ فكما أنّ الظهور والجلاء في رؤية الباصرة وإدراكها المبصرات بحسب النورانية فيهما فكذلك الجلاء والانكشاف في إدراك المجرّدات للأشياء بحسب نورانيتها ؛ فلو كان المدرك والمدرك في غاية النورية لكان الإدراك في غاية الجلاء والانكشاف ؛ ولكون الأوّل تعالى صرف النور و/ A ١٦٠ / منوّر النور ونور كلّ نور يكون إدراكه أجلى الإدراكات وأظهرها ؛ ولإدراكات (١) غيره من العقول والنفوس والقوى الباطنة والظاهرة مراتب في الظهور والخفاء بحسب مراتبها في النورانية وهي غير متناهية.

[في فرح من تنوّر بمعرفة ربّه وأشرق بأضواء انسه وحبّه]

من النفوس الإنسانية نفس تنوّرت بمعرفة ربّه وأشرقت بأضواء انسه وحبّه واستشعرت بالارتباط الخاصّ الذي بين العلّة والمعلول والاتّحاد الذي بين الجاعل والمجعول ، وعلم أنّه أقوى النسب والروابط ؛ فعرف من ذلك نسبته الشريفة إليه وانتساب الكلّ إليه ، وتيقّن بأنّ الموجودات بأسرها من رشحات

__________________

(١). س : الإدراكات.

٣٨٣

وجوده والكائنات برمّتها صادرة من فيضه وجوده ، وأنّ الأعيان الممكنة متساوية في ارتضاع لبان الوجود من ثدي واحدة ، والحقائق العينية سواسية في شرب ماء الفيض والجود من مشرع الوحدة الحقّة ، كان فرحانا بالحقّ وبكلّ شيء ويدوم فرحه ؛ إذ الفرح بالحقّ يدوم بدوام العلم ؛ فلا ينفكّ عنه وإن ورد عليه ما يوجب الحزن ؛ والفرح ومثله لا يبالي بغير الحقّ ولا يطلب سواه وكلّ كمال عنده قليل بالنظر إلى معرفته وحبّه وانسه واستغراقه في لجّة توحيده ؛ إذ حبّ الله يصل إلى حدّ لا يشعر المحبّ معه إلى شيء آخر أصلا ؛ إذ البصيرة الباطنة أصدق من البصيرة الظاهرة وجمال الحضرة الربوبية أوفى من كلّ جمال ؛ لأنّه الجمال البحت الخالص وكلّ جمال في العالم سواه فهو مختلط ناقص ؛ ففرحه به يزيل كلّ ترح (١) ويفرح بكلّ شيء يراه من دون تفاوت ؛ لأنّه لا ينظر إلى سواه من حيث إنّه هو حتّى يظهر التفاوت ، بل إنّما ينظر إلى الكلّ من حيث انتسابه إليه والكلّ في الانتساب إليه سواسية ؛ فلا جرم يكون فرحانا بكلّ شيء يراه متواضعا له من دون تفاوت.

به جهان خرّم از آنم كه جهان خرّم از اوست

عاشقم بر همه عالم كه همه عالم از اوست

[في أنّ واجب الوجود بالذات واجب الوجود من جميع الجهات]

واجب الوجود بالذات واجب الوجود من جميع الجهات ؛ والمراد به أنّ جميع كمالاته ـ أي كلّ ما هو كمال للموجود المطلق ـ / B ١٦٠ / حاصل له تعالى بمحض ذاته أزلا وأبدا من غير افتقار فيه إلى غيره ؛ ولا يجوز أن يكون كلّ كمال يمكن له

__________________

(١). التّرح : الحزن والهمّ.

٣٨٤

حصوله (١) لم يحصل في مرتبة ذاته.

والدلالة عليه بعد ما تقرّر من أشرفية الفاعل من فعله واستناد الكلّ إليه بواسطة أو بدونها وعدم كون فعل الشيء كمالا له لأشرفية الفاعل من فعله وغير الأشرف لا يكون كمالا للأشرف أنّ ما فقده في مرتبة لا يمكن أن يكون في الواقع كمالا ؛ إذ إيجاده إمّا منه أو من بعض معلولاته ، وفعل الشيء وفعل فعله لا يكون كمالا له.

فإن قيل : ما ذكرتم في كلّ كمال يمكن أن يوجد له لا للموجود المطلق لجواز أن يوجد لممكن ما هو كمال للمطلق ولم يحصل له.

قلنا : إيجاده إمّا منه أو من غيره ؛ فذاته أشرف منه كما علم ؛ فلا يكون كمالا له ؛ وإذا لم يكن كمالا له (٢) لم يكن كمالا للموجود المطلق ؛ إذ كماله كماله بالضرورة.

وأيضا : اتّصاف الممكن بما هو الكمال دونه سبحانه يوجب أشرفية المعلول من العلّة ؛ وهو باطل.

قيل : العلم والقدرة ونحوهما معلولة للواجب ؛ فلا يكون كمالا له.

قلنا : ما هو المعلول منها غير كمال وما هو الكمال غير معلول ؛ فإنّ الكمال الحقيقي ليس إلّا ذاته وكذا العلم والقدرة وغيرهما ، كما تقدّم مفصّلا.

