اللّمعات العرشيّة

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

اللّمعات العرشيّة

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: علي اوجبي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: انتشارات عهد
المطبعة: نگارش
الطبعة: ٠
ISBN: 964-5763-11-8
الصفحات: ٥١٩

الجهات إلّا أنّه مع ذلك يتصوّر لكلّ صورة ويتشكّل بكلّ شكل ويتطوّر بكلّ طور ويظهر في كلّ مظهر (١) ويتشأّن بكلّ شأن ويتجلّى في كلّ مجلى ويتراءى في كلّ مرئي ؛ فهو حقيقة واحدة متفاوتة في المظاهر التي هي الماهيّات شدّة وضعفا وكمالا ونقصا ؛ ولكون الوجودات المتفاوتة قائمة بالماهيّات متعيّنة بتعيّناتها لم يلزم أن يكون اختلافها في نفس حقيقة الوجود ليلزم التشكيك في الذاتي ، بل في تعيّناتها التابعة للماهيّات المختلفة ، بل الاختلاف في الحقيقة راجع إلى الاختلاف في ظهور آثار الوجود قلّة وكثرة وضعفا وشدّة. فمع قطع النظر من الماهيّات لا اختلاف في حقيقة الوجود من حيث هي أصلا ؛ وعلى هذا يكون الفرق بين هذا المذهب ومذهب الحكماء أنّ الحكماء يخصّون الواجبة بحقيقة الوجود بشرط أن لا يتعيّن بشيء من الماهيّات ؛ وعلى هذا المذهب يكون الواجب تلك الحقيقة لا بشرط أن يتعيّن بشيء منها ؛ فيكون كلّ حقيقة وجودية واجبة إذا اعتبرت من حيث هي مقطوعة النظر عن التعيّن بالماهيّات وممكنة باعتبار أخذها بشرط التعيّن ، بل الماهيّات في الحقيقة هي التعيّنات والواجب هو الحقيقة المطلقة ؛ فلا يلزم تعدّد وتكثّر في الواجب ولا كون شيء من الممكنات فردا له ولا كون الواجب غير متعيّن في نفسه كالكلّي الطبيعي أو متعيّنا بتعيّن لا ينافي ساير التعيّنات ؛ لأنّه حينئذ متعيّن بنفس ذاته وتعيّنه ينافي ساير التعيّنات إلّا أنّه / B ٤٤ / مع هذا التعيّن يقارنه تعيّنات الماهيّات مقارنة تأثّر وانفعال كمقارنة المعلول للعلّة لا مقارنة فعل وتأثير كمقارنة العوارض المشخّصة للماهيّات ؛ فلا يقارنه شيء من تعيّناتها على وجه الافتقار وتوقّف ضرب من تحصّله عليه ، بل يقارنه كما يقارن (٢) المعلول لعلّته.

والمحصّل : أنّ حقيقة الوجود مع تعيّنها في نفسها وتحقّقها في ذاتها قد تعدّدت

__________________

(١). س : مظهره.

(٢). س : نقارن.

١٢١

بتعيّنات الماهيّات وتصوّرت بكلّ صورة ، كما أنّ الصورة الشخصية الخارجية مع وحدتها وتشخّصها تتراءى في مرايا شتّى وتتمثّل في أذهان لا تعدّ ولا تحصى. ألا ترى أنّ الشمعة ترى في مرايا متعدّدة ولا تخرج بذلك عن وحدتها وتعيّنها في ذاتها؟! وقد نقل عن بعض مشايخهم أنّه ظهر في آن واحد في أمكنة متعدّدة ؛ وكما أنّ الواحد مع وحدته يسري في الأعداد ويظهر بصورها وليس شيئا منها ، بل هو هو والأعداد شئونه وتطوّراته ؛ وكما أنّ المداد مداد في نفسه ومتعيّن في حدّ ذاته ومع ذلك يتصوّر بصور الحروف والكلمات وهي نفسه باعتبار وغيرها باعتبار آخر والبحر بحر في ذاته واحد باعتبار نفسه ويتصوّر بصور الأمواج والأنهار وهي شئون عارضة لها ولا تنثلم وحدته بكثرتها.

البحر بحر على ما كان من قدم

إنّ الحوادث أمواج وأنهار

لا تحجبنّك أشكال تشاهدها

عمّن تشكل فيها ؛ فهي أستار

وكما أنّ النواة تتصوّر بصورة الشجرة والنواة نواة والشجرة شجرة إلّا أنّ إحداهما أصل والآخر فرعها وكما أنّ الشمس واحدة في ذاتها ولا تعدّد فيها بحسب نفسها ومع ذلك تتكثّر (١) بحسب إشراقاتها على الأشياء.

ويرد على هذا الوجه أنّ الواجب إذا كان متحقّقا بذاته ومتعيّنا بنفسه ومع ذلك لحقته تعيّنات الماهيّة فلا يخلو إمّا أن يرفع هذا التعيّن تعيّنه الذاتي ويتعيّن بهذا التعيّن فقط ، ففساده ظاهر ؛ إذ حينئذ يكون مقارنة هذا التعيّن للواجب على وجه التأثير وتوقّف تحصّله عليه وهو مع ظهور فساده يخالف ما صرّح به الموحّد من أنّ مقارنة هذا التعيّن على وجه التأثّر والانفعال أو لا يرفعه ، بل / A ٥٤ / يجامعه وحينئذ إمّا أن يكون معروض ثاني التعيّنين ذاته المعيّنة الشخصية بأن تكون الماهيّات متّحدة معه في الوجود لازمة له منتزعة عنه كما تكون لازمة للوجودات

__________________

(١). س : + إشراقاتها.

١٢٢

الخاصّة منتزعة عنها متّحدة معها في التحقّق عند الحكيم أولا.

والأوّل باطل ؛ إذ انتزاع الماهيّة عن الوجود فرع أن يكون له حيثية سوى حيثية صرافة الوجود المنتزع عنها الوجود العامّ ؛ فإنّ انتزاع الماهيّة عن الخاصّ الإمكاني عند الحكيم إنّما هو لكونه ذا حيثية عدمية لأجل قصوره ؛ فتنتزع عنه الماهيّة لأجلها والوجود العامّ ينتزع عن ذاته الوجودية ؛ فصرف الوجود المتقدّس عن جميع الحيثيات لا يعقل انتزاع ماهيّة عنه ؛ على أنّه تعالى لوحدته الصّرفة وتعيّنه الشخصي ـ كما هو الفرض ـ لا يعقل أن ينتزع عنه جميع الماهيّات المختلفة.

