اللّمعات العرشيّة

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

اللّمعات العرشيّة

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: علي اوجبي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: انتشارات عهد
المطبعة: نگارش
الطبعة: ٠
ISBN: 964-5763-11-8
الصفحات: ٥١٩

والبصير ؛ فإنّها عبارة عن الذات مع اعتبار العلم والقدرة والسمع والبصر التي هي غير زائدة على الذات ولكن يتوقّف تعقّلها على تعقّل الغير وإن لم يتوقّف على وجوده لكونه عالما إذ لا معلوم وقادر إذ لا مقدور وهكذا ؛ يسمّى هذان القسمان أسماء الصفات وإمّا أن يتوقّف على وجود الغير وعلى تعلّقه به معا ، كالخالق والرازق ؛ ويسمّى هذا القسم أسماء الفعل. فالأقسام الأوّلية أربعة.

ولو شئت عدّدتها في التقسيمين ثلاثة بجعل الأسماء التي للإضافة بقسميها في التقسيم الأوّل وأسماء الصفات بقسميها في الثاني قسما واحدا ولا مشاحّة في ذلك.

وأمّا الاسم الذي هو الذات مع اعتبار استجماعه لجميع الصفات ، كاسم «الله» الذي هو للذات المقدّسة المستجمعة لجميع الصفات الكمالية فهو أصل الأسماء وجامعها / A ٦٢ / ويسمّى بالاسم الأعظم والإمام الأعظم والرئيس الأقدم وهو ليس قسما خامسا أو رابعا ، بل هو عبارة عن مجموع الأقسام وداخل فيها ، بل هو عينها.

وإذ عرفت أنّ اصول حضرات الأسماء والصفات أربعة فاعلم أنّ العوالم التي هي أفعاله تعالى ومظاهر أسمائه وصفاته مع كثرة أشخاصها وعدم تناهيها منحصرة أيضا في أربعة :

الأوّل : عالم الملك والشهادة ؛ وهو عالم الأجسام وما فيها من القوى والطبائع ؛ ووجوده بديهي محسوس ؛ وينقسم إلى العرش والكرسيّ والسموات والأرضين وما فيهنّ وما بينهنّ وما تحتهنّ وما فوقهنّ.

والثاني : عالم المثال ؛ وهو عند المشّائين موجود في القوى الدرّاكة الفلكية والأرضية ، وليس عالما قائما في نفسه خارجا عن عالمى المحسوسات والمعقولات ؛ وعند الإشراقيّين عالم برأسه قائم بذاته موجود بين المحسوسات و

١٦١

المعقولات وليس قائما بإحداهما ؛ والامور المشاهدة في النوم إنّما يكون في هذا (١) العالم.

[الثالث :] عالم النفوس الشاملة للنفوس المجرّدة المتعلّقة بالأفلاك المنطبعة الحالّة فيها وليس لها حال منتظر إلّا ما يفاض عليها من الكمال والفعلية بتحريك الأجرام بأن تشبه وتناسب بالحقّ الأوّل والعقول القادسة الفعلية من كلّ جهة وللنفوس الإنسانية المجرّدة التي هي ناقصة في أنّ الحدوث يتكامل بالتدبّر والتصرّف في الأبدان.

ومن عالم النفوس عالم الجنّ والشياطين وأشباههم ؛ ويسمّى عالم النفوس بعالم الملكوت الأولى.

[الرابع :] عالم العقول المسمّى بالملكوت الأعلى والملأ الأعلى هي

موجودات مرتّبة عند المشّائين ؛ وعددها كترتيبها مشهورة.

ومن ذلك العالم عالم الملائكة المقرّبين باختلاف مراتبهم من مهيمنين والمستغفرين والصافّين والحافّين والمسبّحين ؛ وعالم الأرواح من روح القدس وغيرها.

فالعوالم أربعة إن عددت عالم المثل عالما برأسه كما عليه الإشراقيّون ؛ وثلاثة إن لم يكن عالما برأسه كما / B ٦٢ / ذهب إليه المشّاءون.

وأمّا عالم الأعيان الثابتة في الخارج كما ذهب إليه المعتزلة فبيّن الفساد وفي العلم كما عليه الصوفية ؛ فعلى تقدير ثبوته فليس عالما يكون مظهرا لأسمائه وصفاته ؛ إذ لا تترتّب عليه آثار (٢) إلّا في الشهود العلمي والحضور الانكشافي ؛ فهو ليس عالما خارجيا آخر.

__________________

(١). س : هذ.

(٢). س : آثارا.

١٦٢

وأمّا عالم الإنسان الصغير الجامع لجميع العوالم فهو وإن كان مظهرا أعظم ونظيرا للاسم الجامع الأقدم وزبدة الكلّ ومنتخب الجلّ إلّا أنّه ليس عالما برأسه ، بل هو عبارة عن مجموع العوالم وداخل فيها.

ولنا أن نقول بعبارة اخرى : كما أنّ اصول الحضرات الأسمائية والصفاتية أربعة أو ثلاثة كذلك اصول المظاهر وأمّهات النشئات الكونية أربعة أو ثلاثة : النشأة الدنيوية والبرزخية والاخروية المنقسمة إلى النشأة الجنّتية والنشأة النارية (١) ؛ فإن جعلت الاخروية نشأتين فالنشئات أربعة وإن جعلت واحدا فثلاثة.

وجميع تلك العوالم والنشئات مظاهر الأسماء وواقعة تحتها ومناسبة لها ؛ وأعداد اصولها مطابقة لأعداد اصولها وكلّ منها مظهر لما يناسبه وكلّها مرتّبة وفي كلّ مرتبة مراتب لا تحصى كثرة ولكنّها ليست على السواء ؛ لأنّ بعضها مظهر اسم واحد وبعضها مظهر الأكثر من واحد وبعضها مظهر الجميع تفصيلا وإجمالا ؛ فلكلّ موجود حظّ من بعض أسمائه دون كلّها سوى الإنسان ؛ فإنّ له رتبة المظهرية للكلّ ولذا صار قابلا للخلافة الإلهية ؛ فحظّ الملائكة إنّما هو من اسم السبّوح والقدّوس ؛ فإنّه بعض أسمائه ؛ قالوا : (نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) (٢) وهذا القول من اقتضاء التعظيم والتبجيل ولذلك ما عصوا ربّهم قطّ ؛ وحظّ الشياطين من اسم الجبّار والمتكبّر ؛ فإنّه أيضا بعض أسمائه ، كما قال رئيسهم : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) (٣) وهذا القول من اقتضاء التكثّر ؛ ولذلك عصى وغوى ؛ وكذلك لكلّ موجود حظّ لا يشاركه فيه غيرها ؛ وليس هذه الخصوصية إلّا لاقتضاء الاسم الذي هو داخل تحته ؛ والإنسان مظهر جميع الأسماء الجلالية والجمالية : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) (٤) ولذلك عصى تارة وأطاع اخرى ؛ وليس

__________________

(١). س : النار.