وممّا يدلّ على المطلوب أنّه لو وجد كمال للموجود المطلق ولم يتحقّق له في مرتبة ذاته ، بل كان ممكن الحصول له بأن يحصل له بعد مرتبة ذاته لكان له قوّة ذلك الكمال قبل حصوله ؛ ولا ريب في ثبوت فعلية بعض الكمالات له أيضا ؛ وظاهر أنّ حيثية الفعلية غير حيثية القوّة ؛ فيتحقّق فيه جهتا الفعل والقوّة ؛ فيلزم التركيب في ذاته ؛ وهو باطل.

__________________

(١). س : + و.

(٢). س : له كمالا.

٣٨٥

[في أنّه تعالى تمام الأشياء]

واجب الوجود تمام الأشياء ؛ بمعني أنّ جميع كمالات الأشياء حاصل له ولا يمكن أن يوجد كمال شيء من الأشياء أن يكون كمالا للموجود المطلق ولا يتحقّق له.

وفرق هذه المسألة عن المسألة السابقة أنّ مبنى الأولى على أنّه لا يمكن أن يوجد كمال في الموجود المطلق لا يحصل له بذاته في مرتبة ذاته ، بل حصل له بعد الذات بإيجاده أو بإيجاد غيره ؛ ومبنى (١) الثانية على أنّه لا يمكن أن يوجد كمال لبعض الأشياء الموجودة / A ١٦١ / لا يتحقّق له أصلا ؛ ولذا لا يمكن أن يستدلّ على الثانية بما استدلّ أوّلا على الأولى ؛ وهو أنّ ما لم يحصل له في مرتبة ذاته ثمّ حصل لا يكون كمالا له ـ كما تقدّم ـ بل لا بدّ أن يستدلّ عليه بما ذكر أخيرا من لزوم التركيب في ذاته.

وحاصله : أنّه تعالى بسيط الحقيقة وقد تقدّم أنّ كلّ بسيط الحقيقة تمام الأشياء الوجودية ، كما صرّح به المعلّم الأوّل وغيره.

والمراد به أنّ جميع كمالات الأشياء ـ أي وجوداتها ـ حاصلة له وإنّما يخرج عنه أعدامها ونقائصها ؛ فكما أنّ كلّه الوجود فكذلك هو كلّ الوجود.

وبيان ذلك ـ كما أشرنا إليه سابقا ـ أنّه تعالى لو فقد مرتبة من الكمال الذي هو الوجود فلا يخلو إمّا أن يكون قابلا لها أم لا.

فعلى الأوّل : يكون له جهة القبول وفيه أيضا جهة الفعلية لبعض الكمالات ؛ فيجتمع فيه جهتا الفعل والقوّة ؛ فيلزم التركيب في ذاته ؛ وهو باطل.

وعلى الثاني : فعدم قابليته لتلك المرتبة من الوجود :

[١.] إمّا لأجل أنّها ليست كمالا له وإن كانت كمالا لبعض الأشياء ؛ وهذا

__________________

(١). س : معنى.

٣٨٦

خلاف الفرض ؛ لأنّ المفروض كون تلك المرتبة لا للموجود المطلق ؛ إذ المقصود من قولنا : «إنّ بسيط الحقيقة تمام الأشياء الوجودية» أنّ كلّ كمالات الأشياء التي هي كمال للموجود المطلق يتضمّنها بسيط الحقيقة ؛ فخلوّه عمّا ليس كمالا للموجود المطلق غير قادح في المطلوب ؛ فجميع ما يسلب عن الواجب من الصفات كالجسمية والجوهرية والعرضية والكمّية والكيفية من هذا القبيل ؛ أي ليس كمالا له ؛ فإنّ قولنا : «الواجب ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض ولا كمّ ولا كيف» يرجع إلى سلب الأعدام والنقائص ؛ وسلب السلب وجود وسلب النقصان كمال الوجود.

[٢.] وإمّا لأنّها كمال للموجود المطلق ومع ذلك ليس الواجب تعالى قابلا له ؛ فذلك إنّما يتصوّر إذا كان له قصور في مراتب الوجود بحيث لا يكون من شأنه أن يتّصف بهذه المرتبة من الكمال ، كما أنّ الجسم في مراتب الوجود بحيث لا يمكن وليس من شأنه لقصوره أن يقبل الوجود النفسي وكذا النفس ليس لها قبول الوجود العقلي والعقل ليس له قبول الوجود الواجبى والعرض ليس له قبول الوجود الجوهري ؛ فيلزم / B ١٦١ / أن يكون الواجب أنقص من بعض الموجودات وأقلّ مرتبة منه ؛ وهو باطل.

فإذن يجب أن يكون بسيط الحقيقة تمام كلّ شيء. فواجب الوجود لكونه بسيط الحقيقة تمام كلّ الأشياء على وجه أشرف وألطف ؛ ولا يسلب عنه شيء إلّا النقائص والأعدام والإمكانات والماهيّات ؛ فهو تمام كلّ شيء وتمام الشيء أحقّ بذلك الشيء من نفسه ؛ فهو أحقّ من كلّ حقيقة بالصدق عليها.