وعلى الثاني : إمّا أن يكون معروض التعيّن الثاني هو الوجودات الخاصّة بأن تكون الماهيّات منتزعة عنها وتكون تلك الوجودات مباينة عنه تعالى إلّا أنّها لكونها معلولة له تعالى يصحّ بضرب من المجاز أن يقال : إنّه تعالى يتعيّن بها ؛ إذ المعلول نوع تعيّن لعلّته ؛ فهذا مذهب الحكيم والأمر في هذا الإطلاق المجازي هيّن أو يكون معروضه (١) الوجود المنبسط بأن يكون الصادر الأوّل عنه تعالى هو هذا الوجود وهو لإطلاقه وانبساطه يتقيّد بقيود الماهيّات ؛ وقد تقدّم تصريحهم بأنّ للوجود مراتب ثلاث إحداها هو المنبسط وهو غير الوجود العامّ وليس كالكلّي الطبيعي ، بل شموله للأشياء وتقيّده بقيود الماهيّات على وجه لا يعرفه إلّا الراسخون ؛ وبعضهم صرّح بأنّ نسبته إلى الوجود الواجبي كنسبة الضوء المحسوس المنبسط إلى الشمس ؛ وفي كلام بعضهم أنّه الوجود الواجبي بعد تنزّله عن المرتبة الواجبة كما أنّ الممكن هذا المنبسط بعد تقيّده بالماهيّات ؛ وصرّحوا بأنّه واسطة صدور الكثرة عن الوحدة ؛ وغير خفيّ أنّ ما أثبتوه من المراتب الثلاث للوجود ـ أعني المرتبة الواجبة والوجود المنبسط والمقيّد الذي هو الممكن ـ :

[١.] إمّا يجعل التغاير / B ٤٥/ بينها اعتباريا عقليا حتّى لا يكون في الواقع إلّا

__________________

(١). س : معروضة.

١٢٣

المنبسط المقيّد بالماهيّات إلّا أنّه إذا اعتبر مع قطع النظر عن إطلاقه وانبساطه يكون هو المرتبة الواجبية من دون أن يكون لها تحقّق على حدة وراء تحقّق المنبسط بأن تتوهّم أنّ الوجود كان شيئا مندمجا ؛ فصار منبسطا ؛ ففساده ظاهر ؛ إذ الواجب حينئذ لا يكون إلّا هذا المنبسط ؛ واعتبار مرتبة اخرى له هو المرتبة الواجبية إنّما هو في لحاظ العقل من دون أن يكون له تحقّق واقعي خارجا عنه وثبوت نفس أمري مع قطع النظر عنه ؛ فلا يحصل وجود حقّ يكون المنبسط فعله مع أنّهم صرّحوا بأنّ الوجود الحقّ هو الحقّ والمنبسط فعله ؛ وإذا كان المنبسط هو الواجب يقول : إنّه إن كان أمرا مطلقا مبهما فيكون كالكلّي الطبيعي وقد عرفت فساده ؛ وإن كان متعيّنا بنفسه متشخّصا بذاته ومع ذلك تعيّن بتعيّنات الماهيّات ؛ فيرد عليه أيضا ما مرّ.

[٢.] أو يجعل التغاير بينها واقعيا ويجعل المنبسط وجودا ظلّيا بمعنى أنّه بالنسبة (١) إلى الوجود الواجبي كالضوء المنبثّ على الأجرام العلوية والسفلية بالنسبة (٢) إلى الشمس ؛ وهذا الظلّي مرآت الماهيّات بمعنى أنّه يحاكيها ، كما أنّ الضوء الصادر من الشمس يحاكي الأجسام المختلفة إلّا أنّ للأجسام تحقّقا مع قطع النظر عن الضوء والماهيّات لا تحقّق لها بدون المنبسط ، بل هي منتزعة عنه ؛ فهو الواسطة في تكثّر الفيض.

وعلى هذا وإن كان للواجب تحقّق خارجا عن المنبسط والممكنات إلّا أنّ ما ذكروه من انبساطه وإطلاقه وتقيّده بالماهيّات ليس لنا سبيل إلى دركه بحيث يطابق القواعد العقلية ؛ وغاية ما يفهم منه أن يكون المراد أنّه أمر واحد ذاتي مشترك بين الماهيّات بأسرها حتّى يكون الفرق بين مذهب الحكيم ومذهب الصوفي بعد اتّفاقهما على أنّ الأصل في التحقّق والمجعولية هو الوجود أنّ الحكيم يقول : إنّ الأصل في التحقّق والصدور على الترتيب اللائق هي الوجودات

__________________

(١). س : با النسبة.

(٢). س : با النسبة.

١٢٤

الخاصّة المتباينة المتخالفة بأنفسها والماهيّات تنتزع عنها وهي غير مشتركة / A ٤٦ / في أمر ذاتي وإنّما تشترك في أمر عرضي هو الوجود العامّ ؛ والصوفي يقول : إنّ ما يعبّر عنه الحكيم بالوجودات الخاصّة إنّما هي وجود واحد يحاكي جميع الماهيّات ذاتي مشترك بين جميعها. فالعقل الأوّل مثلا عند الحكيم وجود خاصّ مباين عن ساير الوجودات الخاصّة وتنتزع عنه الماهيّة الخاصّة وعند الصوفي مرتبة من الوجود المنبسط تنتزع عنها الماهيّة الخاصّة.

ويرد عليه أنّ الوجودات الخاصّة إذا كانت متباينة متخالفة بأنفسها ، فانتزاع ماهيّة خاصّة عن كلّ منها ممّا لا فساد فيه ؛ وأمّا إذا كانت أمرا واحدا متحقّقا بنفسه تابعا للواجب تعالى تبعية الظلّ لذي الظلّ والشبح لذي الشبح ولم يكن تحقّقه بتبعية تحقّق الأشخاص ، فانتزاع الماهيّات المتخالفة الغير المتناهية منه غير معقول ؛ إذ الواحد لا يناسب الامور المتخالفة وانبساطه ليس بمعنى كونه ذا أجزاء مختلفة حتّى تنتزع عن كلّ منها ماهيّة خاصّة تناسبه وليس أمرا واحدا كلّيا يتحقّق في الخارج بتحقّق الفرد كالكلّي الطبيعي حتّى يصحّ وجوده بتبعية الأفراد ؛ إذ الفرض أنّه متحقّق مع قطع النظر عنها ولو كان وجوده وجودا ظلّيا.