(٢). البقرة / ٣٠.

(٣). الأعراف / ١٢.

(٤). البقرة / ٣١.

١٦٣

المراد بآدم هو / A ٦٣ / أبو البشر وحده ، بل هو وذريّته المستعدّون بحسب فطرتهم الأصلية لتعليم الأسماء الإلهية وظهورها فيهم بالقوّة أو الفعل كما يومئ إليه قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) (١) ـ الآية ـ وكلّ من كان فعلية ظهور هذه الأسماء فيه كلّا أو جلّا أكثر كان أكمل من غيرها ، كالأنبياء والأوصياء بحسب مراتبهم ؛ وكلّ من كان ظهورها فيه على أكمل الوجوه وأقواها وأتمّها وعلى أعلى مراتب الفعلية الممكنة في نوع الإنسان فهو أشرف الكلّ وقدوة الجميع ؛ والفيض المتوسّط بين الخلق والحقّ والبرزخ بين الموجودات الإمكانية والوجود المطلق هو منتهى شئون الأعيان والحدّ المشترك بين الوجوب والإمكان (وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ) (٢) (٣) ويسمّى هذه المرتبة عند أهل الله بالوجود المحمّدي والنور الأحمدي.

ولك أن تقول بعبارة اخرى : إنّ مجموع العوالم بتفاصيلها مظهر جميع الأسماء تفصيلا وبجملتها مظهر اسم «الله» تعالى وهو الاسم الأعظم إجمالا وبحسب ظاهرها ؛ والنشأة الدنيوية مظهر اسم «الظاهر» و «الرحمن» وبحسب باطنها ؛ والنشأة الاخروية مظهر اسم «الباطن» و «الرحيم».

وكذا الإنسان بتفاصيله مظهر جميع الأسماء تفصيلا أدون من تفصيل العالم وبجملته مظهر اسم «الله» والاسم الأعظم إجمالا أكثر من إجمال العالم ؛ وهو بحسب الظاهر مظهر اسم «الرحمن» و «الظاهر» ، وبحسب الباطن مظهر اسم «الرحيم» و «الباطن». فالعالم بجملتها في كفّة الميزان والإنسان في كفّة اخرى مع أنّه منها وداخل فيها.

ومن تأمّل في ما ذكرناه وأدرك حقيقة معناه يجد من علوّ قدر (٤) الله وجلاله و

__________________

(١). الأعراف / ١١.

(٢). س : يعرفون سيماهم.

(٣). الأعراف / ٤٦.

(٤). س : قدره.

١٦٤

عظمته وكبريائه ما يبهر العقول ويدهش به أفهام الفحول.

[في جعل الوجودات الخاصّة عند الصوفية والمتكلّمين والحكماء]

قد عرفت أنّ المجعول بالذات هو الوجودات الخاصّة دون الماهيّات وأنّ الجعل إنّما هو التعلّق والتبعية ؛ والغرض هنا بيان أنّ جمعها مجعولة للواجب تعالى ابتداءً كما تراه قوم من الصوفية والمتكلّمين أو أنّ جمعها ليست مجعولة له بلا واسطة ، بل إنّما الجعل والصدور منها بالترتيب السببي والمسبّبي كما / B ٦٣ / اختاره الحكماء. فيقول جمهور الحكماء (١) : إنّ أوّل الصوادر منه سبحانه جوهر قدسي بسيط وبتوسّطه يتكثّر شعب الوجود ويتفجّر ينابيع الفيض والجود ؛ واحتجّوا على ذلك بامتناع صدور الكثرة عن الواحد الحقيقي بلا واسطة ؛ إذ الواحد لا يصدر عنه إلّا الواحد ؛ واستثناء الآثار المتعدّدة إلى المؤثّر الواجب الحقيقي لا يمكن إلّا بتعدّد الإله كصدورها عن النفس الناطقة بتوسّط الأعضاء والقوى الحالّة فيها أو بتعدّد الشروط والقوابل كصدور الآثار والحوادث المتكثّرة في عالم العناصر عن العقل الفعّال لتعدّد الشرائط والقوابل ؛ وأمّا الواحد الحقيقي الذي ليس لفعله آلة ولا تعدّد شرائط وقوابل ـ كالحقّ الأوّل ـ فلا يجوز أن يصدر عنه أوّلا إلّا أثر واحد (٢) ؛ إذ لا بدّ أن تكون بين العلّة والمعلول مناسبة تامّة يصدر بها ذلك المعلول عنها وإلّا جاز أن يصدر كلّ شيء عن كلّ شيء (٣) إذا كانت المناسبة لازمة بينهما.

نقول : لو صدر معلول عن علّة واحدة من كلّ جهة بمناسبة خاصّة بينهما ؛ فلو صدر عنها معلول آخر ، فإن كان صدوره بتلك المناسبة اتّحدت (٤) المعلولات

__________________

(١). س : + على.

(٢). س : الواحد.

(٣). س : + و.

(٤). س : اتحد.

١٦٥

لاتّحاد العلّة والمناسبة ؛ ولو كان بمناسبة اخرى لزم اشتمال العلّة على جهات متعدّدة ؛ وهو خلاف الفرض.

وبتقرير آخر : لو صدر عن الواحد من حيث هو واحد «ا» و «ب» مثلا و «ا» ليس «ب» فقد (١) صدر عنه عن الجهة الواحدة «ب» وما ليس «ب» ؛ وذلك يوجب اجتماع النقيضين.

وبتقرير آخر : لو صدرت (٢) الكثرة عن الواحد الحقيقي وجب أن يكون مناسبا لها والكثرة من حيث هي متغايرة له ؛ فلو كانت العلّة الواحدة من حيث هي واحدة مناسبة لتلك الكثرة من حيث هي كثرة لكانت مغايرة لنفسها مع أنّها من حيث الوحدة مناسبة لنفسها ؛ هذا خلف.