والحاصل : أنّ الواجب ـ كما تقدّم ـ صرف الوجود والوجود المطلق ؛ فلا يتصوّر وجود يكون فوقه وأكمل منه ؛ فكلّ وجود يكون تحته وأضعف منه ؛ فيجب أن يكون مشتملا على كلّ الوجودات التي هي تحته وأضعف منه مع

٣٨٧

بساطته الصّرفة ووحدته الحقّة ؛ فإنّ الوجود (١) كلّما كان أقوى تحقّقا وأتمّ تحصّلا كان مع بساطته أكثر حيطة بالمعاني وأجمع اشتمالا على الكمالات المتفرّقة في الأشياء التي هي غيره ، كما يظهر من المراتب الاستكمالية المندرجة في الكمال من الصورة إلى صورة متعاقبة على المادّة بحسب تكامل استعداداتها لقبول صورة بعد صورة إلى أن يبلغ صورة أخيرة يصدر منها جميع ما يصدر عن السوابق مع الزيادة لاشتمالها من جهة قوّة الوجود على مبادئ تلك الأفاعيل بأسرها مع وحدتها وبساطتها.

فالوجود الواجبي لكونه أقوى الوجودات وأتمّها تحصّلا يكون مع إطلاقه وبساطته الحقّة ووحدته الصّرفة مشتملا على ساير الوجودات المقيّدة بالماهيّات. كيف وهو فاعل كلّ وجود مقيّد وكماله ؛ ومبدأ كلّ فضيلة وكمال أولى بذلك الكمال من ذي المبدأ؟! فمبدأ كلّ الأشياء وفيّاضها يجب أن يكون كلّ الأشياء على وجه أرفع وأعلى.

ألا ترى أنّ في السواد الشديد يوجد جميع الحدود السوادية التي مرتبتها دون مرتبة ذلك الشديد على وجه أبسط وفي الحرارة الشديدة يوجد جميع الحرارات الضعيفة التي أضعف من هذه الشديدة وإن لم يشتملا على خصوصياتها العدمية وتعيّناتها الراجعة إلى النقص والقصور وكذا في المقدار العظيم / A ١٦٢ / يوجد جميع المقادير التي دونه من حيث حقيقة مقداريتها لا من حيث تعيّناتها العدمية من النهايات والأطراف ؛ فالخطّ الواحد الذي هو عشرة أذرع مثلا يشتمل على الذراع والذراعين إلى تسعة أذرع من الخطّ على وجه الجميعة الاتّصالية وإن لم يشتمل على أطرافها العدمية التي يكون لها عند الانفصال عن ذلك الوجود الجمعي وتلك الأطراف العدمية ليست في حقيقة الخطّية التي هي طول مطلق

__________________

(١). س : + و.

٣٨٨

حتّى لو فرض وجود خطّ غير متناه لكان أولى وأليق بأن يكون خطّا من هذه الخطوط المعدومة المنفصلة وإنّما هي داخلة في حقيقته هذه المحذورات الناقصة لا من جهة حقيقتها الخطّية ، بل من جهة ما لحقها من النقائص والقصورات.

فكذلك حال أصل الوجود وقياس إحاطة الوجود الجمعي الواجب الذي لا أتمّ منه بالنظر إلى الوجودات المقيّدة المحدودة بحدود الأعدام والقصورات وقيود الماهيّات والإمكانات ؛ فإنّ جميع الأعدام والنقائص خارجة عن حقيقة الوجود المطلق داخلة في الوجود المقيّد ؛ ولا تظنّن أنّ الوجود الصّرف المطلق الجمعي الواجبي هو بعينه تفيد وتفضل إلى الوجودات المقيّدة المنفصلة الإمكانية المشوبة بالأعدام حتّى يكون مثال الوجود الجمعي الواجبي وتقييده بالوجودات المنفصلة الإمكانية مثال مقدار واحد متّصل طويل الفصل هو بعينه إلى مقادير قصيرة منفصلة بحيث يبطل وجوده الجمعي وتحصل وجودات ضعيفة منفصلة ويتوقّف حصول الوجود الجمعى ثانيا على رفع الانفصالات وحصول الاتّصال بينها ؛ فإنّ ذلك في غاية الفساد ، بل كفر صريح وزندقة صرفة ، لإيجابه أن لا تكون للوجود الواجبي نشأة اخرى وراء نشأة الوجودات الإمكانية وأن لا يكون له تحقّق وتحصّل خارجا عن المظاهر والمجالي ، بل المراد أنّ الوجود الجمعي الواجبي موجود متحقّق بذاته وله نشأة وراء نشأة الممكنات وله تحقّق مغاير لتحقّقها وإنّما أوجد وأفاض بالوجودات الإمكانية الضعيفة المشوبة بالأعدام والماهيّات ؛ ولكون وجوده تامّا فوق التمام و/ B ١٦٢ / علّة الكلّ وموجده يكون تمام الوجودات الإمكانية ؛ بمعنى أنّ ما هو الكمال منها لا يخرج عنه ، بل يكون مشتملا عليه ؛ وليس المراد أنّ هذه الوجودات كما هي في الممكنات وعلى نحو ما هي عليه من الكمالية في الواجب ؛ فهيهات إنّ ذلك من الأوهام الفاسدة ، بل المراد أنّ هذه الوجودات من حيث وجوديتها وكماليتها لا يكون الواجب فاقدا ولكنّ