هذا ما يقتضيه النظر إلّا أنّهم أيضا ذكروا أنّ النظر لا يستقلّ بدرك كيفية وحدته وانبساطه وشموله للماهيّات ، بل يتوقّف ذلك على ضرب من التصفية والتصقيل ؛ وقد ذكروا أنّه رفيع الدرجات ذو المعارج وهو ما به الاشتراك المتحقّق في الممكنات ؛ وقد صرّحوا بأنّ ملاك تحقّقها أمر واحد هو حقيقة الوجود المنبسط وهو فعل الله لا ذاته.

وحاصل كلامهم : أنّ للأشياء في الموجودية ثلاث مراتب :

الأولى : مطلق الوجود الصّرف بلا تعلّق بغيره ولا تقيّد ؛ وهو الذات الأحدية والغيب المطلق ولا اسم له.

١٢٥

الثانية : المقرون المقيّد بالماهيّة ، كالعقول والنفوس والطبائع والأجسام وعوارضها.

الثالثة : المنبسط المطلق الذي ليس شموله على سبيل الكلّية وليست وحدته عددية ؛ لأنّه مع كلّ شيء بحسبه ؛ فلا ينحصر في حدّ ؛ إذ مع القديم قديم ومع الحادث حادث ومع المجرّد مجرّد ومع المجسّم مجسّم ومع الجوهر جوهر ومع العرض عرض ؛ والبيان عن كيفية شموله وإحاطته قاصر إلّا بضرب من التمثيل ؛ وبهذا يمتاز عن الوجود / B ٤٦ / المتقدّس الواجبي الذي لا يدخل تحت التمثيل ونسبته إلى الموجودات نسبة البحر إلى الأمواج والهواء إلى الأجسام وجنس الأجناس إلى الأنواع والأشخاص ؛ وهو غير الوجود الإثباتي الانتزاعي الاعتباري الغير الموجود.

والحقيقي بمراتبه الثلاث موجود ؛ والثالثة مادّة الممكن ؛ وإذا أطلق الوجود المطلق على الحقّ فالمراد المعنى الأوّل لا الأخير ؛ وصرف الوجود هو الله والمطلق ـ أي الفيض الانبساطي دون العامّ الانتزاعي ـ فعله والمقيّد أثره وهو الممكنات كالعقل والنفس والجسم وغيرها ؛ فإنّ كلّا منها محدود بمهيّة خاصّة وأوّل ما ينشأ من الذات الأحدية والوجود الحقّ الذي لا نعت له ولا اسم ولا رسم هو هذا المنبسط المسمّى بنفس الرحمن والحقّ المخلوق به وحقيقة الحقائق وحضرة الأسماء والمشيّة ؛ «خلق الله الأشياء بالمشيّة والمشيّة بنفسها.» (١) وهذا النشو والمنشئية ـ أي نشو المطلق من الواجب ـ ليس فاعلية ومفعولية ولا علّية ومعلولية على الوجه المعتبر في الوجودات المقيّدة ، بل هو راجع إلى التعلّق والتابعية كتبعية الظلّ لذي الظلّ والشبح لذي الشبح ؛ فالوجود الحقّ منشأ لهذا

__________________

(١). انظر : اصول الكافي ، ج ١ ، ص ١١٠ ؛ بحار الأنوار ، ج ٥٤ ، ص ٥٦ ؛ التوحيد ، ص ١٤٨ ؛ شرح اصول الكافي (للمولى محمّد صالح المازندراني) ، ج ٣ ، ص ٢٧٠ ؛ ج ٤ ، ص ٢٦٣ ؛ الفصول المهمّة ، ج ١ ، ص ١٩٥ ؛ نور البراهين ، ج ١ ، ص ٣٧٤ و...

١٢٦

الوجود الشامل باعتبار وحدته الذاتية الغير العددية والجنسية والنوعية ؛ وبواسطته يؤثّر في الأشياء بوجوداتها الخاصّة التي لا يزيد على الوجود المطلق المنبسط ، كالحروف والكلمات الإنسانية التي لا تزيد على النفس الخارج من جوفه المارّ على المخارج.

والمناسبة بين الحقّ والخلق إنّما هي بواسطة هذا المنبسط. فأوّل الموجودات المقيّدة العقل الأوّل المحلّل إلى الوجود والماهيّة المخصوصة ؛ والعقل يحكم بتقدّم الوجود بما هو وجود مطلق على الماهيّة بما هي محدودة ؛ لأنّها ما لم يجب بالوجود لم يوجد. فأوّل ما ينشأ من الحقّ الوجود المطلق ويلزمه بحسب مراتبه ماهيّات مخصوصة وإمكان خاصّ ؛ فالأحدية الواجبة منشأ الوجود المطلق ؛ والواحدية الأسمائية إله العالم وجودا وماهيّة. فسبحان من ربط الوحدة بالوحدة والكثرة بالكثرة وإلّا لم تكن بين المؤثّر والمتأثّر مناسبة ؛ وذلك ينافي التأثير و/ A ٤٧ / الإيجاد.

هذا ما ذكروه في بيان المنبسط وأحكامه وعلى ما صرّحوا به من كونه صادرا عن الواجب تعالى وفعلا له تعالى وإن لم يلزم كون الواجب طبيعة مطلقة ولا متعيّنا بتعيّنات الماهيّات وملزوما لها حتّى تكون لذاته حيثيات متغايرة إلّا أنّ ما ذكروه من معنى وحدته وإطلاقه وتقيّده بالماهيّات ممّا يصعب دركه ومع ذلك إثبات مثله يتوقّف على دلالة ولا دلالة.

وربّما يستدلّ عليه بتوقّف ارتباط الكثرة بالوحدة وصدورها منها عليه ؛ إذ الواحد من جميع الجهات لا يناسب الكثرة حتّى يمكن أن يصدر عنه ؛ فلا بدّ أن يصدر منه أوّلا واحد له درجات ومراتب يناسب الكثرة حتّى يصدر من جهة وحدته عن الواحد الحقّ ويصير منشأ الكثرة من جهة تكثّره وما هو إلّا هذا

١٢٧

المنبسط ويشابهه (١) بوجه الحركة السرمدية الرابطة بين القديم والحادث.

وفيه : أنّ هذا الارتباط يمكن حصوله بالعقل الأوّل كما ذكره الحكماء ؛ ويمكن أن يقال : كون المنبسط أوّل الصوادر أدخل في علوّ القدرة من كون العقل الأوّل أوّلها ؛ إذ على الأوّل يصدر عنه تعالى أوّلا موجود واحد يلزمه وينتزع عنه جميع الماهيّات ؛ وكأنّ الكلّ صدر منه تعالى أوّلا مع حصول الارتباط وكون الصادر من الواحد واحدا ؛ وعلى الثاني يتوقّف إتمام الفيض على وسائط كثيرة.

