اللّمعات العرشيّة

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

اللّمعات العرشيّة

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: علي اوجبي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: انتشارات عهد
المطبعة: نگارش
الطبعة: ٠
ISBN: 964-5763-11-8
الصفحات: ٥١٩

الخاصّة لمّا كان صدورها بمقتضى العناية الراجعة إلى الذات والكلّ يرجع إليه في الحقيقة ؛ فلا يبقى إمكان مقدورية الغير بالنظر إلى ذاته تعالى.

وقد ظهر أنّ الممكنات / B ١٤١ / المعدومة لا يعقل ولا يتصوّر في السلسلة الطولية حتّى يمكن أن يكون مقدورة له تعالى بالنظر إلى ذاته ويتصوّر في السلاسل العرضية واللواحق العرضية من القدر والكيف والوضع وغير ذلك إلّا أنّها لعدم تعلّق العناية لحصولها وعدم علّية من جانب المبدأ لوجودها لا يمكن أن يكون متعلّق القدرة ولو بالنظر إلى الذات.

ثمّ لا أدري أنّ مجرّد إمكان الصدور بالنظر إلى الذات مع امتناع الصدور لأجل الغير أيّ كمال للذات الإلهية حتّى يكون عدمه نقصا له تعالى؟!

ثمّ إنّ هذا الغير الذي منع الصدور هل هو غير واقع بعنايته الذاتية ومشيّته الأزلية الراجعة إلى ذاته أو واقع بها؟! والأوّل كفر صريح (١) والثاني يوجب اقتضاء الذات بذاته عدم صدوره ؛ فكيف يكون صدوره ممكنا بالنظر إلى الذات؟!

وقد ظهر ممّا ذكر أنّ شيئا من الاحتمالات الأربعة لعموم القدرة ممّا لا وقع له.

والتحقيق عندي أنّ المراد بعمومية القدرة هو أنّ صدور جميع ما تقتضي صدوره في السلسلة الطولية قاعدة الإمكان الأشرف من صدور الأشرف فالأشرف إلى أن ينتهى إلى ما لا يتصوّر أخسّ منه في الوجود ـ كالهيولى الأولى ـ تعلّقت به القدرة وخرج من العدم إلى الوجود ؛ ولم يبق بين موجودين متّصلين في هذه السلسلة فرجة يمكن أن يتخلّل فيها ممكن آخر يكون أخسّ من الأوّل وأشرف من الثاني ، بل وقع بين أجزاء هذه السلسلة اتّصال في قرب كلّ لاحق إلى سابقة في الشرافة والكمال بحيث لا يتصوّر معه أن يقع بين جزءين منها ممكن آخر يكون مغايرا بنحو من المغايرة لسائر أجزائها ؛ فلا يتصوّر في الممكنات

__________________

(١). س : صحيح.

٣٤١

ممكن أشرف وأقرب إلى المبدأ الأوّل من الصادر الأوّل ثمّ الثاني ثمّ الثالث وهكذا إلى الانتهاء ؛ فالصادر الأوّل متّصل بصرف الوجود وآخر الصوادر متّصل بصرف العدم وكذا صدور كلّ ما يقتضي صدوره في السلاسل / A ١٤٢ / العرضية من قضية (١) ترتيب الصدور ، وترتّب السببي والمسبّبي ؛ وجهات التكثّر الواقعة في العلل العرضية من تكثّر الأنواع والأفراد والعوارض والآثار وغير ذلك قد تعلّقت به القدرة وأخرج من العدم إلى الوجود ولم يبق شيء يمكن أن يوجد بالنظر إلى جهات التكثّر وحصول علّته ولا يوجد ، بل كلّ ما كان ممكن الوجود بالنظر إلى ترتيب الصدور المستند إلى العناية الإلهية تعلّقت به القدرة وصار موجودا ؛ وكلّ ما لم يوجد لم يكن ممكن الصدور بالنظر إلى الترتيب وملاحظة العلل والأسباب وإن كان ممكنا بالنظر إلى ذاته ومفهومه.

فالمراد من عموم القدرة في السلسلة الطولية هو أنّ جميع ما كان ممكنا في تلك السلسلة بالنظر إلى ذاته صار موجودا ومتعلّقا للقدرة الكاملة ؛ وفي السلاسل العرضية هو أنّ جميع ما كان ممكنا بالنظر إلى العلل والأسباب صار متعلّق القدرة وموجودا ؛ ولم يخرج شيء من الممكنات الذاتية في الأولى والممكنات بالنظر إلى العلل والأسباب في (٢) الثانية عن تناول القدرة ؛ وما لم تتعلّق به القدرة إمّا لم يكن ممكنا بالنظر إلى ذاته وذات العلّة أو لم يكن ممكنا بالنظر إلى ذات العلّة ؛ فلا يبقى شيء يكون ممكنا بالنظر إلى ذات العلّة ولا يكون موجودا متعلّقا للقدرة.

فإن قلت : ما أنكرته هو بعينه أحد الاحتمالين الأوّلين اللذين قلت إنّهما يثبتان بثبوت التوحيد وحدوث العالم ؛ إذ حاصل ما قرّرته واخترته هو أنّ جميع الموجودات الواقعة في السلاسل الطولية والعرضية تعلّقت به القدرة الإلهية بأحد

__________________

(١). س : القضيّة.

(٢). س : و.

٣٤٢

الوجهين وخرج من الوجود إلى العدم ؛ وهذا هو أحد الاحتمالين ، بل هو القدر المشترك بين الاحتمالات الأربعة.

قلت : البون بينهما ظاهر لا يخفى ؛ والفرق بينهما من الثرى إلى الثريّا ؛ فإنّ مبنى الاحتمالين الأوّلين على استناد جميع الممكنات / B ١٤٢ / الموجودة إلى القدرة الإلهية بأحد الوجهين لا أن يكون بعضها مستندا (١) إلى قدرة اخرى بالاستقلال مع تجويز تصوّر بعض الممكنات الذاتية والغيرية في السلاسل الطولية والعرضية ؛ ومبنى ما ذكرناه على تعلّق القدرة بإيجاد كلّ ممكن ذاتي وغيري فيها وصدور الجميع بالقدرة الكاملة وعدم خروج شيء منها عن تعلّقها.