٣٨٩

تحقّقها فيه على وجه أعلى وأشرف وأكمل بحيث لا مقايسه ولا نسبة متناهية بل غير متناهية بين ما هو في الواجب وما هو في الممكنات ؛ وليس حقيقة ما هو في الواجب وكيفية اشتماله له معلومة لأحد ؛ فإنّ العالم الربوبي عظيم جدّا ولا يمكن أن يدركه أحد من الممكنات المعلولة وما يظهر لنا من معارفه مشتهيات وتخيّلات مهيّجة للأشواق ومقرّبة إلى ما هو الواقع ببعض الجهات.

وما يتوهّم من ظاهر كلام بعض الصوفية من انفصال الوجود الجمعي الواجبي بعينه إلى الوجودات المقيّدة الإمكانية ، كقول بعضهم في تفسير قوله تعالى : (أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما) (١) الرتق إشارة إلى وحدة حقيقة الوجود الواحد البسيط والفتق إلى تفصيلها سماء وأرضا وعقلا ونفسا وملكا ؛ وكما أنّ الوجود حقيقة سارية في جميع الموجودات على التفاوت والتشكيك بالكمال والنقص فكذا صفاته الحقيقية التي هي العلم والقدرة والإرادة والحياة سارية في الكلّ سريان الوجوب على وجه يعلمه الراسخون. فجميع الموجودات حتّى الجمادات جمّة عالمة ناطقة بالتسبيح شاهدة لوجود ربّها عارفة بخالقها ومبدعها ليس محمولا على ما يتراءى منه في بادئ النظر كما يؤمئ إليه قوله : «على وجه يعلمه الراسخون.»

والحقّ الذي يجب أن يعتقده في هذا المقام كلّ موحد ديّن وهو أشرف الأنحاء في علوّ ذاته وقدرته وقوّته وأفضل الوجوه في كيفية صنعه وإفاضته بحسب أذهاننا القاصرة هو ما تقدّم من أنّه تعالى صرف الوجود التامّ الغير المتناهي من حيث الموجودية والكمال والقدرة والقوّة كما يأتي الإشارة إليه ؛ وقد أفاض النظام الأكمل الأعلى الذي لا يعقل ولا يتصوّر ؛ ولا يمكن في الواقع نظام وخلق أحسن وأفضل منه ؛ وهو مشتمل على المجرّدات والمادّيات و

__________________

(١). الأنبياء / ٣٠.

٣٩٠

الجواهر والأعراض ؛ وهي وجودات خاصّة ذوات / A ١٦٣ / ماهيّات مترتّبة في الصدور أوّلها متّصل في الكمال والقوّة بالمبدإ وآخرها بالعدم وهو الهيولى ؛ وكلّها مباينة عن الواجب الحقّ إلّا أنّ المناسبة بين العلّة والمعلول لمّا كانت لازمة وجب أن يكون إفاضته وإيجاده بمعنى الاستتباع وكون تلك الوجودات تابعة لازمة له مترتّبة عليه ولكن بحيث لا ينافي الحدوث الذي أثبته الملّة ؛ وغاية ما يمكنها من التمثيل لهذه التبعية أن يمثّلها بتبعية الظلّ لذي الظلّ والعكس لذي العكس وإن كان الأمر في الواقع أجلّ من ذلك ؛ فهذه الوجودات الإمكانية وجودات ظلّية تابعة للوجود الحقّ الواجبي وإنّما ظلّيتها بالنسبة إلى هذا الوجود المتأكّد الحقّ ؛ فما بين ظلّ الشمس وظلّ الوجود الحقّ من الفرق كالفرق بين الحقّ والشمس.

ثمّ تقدّم أنّه من رجوع المعلولية إلى التبعية وكون الوجودات الإمكانية كالأظلال للوجود الحقّ الواجبي ومن شدّة الارتباط بين العلّة والمعلول ومن كون المعلول مع قطع النظر عن العلّة محض اللاشيء وإن كان بملاحظتها متحقّقا متحصّلا ، يمكن الجمع بين قول الصوفية القائلين بوحدة الوجود وقول الحكماء القائلين بتعدّده بأن يكون مراد الحكماء أنّ الوجودات الإمكانية بملاحظة الواجب وتحقّقه امور متعدّدة متحقّقة تصدر منها الآثار الخارجية والأفعال الواقعة وإن كانت مع قطع النظر عن الواجب معدومة غير متحقّقة ؛ فلها حين وجودها في نظر العارف ملاحظتان :

إحداهما : ملاحظتها من حيث أنفسها مع قطع النظر عن استنادها إلى الواجب الحقّ ؛ وبهذه الملاحظة تكون في نظره محض العدم واللاشيء.

وثانيتهما : ملاحظتها من حيث معلوليتها للواجب الحقّ القائم بذاته وارتباطها به ؛ وبهذه الملاحظة امور متحقّقة متكثرة.