ثمّ على الثاني تنحصر معلولات الواجب تعالى في الموجودات (٢) الخاصّة المقيّدة ـ أعني العقول والنفوس والأجسام وعوارضها ـ وعلى الأوّل يثبت معها مثل هذا الموجود العظيم العالم القادر الذي يكون العقل الأوّل شأنا من شئونه ؛ إذ على القول به يكون كلّ موجود (٣) مقيّد عبارة عن ماهيّة خاصّة منتزعة عن درجة من درجاته ومرتبة من مراتبه. فمع ثبوت الموجودات المقيّدة المعلولة للواجب تعالى يثبت في جملة معلولاته هذا (٤) الموجود أيضا وعلى مذهب الحكيم لا يثبت ذلك ؛ فتأمّل.

وقد ظهر ممّا ذكر أنّ القول بكون الواجب مع تعيّنه بذاته متعيّنا بكلّ تعيّن ومتشكّلا بكلّ شكل ومتلبّسا بكلّ / B ٤٧ / صورة غير صحيح ؛ وما ذكروه من الأمثلة لا يثبته ؛ لأنّها وردت بطريق الرمز ؛ والأخذ بظاهرها يزيد في الإشكال ويبعّد عن المطلوب ؛ فإنّ سريان الواحد في الأعداد وحصولها منه ليس إلّا بملاحظة تكرّره وانضمامه إلى مثله ؛ والله سبحانه منزّه عن التكرّر وعن أن تحصل من تكرّره الأشياء ؛ وظهور البحر بصور الأمواج ليس إلّا لتزايد في حجمه أو اختلاف في وضعه أو نحو ذلك ؛ وظهور النواة بصورة الشجرة وأغصانها وأوراقها ليس إلّا

__________________

(١). س : نشابهه.

(٢). س : تعالى بالموجودات.

(٣). س : موجوده.

(٤). س : هذ.

١٢٨

بنفوذ الأجزاء المائية والهوائية في جوهره وازدياد حجمه بذلك مع تغيّر تشخّصه إلى أن تحصل الشجرة ؛ وظهور المداد بصور الحروف والكلمات ليس إلّا بتغيّر وضعه وحصول هيئة خاصّة له ؛ والله تعالى منزّه عن جميع ذلك ومن اعتقد فيه شيئا من ذلك فهو زنديق كافر.

وما ذكروه من ظهور شخص واحد في آن واحد في أمكنة متعدّدة إن كان بمعنى أنّ ذلك الشخص ببدنه العنصري يظهر كذلك فبطلانه ظاهر وإن كان بمعنى أنّ نفسه الناطقة لكمال تجرّدها وقوّتها يمكن أن يتعلّق بأبدان متعدّدة مثالية متشابهة ومشابهة للبدن العنصري في الهيئات والصفات كلّا أو بعضا فلا ننكره إلّا أنّ تعلّق النفس ببدن أو أبدان وإن كانت في غاية كمالها وتجرّدها إنّما هو تعلّق تدبير وتصرّف ، لاستكمالها ؛ وتجلّي الحقّ في مجالي الممكنات لا يمكن أن يكون كذلك ؛ وكذا ظهور الصورة الشخصية الواحدة في مرايا متكثّرة وأذهان متعدّدة ؛ وظهور الشمس وإشراقها على مظاهر متفرّقة وروازن متبدّدة إن كان بمعناه الظاهر من كون تلك الصور المتعدّدة حاصلة من ذلك الشخص بحسب تعدّد المظاهر واستعداداتها ؛ وهو أصل لها وكلّ منها ظلّ لوجوده وصورة محاكية له بحيث يكون الحكم عليها وبها حكما عليه وبه ؛ وكذا تلك الإشراقات الحاصلة من الشمس أنحاء لوجودها وأظلال مضاهية لها ظهرت على كلّ مظهر بحسب استعداده وأشرقت عليه بقدر قابليته.

ففيه : أنّه يكون على هذا التقدير وجودات الممكنات أظلالا لوجوده تعالى / A ٤٨ / ومضاهية ومحاكية إيّاه حتّى يكون تصوّر كلّ منها ولو بالوجه عنوانا لتصوّره تعالى مطابقا له ؛ فيكون وجود الكلاب والذّباب والبقّة مضاهيا لوجود الحيّ القديم وتصوّرها عنوانا لتصوّره ، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا.

١٢٩

نعم إن كان بمعنى أنّ تلك الصور والأضواء ليس لها تحقّق وتقرّر (١) في ذاتها ، بل تحقّقها بتبعية الشخص وإشراق الشمس ؛ وكذا تلك المظاهر ليس لها صور وضوء في نفسها ، بل ما يحصل فيها من الصور والأضواء إنّما هو من قبل أصلها وذي ظلّها بحسب نسبها المختلفة واستعداداتها المتفاوتة ؛ وكذلك الممكنات الموجودة لكونها قائمة بموجدها وأظلّة لوجوده وموجودة بإضافتها إلى مبدعها ومرشّحة عن فيضه وجوده ومتقرّرة بالانتساب إلى جاعلها ومتحقّقة بالارتباط بفاعلها ؛ فليس لها في حدّ ذاتها ثبوت وتقرّر (٢) وحصول وتحقّق وإنّما ثبوتها من تلقاء مبدئها وبارئها.

فإن لاحظت بنظر البيان والبرهان ترى وجوده تعالى ظهر بالمظاهر ؛ فإن أبصرت بعين الحقيقة والعيان ترى الأشياء ظهرت بوجوده تعالى ؛ فهو الذي ذهب إليه كبراء الصوفية وعظمائهم على ما فهمته وينطبق عليه قول الحكماء أيضا ؛ والقواعد العقلية لا ينافيه ، بل يساعده بعد جعل المجعول بالذات والممكن المرتبط بالعلّة هي الوجودات دون الماهيّات على ما يشير إليه في التحقيق الذي يذكره.

ثمّ هنا وجوه اخر ذكرها جماعة في تصحيح وحدة الوجود أوردناها في رسالتنا المسمّاة ب «قرّة العيون» (٣) وبيّنّا فسادها ، فلا حاجة إلى ذكرها هنا.

[في اتّفاق آراء أكابر الصوفية وأساطين الحكمة في توحيد الحقّ]

كأنّك بعد ما عرفت من فساد الوجوه المذكورة لا تشكّ في أنّ أكابر الصوفية وعظمائهم وأعلام العارفين وقدمائهم لا يدينون الله بأمثالها ؛ لأنّها أولوا

__________________

(١). س : تقرير.