[في إرادته تعالى]

ومن صفاته الكمالية الإرادة ؛ وقد اتّفق الملّيّون والحكماء (٢) على كونه تعالى مريدا وغير خفيّ أنّ إيجاد العالم منه تعالى إنّما يتحقّق بإرادته تعالى ؛ فإرادته (٣) ما يصير سببا للإيجاد.

وهي عند المشّائين من الحكماء عبارة عن العلم بنظام الخير ؛ لأنّهم قالوا : إنّ العلم الحصولي العقلي بالأشياء هو سبب إيجادها.

وعند الإشراقيّين منهم هي العلم بنفس ذاته المقدّسة ؛ لأنّهم لمّا أنكروا العلم الحصولي وجعلوا علم الواجب منحصرا في الحضوري قالوا : علمه تعالى بنفس ذاته هو الباعث لإيجاد الأشياء منكشفة لديه.

وعند جماعة كالمحقّق الطوسي وجمهور المعتزلة هو العلم بالأصلح ؛ لأنّهم قالوا : إنّه الباعث لإيجاد الأشياء في الوقت الذي وجد فيه.

وعند المتكلّمين هو القصد بمعناه الظاهر.

__________________

(١). س : مستند.

(٢). س : + و.

(٣). س : فاراته.

٣٤٣

وظاهر كلام جماعة من الحكماء أنّ الإرادة ما يلزم العلم بالذات وبنظام الخير من الابتهاج والرضاء والحبّ وأمثال ذلك ممّا يتضمّن معنى المعبّر عنه بالفارسية ب «خواستن» ولا يخفى أنّ القدرة فينا هو التمكّن من الفعل ؛ والمشيّة هو القصد أو الميل إلى الفعل أو الترك بحسب المصلحة أو المفسدة بحيث يحتملها جميعا ؛ والاختيار إيثار أحد الطرفين وترجيحه وتعيّن الميل إليه بحسب المصلحة ؛ والإرادة تعلّق القصد بعنوان العزم والجزم إلى أحد الطرفين اللذين اختاره ومال إليه.

وبعبارة اخرى : هي شوق متأكّد يحصل عقيب داع هو تصوّر الملائم تصوّرا علميا أو ظنّيا أو تخيّليا موجبا لتحريك الأعضاء الآلية لأجل تحصيل ذلك الملائم.

وعلى / A ١٤٣ / ما ذكر فالمشيّة بعد تعيين أحد الطرفين يصير اختيارا والاختيار بعد العزم والجزم يصير إرادة. فالمختار من ينظر في أحد الطرفين ويميل إليه والمريد هو الناظر العازم إلى الطرف الذي مال إليه. فالاختيار متوسّط بين المشيّة والإرادة ؛ لأنّ الفاعل شاء أوّلا ثمّ يرجّح أحد الطرفين ثمّ يعزم عليه. فالمشيّة إذا عزمت يصير إرادة ؛ والتفرقة بين هذه الامور وكونها على النحو المذكور ـ كما أشرنا إليه ـ إنّما هو بالنسبة إلينا ؛ فإنّها متغايرة فينا مفهوما ومصداقا ومغايرة للعلم الذي هو انكشاف الامور الخارجة عن نفوسنا أو الصور المرتسمة فيها ؛ فلبراءته عن النقص والكثرة وكونه تامّا فوق التمام لا تكون هذه الامور فيه متغايرة ، بل حقيقة الجميع ومصداقها أمر واحد شخصي هو مجرّد الذات بذاته. نعم يتغاير بمجرّد المفهوم. فالذات من حيث مبدئيته لانكشاف الأشياء علم ومن حيث تمكّنه من صدورها بالوجوب ـ أي من حيث ترتّب صدورها عليه وتابعيتها له ـ قدرة ومن حيث منشئيته للرجحان المطلق مشيّة ومن حيث مبدئيته لرجحان خصوصية أحد الطرفين اختيار ومن حيث منشئيته لتبعيته ولزومه إرادة.

٣٤٤

فذاته بذاته منشأ ومبدأ لهذه الامور وانتزاعها عن غير مدخلية شيء آخر ومبدئيته لكلّ منها في ضمن فاعليته التامّة ومبدئيته المطلقة وقيّوميّته الحقّة للكلّ ؛ فإنّ مبدئيته للجميع وصدور الكلّ منه بالوجوب يندرج فيه مبدئيته للرجحان المطلق ورجحان أحد الطرفين وإيجابه. فمنشأ انتزاع هذه المفهومات وغيرها صرف الذات بذاته ؛ وأمّا فينا فلهذه الامور مبادئ مختلفة متعدّدة بعددها ، حادثة في نفوسنا ؛ إذ مبدأ الرجحان المطلق قصد وميل ضعيف يحدث فينا ؛ وهو المراد بالمشيّة ؛ ومبدأ رجحان أحد الطرفين ميل أقوى من الأوّل يحدث ؛ وهو المراد بالاختيار ؛ ومبدأ إيجابه ميل قويّ و/ B ١٤٣ / قصد مؤكّد ؛ وهو المراد بالإرادة.

وقد ظهر ممّا ذكر أنّ المعنى الحقيقي الكمالي للإرادة كغيرها من صفاته تعالى هو مجرّد الذات بذاته ولها معنى إضافي مترتّب على الحقيقي ـ أعني الذات ـ وهو الذي يترتّب عليه الفعل بلا واسطة ويصير الصدور لأجله واجبا ؛ فإنّك قد عرفت أنّ الإرادة ما يتبعه الفعل ويلزمه وذات الواجب سبحانه بذاته وإن كان مبدأ الكلّ ومصدره ويترتّب الجميع عليه إلّا أنّ ذلك مسبوق بعلمه تعالى بذاته وبما يصدر عنه. فوجوب الصدور إنّما هو بعد العلم أو ما يلزمه ويليق بالواجب تعالى من الرضاء أو البهجة أو الحبّ أو أمثال ذلك ممّا يتضمّن ما يعبّر عنه في الفارسية ب «خواستن».

فالإشراقيّون المتكثّرون للعلم الحصولي القائلون بأنّه تعالى فاعل بالرضاء بمعنى أنّ إيجاده في العالم لا يتوقّف على علم فعلي حصولي ، بل بمجرّد علمه بذاته تصدر عنه الأشياء منكشفة لديه ، قالوا : إنّ إرادته هو علمه بذاته لترتيب الصدور عليه من دون توقّفه على شيء آخر.