وأمّا الصوفية فما ذكروه في بيان الوحدة كلمات يمكن حملها على ما ذكر ؛

٣٩١

ولو كان في كلام بعضهم ما لا يمكن الحمل عليه فهو مخالف لصريح العقل والنقل.

منها : قولهم : «إنّ الممكنات امور اعتبارية» وهذا بالنظر إلى إحدى الملاحظتين ـ أعني اعتبارها من حيث أنفسها مع قطع النظر عن علّتها ـ صحيح ؛ إذ ظاهر أنّ المعلول في نظر الناظر إلى حقيقة الشيء من حيث هو مع قطع النظر عن علّته مجرّد اعتبار.

ومنها : قولهم : «إنّ الممكنات شئون الحقّ / B ١٦٣ / وارتباطاته واعتباراته» وهذا أيضا صحيح من حيث إنّها مرتبطة به سبحانه بأنفسها لا بارتباط آخر ؛ فهي بالنسبة إليه تعالى كلوازم الماهيّة بالنسبة إليها ؛ وقد تقدّم أنّهم يسمّون المرتبط بالشيء بذاته بنفس الارتباط.

ومنها : قولهم : «إنّها تجلّياته وظهوراته ومظاهره ومجاليه ومراياه وأمثال ذلك» وهذا أيضا يمكن حمله على ما ذكرناه بأن يقال : إنّ الوجود الحقّ الواجبي في غيب الغيوب ومكمن الخفاء وإنّما يظهر للبصائر بما هو بمنزلة أظلاله وعكوسه التي هي الوجودات الإمكانية ؛ فهي مظاهره وظهوراته ومجاليه وتجلّياته.

ومنها : قولهم : «إنّها تنزّلاته وتطوّراته» وهذا أيضا يمكن حمله على ما ذكر من حيث إنّ ظلّ الشيء وعكسه التابع له الناشي من ذاته الواقع من علوّ مرتبة الذات إلى الأسافل نوع تنزّل وتطوّر له.

ومنها : قولهم : «إنّ الحقّ باطن الخلق والخلق ظاهره» وهذا أيضا صحيح من حيث إنّه تعالى في غيب الغيوب وإنّما ظهوره بمخلوقاته التي هي بمنزلة مراياه ومظاهره.

ومنها : قولهم : «الوجود الحقّ الواجبي سار في الممكنات» وذلك أيضا يمكن حمله على ما ذكر بأن يقال : إنّه إشارة إلى شدّة الارتباط بين الواجب والممكنات وكونها متحقّقة بتحقّقه وموجودة بوجوده ؛ فهو ما به موجوديتها ؛ فكأنّه سار فيها ؛

٣٩٢

وحمله على ما هو ظاهره من كونه ساريا فيها بمعنى العارض لها ممّا لا معنى له ولا يمكن أن ينسب (١) إلى عاقل.

ومنها : قول بعضهم : «إنّ الواجب أظهر الأشياء وهو عينها» وما تشابه ذلك ممّا في كلامهم من إطلاق الواجب على بعض الممكنات ؛ وقولهم بأنّه الحقّ ؛ وهذا أيضا يمكن أن يكون إشارة إلى شدّة الارتباط بينها ؛ فإنّ الحقّ (٢) أنّ الارتباط الذي بين العلّة والمعلول أقوى الارتباطات وأشدّها ، بل هو أقوى وأشدّ من الارتباط الذي بين أجزاء شيء واحد ؛ والعارف الذي صفى نفسه عن كدورات الطبيعة وحصل له التجرّد التامّ يشاهد بنور البصيرة هذا الاتّحاد ؛ وربّما ظهر له في بعض خلساته ومجاهداته هذا الاتّحاد بحيث يغيب ويغفل عن الاثنينية بالكلّية ؛ فتصدر عنه أمثال هذه الكلمات دفعة / A ١٦٤ / بلا فكرة ورويّة.

ومنها : ما ذكروه من أنّ للوجود ثلاث مراتب :

أوليها : الإطلاق الصّرف وهو الواجب.

وثانيتها : مرتبة الانبساط.

وثالثتها : مرتبة التقيّد وهو الممكن ؛ وقد تقدّم جليّة الحال فيه.

وبالجملة : لا إشكال في أكثر كلماتهم ولو في ظواهرها وإنّما الإشكال والالتباس في بعض كلماتهم التي يدلّ بظاهرها على أنّ الوجود الواجبي هو بعينه صار ممكنا أو على أنّ بعض الممكنات بعنوان التعيّن أو كلّها أو كلّ واحد منها هو الواجب ؛ وغير خفيّ بأنّ ظاهر أمثال هذه الكلمات لا يمكن أن يكون مقصودا لأحد. فإن كان مرادهم عنه ما ذكرناه فلا كلام وإلّا فليترك مع قائله ؛ فإنّه أعرف بما قال.

فالحاصل : أنّا نشاهد بالعيان ونعلم بالبرهان أنّ في الخارج موجودات

__________________

(١). س : يثبت.

(٢). س : التحقق.