ثمّ الظاهر اتّفاق الكلّ على امتناع صدور معلول واحد عن علل متعدّدة مع أنّ ما استدلّوا به عليه يجرى مثله في صدور المتعدّدة عن الواحد. / A ٦٤ /

والتحقيق : أنّ استحالة ذلك ممّا لا ريب فيه وما ذكرناه من الأدلّة وغيرها تامّة غير قابلة للمنع ؛ فلو كان المتعدّد معلولا لواحد وجب أن يكون إمّا في مراتب متعدّدة أو تكون للواحد جهات متكثّرة بتكثّر المعلول حتّى يكون صدور الكثرة عنه باعتبارها.

ثمّ الأشاعرة كبعض المتكلّمين خالفوا الحكماء في تلك المقدّمة ـ أعني استحالة صدور الكثرة عن الواحد الحقيقي ـ وجوّزوا استنادها إليه ولذا صرّحوا باستناد الممكنات برمّتها حتّى أفعال العباد إليه سبحانه بلا واسطة مع تنزّهه عن شوائب التركيب والكثرة.

والصوفية وقوم آخر من الكلاميّين وافقوا الحكماء في تلك المقدّمة إلّا أنّهم أثبتوا للواجب صفات ونسب وإضافات مغايرة لذاته مفهوما لا مصداقا وذهنا

__________________

(١). س : فقدر.

(٢). س : صدر.

١٦٦

لا خارجا ؛ وجوّزوا صدور الكثرة عنه أوّلا لأجلها.

وبطلان مذهب الأشاعرة ومن وافقهم من المتكلّمين ظاهر لا يحتاج إلى بيان وما قرّرناه من أدلّة امتناع صدور الكثرة عن الوحدة حجّة عليهم على أنّ الأشاعرة وإن جوّزوا استناد الآثار المختلفة إلى الله تعالى لكنّهم لمّا أثبتوا للواجب تعالى صفات حقيقية زائدة على ذاته يلزمهم أن لا يقولوا بكونه واحدا حقيقيا ويلتزموا بتركّبه تعالى من الذات والصفات تعالى ربّنا عن ذلك ؛ فهم في أوّل الأمر خارجون عن هذا المقام ؛ والمتكلّمين الذين وافقوهم في جواز صدور الكثرة عن ذاته لمحض تعدّد الإرادة وتكثّر المشيّة من غير اعتبار كثرة اعتبارية حتّى السلوب والإضافات منعوا تلك المقدّمة الحقّة المبرهنة عليها من دون حجّة.

ثمّ لو كان مذهبهم أنّ صدور الكثرة عنه على الترتيب لا يمكن توجيه كلامهم على ما وافق الحقّ إلّا أنّ ظاهر كلماتهم أنّه بدونه مع أنّ الظواهر الواردة من الشريعة مشعرة بالترتيب كقولهم : «أوّل ما خلق الله العقل» (١) أو «القلم» (٢) أو «الروح» (٣) أو «النور» (٤) أو «الماء» (٥) وقوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) (٦) و (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) (٧) وقوله : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) (٨).

__________________

(١). انظر : بحار الأنوار ، ج ١ ، ص ١٠٥ ؛ الجواهر السنية ، ص ١٤٥ ، ٣٣١ ؛ الرواشح السماوية ، ص ٣٥ ، ٢٠٢ ؛ سعد السعود ، ص ٢٠٢ ؛ شرح الأسماء الحسنى ، ج ١ ، ص ٨١ ؛ ٢٥٢ ومع تفاوت ما في : الكافي (كتاب العقل والجهل) حديث ١٤.

(٢). انظر : بحار الأنوار ، ج ٥٧ ، ص ٣٠٩ ، ٣١٣ ، ٣٦٢ ، ٣٦٦ و ٣٧٤ ـ ٣٧١.

(٣). انظر : شرح اصول الكافي (للمولى محمّد صالح المازندراني) ، ج ١٢ ، ص ٨.

(٤). انظر : بحار الأنوار ، ج ١ ، ص ٩٧ ، ١٠٥ ؛ ج ١٥ ، ص ٢٤ ؛ ج ٢٥ ، ص ٢٤ وج ٥٤ ، ص ١٧٠ ؛ تفسير قمي ، ج ١ ، ص ١٧ ؛ الرواشح السماويّة ، ص ٣٥ ؛ سنن النبيّ ، ص ٤٠٠ ؛ عوالي اللئالي ، ج ٤ ، ص ٩٩ ؛ الغدير ، ج ٧ ، ص ٣٨ ؛ مستدرك سفينة البحار ، ج ٢ ، ص ١٤ وج ٧ ، ص ٣١٦ ؛ نور البراهين ، ج ١ ، ص ١٧٩ وج ٢ ، ص ٢٠٧ ومع تفاوت ما في : الكافي (كتاب العقل والجهل) ، حديث ١٤.

(٥). انظر : بحار الأنوار ، ج ٥٧ ، ص ٦٧ و ٧٣.

(٦). الأعراف / ٥٤ ، يونس / ٣ ، الرعد / ٢ ، الفرقان / ٥٩ ، السجدة / ٤ والحديد / ٤.

(٧). البقرة / ٢٩ ، فصّلت / ١١.

(٨). النازعات / ٣٠.