والمشّاءون القائلون بأنّ فاعليته للصور المرتسمة في ذاته بالرضاء لصدورها عنه بمجرّد علمه بذاته من دون توقّفها على صور اخرى وللأشياء الخارجية

٣٤٥

بالعناية ؛ بمعنى أنّ العناية التي هي العلم الحصولي الفعلي بنظام الخير هو السبب لصدور الأشياء الخارجية ، قالوا : إنّ إرادته هي علمه بذاته وعلمه بنظام الخير ؛ لأنّهما سببا صدور الصور العلمية والأشياء العينية.

والقائلون بالحدوث الزماني لمّا التزموا بالانفكاك (١) بين الواجب والعالم لم يمكنهم أن يجعلوا مجرّد العلم بالذات أو به وبالنظام الجملي علّة الإيجاد وإلّا لم يقع الانفكاك ، [و] قالوا : الإرادة التي هي باعث الإيجاد هو العلم بالأصلح ؛ وقد تعلّق في الأوّل بإيجاد العالم في الوقت الذي وجد.

ثمّ ظاهر كلام بعض / A ١٤٤ / الحكماء وصريح جماعة من المتكلّمين أنّ الإرادة لمّا كانت صفة يترتّب عليها الفعل ونحن نرى ونعلم أنّ مجرّد العلم لا يصير سببا لذلك ؛ فلا بدّ أن يتبع العلم ويلزمه معنى آخر يتضمّن ما يعبّر عنه في الفارسية ب «خواستن» وهو حقيقة الإرادة دون ملزومه الذي هو العلم.

فقال الأوّلون : هو ما يلزم علمه بذاته وبمعلولاته من الرضاء والابتهاج أو الحبّ أو العشق أو أمثال ذلك ممّا يتضمّن المعنى المعبّر عنه ب «خواستن» ولكن على وجه متقدّس عن التغيّر والانفعال والاستكمال بالغير ؛ وبالجملة على وجه يليق بجناب قدسه.

وقال الآخرون : هو القصد الخاصّ الباعث للفعل بمعناه المعروف الذي تفهمه من ظاهر لفظ الإرادة والمشيّة.

ولا يخفى أنّ القائل بالقصد إن أراد به (٢) القصد الحادث في وقت الإيجاد ففساده ظاهر بأىّ معنى أخذ ؛ إذ لا يكون الواجب محلّا للحوادث ؛ وإن أراد به (٣) القصد اللازم للعلم بالأصلح في الأزل المترتّب عليه بمعنى أنّه بعد علمه الأزلي بالأصلح ؛ أعني بإيجاد العالم على النحو الواقع في الوقت الذي حدث وتعلّق

__________________

(١). س : الانفكاك.

(٢). س : يه.

(٣). س : يه.

٣٤٦

قصده في الأزل أيضا بإيجاده في الوقت الذي وجد وإن أراد بالعلم بالأصلح والقصد ما يوجب الاستكمال والتكثّر ففساده ظاهر ؛ وإن أراد بهما (١) ما يلزم الذات من العلم بنظام الخير وأطلق عليه الأصلح لكونه في الواقع خيرا أو أفضل ما يتصوّر من النظام وممّا يلزم هذا العلم من الرضاء أو الابتهاج أو نحوه إلّا أنّه التزام تخلّل العدم الواقعي بين الواجب والعالم نظرا إلى إجماع الملّيّين فبان تحقيقه.

وبذلك يظهر جليّة الحال في قول من جعل الإرادة مجرّد العلم بالأصلح من دون التزام معنى آخر هو القصد.

والتحقيق في هذا المقام أنّ الذات ـ كما تقدّم ـ هو غير الإرادة بمعناها الحقيقي بمعنى أنّ ما هو الحقيقة والكمال من الإرادة هو ذاته بذاته ؛ فهو العلم الحقيقي والابتهاج الحقيقي ؛ فمصداق هذه الثلاثة وحقيقتها أمر واحد / B ١٤٤ / هو الذات. ثمّ يلزم الذات معنى إضافي هو انكشاف الذات وصور الأشياء الخارجية عنده والابتهاج بالذات ومعلولاته ؛ إذ أشدّ علم بأشدّ معلوم يوجب أشدّ الابتهاج ؛ والانكشاف والابتهاج بهذا المعنى لكونهما إضافيّين فهما مفهومان متغايران وإن اتّحدا في الحقيقة والمصداق ؛ وكلّ منهما يطلق عليه الإرادة بالمعنى الإضافي ؛ فالإرادة لمّا كانت ما يصدر لأجله الفعل وصدور العالم إنّما هو عن ذات هو حقيقة العلم والإرادة والابتهاج وغيرها من صفاته الكمالية وتنتزع عنه إرادة إضافية هى العلم الإضافي الانكشافي والابتهاج الإضافي اللائق بجناب قدسه ؛ أي ما لا يوجب انفعالا وتغيّرا في ذاته وهما لازمان للذات متقدّمان على الإيجاد ؛ فيصحّ إطلاق الإرادة عليهما واستناد الإيجاد إلى كلّ من الثلاثة ـ أعني الذات والعلم والابتهاج الإضافيّين ـ باعتبارات ؛ فإنّ الذات من حيث إنّه علم الكلّ في الحقيقة والجميع رشحات فيضه وجوده هو الإرادة بمعناها الحقيقي وما

__________________

(١). س : ارادتهما.

٣٤٧

يلزمه أوّلا ـ أعني العلم الإضافي الانكشافي بذاته وبالصور المرتسمة في ذاته ـ لمّا كان متقدّما على الإيجاد فهو متوقّف عليه ؛ فيصحّ إطلاق الإرادة عليه بهذا الاعتبار وكذا الحال في ما يلزم هذا العلم من الابتهاج الإضافي.

ولا تظنّن أنّ ابتهاجه بما يصدر عنه وجه له يوجب استكماله بغيره والتفات العالي إلى السافل ؛ لأنّه لمّا علم ذاته الذي هو أجلّ الأشياء بأجلّ علم يكون مبتهجا به أشدّ الابتهاج ومن ابتهج بشيء ابتهج بجميع ما يصدر عنه من أجل أنّه يصدر عنه ؛ فالواجب يريد الأشياء لا لأجل ذواتها من حيث ذواتها ، بل لأجل أنّها صدرت عن ذاته.