٣٩٣

متكثّرة متحقّقة ذوات آثار خارجية ؛ فالشقوق العقلية المتصوّرة في حقّها لا يخلو عن احتمالات :

الأوّل : أن تكون أشياء متحقّقة متحصّلة ، ذوات صفات وآثار خارجية مباينة عن الواجب الحقّ ، معلولة له بالصدور عنه بعد عدمها المستمرّ الواقعي من دون مناسبة وربط بينهما ؛ وهذا باطل من حيث إيجابه لارتفاع المناسبة بين العلّة والمعلول.

الثاني : أن تكون وجودات خاصّة مشوبة بالماهيّات متحقّقة متحصّلة ، ذوات آثار خارجية ، معلولة للحقّ الأوّل بالارتباط والتبعية ويكون ارتباطها به كارتباط الظلّ لذي الظلّ ؛ ومباينتها عنه ؛ كمباينته عنه ، ويكون نشأة الواجب غير نشأتها وإن كان كلّ ما لها من النشأة والتحقّق والآثار بالواجب تعالى ؛ وهذا هو المختار الذي قرّرناه.

الثالث : أن تكون حقائق متحصّلة ذوات آثار ، كلّ منها واجب الوجود من دون أن يكون واجب آخر خارجا عنها يكون هي معلولة له بشيء من الأنحاء المتصوّرة في المعلولية والإفاضة ؛ وهذا أعظم مراتب الشرك وأشدّها.

الرابع : أن يكون مجموع هذه الموجودات ـ أي مجموع العالم ـ هو الواجب دون كلّ شخص منه بأن يكون العالم كلّه كشخص واحد هو / B ١٦٤ / الواجب وكلّ فرد من الموجودات جزءا منه لا أن يكون معلولا له ؛ وهذا أيضا كفر صريح ليس مذهبا لأحد من الصوفية.

الخامس : أن يكون لجميع هذه الموجودات أمر مشترك بينها مبهم غير متحصّل كالكلّي الطبيعي هو الواجب ويكون تعيّنه بتقيّده بهذه الوجودات أو الماهيّات الخاصّة حتّى يكون المبهم الغير المتحصّل هو الواجب والمتعيّن هو الممكن ؛ ويكون إيجاده عبارة عن تقيّده بالتعيّنات والتشخّصات ؛ وهذا باطل من

٣٩٤

حيث إنّ المبهم لا يصلح للواجبية لكون وجوده أضعف الوجودات ولا يمكن أن يكون المبهم بنفسه منشأ للتأثير ولو بتقيّده بالتعيّنات وهو ظاهر.

السادس : أن يكون لها أمر مشترك متحصّل متعيّن بذاته هو واجب الوجود ومع ذلك يقيّد بجميع هذه القيودات المتعيّنة من الوجودات والماهيّات الخاصّة ويكون تقيّده بها عبارة عن إفاضته إيّاها ؛ وهذا الاحتمال يحتمل وجوها :

منها : أن يكون المراد بالأمر المشترك المتحصّل هو الوجود الصّرف المتعيّن بذاته ويكون المراد بتقيّده بالوجودات الإمكانية هو استتباعه لها على الترتيب السببي والمسبّبي وتكون التبعية كتبعية الظلّ لذي الظلّ ؛ وهذا هو ما اخترناه ولا ضير فيه.

ومنها : أن يكون المراد بالأمر المشترك المتعيّن الذي هو الواجب وجودا مطلقا منبسطا ذا درجات ومراتب ويكون تقيّده بالممكنات عروجا لدرجاته ومراتبه بأن تكون عارضة لذاته المنبسطة ويكون هذا التقيّد والعروض هو إيجاده وجعله وتكون هذه الممكنات العارضة وجودات خاصّة متحقّقة متحصّلة بتحقّق غير تحقّق المعروض.

وبالجملة : تكون امورا عينية متحقّقة بأنفسها ذوات آثار خارجية إلّا أنّها عارضة لذات هذا الوجود المنبسط ؛ وهذا فساده ظاهر ؛ إذ لا معنى لعروض الشيء المتحقّق بنفسه والموجود الخارجي المتحصّل لذات الواجب مع أنّه لا يعقل كيفية درجاته ولا يعلم مخصّص لعروض الممكنات لبعض درجاته وعروض بعض آخر لبعض درجاته الآخر.

ومنها : أن يكون الأمر كما ذكر إلّا أن تكون الممكنات / A ١٦٥ / العارضة لدرجاته امورا اعتبارية غير متحصّلة حتّى يكون مثاله مثال البحر والأمواج ؛ وهذا أيضا باطل ؛ لأنّ هذه الممكنات العارضة إن كانت امورا اعتبارية واقعية نفس

٣٩٥

أمرية فلا معنى لعروضها لذات الواجب ؛ ولا يعلم أيضا وجه التخصّص لاختصاص بعضها بالعروض لبعض درجاته وبعضها ببعض آخر ؛ وإن كانت اعتبارية محضة كأنياب الأغوال ؛ فهو بيّن الفساد ؛ لأنّا نعلم بالبديهة أنّ هاهنا امورا مختلفة بالاختلاف الواقعي ومتعدّدة بالتعدّد الواقعي ؛ فيلزم أن يكون التعدّد أيضا أشياء واقعية عينية منشأ للآثار الخارجية ؛ فإنّ المراد بالأمر الواقعي العيني ليس إلّا ما تصدر عنه الآثار الخارجية ونحن نرى ترتّب الآثار الخارجية على الأشياء المشاهدة والمعلومة بالبرهان ؛ وجعل الكلّ من الآثار ومنشأها من الاعتباريات بيّن الفساد.