١٦٧

أمّا المتكلّمون الموافقون / B ٦٤ / للحكماء في تلك المقدّمة فقالوا : إنّ ذاته واحد حقيقي من كلّ جهة لكن لا ينافي وحدته الحقّة الحقيقية كثرة الاعتبارات من السلوب والإضافات ؛ فإنّه لا زال مسلوبا عنه صفات الممكنات وأحوالها ومتّصفا بالإضافات ، ككونه تعالى عالما قادرا خالقا رازقا إلى غير ذلك من الإضافات ؛ فيمكن أن تصدر عنه الكثرة باعتباره الإضافات والسلوب المتكثّرة ؛ وهذه الاعتبارات والقول بصدور الكثرة لأجلها نظير ما أثبته الحكماء من الجهات والاعتبارات في العقل الاوّل وإسناد صدور الكثرة إليها ؛ والفرق أنّ الجهات والاعتبارات الحاصلة في العقل بعضها مجعول بالذات كالوجود وبعضها مجعول بالعرض كالماهيّة والإمكان والتعقّل ، والاعتبارات الحاصلة للواجب من السلوب والإضافات فإنّما هي منتزعة من ذاته بذاته وكلّها راجعة إلى وجوب الوجود والقيّومية المطلقة ؛ فلا يلزم تكثّر وجهات واقعية في ذاته تعالى ؛ ومعنى انتزاعها عن ذاته أنّه لو وجد الغير الذي كان من شأنه الانتزاع لا ينتزعها عنه ولا يتوقّف حصولها له تعالى على وجود الغير في الخارج ؛ إذ الفرض توقّف وجوده منه على هذه الاعتبارات ؛ فلو توقّف حصولها أيضا عليه لزم الدور ؛ أيضا لو توقّفت هذه السلوب والإضافات على وجود الغير في الخارج لزم عدم اتّصاف الواجب بها قبله ؛ فيلزم أن لا يكون الواجب قبل إيجاد الصادر الأوّل عالما قادرا مريدا متكلّما إلى غير ذلك من الصفات الآفاقية ولا مسلوبا عنه الجسم والجوهر والعرض وأمثالها ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا. فثبوت هذه الاعتبارات يتوقّف على تعقّل الغير على فرض وجوده لا على ثبوته فيه ؛ ووجود الغير في الخارج يتوقّف على تعقّلها على النحو المذكور ؛ فلا يلزم شيء من المحذورين.

وأورد عليهم بأنّ هذه السلوب والإضافات المتعدّدة لا بدّ من وجودها في ظرف حتّى / A ٦٥ / يصير منشأ لصدور الكثرة مع أنّها ليست موجودة في الخارج و

١٦٨

هو ظاهر ولا في علم الغير وإلّا كانت موقوفة على ثبوته ولزم الدور ولا في علم الواجب تعالى وإلّا لزم التكثّر في ذاته ؛ فمن أين يحصل حتّى تستند الكثرة إليها؟!

وأجابوا بأنّ حصولها في علم الله تعالى الإجمالي أو غيره على وجه لا يلزم التكثّر في ذاته ؛ وتفصيل ذلك يحتاج إلى تفصيل ليس هنا محلّه.

وبالجملة : يمكن أن يقال : إنّ تعدّد السلوب والإضافات إنّما يقتضي وجود المسلوب والمضاف وجودا عليما إجماليا لا وجودا علميا تفصيليا ؛ وهذا (١) النحو من الوجود أيضا مجعول لكن لا تترتّب عليه الآثار الخارجية وهذه الوجودات العلمية الإجمالية منشأ لصدور الممكنات العينية بالوجود الأصلي التفصيلي على الترتيب أو بدونه.

والمحصّل : أنّ هؤلاء المتكلّمين وافقوا الحكماء في القول بالمقدّمة المذكورة وخالفوهم في قولهم بحصول الاعتبارات لذاته كما قرّرناه وعدم قدحها في وحدته الحقّة كما أنّ الحكماء قالوا بحصول الاعتبارات في العقل الأوّل وأيضا الحكماء قالوا بصدور (٢) الكثرة عنه تعالى على الترتيب ولا يعلم من مذهب هؤلاء المتكلّمين أنّه على الترتيب أو بدونه لكنّ الظاهر قولهم بالترتيب نظرا إلى ثبوته بالنقل.

هذا ما ذكره هؤلاء المتكلّمون مع التنقيح والتوضيح وأنت تعلم أنّه فرق بين الاعتبارات الحاصلة في العقل الأوّل والاعتبارات الحاصلة للواجب. فإنّ العقل بعد صدوره عن الواجب تعالى يلزمه المعلولية والانحطاط (٣) عن صرافة الوجود والوجوب الذاتي ؛ جهات عدميته راجعة إلى النقص والقصور ؛ وهذه الجهات امور واقعية يوجب نوع تركيب في ذاته ؛ إذ لا ريب في أنّ الجهة التي تنتزع عنها الماهيّة مغايرة في الواقع للجهة التي ينتزع عنها الوجود العامّ ؛ والقول ببساطته ووحدته

__________________

(١). س : هذ.

(٢). س : الصدور.

(٣). س ، الانحطاطه.

١٦٩

من جميع الجهات فاسد ؛ فهو بكلّ جهة تناسب معلولا يمكن أن يصدر عنه وأمّا الواجب تعالى فلا ريب في / B ٦٥ / أنّه صرف الوجود المتقدّس عن كلّ جهة واقعية إلّا أنّه مع وحدته الحقّة وبساطته التامّة حقيقته أنّه مجرّد والواجب الوجود وقيّوم للكلّ (١) ؛ وكلّ واحد من هذه الثلاثة ـ أعني التجرّد ووجوب الوجود والقيّومية المطلقة ـ راجعة إلى صرافة الوجود ؛ إذ فرض عدم بعضها يوجب خروجه عن الصرافة والمحوضة ؛ فهي لا يوجب تكثيرا وتعدّد جهة فيه ؛ وهذه الثلاثة ليست معلولة له تعالى ولا جهات واقعية مغايرة للذات ، بل هي غنيّ الذات وفي مرتبته ما يتراءى من مغايرة مفهوماتها للذات إنّما هو مجرّد اعتبار العقل وتحليله ، ولا مغايرة في الواقع بوجه.

ثمّ وجوب الوجود يلزمه الحياة والأزلية والأبدية وغيرها من الصفات الكمالية من دون لزوم تكثّر وتعدّد ؛ فهي أيضا ثابتة في مرتبة الذات من غير معلولية لها والتجرّد يلزمه العلم الكمالي وهو أيضا غنيّ الذات وجميع الصفات الإضافية لازمة للقيّومية المطلقة ؛ ومبدأ الجميع وإن كان غنيّ الذات إلّا أنّ مفهوماتها المتغائرة بالتغاير الواقعي نظرا إلى انتزاعها عن الامور المتغائرة معلولة له تعالى غير موجودة في مرتبته ، مترتّبة على القيّومية المطلقة ؛ ولترتّبها عليها ورجوعها إليها لا يوجب تكثّرا وتعدّد جهة في الذات ؛ وكما أنّ عدم وجودها في مرتبة الذات لا يوجب نقصانها لعدم كونها كمالا لها ؛ إذ المعلول لا يكون كمالا للعلّة ، فكذا عدم ثبوتها قبل وجود المعلول الأوّل لا يوجب نقصا في الذات مع أنّها كما لا يتقدّم عليه لا يتأخّر عنه أيضا بل ثبوتهما في مرتبة واحدة متأخّرة عن الذات بالتأخّر الذاتي دون الزماني.