قالوا : إنّه لهذا المعنى في الإيجاد نفس ذاته تعالى وكلّ ما كان فاعليته لشيء على هذا السبيل لا يكون فاعلا وغاية معا لهذا الشيء.

وما قيل : «إنّ العالي لا يريد السافل ولا يلتفت إليه في فعله وإلّا كان / A ١٤٥ / مستكملا به ، لكون وجوده أولى له من عدمه والعلّة لا يستكمل بالمعلول» لا ينافي ما ذكرناه ؛ إذ المراد من الإرادة والالتفات المنفيّين عن العالي بالقياس إلى السافل هو ما يكون بالذات لا بالعرض ؛ فلو أحبّ الواجب معلوله وابتهج به وأراده لأجل كونه أثرا من آثار وجوده ورشحا من رشحات فيضه وجوده لا يلزم أن يكون وجوده له خيرا وبهجة ، بل بهجته إنّما هي بما هو محبوب بالذات وهو ذاته الذي كلّ كمال وجمال رشح من كماله وجماله ؛ فلا يلزم من حبّه وإرادته له استكماله بغيره ؛ لأنّ المحبوب والمراد بالحقيقة نفس ذاته ، كما أنّك لو أحببت إنسانا فتحبّ آثاره من حيث إنّها آثارها لا من حيث ذواتها لكان محبوبك في الحقيقة ذلك الإنسان لا تلك الآثار.

وبما ذكرناه صرّح الشيخ في المبدأ والمعاد حيث قال في بيان إرادته : «هذه الموجودات كلّها صادرة عن ذاته ومن مقتضى ذاته ؛ فهى غير متنافية له ولأنّه

٣٤٨

تعشق ذاته ؛ فهذه الأشياء كلّها مرادة لأجل ذاته ؛ فكونها مرادة له ليس لأجل غرض ، بل لأجل ذاته ولأنّها مقتضى ذاته ، مثلا لو كنت تعشق شيئا لكان جميع ما صدر عن شيء على هذه الصفة فهو غير مناف لذلك الفاعل وكلّ فعل يصدر عن فاعل وهو غير مناف له ؛ فهو مراده.

فإذن الأشياء كلّها مرادة للواجب تعالى وهو المراد الخالي عن الغرض ؛ لأنّ الغرض في رضاه بصدور تلك الأشياء عنه أنّه مقتضى ذاته المعشوقة ؛ فيكون رضاه بتلك الأشياء لأجل ذاته ؛ فيكون الغاية في فعل ذاته ؛ ومثال هذا إذا أحببت شيئا لأجل إنسان كان المحبوب بالحقيقة ذلك الإنسان ؛ فالمعشوق المطلق هو ذاته ؛ ومثال الإرادة فينا إنّا نريد شيئا فنشتاقه لأنّا محتاجون إليه ؛ وواجب الوجود يريده على الوجه الذي ذكرناه ولكنّه لا يشتاق إليه ؛ لأنّه غنيّ عنه ؛ فالغرض لا يكون إلّا مع الشوق ؛ فإنّه يقال : لم طلب هذا؟ / B ١٤٥ / فيقال : لأنّه اشتاقه ؛ وحيث لا يكون الشوق لا يكون الغرض» انتهى.

وقال في التعليقات : «ولو أنّ إنسانا عرف الكمال الذي هو حقيقة واجب الوجود ثمّ كان ينظّم الامور التي بعده على مثاله حتّى كانت الامور على غاية النظام لكان غرضه بالحقيقة واجب الوجود بذاته الذي هو الكمال ؛ فإن كان واجب الوجود بذاته هو الفاعل [فهو] أيضا الغاية والغرض.» (١)

[في أنّه تعالى ليس له غرض في أفعاله غير نفس ذاته]

لمّا ظهر أنّ علمه بالنظام الأوفق هو الداعي لصدور الأشياء عنه على وجه الخير والصلاح وهو عين ذاته ؛ فيكون الداعي عين ذاته ؛ فهو الفاعل والغاية في الإيجاد معا بمعنى أنّه كما هو العلّة الفاعلية للإيجاد فهو الغاية له أيضا ؛ أي ذاته بذاته

__________________

(١). التعليقات ، ص ١٣.

٣٤٩

اقتضى إفاضة الموجودات وترشّحها منه ؛ ففعل الله تعالى معلّل بالغاية إلّا أنّ الغاية نفس ذاته. فما ذهب إليه الحكماء من أنّ أفعال الله تعالى غير معلّلة بالغرض إنّما أرادوا به غاية هي غير نفس ذاته من كرامة أو محمدة أو لذّة أو إيصال نفع إلى ذاته أو غيره أو غير ذلك ممّا يترتّب على الفعل ؛ لأنّ الغرض بهذا المعنى يوجب استكمال الفاعل به والله تعالى متقدّس عن ذلك ، بل الحقّ أنّ كلّ فاعل يفعل ليس له غرض حقّ في ما دونه ولا قصد صادق لأجل معلوله ؛ لأنّ ما يكون لأجله قصد يكون ذلك المقصود أعلى من القصد بالضرورة ؛ فلو كان إلى معلول قصد صادق غير مظنون لكان القصد معطيا لوجود ما هو أكمل منه وهو محال ؛ وما يرى من وقوع القصد كثيرا إلى ما هو أحسن من القاصد وقصده فإنّما هو على سبيل الغلط والخفاء والجزاف وإلّا عند التحقيق والإتقان وصدق القصد والغرض الحقّ يكون الغرض والمقصود أكمل من القاصد.

فإن قيل : لو لم يكن للواجب غرض في الممكنات وقصد إلى منافعها فكيف يحصل منه الوجود على غاية من الإتقان ونهاية من التدبير والإحكام ؛ ولا يمكن لأحد أن ينكر الآثار العجيبة والأفعال الدقيقة الحاصلة في العالم من تكوّن الأشياء على وجه تترتّب عليه الحكم والمصالح ، كما يظهر من التدبير في الآيات الآفاقية والأنفسية / A ١٤٦ / ومنافعها التي ظاهرة لكلّ ذي عين ظاهرة فضلا عن ذي عين باطنة ، كوجود الحاسّة للإحساس ومقدّم الدماغ للتخيّل ووسطه للتفكّر ومؤخّره للتذكّر والحنجرة للقوت والخيشوم لاستنشاق (١) الهواء والأسنان للمضغ والرية للتنفّس وغير ذلك من المصالح المودعة في بدن الإنسان والمنافع المشتملة عليه حركات الأفلاك وأوضاع مناطقها ومنافع النيّرين وساير الكواكب ممّا لا تفي بذكره الألسنة والدفاتر؟!