وأيضا : يلزم أن ينحصر معلول الواجب تعالى في الاعتباري المحض مع أنّه لا ريب في أنّ المعلول كلّما كان أتمّ وجودا وأقوى وأكثر آثارا في الخارج يكون علّته أيضا أعلى وأكمل ؛ فيلزم منه إذن فرض وجود واجب له معلولات متحقّقة ذوات آثار خارجية أشرف من هذا الواجب.

وأيضا : هذه الممكنات العارضة الاعتبارية إن كانت لها نشأة وتعقّل وراء نشأة الواجب وتعقّله تكون اعتبارية وإلّا فيلزم أن تكون النشئات والتعقّلات التي نشاهدها من الممكنات هي بعينها نشأة الواجب وتعقّلاته ولا يكون له وراء هذه النشئات والتعقّلات نشأة وتعقّل آخر ؛ وهو أيضا باطل.

ومنها : أن يكون المراد بالأمر المشترك المتعيّن بذاته هو صرف الحقّ المتشخّص بالمشخّص الجزئي من دون أن يكون له انبساط وإطلاق يكون بمعنى الانبساط ؛ وإطلاق الإطلاق عليه في بعض الأحيان بمعنى عدم تقيّده في مرتبة ذاته بشيء من القيود ؛ وتعيّنه إنّما هو بنفس ذاته ؛ وهذا الوجود المتعيّن المتشخّص مع جزئيته قد تقيّد بكلّ قيد وتشخّص بكلّ تشخّص وتعيّن بكلّ تعيّن وتلبّس بكلّ لباس كوني وظهر في كلّ مظهر وتجلّى في كلّ شيء وانضمّ إلى

٣٩٦

/ B ١٦٥ / كلّ وجود خاصّ وماهيّة ؛ ومثال ذلك ما نقل عن بعض الكمّل أنّه رأى في آن واحد في مجامع متكثّرة ؛ وهذا أيضا باطل ؛ إذ ما نقل من ظهور شخص واحد في آن واحد في مجالس متعدّدة إن كان بمعنى ظهوره في آن واحد في تلك الأمكنة ببدنه العنصري ؛ فهو ظاهر الفساد ؛ وإن كان بمعنى ظهوره فيها ببدنه المثالي فلو سلّم جوازه فلا يجوز مثل ذلك في الواجب ، إذ تعلّق نفس واحد بأىّ بدن ـ سواء كان عنصريا أو مثاليا (١) ـ إنّما هو تعلّق تدبير وتصرّف لاستكمال تلك النفس وجلّ جناب الحقّ من أن يكون تجلّيه في مجالي الممكنات من هذا القبيل.

وأيضا : ما ظهر فيه الوجود الحقّ الواجبي ـ أعنى الوجود الخاصّ الإمكاني أو الماهيّة الخاصّة الإمكانية أو هذا الشخص الممكن أو ذاك أو غير ذلك ممّا يعبّر عن المظهر والمجلى به ـ إمّا أن يكون له تحقّق وتحصّل مغاير لتحقّق الحقّ المتجلّي فيه أم لا بل يكون أمرا اعتباريا واقعيا نفس أمري أو اعتباريا محضا ؛ وعلى التقادير إمّا أن يكون لوجود الواجب نشأة وتعقّل وراء نشأة كلّ شخص ممكن وتعقّله أو لا بل ينحصر نشأته وتعقّله بهذه النشأة والتعقّلات المشاهدة والمعلومة في الممكنات ؛ وفساد كلّ واحد من هذه الشقوق ممّا لا يخفى بعد الإحاطة بما سبق.

ومنها : أن يكون المراد بالأمر المشترك المتعيّن بذاته الذي هو الواجب صرف الوجود الجزئي الغير المنبسط لكن تنزل أوّلا وانبسط وصار وجودا منبسطا ثمّ تنزل وتقيّد بالممكنات حتّى يكون مثاله مثال ماء منجمد ذابّ فصار بحرا ذا أمواج ؛ ويرد عليه جميع مفاسد الوجوه الثلاثة المتقدّمة مع أنّ الانبساط الذي لا يخلو عن التغيّر والاختلاف لا يعقل عروضه للوجود الحقّ الواجبي.

ثمّ ظهور البحر حينئذ بصورة الأمواج ليس إلّا بتزايد في حجمه وتغيّر في

__________________

(١). س : مثالنا.

٣٩٧

وصفه. فتقدّر وجود الواجب بعد انبساطه لو كان بهذا المعنى لزم تغيّره واختلافه ، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا.