فظهر أنّ هذه الاعتبارات وإن كانت ثابتة للواجب تعالى إلّا أنّ ثبوتها على

__________________

(١). س : لا كمل.

١٧٠

وجه لا يوجب تكثّرا وتعدّد جهة في ذاته الأقدس ؛ فلا يوجب شيء منها جهة واقعية في الذات حتّى يمكن (١) أن يصدر عن الذات باعتبارها شيء وباعتبار جهة اخرى شيء آخر (٢) ، بل المسلّم حينئذ أن يكون الصادر عنه واحدا / A ٦٦ / مناسبا له في هذه الصفات على النحو الذي يمكن تحقّقه في أشرف الممكنات ؛ فاللازم حينئذ أن يصدر عنه أوّلا شيء يناسب ذاته الكاملة من وجه بحيث يكون مظهرا جامعا إجماليا لجميع صفاته الثبوتية والسلبية والجلالية والجمالية وما هو إلّا العقل الأوّل ؛ فهو المظهر الجامع الإجمالي للواجب تعالى وأسمائه وصفاته وبتوسّطه تحصل لها مظاهر عينية تفصيلية ومجالي حقيقية خارجية.

فإن قيل : يمكن أن يكون علمه تعالى قبل الإيجاد بالمسلوبات والمضافات المتكثّرة سببا لصدور الكثرة عنه تعالى بأن يكون الذات مع اعتبار كلّ واحد منها علّة لصدور بعض الأشياء.

قلنا : علمه الحقيقي الكمالي ليس إلّا بحت الذات فلا تكثّر فيه ؛ وعلمه الحضوري الإضافي الإشراقي لا يكون إلّا مع وجود المعلوم في الخارج أو بعده ؛ فلا يتقدّم حتّى يصير سببا لصدوره ؛ والعلم الصوري التفصيلي على فرض صحّته إنّما هو على الترتيب السببي والمسبّبي عند القائلين به ؛ فما ترتّب عليه في الخارج أيضا كذلك.

وأمّا الصوفية فإنّهم وإن وافقوا الحكماء في المقدّمة المذكورة وامتناع صدور الكثرة عن الواحد الحقيقي من حيث هو واحد إلّا أنّهم خالفوهم في المبدأ الأوّل والصادر الأوّل وكيفية الصدور ؛ فإنّهم أثبتوا للواجب صفات ونسبا مغايرة لذاته عقلا لا خارجيا ؛ وجوّزوا صدور الكثرة عنه بتوسّطها ؛ وقالوا : إنّه تعالى من حيث وحدته الذاتية لا يثبت له إلّا واحد من تلك الصفات والاعتبارات وبواسطته يلحقه

__________________

(١). س : ممكن.

(٢). س : اخرى.

١٧١

سايرها وبواسطة تكثّرها تحصل كثرة وجودية حقيقية ؛ وصرّحوا بأنّ حصول الكثرة الوجودية إنّما هو على الترتيب ؛ واختلف كلامهم في الصادر الأوّل :

فقال بعض المتأخّرين منهم : «إنّ للوجود مراتب :

أوليها : الوجود الذي لا يتعلّق بغيره ولا يتقيّد بقيد ؛ وهو الحريّ بأن يكون مبدأ الكلّ.

وثانيتها : الوجود المتعلّق بغيره من العقول والنفوس والطبائع والموادّ والأجرام.

وثالثتها : الوجود البسيط الذي ليس شموله وانبساطه على نحو / B ٦٦ / عموم الكلّيات الطبيعية ولا خصوصه على سبيل خصوص الأشخاص المندرجة تحت الطبائع النوعية أو الجنسية ، بل على نهج يعرفه العارفون ويسمّونه النفس الرحماني وهو الصادر الأوّل عن العلّة الأولى وهو أصل العالم وحياته ونوره الساري في جميع السماوات والأرض في كلّ بحسبه وليس هو الوجود الانتزاعي الإثباتي الذي هو كسائر المفهومات الكلّية.

وإلى هذه المراتب وقعت الإشارة في كلام بعض العرفاء حيث قال : «الوجود الحقّ هو الله والوجود المطلق فعله والوجود المقيّد أثره» ومراده من الأثر نفس الماهيّات ؛ إذ هي بمنزلة قيود الموجودات الخاصّة وهي ليست مجعولة إلّا بالعرض» انتهى ؛ وهذا كما ترى صريح في أنّ الصادر الأوّل هو الوجود المنبسط.

وقال العارف القونوي : «إنّ ذلك الصادر الأوّل عندنا هو الوجود العامّ المفاض على أعيان الممكنات ـ يعني الأعيان الثابتة (١) ـ وهذا الوجود مشترك بين العالم الأعلى الذي هو أوّل موجود عند الحكيم المسمّى بالعقل وبين ساير الموجودات ؛ وليس كذلك الصادر الواحد الذي هو العقل الأوّل كما ذكره أهل

__________________

(١). س : الثانية.

١٧٢

النظر من الفلاسفة ؛ وهذا الوجود العامّ ليس بمغاير في الحقيقة للوجود الحقّ الباطن المجرّد عن الأعيان والمظاهر إلّا بنسب [و] اعتبارات كالظهور والتعيّن والتعدّد الحاصل له.»

وقال بعض العرفاء بعد نقل هذا الكلام : «إذا لم يكن الوجود العامّ مغايرا للوجود الحقّ بالحقيقة لم يكن الصادر هو الوجود العامّ باعتبار حقيقته ، بل باعتبار نسبة العموم والانبساط ؛ فإنّه لو لم ينبسط الأوّل ولم يتصوّر بصور الأعيان الثابتة (١) في العلم لم يتحقّق قابل أصلا وبعد ما تحقّقت (٢) القوابل لو لم ينبسط عليها في الخارج لم يوجد موجود عيني أصلا وبهذه النسبة الانبساطية تحقّقت النسبة الأسمائية للذات الإلهية إلى الحقائق الكونية في مرتبة العلم الإلهي ؛ فهي سابقة على ساير الاعتبارات ؛ إذ لا حاجة لها إلى اعتبار آخر ، بل الاعتبارات كلّها مرتّبة عليها ؛ وانبساط الوجود / A ٦٧ / بصور القوابل كلّها ليس في مرتبة واحدة بناء على أصل امتناع صدور الكثرة عن الواحد الحقيقي ؛ فيجب أن يظهر بصورة قابل من القوابل وينشأ منها التصوّر بصور القوابل ، بل ينشأ بعضها من بعض ؛ وأمّا انبساطه على القوابل لإيجادها في العين ؛ فلا يلزم أن يكون على تلك النسبة ؛ ويمكن أن يكون الصادر أوّلا بالوجود العيني أكثر من واحد كما ذهب إليه الصوفية» انتهى.