__________________

(١). س : للاستشاق.

٣٥٠

قلنا : ما ذكرت من وجود المنافع والمصالح في الآفاق والأنفس ممّا نعلمه ولا نعلم كثيرا ، بل ما لا نعلمه (١) أكثر ممّا نعلمه ؛ بل المحقّق الخبير يعلم أنّ الحكم والمصالح المودعة في العالم الكبير والصغير ممّا لا يحصى كثرة ولا يتناهى عدّة وشدّة ولكنّ ذلك لا يوجب أن تكون لفعله تعالى علّة غائية خارجة عنه (٢) ؛ لأنّ ذاته تعالى لا يحصل منها الأشياء إلّا على أتمّ ما ينبغي وأبلغ ما يتصوّر من المنافع والمصالح ؛ لأنّ ذاته منبع (٣) الخيرات ومنشأ الكمالات ؛ فيصدر منه كلّ ما يصدر على أقصى ما يتصوّر في حقّه من الخير والكمال والرتبة والجمال سواء كان ضروريا له كوجود (٤) العقل للإنسان والنبيّ للامّة أو غير ضروري كإنبات الشّعر على الأشفار والحاجبين وتقعير الأخمصين من القدمين ، بل نقول : عناية كلّ علّة لما يعدّها سبيله ـ كما مرّت الإشارة إليه ـ هذا السبيل من أنّها لا يجوز أن يعمل عملا لأجل معلولها ولا أن يستكمل بها دونها. اللهمّ! إلّا بالعرض لا بالذات ولا أن يقصد فعله لأجل المعلول وإن كان يعلمه ويرضى به.

وبالجملة : إثبات الغرض في فعله لا يوافق القواعد العقلية إلّا أنّ الظواهر الشرعية تدلّ عليه ؛ وعلى هذا فاللازم اتّباعها والتزام أنّ الغاية في فعل الواجب إذا كان مصلحة الغير ونفعه لا يوجب الاستكمال وإن لم يكن كذلك في أفعالنا.

ثمّ إنّ الواجب تعالى كما هو غاية للأشياء بالمعنى المذكور كذلك هو غاية بمعنى أنّ جميع الأشياء لكونها طالبة / B ١٤٦ / للكمال وهو كمال الأتمّ والتامّ فوق التمام يطلب التشبّه به والوصول إليه بحسب ما يتصوّر في حقّها ويمكن في طبائعها ؛ فلكلّ منها شوق وعشق إراديا كان أو طبيعيا ؛ ولذا حكم الإلهيّون بسريان العشق والشعور في جميع الموجودات على تفاوت درجاتهم واختلاف

__________________

(١). س : لا تعلمه.

(٢). س : عن.

(٣). س : تتبع.

(٤). س : لوجود.

٣٥١

طبقاتهم (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها) (١) ويحسّ (٢) شوقا إليها ويجتهد ويسعى في الوصول لديها (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) (٣).

فالواجب سبحانه أوّل الأوائل من جهة وجوده وذاته وكونه علّة فاعلية لجميع ما سواه وعلّة غائية لإيجاد الكلّ ، وآخر الأواخر من جهة كونه غاية أخيرة يقصده الأشياء ويتشوّق إليه إرادة وطبعا ويتحرّك ويسعى في التشبّه به والوصول إليه بقدر الإمكان والمتصوّر في حقّ كلّ منها ؛ لأنّه الوجود الحقّ والخير المطلق والكمال التامّ وفوق التمام والمعشوق الحقيقي والمقصود الأصلي ؛ فمصحّح الاعتبار الأوّل ذاته بذاته ومصحّح الثاني صدور الأشياء عنه على وجه يلزمها عشق يقتضي حفظ كمالاتها الأوّلية والشوق إلى تحصيل ما فقد عنها من الكمالات الثانوية لتشبه بمبدئها بقدر الإمكان.

[في حياته تعالى]

اتّفق الكلّ على أنّه سبحانه حيّ وقد تواتر من شرايع الأنبياء إطلاق الحياة عليه تعالى وهي في الحيوان صفة تقتضي الحسّ والحركة الإرادية. فالحياة بهذا المعنى يتمّ بإدراك هو الإحساس وفعل هو التحريك منبعثين عن قوّتين مختلفتين ؛ ولا ريب في تنزيهه تعالى عن الحياة بهذا المعنى ؛ ولا يمكن أيضا أن تكون حياته صفة زائدة عن ذاته توجب العلم والقدرة ، كما ذهب إليه الأشاعرة.

فالحقّ ـ كما ذهب إليه الحكماء وبعض المعتزلة ـ أنّ حياته تعالى كونه بحيث يصدر عنه العلم والفعل. فالحيّ هو الدرّاك الفعّال بمعنى أنّ ذاته بذاته مبدأ ومنشأ للدرك والفعل ؛ فإنّه لا ريب في أنّ الحياة مبدأ (٤) للأفعال والآثار الصادرة عن الحيّ

__________________

(١). البقرة / ١٤٨.

(٢). س : يخس.

(٣). الإسراء / ٤٤.

(٤). س : بعد.

٣٥٢

من العلم والقدرة والحسّ والحركة ؛ وهذا المبدأ في الحيوان صفة زائدة على ذاته وأمّا في الواجب فنفس ذاته ؛ إذ ذاته بذاته يعلم ويفعل ؛ وبالجملة حياته كسائر صفاته الكمالية / A ١٤٧ / ينقسم إلى :

[١.] حياة حقيقية ؛ أي ما يكون الواجب باعتباره حيّا ؛ أعني فعّالا درّاكا ، وبعبارة اخرى : ما يكون منشأ ومبدأ لانتزاع مفهوم الحياة ؛ أي مفهوم الدرّاكية والفعّالية ؛ وهي عين ذاته وصرف وجوده (١) الحقّ.