(٢). س : تقرير.

(٣). انظر : قرّة العيون ، صص ٢٣٥ ـ ٢١١.

١٣٠

المجاهدات العظيمة وذوا النفوس القدسية السليمة ؛ فلا تظنّ بمثلهم أن يعتقدوا عن آخرهم في باب التوحيد ما لا يليق بساحة قدسية ويحكم بديهة / B ٤٨ / العقل بفساده وقبحه ؛ وكذا لا تشكّ في أنّ أساطين الحكمة وقدماء الفلسفة يبعد اتّفاقهم على خلاف الحقّ في مسئلة التوحيد ؛ لأنّهم أصحاب الأنظار الثاقبة وأرباب التأييدات الإلهية ؛ فلا ينبغي لهم أن يخطئوا في أصل المعارف واسّها.

فالحقّ أنّ عقيدة الكلّ في التوحيد واحدة والخلاف إنّما نشأ من اختلاف المتأخّرين في فهم كلامهم والغفلة عن بعض مقاصدهم ؛ وبيان ذلك يتوقّف على تنبيهات :

[الأوّل :] لا خلاف بين الكلّ في أنّ الواجب تعالى صرف الوجود والنور ، ومحض الإنّية والظهور ، متعيّن بذاته من كلّ وجه ، ولا كثرة فيه من جهة ، مطلق من جميع القيود التي هي نقائص الإمكان وقصورات طوارق الحدثان ، محقّق الحقائق والأعيان ومظهر ماهيّات الأكوان ، ومحض الفعلية والكمال ، وأتمّ التامّ وفوق التمام ، ومجرّد عن كلّ قيد حتّى عن الإطلاق والتجريد ، ومنزّه عمّا سواه حتّى عن التنزيه والتقديس.

وإطلاق الوجود المطلق على هذا المعنى لإطلاقه من قيود الماهيّات شايع ، كما يطلق الماء المطلق على الماء الذي لا يتقيّد بشيء ينافي كونه محوضة الماء وصرافته ، بل هو أولى من إطلاقه على المطلق الشامل ؛ وما في كلام كبراء الصوفية من إطلاق الوجود المطلق على الواجب تعالى إنّما هو بهذا المعنى.

[الثاني :] قد تقدّم أنّ المجعول بالذات وجودات خاصّة مقيّدة بظلمات الماهيّات والإمكان ، ممازجة بالقصور والنقصان ، مشوبة بالأعدام والبطلان ، فاقدات للمراتب الكمالية سيّما المرتبة الجامعة لجميع أنحاء الكمالات الذاتية التي لصرف الوجود الحقّ ، نازلات عن تلك المرتبة إلى مراتب النزولات

١٣١

الإمكانية وهي تحاكي الماهيّات التابعة لها تبعية الظلام للضوء والشبح لذي الشبح والاسم للمسمّى واللفظ للمعنى ؛ وهي مجهولة الكنه ليس لها جنس ولا فصل ولا حدّ ولا رسم.

وجميع ذلك إنّما هو لعوارضها أعني الماهيّات المجعولة بالعرض وإنّما جعلها وإيجادها بترتّبها على الوجود الحقّ وارتباطها / A ٤٩ / به وانتسابها إليه وتبعيتها له تبعية العكس للأصل والظلّ لذي الظلّ ؛ وهذا الجعل هو المعبّر عنه تارة بتجلّي الحقّ في مجالي الماهيّات واخرى بتنزّله إلى مراتب التقيّدات ؛ إذ ظاهر أنّ المراد بتنزّله ليس نزوله بمعناه الظاهر وانحطاطه عن مرتبة الكاملة ونقصه عن كمالاته الذاتية وخروجه عن صرافة الوجود وبحت العقلية ؛ إذ لا يتصوّر في حقّه الحركة والنقص والقوّة والتبعيض والتجزية وأمثال ذلك ، بل لمّا كان من شأن المعلول أن يناسب العلّة من وجه ويباينها من وجه ؛ وبعبارة اخرى : لمّا كان معلول الشيء من حيثية هو ومن حيثية ليس هو ؛ فكلّ معلول كأنّه علّة متنزّلة عن مرتبة الذاتية. فالتعبير عن الجعل بالمعنى المذكور بتنزّل العلّة لا يراد به أنّ العلّة بنفسها انحطت عن مرتبتها وخرجت عن محوضة فعليتها ، بل المراد به أنّ معلولها الصادر عنها بالجعل كأنّه علّته المنحطّة عن مرتبتها الذاتية (١) والخارجة عن كمالاتها العقلية.

[الثالث :] قد ظهر ممّا مرّ أنّ المعلولية يلزمها التعلّق والارتباط والتبعية ؛ فكلّ معلول متعلّق بالعلّة مرتبط بها تابع لها تبعية الظلّ لذي الظلّ ؛ ولا ريب في أنّ وجود المتعلّق المرتبط نفس تعلّقه وارتباطه ؛ إذ لو لا تعلّقه وارتباطه ، لكان محض العدم ؛ فوجود كلّ متعلّق مرتبط ليس في الحقيقة إلّا نفس تعلّقه وارتباطه ، كما أنّ وجود المعقول والمحسوس ليس إلّا نفس معقوليته أو محسوسيته ؛ إذ لو لا التعقّل والإحساس لم يوجد شيء هو المعقول والمحسوس ؛ فكلّ معلول مع اعتبار تعلّقه

__________________

(١). س : لذاتيه.

١٣٢

وارتباطه بعلّته أمر مغاير لعلّته ، متحقّق في الخارج ، له آثار خارجية ؛ ومع قطع النظر عنه معدوم صرف.

وبعبارة اخرى : كلّ معلول بالنظر إلى علّته أمر متحقّق ومتحصّل ؛ وبالنظر إلى ذاته أمر اعتباري. فالتحقّق والتحصّل في الحقيقة ليس إلّا للعلّة. فالناظر إلى المعلولات بملاحظة العلّة أو في حال الغفلة أو بحسب الظاهر وجليل النظر يراها حقائق متحصّلة في الخارج ذوات آثار خارجية ؛ والناظر إلى ذواتها مع قطع النظر عن علّتها وعند / B ٤٩ / التثبّت والتحقيق وبحسب الواقع ودقيق النظر يراها اعتبارات محضة وامورا تعلّقية ارتباطية ، بل مجرّد تعلّقات وارتباطات وشئون وحيثيات للعلّة ؛ ويرى أن لا حقيقة لها سوى علّتها ؛ فالعلّة هي حقيقتها ؛ إذ حقيقة الشيء ما به تحقّقه (١) وتحقّق (٢) المعلول إنّما هو بعلّته.