السابع : أن يكون للممكنات أمر مشترك منبسط (١) وهو الوجود المنبسط وتكون الماهيّات الإمكانية اعتبارية وعارضة لدرجاته / A ١٦٦ / ولا يكون هذا الأمر المنبسط هو الواجب ، بل يكون معلولا للوجود الحقّ الواجبي المجعول من كلّ جهة ؛ وهذا يرجع إلى أنّ المعلول الأوّل هو هذا المنبسط وهو الوجود الخاصّ لجميع المعلولات وماهيّاتها عارضة له. فالفرق بينه وبين ما ذكره الحكماء أنّه يلزم على هذا أن يكون الوجودات الخاصّة للممكنات واحدا ؛ وعلى ما ذكره الحكماء يكون متعدّدة ؛ وقد تقدّم في ما سبق وجه فساده.

الثامن : أن يكون الوجود الحقيقي منحصرا في واحد (٢) هو الوجود الواجبي ولا يكون للممكنات وجود حقيقية ، بل كان موجوديتها بمجرّد الانتساب إلى حضرة الوجود الحقيقي ؛ وهذا هو المذهب المعروف بذوق المتألّهين ؛ وقد تقدّم وجه فساده.

هذه هي الوجوه المتصوّرة في هذا المقام بحسب الاحتمال العقلي ؛ وقد عرفت أنّ كلّ واحد منها لا يخلو عن فساد سوى ما ذكرناه ولسنا نتصوّر احتمالا آخر حتّى نتأمّل في صحّته أو فساده ؛ فتثبّت في المقام ؛ فإنّه من مزال الأقدام وفيه يتميّز الكفر عن الإسلام.

[في أنّه تعالى غير متناهي القوّة والشدّة ، وما سواه متناه محدود]

واجب الوجود غير متناهي القوّة والشدّة وما سواه متناه محدود ؛ وذلك لما

__________________

(١). س : + هو حقيقة المتكلم.

(٢). س : منحصرا بواحد.

٣٩٨

عرفت من أنّه محض حقيقة الوجود الذي لا يشوبه شيء غير الوجود ؛ فلا يلحقه حدّ ونهاية ؛ إذ لو كان له حدّ ونهاية كان له تخصّص وتجدّد بغير حقيقة الوجود ؛ فيحتاج إلى سبب تخصّصه وتجدّده ؛ فلم يكن محض حقيقة الوجود.

وتوضيح ذلك : أنّ كلّ وجود خاصّ إمكاني وكلّ ماهيّة خاصّة إمكانية لقصوره عن الحيطة التامّة محدود بحدود خاصّ جامع ومانع تخرج عنه أشياء كثيرة ولا يكون متحقّق الوجود في جميع المراتب الوجودية ؛ فتتحقّق قبل وجوده الخاصّ مرتبة من مراتب نفس الأمر لا يكون هو موجودا في تلك المرتبة وإن كان موجود خاصّ آخر متحقّقا فيها.

وأمّا الواجب تعالى فلكونه صرف الوجود المطلق عن كلّ قيد لا يكون له حدّ محدود في الوجود ولا ماهيّة محدودة بحدّ خاصّ فاقد لأشياء كثيرة ولا توجد مرتبة في الواقع لم يكن هو موجودا في تلك المرتبة ؛ فإنّ معنى كونه وجودا صرفا بحتا أنّه ليس له جهة اخرى غير الوجود وتأكّده ؛ فجميع حيثياته حيثية واحدة هي حيثية / B ١٦٦ / وجوب الوجود ؛ فلا حدّ له ولا نهاية في الوجود ؛ فهو غير متناه في الوجود ؛ بمعنى أنّ كلّ وجود ذي قوّة وشدّة فرض له فوجوده أشدّ منه ولا ينتهي إلى حدّ محدود في الشدّة ؛ فهو غير متناه في مراتب الشدّة والكمال كلّ مرتبة منها متناه في عدّة الآثار والأفعال ؛ فلا يخلو عنه وجود شيء من الأشياء ؛ ولو كان لوجوده نهاية كان بإزاء وجوده جهة وبإزاء نهايته جهة اخرى ؛ فلم يكن واحدا حقيقيا وكان ذا ماهيّة مخصوصة ؛ فكلّ واحد حقيقي يجب أن يكون غير متناهي الشدّة والقوّة ؛ فيكون كلّ الأشياء الوجودية ، كما مرّ.

فالواجب سبحانه لا نهاية له ولا حدّ ولا يعتريه قوّة إمكانية ولا نقص ولا يلحقه ماهيّة ولا يشوبه عموم وخصوص ولا جنس له ولا فصل ولا تشخّص له بغير ذاته ولا صورة له كما لا فاعل له ولا غاية له كما لا نهاية له ، بل هو صورة

٣٩٩

ذاته ومصوّر كلّ شيء وذاته كمال ذاته وكمال كلّ شيء ؛ لأنّه بالفعل من جميع الوجوه ؛ فلا برهان عليه ولا معرّف له كما لا حدّ له ؛ فهو الذي دلّ على ذاته [بذاته] وتنزّه عن مجانسة مخلوقاته. (١)

__________________

(١). بحار الأنوار ، ج ٨٤ ، ص ٢٣٩ ؛ ج ٩١ ، ص ٢٤٣ ، ٢٥٠ ونور البراهين ، ج ١ ، ص ٣.

٤٠٠