[٢.] وإضافية منتزعة عن الأولى ؛ وهي مفهوم الحياة ؛ أعني الدرّاكية والفعّالية.

[في سمع الواجب وبصره]

أجمع الملّيّون على أنّ الباري سبحانه سميع بصير ؛ وقد ثبت ذلك بالتواتر والضرورة من دين نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وبالجملة : لا خلاف في ذلك بين المسلمين من المتكلّمين والحكماء وإنّما الخلاف في تعيين المراد من سمعه وبصره تعالى ؛ فالحصوليّون النافون للعلم الحضوري أرجعوهما إلى العلم الحصولي الكلّي بالمسموعات والمبصرات ؛ فقالوا : المراد بكونه سميعا بصيرا أنّه عالم بالمسموعات والمبصرات على الوجه الكلّي المستفاد من العلل والأسباب الكلّية كعلمه بسائر الأشياء ؛ والقائلون بالعلم الحضوري الجزئي أرجعوهما إلى نفس علمه الإشراقي الجزئي بالمسموعات ـ أعني الحروف والأصوات ـ والمبصرات ـ أعني الأجسام والأضواء والألوان ـ وهو مختار بعض أشياخنا الإمامية وشيخ الأشاعرة إلّا أنّه قائل بكونهما زائدين على الذات ؛ وغيره ممّن ذكر قائل بأنّهما نفس الذات ؛ فالذات من حيث

__________________

(١). س : الوجود.

٣٥٣

هو مدرك بذاته للمبصرات بصر ومن حيث هو مدرك للمسموعات بذاته سمع.

والحاصل : أنّ المعنى الحقيقي من السمع والبصر نفس ذاته بذاته وهو منشأ لانتزاع المعنى الإضافي عنهما ؛ أعني مفهوم علمه الإشراقي الشهودي بالمسموعات والمبصرات.

والزيادة عند الأشعري والعينية عند غيره مبنيّ على أخذ (١) كلّ منهما في مطلق العلم ، بل ساير الصفات.

وذهب أكثر المتكلّمين إلى أنّهما صفتان زائدتان على العلم مغايرتان له وهما الإدراكان الخاصّان البديهيّان المعبّر عنهما في العربية ب «الرؤية» و «الاستماع» وفي الفارسية ب «ديدن» و «شنيدن» وليس قولهم هذا مبنيّا على اعتقادهم التجسّم ومباشرة الأجسام ، بل على اعتقادهم على أنّ الإحساس في حقّه تعالى يحصل بلا آلة لبراءته عن القصور ؛ فإنّهم قالوا : احتياجنا في الإحساس إلى الآلة / B ١٤٧ / لعجزنا وقصورنا ؛ وذات الباري تعالى لبراءته عن القصور يحصل له بلا آلة ما لا يحصل لنا إلّا بها ؛ فتلك الأشياء التي ندركها (٢) نحن بالحواسّ الظاهرة والباطنة وبالقوى الجسمانية يدركها الواجب أيضا بهذا الوجه الذي ندركها (٣) لكن لا بالآلات المذكورة ، لغنائه عنها واحتياجنا إليه إنّما هو لقصورنا.

والحقّ رجوعهما إلى العلم الحضوري الجزئي بالمبصرات والمسموعات كما هو المشهور بين مشايخنا الإمامية ، بل ادّعى بعضهم وفاق أصحابنا عليه وكلام العلّامة الطوسي في شرح الرسالة صريح فيه وإن أمكن حمل عبارته في التجريد على مذهب المعتزلة ؛ وعلى هذا كما دلّت الشريعة النبوية والضرورة الدينية على ثبوتهما كذلك يدلّ العقل أيضا عليه ؛ إذ كلّ دليل عقلي يدلّ على كونه عالما بالأشياء على الوجه الجزئي يدلّ على كونه عالما بالمبصرات و

__________________

(١). س : اصل.

(٢). س : يدركها.

(٣). س : يدركها.

٣٥٤

المسموعات كذلك ؛ وعلمه الحضوري الإشراقي وإن تعلّق بجميع المحسوسات من المشمومات والمذوقات والملموسات إلّا أنّ الشرع منع من إطلاق الشامّ والذائق واللامس عليه سبحانه وإنّما أجاز إطلاق مجرّد السميع والبصير عليه لكونهما ألطف الحواسّ وأقربها (١) إلى العلم وإشعار غيرهما بالملاصقة والملامسة والتجسّم وإرجاعهما إلى العلم الحصولي الكلّي قد ظهر فساده ممّا مرّ ، لخروج التشخّصات [و] التخصّصات حينئذ من علمه ؛ وحملهما على حقيقتهما ـ أعني الإدراكين الحسّيين المعروفين المعبّر عنهما بالإبصار والاستماع ـ يوجب النقص والقصور ، لتوقّفهما على الآلة وتأثّر الحاسّة والمباشرة وحصول نوع من القرب والمقابلة وخروج الشعاع أو الانطباع وغير ذلك ممّا هو من خواصّ الأجسام ؛ ولو لم يحمل على حقيقتهما وحملا على إحساس منزّه عن الآلة والانفعال وغيرهما من شرائط الرؤية لم يبق له معنى سوى العلم الحضوري الإشراقي ؛ إذ الإدراك على الوجه الجزئي مع كونه غير الإحساس بمعناه المعروف البديهي ليس إلّا الانكشاف الشهودي.

وبالجملة : كونهما زائدين على نفس العلم بالمسموعات والمبصرات على الوجه الجزئي لا يتصوّر إلّا بأن يكون إدراكهما / A ١٤٨ / بالإحساس ؛ إذ غيره في إدراكهما على الوجه الجزئي ليس إلّا العلم بهما على الوجه الإشراقي الشهودي ؛ وحقيقة الإحساس لا يحصل إلّا بتأثير الحاسّة وهو ممتنع في حقّه تعالى ؛ فلا يبقى لإدراكهما على الوجه الجزئي معني آخر سوى العلم على الوجه الجزئي الإشراقي.

والمحصّل : أنّ المراد بهما إمّا الإحساس المخصوص أو العلم بالمبصرات والمسموعات ؛ والأوّل لا يحصل إلّا بالآلة وتأثّر الحاسّة ولا يتصوّر ذلك في حقّه سبحانه ؛ فتعيّن الثاني ؛ أعني علمه تعالى بهما على الوجه الجزئي الحضوري و

__________________

(١). س : اقر بينها.