وبالجملة : من عرف معنى العلّة والقيّوم وحقيقة العلّية والقيّومية يعلم أنّ المعلول ولو كان بعد صدوره أمرا لا يحتاج في تحقّقه وقيامه بنفسه إلى أمر آخر سوى علّته كالوجودات الخاصّة بالنظر إلى ذاته أمر اعتباري لا تحقّق له ؛ إذ ما للغير يرجع إليه ؛ فيبقي هو في نفسه محض الفقر والفاقة.

وإذ عرفت ذلك نقول : لا ريب في أنّ الكلّ متّفقون على أنّ الواجب صرف الوجود التامّ ، فوق التمام ، المطلق عن كلّ قيد والمعرّى عن كلّ نقص وعيب ؛ وعلى أنّ جميع الوجودات الخاصّة المقيّدة بظلمات الماهيّات الإمكانية معلولة مجعولة له ، صادرة ظاهرة منه ؛ وأنّ هذه المعلولية والصدور إنّما هو بالترتّب عليه والتعلّق والارتباط به والانتساب والإضافة إليه ؛ فكأنّها أظلال قائمة به ولا تقرّر ولا تحقّق بها في نفسها ، بل إنّما ثبوتها وتقرّرها من تلقائه.

فهي بأحد الاعتبارين المذكورين محض النسبة والإضافة ؛ ولذا قيل :

__________________

(١). س : محققه.

(٢). س : يحقق.

١٣٣

«التوحيد إسقاط الإضافات» وبالاعتبار الآخر امور متباينة متحقّقة واقعية. فحقيقة العلّية والقيّومية ومقابلهما تقتضي وجود الوحدة والكثرة وإن كان كلّ منهما باعتبار. فالمحدّديون الناظرون بعين الباطن إلى البواطن لا يرون إلّا الواحد ؛ والمشاهدون بعين الظاهر إلى الظواهر لا يرون إلّا الكثرة ؛ والعارفون الناظرون بالعينين الجامعون للمراتب يرون الوحدة في عين الكثرة وبالعكس.

وعلى ما ذكرناه ينطبق كلمات الجميع ولا ينافيه شيء من تصريحاتهم وتلويحاتهم ؛ وبيان ذلك إجمالا أنّ ما ذكره الحكيم من «أنّ الوجودات الخاصّة المجعولة امور متحقّقة أوجدها الله تعالى / A ٥٠ / مباينة منفصلة عنه على الترتيب العلّي والمعلولي» صحيح ينطبق على ما ذكر ؛ إذ حقيقة الإيجاد والإفاضة والعلّية والقيّومية وأمثالها إنّما هي الاستتباع بمعنى أن تستتبع ذات العلّة ذات المعلول استتباع ذي العكس لعكسه وذي الظلّ لظلّه ؛ إذ المعلول يلزم أن يكون من سنخ العلّة نظرا إلى ثبوت المناسبة بينهما ؛ والسنخية تقتضي كون المعلول مترشّحا من العلّة إمّا بالخروج والانفصال منها كما في العلل المعدّة وهو محال في حقّه تعالى أو بالتبعية والارتباط كما في العكوس والأظلال ؛ وبدون أحد الأمرين لا يتصوّر الإفاضة والصدور ؛ لأنّ صدور معدوم عن علّة من دون ارتباط وتعلّق بينهما ينفي المناسبة بينهما ووجود المناسبة يقتضي ترتّب المعلول على علّته من دون فصل زماني بينهما ؛ إذ مع الفصل ترتفع المناسبة ؛ لأنّ ثبوت المناسبة مع معدومية أحد المتناسبين غير معقول ؛ فالمعلول مترتّب على العلّة ترتّب الظلّ على ذي الظلّ ؛ ولا ريب في أنّ الظلّ أمر متحصّل مباين عن ذي الظلّ من جهة وإن كان تحقّقه (١) وتحصّله تبعيا.

فالوجودات الخاصّة التابعة المرتبطة بصرف الوجود متحقّقة مع اعتبار

__________________

(١). س : محققه.

١٣٤

الارتباط تحقّقا (١) تبعيا ظلّيا. فقول الحكيم بكونها متحقّقة ناظر إلى هذا الاعتبار ، بل تحقّق الوجودات الإمكانية بملاحظة ارتباطها بعلّتها أقوى من تحقّق الظلّ مع ارتباطه بذي الظلّ ؛ إذ فرق بين ظلّ الأجسام وظلّ من الأجسام هو ظلّ بعض أظلاله المنزّلة منه بمراتب كثيرة ، بل التفسير بالظلّ إنّما هو للتنوير والتوضيح وإلّا فالفرق من الثرى (٢) إلى الثرياء.

وكذا ينطبق عليه قول الصوفية [من] أنّ الوجودات والماهيّات الإمكانية امور اعتبارية تنتزع عنه وأنّها أضوائه وأظلاله وشئونه واعتباراته وليست امورا متحقّقة مباينة ؛ فإنّه ناظر إلى الاعتبار الآخر ـ أعني ملاحظة ذات المعلول من حيث هو مع قطع النظر عن العلّة ـ فإنّه بهذه الملاحظة أمر اعتباري غير متحقّق / B ٥٠ / وإن كان بالنظر إلى الظاهر ومشاهدتنا أمرا متحصّلا ، كما أنّ الوجود التعلّقي الارتباطي الظلّي متحقّق بحسب الظاهر واعتبار الارتباط إلّا أنّه بالنظر إلى حقيقته وذاته مجرّد اعتبار.

والحاصل : أنّه عند الحكيم والصوفي يلزم ذاته الكاملة لبساطتها الصّرفة ووحدتها المحضة معلول عقلي بمنزلة ظلّه لا يتصوّر في الممكنات مثله في البساطة والبهاء والكمال وهو عند أكثر الصوفية الوجود المنبسط ؛ فيصدر عنه بالتبعية والترتّب أوّلا هذا الوجود ثمّ تتبعه الماهيّات الإمكانية وتلزمه بانتزاعها من درجاته ومراتبه ؛ وعند الحكيم العقل الأوّل وهو بمنزلة ظلّه تعالى ويلزمه أيضا ظلّ أو أظلال وهكذا يستتبع كلّ ظلّ أظلالا إلى أن ينتهي إلى الأجسام الكثيفة التي لا ظلّ لها ؛ وكما أنّ الأجسام الكثيفة لا ظلّ لها بنفسها ولو وقع عليها ضوء من مضيء تحصل لها أظلال فكذلك الماهيّات بأسرها من المجرّدات والمادّيات لكثافتها وخلوّها في أنفسها عن ضوء الوجود لا أظلال لها ؛ إذ ما لا تحقّق له كيف يحصل منه

__________________

(١). س : محققا.