وقال هذا القائل (٣) أيضا بعد تقريره مذهب الحكماء والصوفية : «فقد ظهر من هذا التقرير أنّ الصادر الأوّل على مذهب الحكماء موجود عيني لا موجود في مرتبته وهو العقل الأوّل ؛ وعلى مذهب الصوفية نسبة عقلية اعتبارية سابقة على ساير الاعتبارات لا العقل الأوّل ؛ فإنّهم يثبتون في مرتبته موجودات اخر.»

وظاهر هذه الكلمات أنّ الصادر الأوّل هو نسبة عقلية سابقة على ساير الاعتبارات ويترتّب عليها ما عداها من النسب الاعتبارية. فبين هذه الكلمات و

__________________

(١). س : الثانية.

(٢). س : بعد بالحقيقت.

(٣). س : القابل.

١٧٣

الكلام الأوّل بحسب الظاهر تدافع (١) ؛ وجمع بعضهم بين الكلامين دفعا للتدافع بأنّ مرادهم أنّ الصادر الأوّل في الشهود العلمي هو تلك النسبة العقلية الاعتبارية وفي الوجود العيني هو الوجود العامّ (٢) المطلق ؛ بمعنى أنّ صرف الوجود الحقّ الذي هو المرتبة الذاتية الإلهية انبسط أوّلا في الشهود العلمي ؛ أي ظهر في علمه بالماهيّات والحقائق الكونية ، وحصلت نسبة أسمائه الحسنى إلى تلك الحقائق في مرتبة علمه ثمّ انبسط في الشهود الخارجي ؛ فتقيّد بصور الماهيّات الكونية ؛ فله نسبتان انبساطيتان :

إحداهما : في الشهود العلمي ؛ ويلزم فيها الترتيب بأن يظهر فيه العقل الأوّل أوّلا ثمّ الثاني وهكذا إلى آخر الموجودات.

والاخرى : في الشهود العيني بأن يتقيّد فيه بقيود الماهيّات والحقائق الكونية ولا يلزم فيها الترتيب ، بل يمكن أن يتقيّد بجميعها في مرتبة واحدة.

وأنت تعلم أنّ النسبة الأولى ـ أي الانبساطية ـ في الشهود العلمي إنّما يرجع إلى القول بالعلم الحصولي ؛ فلا يرد / B ٦٧ / عليها إلّا مفاسد هذا القول.

وأمّا النسبة الثانية ؛ أي الانبساطية في الخارج :

[١.] فإن كان مرادهم منها أنّها انبساط الوجود الحقّ وتقيّده (٣) بقيود الماهيّات بمعنى أنّ الوجود المنبسط هو بعينه الوجود الحقّ الواجبي وقد لحقه الانبساط والتقيّد ، فهو مع ظهور فساده كما تقدّم وتصريح المحقّقين منهم كالشيخ السمناني وغيره بأنّه فعله ومغاير له بالتغاير الواقعي يوجب أن لا يكون المعلول الأوّل نفس الوجود ، بل انبساطه ونسبته إلى الماهيّات في الأعيان ، فيكون الشهود العيني كالعلمي في أنّ المعلول الأوّل فيه هو النسبة الاعتبارية.

[٢.] وإن كان مرادهم منها صدور الوجود المنبسط منها بمعنى أنّ الوجود

__________________

(١). س : يدافع.

(٢). س : العالم.

(٣). س : يقيده.

١٧٤

المطلق المنبسط أمر مغاير للوجود الحقّ وهو فعله ومعلوله وبعد صدوره عنه مقيّد لانبساطه بالماهيّات بمعنى أنّها عارضة لمراتبه ودرجاته ؛ فالنسبة الانبساطية الخارجية حينئذ لهذا المعلول المنبسط بالنسبة إلى الماهيّات لا للوجود الحقّ ؛ وإسناد النسبة إليها إنّما هو بضرب من المجاز ؛ فعلى هذا وإن لم تلزم المفاسد المؤدّية إلى الكفر والزندقة إلّا أنّه يبقي الكلام في أنّ المراد من وحدته وإطلاقه وعمومه ما ذا؟ وتقيّده بالماهيّات بأسرها في مرتبة واحدة أو على الترتيب على أيّ نحو؟ ولا يكون مخالفا لصريح حكم العقل.

وقد ذكروا أنّ إطلاقه وعمومه ليس كإطلاق الطبائع الكلّية ولا خصوصه كخصوص الأشخاص المندرجة تحت تلك الطبائع ؛ فيبقي من محتملات معاني الإطلاق والوحدة له وجوه :

الأوّل : أن يكون إطلاقه كإطلاق المادّة العقلية أو الهيولى ؛ وحينئذ لا يكون بنفسه موجودا بوجود عيني مستقلّ تترتّب عليه الآثار الخارجية مع أنّ كلامهم في الصادر الذي يكون كذلك ؛ وقد تقدّم تفصيل القول في هذا الاحتمال وفساده.

الثاني : أن يراد من إطلاقه نحو الإطلاق الذي في الصورة الواحدة الشخصية المترائية في مرايا متعدّدة والمتمثّلة في أذهان متكثّرة ؛ وحينئذ يكون متشخّصا لا عامّا ومطلقا وإن لم يكن / A ٦٨ / تشخّصه كتشخّص الأشخاص المندرجة تحت الطبائع الكلّية ؛ إذ الوجود ليس له ماهيّة كلّية ولا جزئية مع أنّه يرد عليه ما تقدّم مضافا إلى أنّ اعتبار الإطلاق بهذا المعنى في الوجود الذي هو المعلول الأوّل لأيّ شيء ؛ فإن كان اعتباره لأجل أن تكون الأعيان الثابتة موجودة باعتبار انتسابها إليه ويكون كلّ ماهيّة من حيث انتسابها بالقياس إليه بمنزلة صورة مرتسمة في مرآة أو ذهن بالقياس إلى ذي الصورة ؛ فهذا باطل :

أمّا أوّلا : فلانتسابه على القول بالأعيان الثابتة وموجوديتها بالانتساب وكون

١٧٥

الوجود معنى انتزاعيا وقد تقدّم فساده.