٣٥٥

الانكشافي الإشراقي الشهودي وهو لا ينافي التجرّد عن الموادّ والآلات وتدلّ على ثبوته له تعالى الدلالة العقلية ؛ إذ تقرّر في ما سبق أنّه تعالى عالم بجميع الجزئيات على الوجه الجزئي ومن جملتها المبصرات من الألوان والأضواء والأجسام والمسموعات من الحروف والأصوات ؛ فيكون الواجب تعالى عالما بها علما إشراقيا حضوريا وينكشف لديه انكشافا نوريا شهوديا بنفس ذاته التي به يظهر ويتنوّر كلّ شيء ؛ فذاته بهذا الوجه سمعه وبصره ؛ وعدم وصفه بالشام والذائق واللامس مع تعلّق العلم الشهودي الحضوري بالشمومات والمذوقات والملموسات على الوجه الجزئي كتعلّقه بالمبصرات والمسموعات بلا تفاوت ، لعدم ورود هذه الألفاظ في الشريعة ، لإيهامها النقص والتجسّم.

وعمدة احتجاج القائل بأنّ المراد بهما الإحساس المخصوص أنّ الشرع أطلق لفظي السمع والبصر عليه تعالى وهما حقيقتان فيه ؛ وجوابه ظاهر.

وأنّ إدراك المحسوسات من حيث إنّها محسوسات بالوجه الإحساسي يدخل فيه بعض خصوصياتها التي يخرج منها لو لم يدرك بهذا الوجه وأدركت بالعلم الحضوري ؛ ولا ريب في أنّ الإدراك على وجه يشمل على جميع الخصوصيات أكمل من الوجه الذي خرج بعضها ؛ ولمّا حكم العقل بأنّ الواجب سبحانه علّة لجميع الأشياء بجميع خصوصياتها وأنّ العلم بالعلّة يوجب العلم بالمعلول ؛ فيحكم بأنّه يجب أن لا يخرج شيء من الخصوصيات عن علمه ؛ فيجزم بأنّه تعالى يرى المبصرات بالنحو الإحساسي البديهي بلا آلة ويسمع المسموعات / B ١٤٨ / أيضا بهذا الوجه.

وفيه أنّ العلم الحضوري الذي للواجب تعالى لا يخرج عنه شيء من الخصوصيات ؛ لأنّه أشدّ ظهورا وجلاء من جميع الإدراكات سواء كان علما كلّيا حصوليا أو علما جزئيا حضوريا أو إحساسا بالحواسّ الظاهرة والباطنة.

٣٥٦

وبالجملة : علمه الحضوري بالمبصرات والمسموعات عين الظهور والانجلاء بحيث لا يخرج عنه شيء من الخصوصيات الثابتة للإحساس سوى ما هو نقص من تأثّر الحاسّة والانطباع أو خروج الشعاع والمباشرة وغير ذلك ؛ فلا حاجة إلى التزام الإحساس بالنحو الثابت لنا مع اشتماله على النقص ؛ والقول بأنّ الإحساس الثابت له تعالى هو إدراك المحسوسات بخصوصياتها المعيّنة بدون الآلات والمباشرة والتأثّر والانفعال وغير ذلك ممّا يعتبر في الإحساسات الثابتة لنا لا يرجع إلى معنى محصّل سوى العلم الحضوري.

فإن قيل : المعلوم بالعلم الحضوري مجرّد الوجود العيني أو الذهني وبالإحساس يعلم الوجود مع الخصوصيات الزائدة على الوجود.

قلنا : الخصوصيات المعلومة بالإحساس ليست إلّا خصوصيات الوجود وهي يعلم بالعلم الحضوري أيضا وما هو غير الوجود وخصوصياته ليست إلّا الحقائق والماهيّات وهي امور كلّية لا يعلم بالحضوري ولا بالإحساس ، بل إنّما يعلم بالعلم الحصولي ؛ والخصوصيات للماهيّات ليست إلّا خصوصيات وجوداتها ؛ إذ الماهيّات لا تتخصّص إلّا بأنحاء وجوداتها. قال : ماهيّة كلّ محسوس من الجسم وعوارضه من الألوان والأضواء والطعوم والروائح وغيرها من عوارضها مفهومات كلّية ولا تتشخّص إلّا بأنحاء وجوداتها ولو ضمّ إلى جسم أعراض غير متناهية لا يتشخّص إلّا بملاحظة خصوصية الوجود.

فإن قلت : المعلوم للنفس من بدنها بالعلم الحضوري مع قطع النظر عن إدراكات قواها الظاهرة والباطنة ليس إلّا وجود جسم متعلّق به من غير علم لها بأحواله وعوارضه من لونه وشكله و/ A ١٤٩ / ملاسته وخشونته وحسنه وقبحه وطوله وقصره وغير ذلك من عوارضه ولواحقه ؛ ويظهر ذلك بأن يفرض تولّد إنسان فاقد عن جميع الحواسّ الظاهرة بأن يتولّد أعمى وأصمّ فاقدا للشمّ و

٣٥٧

الذوق واللمس ويبقى على تلك الحالة حتّى يبلغ سنّ البلوغ ؛ فإنّه المعلوم لنفسه حينئذ من بدنها مجرّد وجود شيء جزئي متعلّق بها من دون علم لها بشيء آخر من عوارضه المذكورة والخصوصيات المعيّنة ؛ وأمّا لو كان لها حواسّ فيظهر لها بالإحساس مضافا إلى وجود البدن جميع المذكورات ؛ فبمجرّد الإبصار يعلم مثلا كونه جسما أبيض طويلا أو قصيرا حسنا أو قبيحا ذا نعومة (١) أو خشونة إلى غير ذلك من عوارضه ولواحقه ؛ فبالإحساس يعلم ما لا يعلم بالعلم الحضوري.

قلت : هذه مغالطة نشأت من عدم التدبّر في كيفية العلم الحضوري للنفس وللواجب.