(٢). س : + الى.

١٣٥

ظلّ؟! وبعد استضاءتها بضوء الوجود الحقيقي تكون لها أظلال.

وعلى هذا جميع الموجودات بمنزلة الأظلال والتوابع والشئون واللوازم للواحد الحقّ على الترتيب المذكور ؛ وبأحد الاعتبارين امور محقّقة وبالاعتبار الآخر امور انتزاعية اعتبارية.

وكذا ينطبق عليه قول بعض الصوفية : «إنّ الواجب حقيقة الأشياء» لما عرفت من أنّ حقيقة الشيء ما به تحقّقه ، ومحقّق الأشياء وما به تحقّقها هو الواجب ـ تعالى شأنه ـ وكذا ما ذكروه من «أنّه تعالى تجلّى في المظاهر والمجالي» لما عرفت من صدق التجلّي على إفاضة الوجودات المقيّدة بترتّبها عليه وارتباطها به وتبعيتها له ؛ فإنّه يعبّر عنه بتجلّيه في مجالي التقيّدات من غير أن ينزل هو أو ينقص من مرتبة الكاملة وتجب الفعلية ومن غير حلول واتّحاد وزندقة وإلحاد وتعطيل (١) وتشبيه وتجزية وتبعيض ؛ فهو في علوّ مرتبته خارج عن كلّ شيء وإن لم يخرج منه شيء ؛ فسبحان الذي لا يخلو من وجوده شيء وهو في علوّ مجده وكبريائه خارج / A ٥١ / عن الجميع «داخل في كلّ شيء لا بمقارنة وخارج عنها لا بمزايلة» (٢).

اين طرفه حديثى است كه آن ظاهر وپنهان

در هيچ نشد داخل ودر هيچ به در نيست

وكذا ينطبق عليه ما ذكره من تنزّل الواجب وكون الممكنات عبارة عن تنزّلاته ، كما تقدّم وجهه.

ومن تأمّل حقّ التأمّل في كلمات المحصّلين من العرفاء والحكماء يجد اتّفاق الكلّ على أنّ الممكنات مع كونها متحقّقة متغايرة ومغايرة للواجب سبحانه بملاحظة الواجب وعلّيته لها ليست إلّا امور اعتبارية تعلّقية ظلّية بالنظر إلى

__________________

(١). س : يعطل.

(٢). قد مرّ مأخذ هذا الحديث الشريف.

١٣٦

ذواتها. فانظر إلى قول الأعرابي وهو قدوة الوجودية : «ولقد نبّهتك على أمر عظيم إن تنبّهت له وغفلته فهو عين كلّ شيء في الظهور ما هو عين الأشياء في ذاته تعالى ، بل هو هو والأشياء أشياء» فإنّه نصّ في أنّ الأشياء الممكنة الموجودة مغايرة للحقّ إلّا أنّ ظهورها وتحقّقها به سبحانه ؛ فهي في أنفسها محض العدم والافتقار.

ثمّ انظر إلى قول الشيخ ابن سينا في تعليقاته وهو رئيس الحكماء : «الوجود المستفاد من الغير كونه متعلّقا بالغير مقوّم له كما أنّ الاستغناء عن الغير مقوّم لواجب الوجود بذاته ؛ والمقوّم للشيء لا يجوز أن يفارقه ؛ إذ هو ذاتي له» (١) بأنّه يفيد أنّ الوجودات الإمكانية لا حقائق لها متأصّلة سوى كونها مضافة إلى موجدها ومتعلّقة به وما يجرى مجرى ذلك وأن ليس لها هويّة مستقلّة سوى هويّة مفيضها وأنّها إنّيات تعلّقية وشئونات للوجود الحقّ وأشعّة وظلال النور المطلق ولا يمكن ملاحظتها ذواتا منفصلة وإنّيات مستقلّة ؛ لأنّ التابعية والتعلّق بالغير والفقر والفاقة عين حقائقها لا أنّ لها حقائق على حيالها عرض لها التعلّق بالغير والحاجة ، بل هي في ذواتها محض الفاقة والتعلّق ؛ فلا حقائق لها إلّا كونها توابع لحقيقة واحدة. فالحقيقة واحدة والباقي شئونها وفنونها وحيثياتها وأطوارها ولمعات أنوارها / B ٥١ / وظلال ضوئها وتجلّيات ذاتها.

والحاصل : أنّ المستفاد من كلامه أنّها بالنظر إلى أنفسها محض الإضافة والفاقة وإن كانت متحقّقة ثابته بالعلّة.

ثمّ التحقيق أنّ ما ذكرناه ، بل ما ذكره غيرنا من أعلام الحكماء وأعيان الصوفية في حقيقة الوجود وكيفية إفاضتها وتجلّيها إلى شئونها إنّما هو على سبيل التلويح والتلميح والتمثيل والتوضيح دون البرهان والتحقيق ؛ لأنّ الوجود الحقّ أجلّ

__________________

(١). التعليقات ، ص ٢١٦.

١٣٧

شأنا من أن تدركه العقول والأفهام وأعظم قدرا من أن تصل إليه الأفكار والأوهام ؛ وكيفية تجلّيه وإيجاده أعلى وأسنى من أن يعبّر عنها بعبارة أو يومئ إليها بإشارة ؛ فإنّ العبارة في معرفة حقيقته حجاب والإشارة إلى الكشف عن وجه بارقته نقاب. كيف وهو مجهول الكنه والذات ، بل غير معلوم الاسم والصفات؟! فليس له حدّ وبرهان ولا يمكن دركه بإشارة وبيان ، بل لو أمكن لأمكن عن المشاهدة والعيان [و] يكون الطالب عند تلك المشاهدة فانيا في المطلوب والشاهد مستغرقا في المشهود ؛ فلا يبقى حينئذ إشارة ومشير.