وأمّا ثانيا : فلأنّ هذا مخالف لما ذكروه من أنّ موجودية الأعيان الثابتة إنّما هو بانتسابها إلى الوجود الحقّ لا إلى الوجود الذي هو معلوله الأوّل.

وإن كان اعتباره لأجل شيء آخر لا يمكن دركه فلا يتعلّق كلامنا بمثله.

[الثالث :] أن يراد من الوجود المطلق الوجود الأصيل الصادر من الأوّل تعالى ؛ وهو المعروض للماهيّة ؛ ويراد من الوجود المقيّد نفس الماهيّة العارضة له ؛ وللوجود بهذا المعنى وإن كان أفرادا متعدّدة متباينة إلّا أنّ تعدّده إنّما هو بقيود الماهيّات وهي من حيث الأصل والسنخ واحدة ؛ فوحدتها وإطلاقها إنّما هو من حيث الأصل والسنخ وقد تقدّم في كلامنا أنّ حمل الوجود المطلق على الوجودات الخاصّة بهذا الاعتبار غير بعيد إلّا أنّ عبارتهم لا يساعده ؛ لأنّ الصادر الأوّل على هذا الوجه وجود خاصّ معروض لماهيّة من الماهيّات على اعتبار الترتيب أو وجودات خاصّة معروضة للماهيّات على عدم اعتباره لا وجود مطلق واحد فائض على كلّ أعيان الموجودات كما يشعر به عباراتهم وكذلك الماهيّات ليست هي الوجود المقيّد ، بل هي التقيّد نفسه ؛ فالوجود المقيّد هو الوجود المعروض للماهيّة نفسه.

[الرابع :] أن يراد بالوجود المعروض لماهيّة كلّية عامّة كماهيّة / B ٦٨ / الجوهر المستتبع لوجود معروض لماهيّة كلّية اخرى كماهيّة مطلق العرض ؛ فإنّ الوجود بهذا المعنى ليس مطلقا كالإطلاق (١) للطبائع الكلّية ولا متشخّصا كتشخّص الأشخاص المندرجة تحت الطبائع ؛ إذ ليس له ماهيّة كلّية ولا جزئية وهو مقدّم على الوجودات الخاصّة المعروضة كماهيّات خاصّة لماهيّة العقل الأوّل مثلا لتقدّم (٢) طبيعة الجوهر ومفهومه على العقل الذي هو فرد منه ولذا صار أوّل الصوادر وحياة

__________________

(١). س : كلاطلاق.

(٢). س : تقدم.

١٧٦

العالم ومقدّما على كلّ أجزائه.

وفيه : أنّ الوجود بهذا المعنى يرجع إلى وجود الجنس أو النوع ؛ وقد تقدّم أنّه وجود ضعيف متّحد مع وجود الشخص متحقّق بتحقّقه ؛ فلا يكون وجودا عينيا مستقلّا في التحقّق حتّى يكون متعلّق الجعل بالذات على أنّ الوجود بهذا المعنى متعدّد ذاته (١) للوجود الحقّ كالوجودات الخاصّة وليس واحدا مطلقا حتّى يكون فعله ؛ فإنّ مبنى كلامهم هنا على الفرق بين الفعل والأثر وتخصّص الأوّل بالواحد المطلق من كلّ جهة والثاني بالتعدّد المقيّد ولو ببعض الجهات.

[الخامس :] أن يراد بالوجود المطلق المعنى المصدري ـ أي الإيجاد والإفاضة ـ الذي باعتباره تكون الآثار ـ أعني الوجودات الخاصّة ـ حاصلة في الأعيان ويتعلّق ذلك الإيجاد بكلّ وجود وموجود صار عامّا ومطلقا وفعلا.

وفيه : أنّ الوجود بهذا المعنى لا يكون صادرا عينيا ؛ فلا يصلح لأن يكون مجعولا بالذات ؛ فإنّ الإيجاد كالنسبة العقلية التي هي أوّل صادر في الشهود العلمي في عدم كونه من الأعيان الخارجية وعدم ترتّب أثر عليه في الخارج وجعله صادرا أوّلا (٢) واسطة بين الشهود العلمي والوجود العيني بيّن الفساد.

وقد ظهر أنّ الإطلاق في الوجود الذي هو أوّل الصوادر عندهم بأيّ معنى اخذ لا يخلو عن شيء.

لست أقول : لا محصّل له على القطع ، بل أقول : شيء لا أفهمه بحيث لا يرد عليه شيء.

ثمّ بعض ما نقلناه يدلّ على أنّ الأعيان الثابتة التي هي الماهيّات كان لها ثبوت / A ٦٩ / في حدّ ذاتها ثمّ انبسط الوجود عليها فصارت موجودات عينية ؛ فالأعيان الثابتة باعتبار كونها قوابل موجودات عينية مجعولة وباعتبار أنفسها ليست

__________________

(١). س : كذا في الأساس.

(٢). س : اوّل.

١٧٧

مجعولة ؛ وهذا بيّن الفساد ؛ إذ الماهيّات من حيث أنفسها معدومات صرفة ولا ثبوت لها ؛ وكذا يدلّ على أنّ الصادر الأوّل يمكن أن يكون أكثر من واحد وعلى أنّ صدور الموجودات في الخارج يمكن أن لا يكون على ترتّب ؛ وهذا مخالف للعقل والنقل.

ثمّ بعض العرفاء الذي نقلنا كلامه أوّلا مع تصريحه في كلامه المذكور بأنّ الصادر الأوّل هو الوجود المطلق المنبسط قال في موضع آخر في بيان الصادر الأوّل : «وأوّل فيضه تعالى موجود وحداني مفارق الوجود والتأثير عن المادّة ؛ وهو العقل الأوّل» وهذا تناقض صريح. ثمّ ما في الكلام المنقول آخرا [من] أنّ الفرق بين انبساط الوجود بالظهور في صور (١) القوابل وانبساطه على القوابل لإيجادها في العين لم يظهر لى وجهه.