وبيان ذلك بوجه يرتفع به المغالطة والاشتباه أنّ النفس لقصورها ونقصانها ومباينتها عن الأشياء وعدم وجود علاقة وربط مصحّح للحضور بينهما لا يمكن لها أن يدرك بذاتها شيئا من الأشياء لا على الوجه الكلّي الحصولي ولا على الوجه الجزئي الحضوري ؛ فأعطاها الله سبحانه بعلوّ قدرته ووفور رحمته قوّة نظرية تمكّنت بها من انتزاع الحقائق والصور الكلّية عن الأشياء وتجريدها منها على نحو ترتسم نفس تلك الحقائق والصور في لوح ذاتها وإن كانت تلك الأشياء مباينة عنها ولم يكن بينهما علاقة وارتباط أصلا وبعد الانتقاش تصير امورا جزئية حاضرة للنفس لحصول علاقة الحالّية والمحلّية وإن كانت بالنسبة إلى الأشياء الخارجية العينية كلّية وحينئذ تكون تلك الحقائق والصور منكشفة مشاهدة للنفس بالعلم الحضوري ؛ فبهذا الوجه حصل له العلم الكلّي الحصولي بالأشياء العينية من المادّيات والمجرّدات والجزئي الحضوري بصورها المرتسمة في ذاتها ولم يتمكّن بمجرّد هذه القوّة من / B ١٤٩ / إدراك المعاني الجزئية والعلم الحضوري بالأشياء المادّية والمجرّدة وعوارضها ولواحقها ؛ فأراد الله

__________________

(١). النعومة : اللّين.

٣٥٨

تعالى بعميم لطفه أن يكون لها العلم الحضوري الجزئي أيضا بالأشياء العينية من حيث إنّها عينية والمعاني الجزئية بحسب الإمكان ؛ ولمّا لم يكن بينها وبين شيء من الأشياء ارتباط يصحّح الحضور الموجب للانكشاف إلّا ما كان بينها وبين بدنها وقواه ؛ وما هو المرتبط بها منه أيضا ليس البدن مع عوارضه الخاصّة ولواحقه المخصوصة ، بل البدن المطلق الذي حقيقته الجسم الخاصّ مع أجزائه الأصلية التي لو فقد شيء منها لم يبق حقيقة البدن ؛ وكذا الحال في قواه ؛ وأمّا ما يلحقه ويعرضه من الكيفيات والكمّيات والأوضاع وغير ذلك ممّا هو خارج عن حقيقة البدن ؛ فليس ممّا يرتبط بها ويكون بينها وبينه علاقة يصحّح الحضور.

فالنفس بالنظر إلى مجرّد ذاتها وقوّتها النظرية إنّما يرتبط بها مجرّد البدن المطلق وقواه المطلقة ؛ فبالنظر إلى ذاتها وقوّتها النظرية ينحصر علمها الحضوري بهذا البدن وقواه وليس لها علاقة الحضور بعوارض بدنه من اللون والهيئة والشكل والحسن والقبح والطول والقصر والملاسة والخشونة وغير ذلك ولا بغيرها من الأشياء المباينة عنها وعن بدنها ؛ فخلق الله تعالى لها بحسب استعدادها قوى اخرى سوى القوّة النظرية مرتبطة بها حاضرة لديها وجعلها ؛ فيمكّنه من إدراك المعاني الجزئية والأشياء العينية الجزئية وانتزاع صورها بشرائط مخصوصة عن الجواهر والأعراض اللاحقة لتلك الأشياء أو لبدنها بحيث يرتسم في تلك القوى حتّى تكون هذه الصور المرتسمة مرتبطة أيضا بالنفس ، كما أنّ محالّها ـ أعني تلك القوى ـ مرتبطة بها ؛ فتصير تلك الصور معلومة لها بالعلم الحضوري ، كما أنّ محالّها أيضا كذلك ؛ فمن تلك القوى قوّة وهمية متمكّنة من انتزاع المعاني الجزئية مرتسمة في ذاتها وبعد ارتسامها فيها يكون حاضرة عند النفس فنشاهدها بالعلم الحضوري ؛ [و] قوّة باصرة متمكّنة من إدراك / A ١٥٠ /

٣٥٩

المبصرات من الألوان والأجسام والأضواء إمّا بالانطباع أو بخروج الشعاع ؛ وعلى التقديرين تصير تلك الأجسام والألوان والأضواء المدركة بقوّة الباصرة حاضرة عند النفس بواساطتها ؛ [و] قوّة سامعة متمكّنة من إدراك الأصوات والحروف حتّى ترتسم فيها وتصير حاضرة عند النفس ؛ وقوّة شامّة تدرك المشمومات ؛ وذائقة تدرك المذوقات ؛ ولامسة تدرك الملموسات حتّى تصير تلك المدركات مرتسمة في تلك القوى وتصير حاضرة عند النفس.

ثمّ لمّا لم يكن لتلك القوى أن يكون إدراكاتها دائمية ؛ إذ البصر قد ينظر إلى بعض الأشياء وقد لا ينظر ، والسمع قد يسمع بعض المسموعات وقد لا يسمع ، وكذا الحال في ساير القوى ؛ وظاهر أنّها إذا لم يشتغل بإدراكاتها بالفعل لا يكون شيء من مدركاتها مرتسمة في ذواتها حتّى يكون حاضرة عند النفس ؛ فخلق الله تعالى قوّة خيالية وجعلها خزانة لما تدركه الحواسّ من الصور بأن جعل في تلك القوّة الخيالية قدرة تأخذ بها جميع ما تدركها الحواسّ الظاهرة من الصور وبأن جعل في تلك القوّة الخيالية قدرة تأخذ بها جميع ما تدركها الحواسّ الظاهرة من الصور وتحفظها وخلق قوّة حافظة وجعلها خزانة للمعاني الجزئية ؛ فشأنها أن تأخذ كلّ ما تدركه الواهمة من المعاني الجزئية حتّى تكون جميع الصور والمعاني الجزئية التي أدركتها الحواسّ الظاهرة والواهمة حاضرة للنفس دائما مشاهدة لها بالعلم الحضوري ولا تكون عند عدم اشتغال القوى المدركة بالإدراك جاهلة غير عاملة بشيء منها بالعلم الحضوري.

فحصل للنفس بتوسّط تلك القوى العلم الحضوري بالمعاني الجزئية وجميع الأشياء العينية المادّية من الجواهر والأعراض ؛ فتمكّنت (١) من العلم بحقائق جميع الأشياء على الوجه الكلّي الحصولي وبوجوداتها على الوجه الجزئي الحضوري

__________________

(١). س : فيمكنت.

٣٦٠