ومحصّل ما ذكرناه أنّ الوجودات الخاصّة الإمكانية المعلولة المجعولة للواجب بالتبعية والتعلّق والارتباط والترتّب امور متحقّقة من حيث إنّها توابع وشئون وأظلال وفنون للواجب الحقّ ولها آثار واقعية نفس أمرية ، كما أنّ لأظلال الشمس وغيرها من الأجسام المضيئة تحقّقا واقعيا وأثرا خارجيا وإن كان الفرق بين ظلّ الحقّ وظلّ الشمس في التحقّق وترتّب الأثر كالفرق بينهما. فتلك الوجودات الخاصّة لها تحقّق واقعي وأثر خارجي إلّا أنّ تحقّقها تبعي ووجودها ظلّي بمعنى أنّ ما به تحقّقها وموجوديتها هو المتبوع وذو الظلّ أعني الواجب تعالى. ففي الحقيقة تحقّقها وآثارها منه تعالى ؛ فهي لكونها تابعة فبالنظر إلى أنفسها مع قطع النظر عنه تعالى محض الفقر والحاجة. / A ٥٢ /

وبالجملة : هذه الوجودات (١) الخاصّة لكونها تبعية ظلّية إذا اخذت بشرط شيء ـ أي بشرط التبعية والتعلّق ـ تكون امورا متحصّلة ذوات آثار خارجية ، ويعبّر عن تحقّقها بالتحقّق الظلّي ؛ وإذا اخذت لا بشرط شيء ـ أي لا بشرط التبعية ولا بشرط عدمها ـ تكون امورا اعتبارية يعبّر عنها بالشئون والحيثيات والفنون والاعتبارات والأظلال والتنزّلات والأضواء والتطوّرات وأمثال ذلك ؛ وإن

__________________

(١). س : الوجود.

١٣٨

اخذت بشرط لا ـ أي بشرط عدم التعلّق والارتباط بالعلّة ـ فهي محض العدم وصرف اللبس ؛ ولكونها مرتبطة متعلّقة به تعالى تعلّق الظلّ بذي الظلّ والعكس بالأصل لا يكون الواجب تعالى خارجا عنها ولا داخلا فيها. فهو «خارج عنها لا بمزايلة وداخل فيها لا بمقارنة.»

وعلى ما ذكر من كون التحقّق وعدمه والخروج والدخول بالاعتبارين لا يلزم تناقض وتدافع ؛ على أنّا نقول : من عرف حقيقة القيّومية والعلّية والمعلولية يعلم ـ مع قطع النظر عن كون العلّية بمعنى الاستتباع والمعلولية بمعنى التبعية والتعلّق ـ أنّ المعلول من حيث هو معلول بالنظر إلى علّته أمر ثابت متحقّق مغاير لعلّته وبالنظر إلى نفسه لا تقرّر (١) له ولا تحصّل. ففي الحقيقة لا وجود إلّا وجوده ولا تحقّق إلّا تحقّقه وإذا لم يكن له تقرّر (٢) مستقلّ بالنظر إلى نفسه يصدق كونه شأنا واعتبارا له تعالى.

ثمّ هذه الوجودات الخاصّة المعلولة المجعولة التابعة المرتبطة به تعالى لمّا لم يكن لها في نفسها مع قطع النظر عن العلّة الواجبة تقرّر ـ كما هو شأن الوجود الظلّي التبعي ـ لا تكون أشياء منفصلة عرض لها التعلّق والارتباط ، بل يكون نفس التعلّق والارتباط ؛ إذ لو كانت امورا مرتبطة بالعلّة بارتباط لم تكن مجعولة بالذات ، بل كان المجعول بالذات ارتباطها لا أنفسها مع أنّ العرض كون المجعول بالذات أنفسها والمجعول بالذات المرتبطة بالعلّة لا بدّ أن يكون / B ٥٢ / نفس الارتباط ؛ فيكون أمرا اعتباريا وشأنا للعلّة لا أمرا منفصلا مرتبطا بارتباط زائد.

والتوضيح : أنّ المراد بنفس الارتباط ليس اعتباريا محضا كأنياب الأغوال وإلّا لزم أن لا يكون مرتبطا إذا لم يعتبره العقل وهو خلاف البديهة ؛ لأنّ المعلول مرتبطة بعلّته سواء اعتبر العقل ارتباطه أم لا ؛ فيكون له مصداق حقيقي نفس

__________________

(١). س : تقرير.

(٢). س : تقرير.

١٣٩

أمري ؛ وحينئذ إمّا يحمل على المعلول أنّه مرتبط في ذاته بالعلّة بالتواطؤ أو بالاشتقاق ؛ فعلى الأوّل يكون عين الارتباط وعلى الثاني يكون المرتبط ارتباطه ؛ فلا يكون ذاته مجعولة وهو خلاف الفرض.

وبالجملة : متى سلّم أنّ المعلول في ذاته مرتبطا بالعلّة فلو لم يكن عين الارتباط لكان شيئا مرتبطا ويكون ذلك الشيء مرتبطا بالارتباط لا بذاته ؛ فيكون الارتباط مرتبطا بالذات والذات بواسطته ، والمرتبط بالذات هو المجعول ؛ فلا يكون المعروض مجعولا ، بل المجعول ارتباطه.

وممّا توضح المطلوب من وجه أنّ الصور المخترعة للنفس مع كونها امورا متحقّقة من حيث قيامها بالنفس وتعلّقها به ليس وجودها إلّا نفس معقوليتها ؛ فهي إذا اخذت بشرط شيء ـ أي بشرط القيام والمعقولية ـ تكون متحصّلة وإذا اخذت لا بشرط تكون اعتبارية وإذا اخذت (١) بشرط لا ـ أي بشرط عدم المعقولية والقيام ـ تكون معدومة محضة ؛ إذ وجود المعقول نفس معقوليته ؛ فإذا اخذ بشرط عدم معقوليته يكون صرف العدم.

وبالجملة : الصور العقلية شئون النفس واعتباراته ؛ ولذا قيل : إنّ الفاعل إذا كان تامّ القدرة والفاعلية غير محتاج إلى معاون وآلة كلّما يتصوّره يوجد في الخارج ؛ والواجب لكونه في غاية مراتب القدرة ارتسم ما تعقّله من النظام الجملي في لوح الخارج ، بل التحقيق أنّ نسبة ظرف الخارج ونفس الأمر إلى واجب الوجود كنسبة ظرف الذهن إلينا ؛ ونسبة إيجاده حقائق الأشياء وأعيان الموجودات في الخارج إليه تعالى كنسبة تصوّر المفهومات المخترعة في الذهن إلينا. فظرف الخارج في الحقيقة / A ٥٣ / بمنزلة ظرف الذهن له.

فإن قيل : إفاضة الواجب الوجودات الخاصّة وجعله إيّاها إمّا بإخراجها من

__________________

(١). س : اخذ.

١٤٠