وإذا ظهر جليّة الحال في ما ذكره الصوفية فلنبيّن كيفية الصدور على ما هو الحقّ المختار وهو فرض الحكماء ؛ فنقول : على ما تقرّر من صحّة المقدّمة المذكورة (٢) لا يمكن استناد كلّ الموجودات إليه ابتداءً نظرا إلى وحدته الحقيقية من كلّ جهة ؛ فلا بدّ في صدور الكثرة عنه تعالى من ترتّب يحصل به الربط بين الوحدة الصّرفة والكثرة ؛ فنقول : أوّل الصوادر منه تعالى ـ كما ذكره الحكماء ـ موجود أحديّ الذات والهويّة ، مفارق عن المادّة ذاتا وفعلا ؛ ويسمّى بالعقل الأوّل والعنصر الأوّل وعقل الكلّ ؛ وهو أشرف الممكنات وأعظمها بالحدس وبقاعدة الإمكان الأشرف ، ونسبته إلى العقول الباريات نسبة النور المحمّدى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أنوار الأنبياء والأولياء في القابلات ، وهذا الصادر الأوّل وإن كان من جهة صدوره عن المبدأ ومجعوليته بالذات واحدا بسيطا لكن تلزمه وتتبعه اعتبارات وحيثيات هي مجعولة بالعرض وليست هي فرضية محضة ولا موجودات عينية ،

__________________

(١). س : فصور.

(٢). س : المذكور.

١٧٨

بل اعتبارات واقعية وجودية أو عدمية هي شروط وآلات لصدور الكثرة الحاصلة بعدها والصادر الأوّل عنه أو / B ٦٩ / عن المبدأ أو بوساطته.

وغير خفيّ أنّ وجود هذا الموجود القدسي (١) المعبّر عنه بالعقل الأوّل ممّا لا ريب فيه ، فإنّ العقل يحكم على القطع بأنّ الواحد الحقيقي لا يصدر عنه أكثر من واحد ؛ فمعلول الواحد الحقيقي من جهة وحدته لا بدّ أن يكون ذاتا واحدة من حيث هي مجعولة بالذات وإن لزمها بعد الصدور اعتبارات ناشئة بعضها عن بعض وكثرات اعتبارية أو حقيقية مجعولة بالعرض وصادرة بالتبع ؛ ولكونها مجعولة بالعرض لا تنافي وحدة العلّة ولا وحدة المعلول المجعول بالذات ؛ فالصادر الأوّل عن الحقّ الأوّل بالذات ذات واحدة من جهة صدورها عنه بالذات وبتوسّط تلك الاعتبارات ـ سواء كانت جهات حاصلة في المعلول الأوّل أو اعتبارات ملحوظة مع العلّة الأولى ـ تصدر عنها الكثرات.

وعلى هذا فنقول : إنّ الحقّ الأوّل تجلّى أوّلا من حضرة الذات والمرتبة الواجبية إلى حضرة الأسماء والصفات والمرتبة الإلهية على الترتيب الذي يلاحظه العقل والنهج الذي لا يعرفه إلّا الراسخون ؛ أي ترتّب على ذاته الحقّة التي هي صرف الوجود صفاته العليا وأسمائه الحسنى ووصفه العقل بها أيضا على الترتيب الملحوظ له.

ثمّ لمّا أراد بإرادته الأزلية والحكمة الربّانية أن يتجلّى من تلك الأسماء والصفات إلى الأعيان الخارجية ويظهر لها مظاهر عينية تفصيلية ومجالي أصيلية حقيقية تجلّى أوّلا من الحضرة الأسمائية والصفاتية والمرتبة الإلهية إلى جوهر قدسي لا يتصوّر في الممكنات مثله في الشرافة والبهاء ؛ أي أفاض وجودا خاصّا معروضا للماهيّة أكمل من كلّ الموجودات الإمكانية وأنقص بالمراتب الغير

__________________

(١). س : + و.

١٧٩

المتناهية ، بل ما أزيد عن غير المتناهي بقدر الغير المتناهي عن الوجود الحقّ ؛ إذ لا ربط له إلّا بالمعلولية والافتقار وما له من الكمال يرجع الى معلوليته وصدوره من ذلك الوجود الحقّ.

وهذا الجوهر القدسي المعبّر عنه بالعقل الأوّل مظهر جامع إجمالا لجميع صفاته الثبوتية والسلبية والجلالية والكمالية ؛ / A ٧٠ / وكما أنّ العلّة الأولى لها صفات كمالية هي عين ذاته وصفات إضافية تترتّب على ذاته وصفات سلبية منشأها ذاته بذاته ، كذلك لا بدّ أن تكون في هذا المعلول الأوّل أظلال هذه الصفات وفروعها ليكون مناسبا لعلّته الحقّة المقتضية مناسبة أقرب من مناسبة ساير الموجودات لها ؛ ولا بدّ أن تكون هذه الصفات مع كونها أنقص من صفات الحقّ الأوّل بمراتب غير متناهية أكمل من صفات ساير الممكنات بينهم المناسبة.

وجميع هذه الصفات لهذا المعلول الأوّل مجعولة بالعرض وتوابع لجعل وجوده ، بل هي شئون ذاته وفنون وجوده ومترتّبة ترتيبا يلاحظه العقل كما في صفات (١) المبدأ الأوّل ؛ والترتّب إنّما هو في لحاظ العقل وفي ترتّبه من مراتب الواقع لا في الخارج ؛ إذ لا ترتّب ولا تقدّم ولا تأخّر فيه أصلا.

ومحلّ العقل الأوّل في المرتبة البدوية هو محلّ النور المحمّدي والوجود الأحمدي المنظور إلى السرّ العلوي والفيض المرتضوي المتجلّي إلى أنوار الأئمّة الأحد عشر وأرواحهم القدسية ونفوسهم الكاملة النورية في المرتبة العودية ، كما نطقت به الأخبار الصحيحة الصريحة.

ثمّ العقل كما يدلّ على وجود ما تقدّم من الوجوه البرهانية يدلّ عليه أيضا تلويحات فرقانية وتصريحات معصومية كقول النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ما رواه العامّة والخاصّة بطرق عديدة : «أوّل ما خلق الله العقل» (٢) وقول أمير المؤمنين عليه‌السلام على ما

__________________

(١). س : الصفات.

(٢). قد مرّ مأخذ هذا الحديث.

١٨٠